الديمقراطية البدائية في بلاد وادي الرافدين [1]ـ
ترجمة الدكتور حسيب حديد
كما أوضحت سابقاً في الفصل السابق ان بلاد وادي الرافدين كانت تعدّ وحدة ولكن ضمن إطار هذه الوحدة هنالك تقسيمات فرعية. فالمدن كانت مقسّمة جغرافياً إلى أحياء في المدينة وتتضمن جمعيات مهنية مثل الحرفيين أو التجار كما كان يسمح لمجموعات دولية عديدة بالاحتفاظ بهوية مستقلة. ومن الناحية القضائية فإن المدينة كلها وتقسيماتها لها محاكمها يشار إليها بالمجالس. وتبين لنا نصوص من تاريخ بلاد وادي الرافدين على وجود هذه المجالس ونشاطاتها في المحاكم .ـ
وكانوا يعملون على فض النزاعات وحل كثير من المشكلات وذلك بوجود قضاة من المدن ويتم تقديم القضايا إلى المحاكم بصورة علنية . إن دراسة مؤسسة المجلس هو أمر معقّد وذلك في الحقيقة يشير المصطلح المستعمل لبهروم
(Puhrum)
إلى مجلس مؤسساتي وإلى أي تجمع غير رسمي لمجموعة من الناس. وعندما أكدّ حمورابي في قوانينه أن القاضي الذي يغيّر في حكمه يعزل من وظيفته يمكن تأويل ذلك بأنه طرد من المجلس وتُعَدُّ هذه عقوبة علنية له ولا توجد هنالك وثائق تصف فيها نشاطات المجلس المؤسساتي بالتفصيل وقد واجهنا أسئلة عديدة تتعلق بتشكيل وإجراءات ومجالات اختصاص هذه المؤسسات. فالصعوبة الأولى هي تحديد من يجلس في المجلس.ـ
وقد كتب الباحثون بأن العضوية كانت محدودة فقط بالمواطنين الذكور الأحرار على الرغم من أن مصطلحات الأحرار والمواطنين لا يمكن تعريفهما بسهولة وبصورة واضحة. فإن المقارنة مع المجالس الأغريقية الكلاسيكية قد أثرت كثيراً على هذه النظرة ، فالدليل المتعلق بالأفراد الذين لهم الحق بالمشاركة بمناقشة المجلس يبقى أمراً غامضاً. فالسجلات الموجودة التي تعالج موضوع المحاكمات بجرائم القتل التي يرجع تاريخها إلى الألفية الثانية تعدّ استثناء لذلك فإن الوثيقة عثر عليها وعلى نسخ كثيرة في نيبور(نفر) كانت تستعمل كنص تمريني لتعلم الطلاب المصطلحات القانونية ولكن لا يوجد هنالك أي سبب لنفترض بأن هذا لا يعكس حالة وقضية حقيقية في المحكمة.ـ
"نانا ، سيك ابن لو – سين ، كور ابن ليلا ابن كو، نانا الحلاق وأنليل، أينام ، عبد آدا، كالا ، البستاني ، قتل لو اينانا ابن لوكال ، أورودو الكاهن عندما قتل لو أينانا بن لوكال أورودو أخبروا زوجة لو ، أينانا ، نين ، دادا ، ابنت لو، نينورتا بأن زوجها قد قتل نين، دادا ابنت لو ، نينورتا لم تفتح فمها وإنما غطته ."ـ
إن هذه القضية أخذت إلى أيسين وأمام الملك اذ قرّر ملك أور نينورتا بأن يتم اتخاذ قرار حول هذه القضية أمام مجلس نيبور وقام كل من أور ، كولا ، ابن لوكال ، ايبيلا ، دودو صياد الطيور ، علي ايلاش وبوزو ابن لوسين ، أولوتي ابن تسكار أيه ، شيشكالة ولوكال كام البستاني ولوكال أزدا ابن سين أبزول وشيشكالة ابن شاره، هار بمخاطبة المجلس وقالوا بأنهم قتلوا رجلاً ولذلك يجب قتل ثلاثة رجال وامرأة أمام كرسي لو أنيانا ابن لوكال أورودو الكاهن.ـ
وخاطب أيضاً شاكا ليلوم جندي نينورتا وابارسين البستاني اطبوا المجلس وقالوا بأن هل أن نين دادا ابنت لونينورتا قتلت زوجها ؟ فإذا فعلت يجب ان يحكم عليها بالموت.ـ
أجاب مجلس نيبور كما يأتي :ـ
ـ"يجب أن يعرف عدو الرجل بأن المرأة لا تساوي زوجها ولربما تقتل زوجها فقد سمعت بأن زوجها كان قد قتل اذن لماذا التزمت الصمت حوله ؟ هل هي التي قتلت زوجها وإن ذنبها هو أعظم من ذنب الرجال الذين قتلوه .ـ
وفي مجلس نيبور وبعد أن أوجدوا حلاً للقضية فإن نانسيك ابن لوسين وكو، أنليلا ابن كو، نانا الحلاق ، وأنليل اينام عبد آدا ، كان البستاني . ونين ، دادا ابنت لونينورتا زوجة لو، اينانا تم إخلاء سبيلهم لكي يقتلوا" .ـ
قرار مجلس نيبول :ـ
بيّن لنا هذا النص بعض المهن للرجال الذين تحدثوا في المجلس فمنهم صياد الطيور والخزفي والبستاني والجندي ، كما ان اسم علي ايلاتي هو بالواقع عضو (مسكنينو في الأكدية) وهذا يشير إلى وضعه الاجتماعي أكثر مما يشير إلى مهنته. فإن التحديد المهني يستعمل فقط لأغراض تحديد هوية الشخص المعني وهذا يبين لنا وجود تنوع في المهن ولا يعكس لنا حق هؤلاء في الجلوس في المجلس فحسب وإنما كان لديهم متسع من الوقت للحضور. ولا يوجد هنالك أي أثر للاختيار أو الانتقاء فإن معظم الرجال كانوا عمالاً يدويين وإن أحدهم جندي يعمل في خدمة معبد الإله نينورتا . والحقيقة أنهم ظهروا كمشاركين في المناظرة خلال محاكمة في جريمة قتل أثير فيها العديد من الأسئلة . أين وجدوا الوقت للقيام بذلك ؟ ففي اثينا القديمة كان المواطنون الملاّك للأراضي لديهم وقت فراغ لحضور المناظرات في المجلس ومنذ القرن الرابع فصاعداً أصبحت هنالك مشاركة في المجلس العام . فهل هنالك مكافأة لسكان بلاد وادي الرافدين ؟ يبدو ذلك غير ممكن فإذا لم يكن هنالك تعويض عن الوقت الذي قضوه في المجلس فإنه يبدو بأن الاجتماعات نادرة وأن المشاركات طارئة ولكن كل ذلك لا يبدو واضحاً بالنسبة لنا .ـ
ولكن هنالك مصدر مختلف تماماً للمعلومات حول المجلس في تاريخ بلاد وادي الرافدين وهو المجموعة الأدبية السومرية لكلكامش وآك ، وعلى الرغم من أن هذه القصة تم تقديمها على شكل سرد تاريخي لمعركة حقيقية فإنه من الواضح أنها تقدم انموذجاً أدبياً للصراع والحل. فإن المخطوطات المحفوظة لهذا النتاج الأدبي يعود تاريخها إلى بداية الألفية الثانية ولكن من المحتمل أن النص تمت كتابته في الألفية الثالثة وتصف عادة وضع أزمة تجابه مدينة يحكم فيها كلكامش وإن قطعات مدينة كيش كانت تحاصر الوركاء. فهل أن على الملك أن يقرر القتال أم لا ، ولذلك قام باستشارة مجلسين:ـ
المجلس الأول هو مجلس الحكماء في المدينة .ـ
أما المجلس الثاني فهو مجلس رجال المدينة .ـ
