طوبغرافية مدينة نينوى:
ترجمة واعداد
الدكتور حسيب حديد والاستاذ سيف لقمان
الطوبغرافية علم يختص بتمثيل كل تفاصيل الظواهر الطبيعية أو الاصطناعية لمنطقة ما موجودة على سطح الأرض متمثلة بأشكال ورسومات مميزة، ويتم ذلك بالحصول على نتائج ميدانية تعرف بعملية الرفع أو عملية إسقاط المشاريع وتمثيلها على الميدان بمخططات مرسومة سابقاً أو ترسم لهذا الغرض، وتسمى هذه العملية بالتوقيع الخرائطي، وتهدف دراسة الطوبغرافية إلى استغلال إمكانات مظهر السطح في كل التحليلات والاستنتاجات المتعلقة به أو بأحد العناصر المجسدة والقائمة بشرية كانت أم حيوية [1].
ويعد السطح من الأجزاء الرئيسة في الطوبغرافية الذي يتكون من مجموعة تفاصيل منتشرة على سطح الأرض سواء كانت طبيعية أو بشرية، فالطبيعية متمثلة بمجاري المياه وحافات البحيرات والغابات والبساتين أما البشرية فتكون ممثلة بخطوط المواصلات كالطرق وسكك الحديد والبنايات، وكل ما هو مصنوع بأيدي البشر، وتدرج كل هذه التفاصيل تحت اسم مظاهر السطح وتكون بهيئة رموز وعلامات تعرف بمصطلح الطوبغرافية، وترسم بشكل قريب من الأشياء التي تدل عليها بصورة مرئية من أعلى بالملاحظة الجوية العمودية حيث يظهر الطريق على الخارطة ممثلاً بخطين متوازيين والمنزل المنعزل ممثلاً بشكل مستطيل صغير، لذلك فإن كل ما يرسم على الخارطة يظهر برموز اصطلاحية لا علاقة لقياساتها في الرسم بالقياسات الحقيقية على الطبيعة [2].
وبناءً على ذلك يمكن تعريف الطوبغرافية بأنها الوصف الدقيق للأماكن وسماتها السطحية في الموقع، فالظواهر الطبيعية التي كانت بالفعل تميز طوبغرافية مدينة نينوى الطبيعية هي نهر دجلة الذي كان يحاذي السور الغربي للمدينة، إلا أنه يبتعد عنه الآن ما يقارب الكيلومتر عن موقعه الأصلي، ومن الظواهر الطبيعية الأخرى التي ما زالت تميز طوبغرافية المدينة هو مجرى نهر الخوصر الذي يمر من داخل المدينة ويشطرها إلى نصفين[3].
أما الظواهر الاصطناعية التي هي بطبيعة الحال من صنع يد البشر فمن المؤكد أن طوبغرافية المدينة لم تكن بهذه الصورة التي كانت عليها في زمن الملك سِن - أخي- إريبا من تشييد للقصور والمعابد والاهتمام الكبير في بناء الأسوار والأبواب التي تميزت بها المدينة، فضلاً عن أن العديد من الملوك الذين أقاموا في المدينة شيدوا قصوراً ومعابد أيضاً وتشير النصوص المسمارية المكتشفة إلى أن المدينة كانت تعاني من ظاهرة تكرار الزلازل التي تطلبت جهوداً مضنية للحفاظ على المباني داخل المدينة بإعادة بنائها أو ترميمها أو حتى توسيعها، وهذا انعكس فعلاً على النصوص المسمارية لعدة ملوك عاصروا تلك الظواهر وأشاروا إليها في نصوصهم [4]، فقد عثر هاملتون مساعد الاثاري كامبل طومبسون (اللذين كانا يعملان سويةً في الموقع) أثناء تنقيبات المتحف البريطاني في معبد عشتار بمدينة نينوى على نص مسماري يتحدث عن زلزال وقع في مدينة نينوى وهو عبارة عن رسالة موجهة من كاتب يدعى نابو- شُمَ- أوكِن إلى الملك الذي حدث في عهده الزلزال والذي لم يذكر اسمه في هذا النص [5]، وتذكر الرسالة: (إلى الملك سيدي، عبدك نابو-شُمَ- أوكِن الكاتب، سلام إلى مولاي الملك، ليحفظ الالهين نابو ومردُك سيدي الملك، مولاي: في الحادي والعشرين من شهر أيلول حدث زلزال، وإن الجزء الخلفي من المدينة بكامله انهار (حرفياً ملقى على الأرض)، أما سور الجزء الخلفي من المدينة فباق ٍ (باستثناء) 30,5 ذراعاً من ذلك السور الذي تناثر وسقط في الجانب المجاور للمدينة. وإن المعبد مهدم ، إلا أنني مسرور (أن) (تماثيل) الآلهة كلهم سالمون. وأما إطار (؟) نافذة المعبد... من رواق المعبد، ومن ذراع واحد (؟) من ... انهار، انهار أحد ... من هذا المعبد، بالنسبة للجدار الخارجي من البوابة العظيمة المجاورة، ومن البوابة العظيمة... انهارا (بخصوص) بيت (وبخصوص) سجن المدينة إنهار قسم أو قسمان منه، ليأتِ كبير المعماريين(؟) ويفتش رسمياً)[6].
ويبدو من النص أن العديد من مباني المدينة كانت قد دُمِّرت .. أجزاء من المعبد وأجزاء من سجن المدينة (*)، وفي نص آخر يرجع إلى عهد الملك شُلمانُ- أشاريد (الأول) (شلمنصر الأول) (1274-1245 ق.م) يؤكد على تكرار ظاهرة الزلازل في المدينة، إذ يشير النص إلى أن معبد عشتار كان قد أصابه الدمار في عهد شُلمانُ- أشاريد (الأول) وبخصوص ذلك نقرأ ما نصه:
milu Šulmanu (ma-nu)-ašarid ša-ak-ni iluBel Šangi A-šur šarra dan-nu šar [Kiššati šar matu] A-šur E-nu-ma bit ilu Ištar belit aluNi-na-a belti-ia e-na-[aÑ ša i-na] pa-na milu Šamši (Ši)-ilu Adad e-pu-šu ar-ki-šu milu A-šur-uballit a-[bi] ud-di-šu bitu šu-u iari-i-bi a-na si-Ñir-ti-šu [e-na-aÑ] an- ša-ti- šu ak-sir u ma-ak-ta i š-tu uš- še- šu a-d [I gab-dib- šu e-pu-uš [7] .
مِلُ شُلمَنو (مـَ- نُ)- آشَرِد شـَ- آكـ- نِ اِلُ بِل شَنج آ- شُر شَرُ دانـ-نُ شَر [كِشَتِ شَر مَتُ] آ-شُر اِنـُ- مَ بِت اِلُ اِشَتَر بِلتِ آلُ نـِ- نـَ- آ بِلتِ- يَ ا- نـَ- [آخ شَ اِ- نَ] ﭙـَ- نَ ميلُ شَ (شـِ) اِلُ آدَد ا- ﭙـُ- شُ آر كـِ- شُ ميلُ آ- شُر- أُبِلِط آ- [بِ] أُد- دِ شُ بِتُ شـُ- اُ اِ- نَ دِ- اِ- بِ آ- نَ سـِ –خِر- تِ- شُ [ ا- نـَ- آخ] آنـ- شـَ- تـِ- شُ آكـ- سِر اُمـَ- آ- تَ اِشـ- تُ اُشـ- شـِ- شُ آ- د [اِ جَبـ- دِبـ- شُ ا- ﭙـُ- اُش.
(شُلمانُ- أشاريد (الأول) حاكم بيل كاهن آشور الملك القوي ملك (العالم) ملك بلاد آشور عند معبد عشتار سيدة نينوى، سيدتي، سابقاً في زمن شمشي- أدد (الأول) وبعده آشور أوبالط والدي أعاده، المعبد كان قد دمر بسبب الزلزال أنا أسندت الأجزاء المتساقطة من السقف وبنيت الأساسات).
وفي نص مسماري آخر يعود إلى آشور- ريشي- إيشي (الأول) يتحدث فيه عن الزلزال الذي وقع في زمن أجداده من الملوك منهم شُلمانُ- أشاريد (الأول) وآشور- دان حيث يذكر ما نصه:
maš-šur-riši-išši ša-ak-ni ilu Bel šangi aš-šur bit Ištar ša[alu Ninua] belti-ia ša i-na maÑ-ra i-na tar-íi milu šulmanu (ma-nu)- ašarid šar matuaššur i-na ri-bi e-nu-Ña šarru a-lik pa-ni-ia an-Ñu-su-nu ud-di-šu ša-nu-te ŠU i-na ri-i-bi ša [tar-íi maš-šur-d] an [šar]matu aš-šur [8].