وقد قدموا أجوبة متعارضة حيث أجاب الحكماء بالاستسلام ، في حين أجاب الرجال بالقتال. فهل ان كلكامش التفت إلى الجمعية العامة للرجال بسبب أن مجلس الحكماء أعطاه نصيحة لا يريدها؟ وهل أن الرجال يتبعون توصيات الحكماء؟ وهل ان ذلك كان ممارسة عامة للملك بأن يستشير هذين المجلسين ؟
لم يقدم لنا هذا النص أية إجابة عن هذه الأسئلة. وعلى كل حال يمكن ان يشير إلى هيئتين منفصلتين من المواطنين كانوا موجودين ... الصفوة وهي هيئة محددة بالحكماء والأوسع منها تضم الرجال بصورة عامة . وبصورة مشابهة بالنسبة لمجالس (المستعرات) الآشورية في بلاد الأناضول في بداية الألفية الثانية ، كان هنالك تمييز بين الرجال الكبار والصغار ولكن في المدينة الأم آشور نفسها لا يوجد مثل هذا لتمييز وإن هذا التمايز تم تفسيره بأنه إشارة إلى أن الرجال الصغار مستبعدون من المجلس في المدن الأكبر ولكن ذلك يبدو أنه مجرد تكهن.ـ
وقد ظهرت تعابير (الحكماء والرجال) في صياغات أخرى أيضاً ولكن تفسيرهم صعب جداً فإن الحكماء آبابا في السومرية وشيبوتوم في الأكدية يبدو أنها تشير إلى اختيار مجموعة من الرجال ضمن إطار مجموعات مختلفة مثل المدن والقبائل والمعبد والقصر .ـ
وقد لاحظوا أيضاً ليكون رؤساء عوائل الذين ما زال تأثيرهم باقياً في الممارسات العشائرية وأن ظهورهم في النصوص الخاصة بالألفية الثانية يرتبط بوصول العموريين الساميين الغربيين في الألفية الثالثة وفي بداية الألفية الثانية. إلا أن هذا التفسير يعتمد بصورة كلية على نموذج غير مبرهن لمنهج ادخال العنصر الحضاري في تاريخ بلاد وادي الرافدين ولا يوضح ظهور الحكماء في النصوص قبل تاريخ الألفية الثانية . وفي أور الثالثة نجد موظفين كبار في الإدارة يطلق عليهم الشيوخ أو الحكماء لكي يتم تمييزهم عن الأشخاص العاديين والإداريين العاديين ، لا يوجد هنالك أي آثار قبلية ولذلك فان تفسير هؤلاء الرجال باعتبارهم صفوة أو مراتب عليا يبدو أنهم أكثر ملائمة من رؤساء العوائل فإن هؤلاء الحكماء أو الشيوخ لا يكوّنون المجلس بأكمله مثلما تتحدث العديد من الصياغات حول الحكماء والمجلس كما أن علاقتهم مع المجلس يصعب تحديدها ولربما كانوا يشكلونلجنة تنفيذية داخل المجلس وأنهم يقررون المسائل التي تطرح على الهيئة .ـ
أما الكلمة السومرية لرجال المدينة "كوروش" في نص كلكامش وهو أيضاً نص غامض لا يسمح لنا بتحديد الناس الذين يشكّلون تلك المجموعة ويشير المصطلح عادة إلى توابع القصر في الألفية الثالثة المتأخرة ، فإذا كان هذا هو التفسير الصحيح لهذه الكلمة في هذا السياق فإنها سوف تنفي تفسير المجلس باعتباره هيئة مستقلة تمثل المواطنين. ومن الممكن استعمال المصطلح نفسه ليشير إلى الرجال المتمكنين بصورة عامة ، وفيما إذا كان هناك تقييدات للرجال الذين يسمح لهم بالانضمام إلى هذا المجلسإنه أمر غير واضح أيضاً ، فإنما ذكر في كلكامش أيضاً بصورة غامضة ولا نعرف عدد الرجال الذين كانوا يحضرون في المجلس في الوركاء.ـ
مشاركة المرأة في المجالس النيابية
أما مسألة حضور النساء والجلوس في المجلس فإنه تم تجاهله من قبل الباحثين ولا يوجد هنالك أي دليل يؤيد مشاركتهن ولربما يعود ذلك إلى الغموض في المعلومات . وهنالك كتابة بابلية تعود إلى الألفية الثانية تتضمن تعبيراً ينص على أن المرأة تكشف أعمال المجلس وهذا يعني أن المرأة كانت حاضرة في المناقشات وبصورة واضحة إن المرأة أعلمت نفسها بما جرى بطرق أخرى ولذلك فإن مسألة مشاركة المرأة في المجلس تبقى مسألة ليست لها أية إجابة . إن المجالس التي تحدثت عنها لحد الآن تمثل المدن إلا أن التقسيمات الفرعية في المدن لها نفس التنظيمات كما أن الأحياء في المدينة تتمتع بسلطة قانونية ، ومن الواضح أن سكانها اجتمعوا في أوقات معينة لاتخاذ قرارات ، وعلى سبيل المثال نجد في قوانين حمورابي ان هذا الحي هو الذي يقرر عفة المرأة بعد إجراءات الطلاق (المادة 142) أو أن يحذر رجل ما بأن حيواناته تمثل خطراً عاماً (المادة 251) .ـ
أما فيما يتعلق بالتمثيل الشعبي في المدينة فإنه ليست لدينا معلومات حول العضوية والاختصاص وإجراءات الاجتماع لسكان حي المدينة . أما التقسيمات الفرعية للمدن مثل جمعيات التجار أو الحرفيين فإن لديهم اجتماعات وأنهم يتحدثون بصوت واحد ولا تعدّ المجالس محدودة فقط للسكان البلديين في بلاد وادي الرافدين .ـ
ففي القرن الخامس نجد دليلاً على وجود مجلس للمستوطنين المصريين ومغتربين آخرين في بابل ولا نصف عدد الناس المطلوبين من أجل انعقاد المجلس .ـ
فإن سجل المحاكمة في جريمة القتل التي تم اقتباسها في أعلاه تعتبر مهمة لأنها تعكس لنا بعض إجراءات المجلس ، فإن القضية تمت الإشارة إليها من قبل الملك وهنالك نصوص مشابهة في الألفية الثانية تشير إلى أن المجلس كان يلتئم بحضور الملك وإن هذا النص يؤكد على عدم وجود أي شك فيما يتعلق بالطبيعة المستقلة في ذلك الوقت ويبدو أنه لا يوجد هنالك أية مناظرة حول ذنب هؤلاء القتلى الثلاثة وإنما حول مسؤولية خروج الضحية التي لم تكشف أن زوجها قد قتل ، فقد ناقش (9) رجال بأنها مذنبة بالقتل في حين وقف اثنان بجانبها للدفاع عنها ، وأخيراً أصدر المجلس حكماً ضد المرأة وأكد السجل بأنها مع القتلى الأخر تسلم إلى المنفذين .ـ
لا يستطيع رجل لوحده من دون موافقة الأغلبية للرجال الكبار أن يطلب السكرتير لعقد جلسة للمجلس بحضور الصغار والكبار من الرجال ، فإذا ما حضر السكرتير إلى الاجتماع الخاص بالرجال والصغار والكبار من دون موافقة الرجال الكبار سوف يدفع السكرتير (10) شيقل من الفضة. ويبدو أن المجلس يقسم إلى ثلاث مجاميع لتسهيل المداولات وعندما تكون الأغلبية لصالح أخذ القضية بنظر الاعتبار فإنه يصدر أمر بحضور السكرتير إلى المجلس بأكمله وأن هذا المجلس بدوره ينقسم إلى سبع مجاميع ، كما أن قراراته تتطلب أغلبية أيضاً فهل يتم التصويت. وكيف أن المعلومات الإضافية حول وقائع المجلس غير متوفرة ما لم نأخذ بنظر الاعتبار الوصف الأدبي باجتماعات الإله ، وإن هذه الاجتماعات لا تعطي كثيراً من الأدلة على المناقشة فقط عندما يكونون بعدد محدود للآلهة الكبار الذين يعقدون مناظرة حول المسألة ، وقد ذكر بأن وقائع المجالس غالباً ما تكون سرية وإن هذا الاستنتاج مبني على الفعل، إلا أن هذه السرية يبدو أنها غير محتملة بالنسبة لي وإنه لا يتم تدوينه. إن المشاركين في المجلس يشاركون في الجلسات ويلتزمون بالحضور ويعربون عن خوفهم من الإله .ـ
وورد في الصلوات ما يأتي:ـ
"لا تتركني سيدي إلى المجلس عندما يكون هنالك الكثير يرغبون أن أكون مريضاً ولا تدعني أن أجيء لاحداث ضرر في المجلس" . وفي قطعة شعرية مشهورة تتضمن إهانة ولعنة وجّهها أحد العبيد .
وهذه تعطينا انطباعاً على وجود مكائد في المجالس وإنه من الممكن أن يلحق الضرر باسم مواطن صالح وذلك عن طريق الثرثرة حتى من قبل العبيد .ـ
اختصاصات المجالس النيابية في العراق القديم
أما مجالات اختصاص المجلس فهي أيضاً مسألة تصعب مناقشتها حيث أن معظم السجلات التي تعاملنا معها تتعلق بقرارات قانونية كما أن المجالس سواء أكانت بالمدينة بأكملها أم بأحياء المدينة كانت تقوم مقام المحاكم اذ انها تتضمن كادراً من القضاة يتم تعيينهم من قبل الملك . وفي قضية القتل التي تطرقنا إليها نجد أن الملك هو الذي أحال القضية إلى المجلس ولكن لا نعرف فيما إذا كان يحيل جميع القضايا إلى المجالس وإن القضايا التي تحال عادة تمثل طبيعة مدنية .ـ
ولدينا مثال آخر في منتصف الألفية الأولى كيف أن مجلس الوركاء نظر في محاولة قتل لأحد المندوبين الملكيين في معبد آينا ، وفي هذه القضية قام المجلس بإجراء التحقيقات الأولية فقط من دون إصدار قرار حكم من قبل القضاة الملكيين ، وإن القضايا المدنية غالباً ما تتعلق بالممتلكات والطلاق وغيرها .ـ
وهل يعتبر المجلس مختصاً في قضايا أخرى ؟
هنالك رسالة واحدة من مراسلات آشورية قديمة إلى أحد التجار في بلاد الأناضول يعود تاريخها إلى بداية الألفية الثانية. وتتضمن الرسالة أمراً من مدينة آشور لتجهيز أموال لبناء تحصينات . وفي المراسلات الآشورية القديمة تم استعمال (المدينة والمجلس) كمترادفين بحيث تمنح السلطة إلى المجلس ويمكن مقارنة ذلك مع الوضع العام في بلاد الأغريق القديمة ويعتقد بعض الباحثين مجالات اختصاص المجلس هي في الحكومة المدنية (أي حكومة المدينة) وهنالك معلومات قليلة تنفي هذه النظرة .ـ
أما القصر والمواطنة فإنهما يشكلان عنصرين سياسيين منفصلين في المدينة في بلاد وادي الرافدين وهنالك قنوات اتصال وهذه من مسؤولية عدد من الموظفين، وإن دراسة هؤلاء موظفين أمر صعب بسبب العدد الكبير من العناوين التي نجدها وكذلك الغموض الذي يكتنف واجبات كل موظف ، كما أننا نجد عدداً كبيراً من العناوين عندما نتحدث عن إدارة المدينة ، وأثناء دراستها لمدينة سيبار في بداية الألفية الثانية. وتحدثت ريفكا هاريس حول "المحافظ" ورئيس المجلس وكبار التجار والحاكم ورئيس الحلاقين والحلاق والبواب والحارس حتى أنها وجدت عناوين مربكة في الوسط الإداري. ومن المستحيل أن نحدد مسؤوليات معظم الموظفين بدقة، وهنالك موظفان اثنان يبدو أنهما لعبا دوراً مهماً في حكومة مدينة بلاد وادي الرافدين هما رئيس المجلس و"المحافظ" ، فالأول الذي هو رئيس المجلس يترجم بأنه الأعظم في المجلس وهذه التسمية استعملت حتى في الكتابات الأكدية .ـ
وهنالك لقب أكدي آخر معروف بـ (رابيانوم) وهو منصب قريب من "المحافظ" على الرغم أننا نترجم ذلك بالأكدية بهذه الصيغة ولكن في سيبار ظهر لقب رابيانوم باعتباره رئيس المحكمة وكذلك كشاهد، ودائما يذكر في أول القائمة لبروزه وتميزه. وطبقاً لقوانين حمورابي
فإن رابيانوم حسب ما ورد في المادتين 23 و 24 بأنه مسؤول عن مقاضاة السرقات التي تحدث على أرض المدينة ويشير ذلك إلى أنه أحد الموظفين الكبار ولكن من دون الكشف عن وظائفه الأخرى .ـ
أما في الوثائق البابلية القديمة فإنه ظهر على أنه رجل وسيط يلعب دوراً في عقود التأجير وخاصة فيما يتعلق بالحصاد، ويبدو أنه يلعب دور الوسيط بين القصر والناس في المدينة التي يعملون في أراضيها .ـ
إن اللقب لم يستمر في نهاية السلالة البابلية القديمة حيث هنالك سلطة أقل ، ويبدو أن خازانوم هو الذي أخذ واجبات الرابيانوم وإن الترجمة إلى "محافظ" مستعملة عندما نشير إلى هذا العنوان في النصوص المكتوبة بعد عام 1500 وهنالك رسالة وحيدة يرجع تاريخها إلى أواسط الألفية الثانية عثر عليها في مدينة نوزي وعلى وجه التحديد في شمالها تصف واجبات هذا الموظف وهي عبارة عن رسالة من ملك أرايها إلى محافظ تاشوهي .ــ
وقد ذكرت الرسالة :ـ
"أصدر الملك أمراً كما يأتي: يعتبر كل محافظ مسؤول عن أراضي المدينة، كما انه مسؤول عن السكن المحصّن في الريف حول مدينته ويجب أن لا يكون هنالك أية سرقات في مدينته ولا يوجد أعداء يقتلون الناس ولا توجد عمليات نهب ، فإذا ما حصلت هنالك سرقة أو حالة قتل في مدينته فإن المحافظ هو الذي يدفع التعويضات، وإذا ما هرب القاتل إلى مدينة أخرى يقوم المحافظ بدفع الضرر" .ـ
ولا تتحدد مسؤوليات هذا الرجل فقط في مدينته حيث أنها تسري في المناطق المحيطة بها وإنه يتعرض إلى المساءلة في حالة وجود جرائم ، كما أنه يعمل على منع اللاجئين من الهروب كما أنه يعمل على ضمان سكن محصن وآمن وعليه أن يدفع الغرامات والأضرار من جيبه الخاص ـ.