م آشـ- شُر- رِشـِ- اِشِ شَـ- آكـ- آكـ- نِ- اِلُ بِل شَنجِ آشـ- شرُ بِت اِشتَر شَ [آلُ نينوا] بِلتِـ-يَ شَ اِ-نَ مَخـ- رَ اِ-نَ تَر- صِ مِلُ شُلم آنو (مـَ- نُ)- آشَرِد شَر مَتُ آشُر اِ- نَ رِ- بِ ا- نـُ- خَ شَرُ آ- لِك ﭙـَ- نـِ- يَ آنـ- خـُ- سـُ- نُ اُد- دِ- شُ شـَ- نـُ- ت شو اِ- نَ رِ- اِ- بِ شَ [تَر- صِ م آشـ- شـُر-د] آن [شَر] مَتُ آشـ- شُر.
(آشور- ريشي- إيشي، حاكم بيل كاهن آشور. معبد عشتار العائد إلى مدينة نينوى سابقاً في زمن شُلمانُ- أشاريد (الأول) ملك بلاد آشور كان قد دمر في الزلزال، كان قد سبقني الملك شُلماَنُ- أشاريد وجدد أنقاضه هزة مرة أُخرى زلزال في زمن جدي آشور- دان ملك بلاد آشور).
ويتضح لنا من النصوص المسمارية أن المدينة مرت بحركات تكتونية وأنها كانت على خط الزلزال مما جعل المدينة في خطر مستمر حيث تعرضت إلى العديد من الهزات دمرت فيها مساحات كبيرة من المدينة، وهذا ما أكدته فعلاً النصوص المسمارية.[9]لاصطناعية فقد شهدت المدينة نمواً عمرانياً كبيراً شملت المعابد والقصور وبناء الأسوار وغيرها مما أحدث تغييراً في طوبغرافية المدينة، فقد قام سِن- أخي- إريبا بتوسيع مساحة المدينة إذ يذكر في أحد نصوصه أن محيط المدينة لم يكن يتجاوز الـ 9300 ذراع (أي ما يعادل الخمسة كيلومترات) جاء فيه:
Ninuaki šá ul-tu u-me pa-ni 9300 ina ammatu šu-bat li-me-ti-šu [10].
نينوا كِ شَ2 اُلـ- تُ اُ- م ﭙـ- نِ 9300 اِنَ آمَتُ شُـ- بَت لـِ- مـِ- تـِ- شُ.
(نينوى التي موقعها منذ القدم تقاس بـ 9300 ذراع محيطها).
و يستكمل الملك حديثه في النص عن قيامه بتوسيع مساحة المدينة جاء فيها:
Ša Ninuaki ali be-lu-ti-ia šu-bat-su uš-rab- bi[11] .
شَ نينواكِ آلِ بـِ- لـُ – تـِ – يَ شـ- بَتـ- سُ اُشـ - رَ بـ - بِ.
(منطقة نينوى مدينة سيدي الملك عملت على توسيعها)
لقد بين سِن - أخي- إريبا في النص مدى صغر محيط المدينة ثم يذكر بأنه قام بتوسيع المدينة، وإذا قارنا محيط المدينة الذي كانت عليه سابقاً أي ما يقارب الـ خمسة كيلومترات والمحيط الحالي الذي يقدر بـ 12,16 كم يظهر أن التوسيع الذي طرأ على المدينة بلغ أكثر من نصف المساحة الأصلية [12].
ومن الملاحظ على خارطة مدينة نينوى أن تصميمها أقرب ما يكون إلى الشكل متوازي المستطيلات غير المنتظم، وإن شكلها قريب أيضاً من شكل السمكة ، وأن قياسات أضلاعها الأربعة مختلفة وغير متساوية فالضلع الجنوبي يعد من أقصر أضلاع المدينة و يبلغ طوله (830م) أما الضلع الشرقي فيبلغ طوله (4,17 كم) في حين بلغ طول الضلع الشمالي (2,062 كم) أما الضلع الغربي فيعد من أطول أضلاع المدينة ويبلغ طوله (4,990 كم) [13].