هنالك نص يشير إلى أن "المحافظ" يعتبر ممثل المدينة ومسؤول عن كلا فيها ويسأل عن السرقات في أراضيه ولكن لا يخبرنا النص حول واجباته اليومية إلا أن وضعه الاجتماعي واضح ، فهو وسيط بين القصر والمواطنين ، ولكن ليس من الواضح الشخص الذي يعتبر مسؤولاً عن تعيين الممثلين فإما أن يكونوا من الحكماء أو كبار السن من المدينة ولكن في الفترات اللاحقة نجد أن المحافظين يتم تعيينهم من قبل الملك .ـ
لقد تطور مفهوم الديمقراطية البدائية قبل 50 سنة من قبل جاكوبسون وذلك من خلال ملاحظاته حول السلطات القضائية في بلاد آشور خلال الألفية الثانية وكذلك في بابل وقد بحث جاكوبسون هذا الموضوع ليحدد فيما إذا كانت إحياء تقليد قديم، ولكن على الرغم من ذلك لا توجد نقاط حول التطور الديمقراطي أو تطور الأفكار الديمقراطية، وقد حاول جاكوبسن أن يرسم صورة لظهور الملكية في الألفية الثالثة وبعد فترة عندما انتخب المجلس قام قائد عسكري في وقت الأزمة باغتصاب السلطة وأن يعين نفسه ملكاً مدى الحياة. وقد بنى جاكوبسون فكرته على ما ورد في ملحمة الخلق وظهور الملكية من قبل مردوك إله بابل حيث جرى حدث مهم وهو تعرض الإله للإهانة والإبادة من قبل اتيامات مما أدى إلى قتل زوجها أبسو وقام إيا بإرسال ولده المفضل مردوك لمواجهة ذلك التهديد وقد عرض مردوك كل خدماته على شرط أن يمنح سلطات عليا وهكذا وافقت الآلهة على منح رغبته هذه وذلك في اجتماع للمجلس حيث جرت هنالك وليمة بتجهيزات غير محدودة من البيرة والخمر، وقد توّج مردوك ملكاً وبعد انتصاره نظم العالم ولذلك أمر ببناء بابل .ـ
وخلاصة القول إن فرضية جاكوبسون تنص على حقيقة أن مردوك تم انتخابه ملكاً من قبل مجلس الآلهة حيث عكس لنا جاكوبسون صورة في بلاد وادي الرافدين بمجلس شعبي يتمتع بسلطات واسعة من ضمنها انتخاب الملك ولكن منذ أواسط الألفية الثالثة بدأت عملية تحديد وتقليص سلطات المجلس وذلك من قبل حكام لمدى الحياة حيث أن تاريخ بلاد وادي الرافدين المتعاقب عكس لنا سلطة شمولية متزايدة ولذلك فإن الأباطرة مثل آشور بانيبال حكم منطقة من إيران إلى مصر إلا أنه لم يكن بحاجة إلى استشارة مواطنيه. وهل من الممكن أن نفهم التطور من الديمقراطية البدائية إلى الملكية المطلقة في بلاد وادي الرافدين ؟
لا أعتقد بذلك فإنني أود أن أشترط عكس ذلك حيث أن الأراضي تحكم من قبل ملوك وادي الرافدين وتصبح هذه الأراضي واسعة ، كما ان السكان فيهم تنوع كبير ولذلك من المهم دراسة وضع المقيمين في المدن في بداية الألفية الأولى ونلاحظ أن هؤلاء المقيمين منحوا درجة كبيرة من الاستقلال، كما انهم تم إعفاؤهم من الضرائب الملكية وأعمال السخرة والواجبات العسكرية ، وتعتبر هذه من أولى المناطق التي فيها تفاعل بين الملك ورعاياه. وهكذا نجد المحافظة على المواطنين وعدم إراقة دمائهم، ويضمن ذلك الملك أو ممثليه ، كما ان الإعفاءات الضريبية كانت نتيجة حماية إلهية للمدن .ـ
لقد تمت دراسة المجلس النيابي لبلاد وادي الرافدين من قبل مؤلفين عديدين وخاصة مقال جاكوبسون المهم والمعنون "الديمقراطية البدائية في بلاد وادي الرافدين القديمة"ـ
(primitive democracy)
سنة 1943 التي تعكس مواضيع عديدة تمت مناقشتها في هذا الفصل وناقش الديمقراطية البدائية في التطور السياسي الأول في بلاد وادي الرافدين عام 1957 ، ولكن رغم ذلك هنالك العديد من الأسئلة التي تنتظر الإجابة. وهنالك جزء تم تخصيصه للمعارضة السياسية في بلاد وادي الرافدين. وتعدّ هذه بمثابة المعارضة للسلطة الملكية. وبالنسبة للفترات الأخيرة من تاريخ بلاد وادي الرافدين نجد أن مناقشة دور المجلس بأنه يشبه مجلس الأغريق القديم .ـ
وبالنسبة لدراسة الموظفين وأدوارهم هنالك أيضاً دراسة حولها باللغة الألمانية وخاصة ما يتعلق بالألفية الثانية في بابل . كما ان العلاقة بين الملك والمواطنين تم اعتبارها ضمن سياق حقوق المجتمع مقابل السلطة الملكية ، كما ان هنالك دراسة أخرى ركزت أيضاً على نفس الموضوع في الألفية الثانية المتأخرة.ـ
عودة الى الصفحة الرئيسية
وكانوا يعملون على فض النزاعات وحل كثير من المشكلات وذلك بوجود قضاة من المدن ويتم تقديم القضايا إلى المحاكم بصورة علنية . إن دراسة مؤسسة المجلس هو أمر معقّد وذلك في الحقيقة يشير المصطلح المستعمل لبهروم
(Puhrum)
إلى مجلس مؤسساتي وإلى أي تجمع غير رسمي لمجموعة من الناس. وعندما أكدّ حمورابي في قوانينه أن القاضي الذي يغيّر في حكمه يعزل من وظيفته يمكن تأويل ذلك بأنه طرد من المجلس وتُعَدُّ هذه عقوبة علنية له ولا توجد هنالك وثائق تصف فيها نشاطات المجلس المؤسساتي بالتفصيل وقد واجهنا أسئلة عديدة تتعلق بتشكيل وإجراءات ومجالات اختصاص هذه المؤسسات. فالصعوبة الأولى هي تحديد من يجلس في المجلس.ـ