ومما يميز طوبغرافية نينوى هو وجود تلين كبيرين الأول يطلق عليه تل قوينجق وهو الأكبر إذ تبلغ مساحته (1,820 كم2) وهو محاط من الجنوب والشرق بنهر الخوصر، ويحده من الجهة الغربية سور المدينة الغربي وفيه آثار القصور والمعابد التي بناها الملوك عبر العصور ويضم قصر سِن- أخي- إريبا وقصر آشور- بان- أﭙلي ومعبد عشتار ومعبد نابو وقصر آشور- ناصر- أﭙلي (الثاني) وغيره من القصور والمعابد غير المكتشفة [14].
أما التل الثاني (تل النبي يونس) فهو أصغر مساحة من الأول وتبلغ مساحته (1,260 كم2)، ويقع في أعلى التل جامع النبي يونس، ولم تجر فيه تنقيبات لحد الآن بسبب وجود الجامع، إلا أن الباحثين يعتقدون بوجود قصر الملك آشور- أخُ - إدينا (أسرحدون) (680-669 ق.م) في باطن هذا التل، ومما يؤيد ذلك العثور على ثيران مجنحة على بعد 23 م شرق تل النبي يونس مبنية من حجر الحلان مربعة الشكل كانت موضوعة عند مداخل بوابات قصر آشور- أخُ - إدينا [15] ،
إن الاهتمام بطوبغرافية نينوى لم تكن ظاهرة جديدة، إذ إن أقدم من اهتم بهذا الموضوع كان المقيم البريطاني كلوديوس ريـﭺ، ففي العام 1820م قام بمسح للموقع ووضع خارطة للمدينة تعد الأولى من نوعها في ذلك الوقت كانت أساساً لعلماء الآثار للقيام بالدراسات والأبحاث التي تتعلق بمدينة نينوى [16].
وفي العام 1852م قام فيليكس جونس بدراسة طوبغرافية المدينة ووضع خارطة جديدة للمدينة كتب عليها باللغة الانكليزية
(Nineveh)
، اعتبرت خارطة جونس أدق من الخارطة التي وضعها ريـﭺ كون أن فيليكس جونس كان مساحاً عسكرياً مهنياً في حين كان ريج قد إعتمد على إمكانياته الذاتية ، إذ قام بتخطيط حدود المدينة بدقة وحدد مواقع الخنادق المائية الواقعة خارج أسوار المدينة [17].
وكان للآثاري جورج سمث ثلاث زيارات لمدينة نينوى كان آخرها في العام 1873م وبقي فيها مدة من الزمن وضع من خلالها خارطة أوضح فيها طوبغرافية المدينة [18].لقد استمرت الدراسات والأبحاث التي تتعلق بطوبغرافية نينوى ووضعت أول خارطة كنتورية لتل قوينجق من قِبل الآثاري ليوناردو ويليام كينج وقد إصطحب معه الأثاري البريطاني كامبل طومبسون وذلك في العام 1905 بعد أن قام بدراسة موقع التل، وقد أظهرت الدراسة تفاصيل الموقع التقريبي لبقايا معظم البنايات والمساحات التي وزعت فيها [19].
وبعد ما يقارب الـ ربع قرن قدَّم الآثاري كامبل طومبسون خارطة جديدة لمدينة نينوى الأثرية حدد فيها ولأول مرة بعض مواقع أبواب المدينة [20], وعمل طومبسون في مدينة نينوى منذ العام 1929 ولغاية 1934.
لقد كان العمل متواصلاً لدراسة كل ما يتعلق بطوبغرافية نينوى واستخدم ولأول مرة التصوير الجوي لمواقع المدينة في العام 1929 عندما قام أحد طياري الجيش البريطاني ويدعى إنسول مصطحباً معه الطيار كراوفورد الذي كان يشغل منصب مؤسس ومحرر مجلة (Antiquity) التي تعنى بالآثار، إذ استطاع الرجلان أن يقوما بجهد شخصي عن طريق التصوير الجوي لموقع مدينة نينوى لتكون أول صورة جوية عمودية استخدمت في رسم خارطة لمدينة نينوى، وأوضحت من جديد الأبعاد الدقيقة لأسوار المدينة وبصورة أدق من الخرائط التي سبقتها [21].