وقد كتب الباحثون بأن العضوية كانت محدودة فقط بالمواطنين الذكور الأحرار على الرغم من أن مصطلحات الأحرار والمواطنين لا يمكن تعريفهما بسهولة وبصورة واضحة. فإن المقارنة مع المجالس الأغريقية الكلاسيكية قد أثرت كثيراً على هذه النظرة ، فالدليل المتعلق بالأفراد الذين لهم الحق بالمشاركة بمناقشة المجلس يبقى أمراً غامضاً. فالسجلات الموجودة التي تعالج موضوع المحاكمات بجرائم القتل التي يرجع تاريخها إلى الألفية الثانية تعدّ استثناء لذلك فإن الوثيقة عثر عليها وعلى نسخ كثيرة في نيبور(نفر) كانت تستعمل كنص تمريني لتعلم الطلاب المصطلحات القانونية ولكن لا يوجد هنالك أي سبب لنفترض بأن هذا لا يعكس حالة وقضية حقيقية في المحكمة.ـ
"نانا ، سيك ابن لو – سين ، كور ابن ليلا ابن كو، نانا الحلاق وأنليل، أينام ، عبد آدا، كالا ، البستاني ، قتل لو اينانا ابن لوكال ، أورودو الكاهن عندما قتل لو أينانا بن لوكال أورودو أخبروا زوجة لو ، أينانا ، نين ، دادا ، ابنت لو، نينورتا بأن زوجها قد قتل نين، دادا ابنت لو ، نينورتا لم تفتح فمها وإنما غطته ."ـ
إن هذه القضية أخذت إلى أيسين وأمام الملك اذ قرّر ملك أور نينورتا بأن يتم اتخاذ قرار حول هذه القضية أمام مجلس نيبور وقام كل من أور ، كولا ، ابن لوكال ، ايبيلا ، دودو صياد الطيور ، علي ايلاش وبوزو ابن لوسين ، أولوتي ابن تسكار أيه ، شيشكالة ولوكال كام البستاني ولوكال أزدا ابن سين أبزول وشيشكالة ابن شاره، هار بمخاطبة المجلس وقالوا بأنهم قتلوا رجلاً ولذلك يجب قتل ثلاثة رجال وامرأة أمام كرسي لو أنيانا ابن لوكال أورودو الكاهن.ـ
وخاطب أيضاً شاكا ليلوم جندي نينورتا وابارسين البستاني اطبوا المجلس وقالوا بأن هل أن نين دادا ابنت لونينورتا قتلت زوجها ؟ فإذا فعلت يجب ان يحكم عليها بالموت.ـ
أجاب مجلس نيبور كما يأتي :ـ
ـ"يجب أن يعرف عدو الرجل بأن المرأة لا تساوي زوجها ولربما تقتل زوجها فقد سمعت بأن زوجها كان قد قتل اذن لماذا التزمت الصمت حوله ؟ هل هي التي قتلت زوجها وإن ذنبها هو أعظم من ذنب الرجال الذين قتلوه .ـ
وفي مجلس نيبور وبعد أن أوجدوا حلاً للقضية فإن نانسيك ابن لوسين وكو، أنليلا ابن كو، نانا الحلاق ، وأنليل اينام عبد آدا ، كان البستاني . ونين ، دادا ابنت لونينورتا زوجة لو، اينانا تم إخلاء سبيلهم لكي يقتلوا" .ـ
قرار مجلس نيبول :ـ
بيّن لنا هذا النص بعض المهن للرجال الذين تحدثوا في المجلس فمنهم صياد الطيور والخزفي والبستاني والجندي ، كما ان اسم علي ايلاتي هو بالواقع عضو (مسكنينو في الأكدية) وهذا يشير إلى وضعه الاجتماعي أكثر مما يشير إلى مهنته. فإن التحديد المهني يستعمل فقط لأغراض تحديد هوية الشخص المعني وهذا يبين لنا وجود تنوع في المهن ولا يعكس لنا حق هؤلاء في الجلوس في المجلس فحسب وإنما كان لديهم متسع من الوقت للحضور. ولا يوجد هنالك أي أثر للاختيار أو الانتقاء فإن معظم الرجال كانوا عمالاً يدويين وإن أحدهم جندي يعمل في خدمة معبد الإله نينورتا . والحقيقة أنهم ظهروا كمشاركين في المناظرة خلال محاكمة في جريمة قتل أثير فيها العديد من الأسئلة . أين وجدوا الوقت للقيام بذلك ؟ ففي اثينا القديمة كان المواطنون الملاّك للأراضي لديهم وقت فراغ لحضور المناظرات في المجلس ومنذ القرن الرابع فصاعداً أصبحت هنالك مشاركة في المجلس العام . فهل هنالك مكافأة لسكان بلاد وادي الرافدين ؟ يبدو ذلك غير ممكن فإذا لم يكن هنالك تعويض عن الوقت الذي قضوه في المجلس فإنه يبدو بأن الاجتماعات نادرة وأن المشاركات طارئة ولكن كل ذلك لا يبدو واضحاً بالنسبة لنا .ـ
ولكن هنالك مصدر مختلف تماماً للمعلومات حول المجلس في تاريخ بلاد وادي الرافدين وهو المجموعة الأدبية السومرية لكلكامش وآك ، وعلى الرغم من أن هذه القصة تم تقديمها على شكل سرد تاريخي لمعركة حقيقية فإنه من الواضح أنها تقدم انموذجاً أدبياً للصراع والحل. فإن المخطوطات المحفوظة لهذا النتاج الأدبي يعود تاريخها إلى بداية الألفية الثانية ولكن من المحتمل أن النص تمت كتابته في الألفية الثالثة وتصف عادة وضع أزمة تجابه مدينة يحكم فيها كلكامش وإن قطعات مدينة كيش كانت تحاصر الوركاء. فهل أن على الملك أن يقرر القتال أم لا ، ولذلك قام باستشارة مجلسين:ـ
المجلس الأول هو مجلس الحكماء في المدينة .ـ
أما المجلس الثاني فهو مجلس رجال المدينة .ـ
وقد قدموا أجوبة متعارضة حيث أجاب الحكماء بالاستسلام ، في حين أجاب الرجال بالقتال. فهل ان كلكامش التفت إلى الجمعية العامة للرجال بسبب أن مجلس الحكماء أعطاه نصيحة لا يريدها؟ وهل أن الرجال يتبعون توصيات الحكماء؟ وهل ان ذلك كان ممارسة عامة للملك بأن يستشير هذين المجلسين ؟
لم يقدم لنا هذا النص أية إجابة عن هذه الأسئلة. وعلى كل حال يمكن ان يشير إلى هيئتين منفصلتين من المواطنين كانوا موجودين ... الصفوة وهي هيئة محددة بالحكماء والأوسع منها تضم الرجال بصورة عامة . وبصورة مشابهة بالنسبة لمجالس (المستعرات) الآشورية في بلاد الأناضول في بداية الألفية الثانية ، كان هنالك تمييز بين الرجال الكبار والصغار ولكن في المدينة الأم آشور نفسها لا يوجد مثل هذا لتمييز وإن هذا التمايز تم تفسيره بأنه إشارة إلى أن الرجال الصغار مستبعدون من المجلس في المدن الأكبر ولكن ذلك يبدو أنه مجرد تكهن.ـ
وقد ظهرت تعابير (الحكماء والرجال) في صياغات أخرى أيضاً ولكن تفسيرهم صعب جداً فإن الحكماء آبابا في السومرية وشيبوتوم في الأكدية يبدو أنها تشير إلى اختيار مجموعة من الرجال ضمن إطار مجموعات مختلفة مثل المدن والقبائل والمعبد والقصر .ـ