وتوالت أعمال التصوير الجوي عن طريق الآثاري كامبل طومبسون وزميله هاتشنسون الذين عملا سويةً لوضع خارطة جوية مركبة لمدينة نينوى وذلك في العام 1932 فكانت مقياساً جديداً لدراسات مستقبلية عن المنظر الطبيعي الخاص بنينوى، وقاموا أيضاً في العام الذي تلاه بأخذ صورة جوية لموقع تل قوينجق تعد أقدم صورة جوية للموقع [22]. و في خمسينات القرن العشرين استؤنفت الأعمال الآثارية ألعراقية في مدينة نينوى ففي العام 1954 قام المهندس محمد علي مصطفى بتصميم أول خارطة كنتورية لموقع تل النبي يونس تعد الأولى من نوعها، وشهدت أعمال التنقيب أيضاً تصميم مجموعة من الخرائط المهمة التي أعدت بالمسح الجوي ونشرت بمقياس رسم 1:20000 مع مستوى خطوط 5 م فقد صممت خارطة جديدة أوضحت فيها الزاوية الشمالية الغربية لمدينة نينوى ، وأظهرت تفاصيل مهمة لموقع تل قوينجق وبعض التضاريس الأرضية الواقعة في الزاوية الشمالية الغربية للمدينة [23].
وبعد سنتين (وتحديداً في العام 1956) أُلتقطت صورة جوية لمقطع مستعرض من الزاوية الشمالية الشرقية للمدينة على مقياس 1:10000 عن طريق الصور العمودية التي أُخذت للموقع والتي كشفت بعض التضاريس منها نهر الخوصر، إلا أنها لم تكن بدرجة وضوح كافية للتعرف على باقي تضاريس المدينة [24].
وفي العام 1968 استطاع الدكتور طارق مظلوم أن يصمم خارطة لمدينة نينوى بَيّن فيها آثار الزحف العمراني الحديث داخل المدينة الأثرية وانتشاره في وسطها [25]. وقد أصبحت هذه الخارطة دليل عمل في مديرية الأثار العامة, وفي العام 1978 قدَّم جوليان ريد دراسة حول مدينة نينوى الموسعة في عصر سِن – أخي - إريبا إذ أثبت ما جاء به فيليكس جونس من أن اختيار موقع مدينة نينوى لم يكن عن طريق الصدفة، وأنها كانت واقعة عند الجزء الشرقي من منطقة هطول الأمطار لشمال بلاد الرافدين، وقدم جوليان ريد دراسة تتعلق بالأسماء والمواقع الخاصة بأبواب مدينة نينوى مع تصميم جديد لمخطط المدينة عن طريق دراسة النصوص المسمارية العائدة للملك سِن- أخي- إريبا [26].
وفي العام نفسه قدم عالم الآثار سيتون لويد دراسة أُخرى، فقد صمم خارطة جديدة بالاعتماد على خارطة فيليكس جونس فضلاً عن الكتابات المسمارية العائدة للملك سِن- أخي- إريبا وبين الطرق المحتملة التي كانت تسير عليها القنوات المائية للمشروع الإروائي الذي أقامه سِن- أخي- إريبا فضلاً عن دراسة طوبغرافية المناطق التي يمر منها ذلك المشروع [27].ومنذ العام 1990 أستخدمت الأقمار الاصطناعية بواسطة أشعة الليزر لتصوير المواقع الأثرية، وقامت بعثة من جامعة كاليفورنيا بتصوير مدينة نينوى الأثرية بالأقمار الاصطناعية ، وبالرغم من عدم وضوح الصورة إلا أنها أعطت انطباعاً عن المنظر الطبيعي الحضري المعاصر للمدينة، وكشفت الصور التي التقطت مدى التجاوز الذي حدث في الزحف العمراني الحديث واتساع رقعة المساحة المتجاوز عليها [28].
وفي العام 2001 نُشرت دراسة أُخرى لعالم الآثار جوليان ريد استطاع فيها أن يصمم خارطة حديثة لمدينة نينوى الأثرية ثبتت عليها بوابات المدينة الثمانية عشر فضلاً عن المواقع الأخرى[29].
إن التطور الحاصل في برامجيات الحاسوب ودخول الانترنت الذي أصبح مكملاً لذلك التطور فضلاً عن البرامج الخاصة بالتصوير الجوي عن طريق الانترنت وخاصةً البرنامج المعروف بـ
Google earth
سهَّل من عملية التصوير الجوي للمواقع الأثرية ومنها مدينة نينوى؛ إذ أعطى هذا البرنامج صورة دقيقة للموقع بكل تفاصيله كما وضح الأراضي المتجاوز عليها من الأراضي التي حافظت على أثريتها وصممت أيضاً برامج حديثة في الآونة الأخيرة ومنها برنامج
AutoCAD
الذي يقوم برسم خرائط وأخذ قياسات للمدينة بما فيها أضلاع المدينة الأربعة فضلاً عن المساحات الكلية للمباني الأثرية المكتشفة داخل المدينة والمسافات التي تفصل بينهم دون الذهاب إلى الموقع(*)، وصمم برنامج آخر وهو برنامج
Global Mapar
الذي يمكن بوساطته وضع خارطة كنتورية للموقع وهذا ما تم تطبيقه فعلاً على مدينة نينوى.