وقد لاحظوا أيضاً ليكون رؤساء عوائل الذين ما زال تأثيرهم باقياً في الممارسات العشائرية وأن ظهورهم في النصوص الخاصة بالألفية الثانية يرتبط بوصول العموريين الساميين الغربيين في الألفية الثالثة وفي بداية الألفية الثانية. إلا أن هذا التفسير يعتمد بصورة كلية على نموذج غير مبرهن لمنهج ادخال العنصر الحضاري في تاريخ بلاد وادي الرافدين ولا يوضح ظهور الحكماء في النصوص قبل تاريخ الألفية الثانية . وفي أور الثالثة نجد موظفين كبار في الإدارة يطلق عليهم الشيوخ أو الحكماء لكي يتم تمييزهم عن الأشخاص العاديين والإداريين العاديين ، لا يوجد هنالك أي آثار قبلية ولذلك فان تفسير هؤلاء الرجال باعتبارهم صفوة أو مراتب عليا يبدو أنهم أكثر ملائمة من رؤساء العوائل فإن هؤلاء الحكماء أو الشيوخ لا يكوّنون المجلس بأكمله مثلما تتحدث العديد من الصياغات حول الحكماء والمجلس كما أن علاقتهم مع المجلس يصعب تحديدها ولربما كانوا يشكلونلجنة تنفيذية داخل المجلس وأنهم يقررون المسائل التي تطرح على الهيئة .ـ
أما الكلمة السومرية لرجال المدينة "كوروش" في نص كلكامش وهو أيضاً نص غامض لا يسمح لنا بتحديد الناس الذين يشكّلون تلك المجموعة ويشير المصطلح عادة إلى توابع القصر في الألفية الثالثة المتأخرة ، فإذا كان هذا هو التفسير الصحيح لهذه الكلمة في هذا السياق فإنها سوف تنفي تفسير المجلس باعتباره هيئة مستقلة تمثل المواطنين. ومن الممكن استعمال المصطلح نفسه ليشير إلى الرجال المتمكنين بصورة عامة ، وفيما إذا كان هناك تقييدات للرجال الذين يسمح لهم بالانضمام إلى هذا المجلسإنه أمر غير واضح أيضاً ، فإنما ذكر في كلكامش أيضاً بصورة غامضة ولا نعرف عدد الرجال الذين كانوا يحضرون في المجلس في الوركاء.ـ
مشاركة المرأة في المجالس النيابية
أما مسألة حضور النساء والجلوس في المجلس فإنه تم تجاهله من قبل الباحثين ولا يوجد هنالك أي دليل يؤيد مشاركتهن ولربما يعود ذلك إلى الغموض في المعلومات . وهنالك كتابة بابلية تعود إلى الألفية الثانية تتضمن تعبيراً ينص على أن المرأة تكشف أعمال المجلس وهذا يعني أن المرأة كانت حاضرة في المناقشات وبصورة واضحة إن المرأة أعلمت نفسها بما جرى بطرق أخرى ولذلك فإن مسألة مشاركة المرأة في المجلس تبقى مسألة ليست لها أية إجابة . إن المجالس التي تحدثت عنها لحد الآن تمثل المدن إلا أن التقسيمات الفرعية في المدن لها نفس التنظيمات كما أن الأحياء في المدينة تتمتع بسلطة قانونية ، ومن الواضح أن سكانها اجتمعوا في أوقات معينة لاتخاذ قرارات ، وعلى سبيل المثال نجد في قوانين حمورابي ان هذا الحي هو الذي يقرر عفة المرأة بعد إجراءات الطلاق (المادة 142) أو أن يحذر رجل ما بأن حيواناته تمثل خطراً عاماً (المادة 251) .ـ
أما فيما يتعلق بالتمثيل الشعبي في المدينة فإنه ليست لدينا معلومات حول العضوية والاختصاص وإجراءات الاجتماع لسكان حي المدينة . أما التقسيمات الفرعية للمدن مثل جمعيات التجار أو الحرفيين فإن لديهم اجتماعات وأنهم يتحدثون بصوت واحد ولا تعدّ المجالس محدودة فقط للسكان البلديين في بلاد وادي الرافدين .ـ
ففي القرن الخامس نجد دليلاً على وجود مجلس للمستوطنين المصريين ومغتربين آخرين في بابل ولا نصف عدد الناس المطلوبين من أجل انعقاد المجلس .ـ
فإن سجل المحاكمة في جريمة القتل التي تم اقتباسها في أعلاه تعتبر مهمة لأنها تعكس لنا بعض إجراءات المجلس ، فإن القضية تمت الإشارة إليها من قبل الملك وهنالك نصوص مشابهة في الألفية الثانية تشير إلى أن المجلس كان يلتئم بحضور الملك وإن هذا النص يؤكد على عدم وجود أي شك فيما يتعلق بالطبيعة المستقلة في ذلك الوقت ويبدو أنه لا يوجد هنالك أية مناظرة حول ذنب هؤلاء القتلى الثلاثة وإنما حول مسؤولية خروج الضحية التي لم تكشف أن زوجها قد قتل ، فقد ناقش (9) رجال بأنها مذنبة بالقتل في حين وقف اثنان بجانبها للدفاع عنها ، وأخيراً أصدر المجلس حكماً ضد المرأة وأكد السجل بأنها مع القتلى الأخر تسلم إلى المنفذين .ـ
لا يستطيع رجل لوحده من دون موافقة الأغلبية للرجال الكبار أن يطلب السكرتير لعقد جلسة للمجلس بحضور الصغار والكبار من الرجال ، فإذا ما حضر السكرتير إلى الاجتماع الخاص بالرجال والصغار والكبار من دون موافقة الرجال الكبار سوف يدفع السكرتير (10) شيقل من الفضة. ويبدو أن المجلس يقسم إلى ثلاث مجاميع لتسهيل المداولات وعندما تكون الأغلبية لصالح أخذ القضية بنظر الاعتبار فإنه يصدر أمر بحضور السكرتير إلى المجلس بأكمله وأن هذا المجلس بدوره ينقسم إلى سبع مجاميع ، كما أن قراراته تتطلب أغلبية أيضاً فهل يتم التصويت. وكيف أن المعلومات الإضافية حول وقائع المجلس غير متوفرة ما لم نأخذ بنظر الاعتبار الوصف الأدبي باجتماعات الإله ، وإن هذه الاجتماعات لا تعطي كثيراً من الأدلة على المناقشة فقط عندما يكونون بعدد محدود للآلهة الكبار الذين يعقدون مناظرة حول المسألة ، وقد ذكر بأن وقائع المجالس غالباً ما تكون سرية وإن هذا الاستنتاج مبني على الفعل، إلا أن هذه السرية يبدو أنها غير محتملة بالنسبة لي وإنه لا يتم تدوينه. إن المشاركين في المجلس يشاركون في الجلسات ويلتزمون بالحضور ويعربون عن خوفهم من الإله .ـ
وورد في الصلوات ما يأتي:ـ
"لا تتركني سيدي إلى المجلس عندما يكون هنالك الكثير يرغبون أن أكون مريضاً ولا تدعني أن أجيء لاحداث ضرر في المجلس" . وفي قطعة شعرية مشهورة تتضمن إهانة ولعنة وجّهها أحد العبيد .
وهذه تعطينا انطباعاً على وجود مكائد في المجالس وإنه من الممكن أن يلحق الضرر باسم مواطن صالح وذلك عن طريق الثرثرة حتى من قبل العبيد .ـ
اختصاصات المجالس النيابية في العراق القديم
أما مجالات اختصاص المجلس فهي أيضاً مسألة تصعب مناقشتها حيث أن معظم السجلات التي تعاملنا معها تتعلق بقرارات قانونية كما أن المجالس سواء أكانت بالمدينة بأكملها أم بأحياء المدينة كانت تقوم مقام المحاكم اذ انها تتضمن كادراً من القضاة يتم تعيينهم من قبل الملك . وفي قضية القتل التي تطرقنا إليها نجد أن الملك هو الذي أحال القضية إلى المجلس ولكن لا نعرف فيما إذا كان يحيل جميع القضايا إلى المجالس وإن القضايا التي تحال عادة تمثل طبيعة مدنية .ـ
ولدينا مثال آخر في منتصف الألفية الأولى كيف أن مجلس الوركاء نظر في محاولة قتل لأحد المندوبين الملكيين في معبد آينا ، وفي هذه القضية قام المجلس بإجراء التحقيقات الأولية فقط من دون إصدار قرار حكم من قبل القضاة الملكيين ، وإن القضايا المدنية غالباً ما تتعلق بالممتلكات والطلاق وغيرها .ـ
وهل يعتبر المجلس مختصاً في قضايا أخرى ؟
هنالك رسالة واحدة من مراسلات آشورية قديمة إلى أحد التجار في بلاد الأناضول يعود تاريخها إلى بداية الألفية الثانية. وتتضمن الرسالة أمراً من مدينة آشور لتجهيز أموال لبناء تحصينات . وفي المراسلات الآشورية القديمة تم استعمال (المدينة والمجلس) كمترادفين بحيث تمنح السلطة إلى المجلس ويمكن مقارنة ذلك مع الوضع العام في بلاد الأغريق القديمة ويعتقد بعض الباحثين مجالات اختصاص المجلس هي في الحكومة المدنية (أي حكومة المدينة) وهنالك معلومات قليلة تنفي هذه النظرة .ـ
أما القصر والمواطنة فإنهما يشكلان عنصرين سياسيين منفصلين في المدينة في بلاد وادي الرافدين وهنالك قنوات اتصال وهذه من مسؤولية عدد من الموظفين، وإن دراسة هؤلاء موظفين أمر صعب بسبب العدد الكبير من العناوين التي نجدها وكذلك الغموض الذي يكتنف واجبات كل موظف ، كما أننا نجد عدداً كبيراً من العناوين عندما نتحدث عن إدارة المدينة ، وأثناء دراستها لمدينة سيبار في بداية الألفية الثانية. وتحدثت ريفكا هاريس حول "المحافظ" ورئيس المجلس وكبار التجار والحاكم ورئيس الحلاقين والحلاق والبواب والحارس حتى أنها وجدت عناوين مربكة في الوسط الإداري. ومن المستحيل أن نحدد مسؤوليات معظم الموظفين بدقة، وهنالك موظفان اثنان يبدو أنهما لعبا دوراً مهماً في حكومة مدينة بلاد وادي الرافدين هما رئيس المجلس و"المحافظ" ، فالأول الذي هو رئيس المجلس يترجم بأنه الأعظم في المجلس وهذه التسمية استعملت حتى في الكتابات الأكدية .ـ
وهنالك لقب أكدي آخر معروف بـ (رابيانوم) وهو منصب قريب من "المحافظ" على الرغم أننا نترجم ذلك بالأكدية بهذه الصيغة ولكن في سيبار ظهر لقب رابيانوم باعتباره رئيس المحكمة وكذلك كشاهد، ودائما يذكر في أول القائمة لبروزه وتميزه. وطبقاً لقوانين حمورابي
فإن رابيانوم حسب ما ورد في المادتين 23 و 24 بأنه مسؤول عن مقاضاة السرقات التي تحدث على أرض المدينة ويشير ذلك إلى أنه أحد الموظفين الكبار ولكن من دون الكشف عن وظائفه الأخرى .ـ
أما في الوثائق البابلية القديمة فإنه ظهر على أنه رجل وسيط يلعب دوراً في عقود التأجير وخاصة فيما يتعلق بالحصاد، ويبدو أنه يلعب دور الوسيط بين القصر والناس في المدينة التي يعملون في أراضيها .ـ
إن اللقب لم يستمر في نهاية السلالة البابلية القديمة حيث هنالك سلطة أقل ، ويبدو أن خازانوم هو الذي أخذ واجبات الرابيانوم وإن الترجمة إلى "محافظ" مستعملة عندما نشير إلى هذا العنوان في النصوص المكتوبة بعد عام 1500 وهنالك رسالة وحيدة يرجع تاريخها إلى أواسط الألفية الثانية عثر عليها في مدينة نوزي وعلى وجه التحديد في شمالها تصف واجبات هذا الموظف وهي عبارة عن رسالة من ملك أرايها إلى محافظ تاشوهي .ــ
وقد ذكرت الرسالة :ـ
"أصدر الملك أمراً كما يأتي: يعتبر كل محافظ مسؤول عن أراضي المدينة، كما انه مسؤول عن السكن المحصّن في الريف حول مدينته ويجب أن لا يكون هنالك أية سرقات في مدينته ولا يوجد أعداء يقتلون الناس ولا توجد عمليات نهب ، فإذا ما حصلت هنالك سرقة أو حالة قتل في مدينته فإن المحافظ هو الذي يدفع التعويضات، وإذا ما هرب القاتل إلى مدينة أخرى يقوم المحافظ بدفع الضرر" .ـ
ولا تتحدد مسؤوليات هذا الرجل فقط في مدينته حيث أنها تسري في المناطق المحيطة بها وإنه يتعرض إلى المساءلة في حالة وجود جرائم ، كما أنه يعمل على منع اللاجئين من الهروب كما أنه يعمل على ضمان سكن محصن وآمن وعليه أن يدفع الغرامات والأضرار من جيبه الخاص ـ.
هنالك نص يشير إلى أن "المحافظ" يعتبر ممثل المدينة ومسؤول عن كلا فيها ويسأل عن السرقات في أراضيه ولكن لا يخبرنا النص حول واجباته اليومية إلا أن وضعه الاجتماعي واضح ، فهو وسيط بين القصر والمواطنين ، ولكن ليس من الواضح الشخص الذي يعتبر مسؤولاً عن تعيين الممثلين فإما أن يكونوا من الحكماء أو كبار السن من المدينة ولكن في الفترات اللاحقة نجد أن المحافظين يتم تعيينهم من قبل الملك .ـ
لقد تطور مفهوم الديمقراطية البدائية قبل 50 سنة من قبل جاكوبسون وذلك من خلال ملاحظاته حول السلطات القضائية في بلاد آشور خلال الألفية الثانية وكذلك في بابل وقد بحث جاكوبسون هذا الموضوع ليحدد فيما إذا كانت إحياء تقليد قديم، ولكن على الرغم من ذلك لا توجد نقاط حول التطور الديمقراطي أو تطور الأفكار الديمقراطية، وقد حاول جاكوبسن أن يرسم صورة لظهور الملكية في الألفية الثالثة وبعد فترة عندما انتخب المجلس قام قائد عسكري في وقت الأزمة باغتصاب السلطة وأن يعين نفسه ملكاً مدى الحياة. وقد بنى جاكوبسون فكرته على ما ورد في ملحمة الخلق وظهور الملكية من قبل مردوك إله بابل حيث جرى حدث مهم وهو تعرض الإله للإهانة والإبادة من قبل اتيامات مما أدى إلى قتل زوجها أبسو وقام إيا بإرسال ولده المفضل مردوك لمواجهة ذلك التهديد وقد عرض مردوك كل خدماته على شرط أن يمنح سلطات عليا وهكذا وافقت الآلهة على منح رغبته هذه وذلك في اجتماع للمجلس حيث جرت هنالك وليمة بتجهيزات غير محدودة من البيرة والخمر، وقد توّج مردوك ملكاً وبعد انتصاره نظم العالم ولذلك أمر ببناء بابل .ـ
وخلاصة القول إن فرضية جاكوبسون تنص على حقيقة أن مردوك تم انتخابه ملكاً من قبل مجلس الآلهة حيث عكس لنا جاكوبسون صورة في بلاد وادي الرافدين بمجلس شعبي يتمتع بسلطات واسعة من ضمنها انتخاب الملك ولكن منذ أواسط الألفية الثالثة بدأت عملية تحديد وتقليص سلطات المجلس وذلك من قبل حكام لمدى الحياة حيث أن تاريخ بلاد وادي الرافدين المتعاقب عكس لنا سلطة شمولية متزايدة ولذلك فإن الأباطرة مثل آشور بانيبال حكم منطقة من إيران إلى مصر إلا أنه لم يكن بحاجة إلى استشارة مواطنيه. وهل من الممكن أن نفهم التطور من الديمقراطية البدائية إلى الملكية المطلقة في بلاد وادي الرافدين ؟
لا أعتقد بذلك فإنني أود أن أشترط عكس ذلك حيث أن الأراضي تحكم من قبل ملوك وادي الرافدين وتصبح هذه الأراضي واسعة ، كما ان السكان فيهم تنوع كبير ولذلك من المهم دراسة وضع المقيمين في المدن في بداية الألفية الأولى ونلاحظ أن هؤلاء المقيمين منحوا درجة كبيرة من الاستقلال، كما انهم تم إعفاؤهم من الضرائب الملكية وأعمال السخرة والواجبات العسكرية ، وتعتبر هذه من أولى المناطق التي فيها تفاعل بين الملك ورعاياه. وهكذا نجد المحافظة على المواطنين وعدم إراقة دمائهم، ويضمن ذلك الملك أو ممثليه ، كما ان الإعفاءات الضريبية كانت نتيجة حماية إلهية للمدن .ـ
لقد تمت دراسة المجلس النيابي لبلاد وادي الرافدين من قبل مؤلفين عديدين وخاصة مقال جاكوبسون المهم والمعنون "الديمقراطية البدائية في بلاد وادي الرافدين القديمة"ـ
(primitive democracy)
سنة 1943 التي تعكس مواضيع عديدة تمت مناقشتها في هذا الفصل وناقش الديمقراطية البدائية في التطور السياسي الأول في بلاد وادي الرافدين عام 1957 ، ولكن رغم ذلك هنالك العديد من الأسئلة التي تنتظر الإجابة. وهنالك جزء تم تخصيصه للمعارضة السياسية في بلاد وادي الرافدين. وتعدّ هذه بمثابة المعارضة للسلطة الملكية. وبالنسبة للفترات الأخيرة من تاريخ بلاد وادي الرافدين نجد أن مناقشة دور المجلس بأنه يشبه مجلس الأغريق القديم .ـ
وبالنسبة لدراسة الموظفين وأدوارهم هنالك أيضاً دراسة حولها باللغة الألمانية وخاصة ما يتعلق بالألفية الثانية في بابل . كما ان العلاقة بين الملك والمواطنين تم اعتبارها ضمن سياق حقوق المجتمع مقابل السلطة الملكية ، كما ان هنالك دراسة أخرى ركزت أيضاً على نفس الموضوع في الألفية الثانية المتأخرة.ـ
عودة الى الصفحة الرئيسية