لقد ساهمت هذه البرامج الحديثة في دراسة طوبوغرافية مدينة نينوى بطريقة علمية حديثة مع اختصار في الجهد والوقت.
المصادر
ترجمة واعداد
الدكتور حسيب حديد والاستاذ سيف لقمان
الطوبغرافية علم يختص بتمثيل كل تفاصيل الظواهر الطبيعية أو الاصطناعية لمنطقة ما موجودة على سطح الأرض متمثلة بأشكال ورسومات مميزة، ويتم ذلك بالحصول على نتائج ميدانية تعرف بعملية الرفع أو عملية إسقاط المشاريع وتمثيلها على الميدان بمخططات مرسومة سابقاً أو ترسم لهذا الغرض، وتسمى هذه العملية بالتوقيع الخرائطي، وتهدف دراسة الطوبغرافية إلى استغلال إمكانات مظهر السطح في كل التحليلات والاستنتاجات المتعلقة به أو بأحد العناصر المجسدة والقائمة بشرية كانت أم حيوية [1].
ويعد السطح من الأجزاء الرئيسة في الطوبغرافية الذي يتكون من مجموعة تفاصيل منتشرة على سطح الأرض سواء كانت طبيعية أو بشرية، فالطبيعية متمثلة بمجاري المياه وحافات البحيرات والغابات والبساتين أما البشرية فتكون ممثلة بخطوط المواصلات كالطرق وسكك الحديد والبنايات، وكل ما هو مصنوع بأيدي البشر، وتدرج كل هذه التفاصيل تحت اسم مظاهر السطح وتكون بهيئة رموز وعلامات تعرف بمصطلح الطوبغرافية، وترسم بشكل قريب من الأشياء التي تدل عليها بصورة مرئية من أعلى بالملاحظة الجوية العمودية حيث يظهر الطريق على الخارطة ممثلاً بخطين متوازيين والمنزل المنعزل ممثلاً بشكل مستطيل صغير، لذلك فإن كل ما يرسم على الخارطة يظهر برموز اصطلاحية لا علاقة لقياساتها في الرسم بالقياسات الحقيقية على الطبيعة [2].
وبناءً على ذلك يمكن تعريف الطوبغرافية بأنها الوصف الدقيق للأماكن وسماتها السطحية في الموقع، فالظواهر الطبيعية التي كانت بالفعل تميز طوبغرافية مدينة نينوى الطبيعية هي نهر دجلة الذي كان يحاذي السور الغربي للمدينة، إلا أنه يبتعد عنه الآن ما يقارب الكيلومتر عن موقعه الأصلي، ومن الظواهر الطبيعية الأخرى التي ما زالت تميز طوبغرافية المدينة هو مجرى نهر الخوصر الذي يمر من داخل المدينة ويشطرها إلى نصفين[3].
أما الظواهر الاصطناعية التي هي بطبيعة الحال من صنع يد البشر فمن المؤكد أن طوبغرافية المدينة لم تكن بهذه الصورة التي كانت عليها في زمن الملك سِن - أخي- إريبا من تشييد للقصور والمعابد والاهتمام الكبير في بناء الأسوار والأبواب التي تميزت بها المدينة، فضلاً عن أن العديد من الملوك الذين أقاموا في المدينة شيدوا قصوراً ومعابد أيضاً وتشير النصوص المسمارية المكتشفة إلى أن المدينة كانت تعاني من ظاهرة تكرار الزلازل التي تطلبت جهوداً مضنية للحفاظ على المباني داخل المدينة بإعادة بنائها أو ترميمها أو حتى توسيعها، وهذا انعكس فعلاً على النصوص المسمارية لعدة ملوك عاصروا تلك الظواهر وأشاروا إليها في نصوصهم [4]، فقد عثر هاملتون مساعد الاثاري كامبل طومبسون (اللذين كانا يعملان سويةً في الموقع) أثناء تنقيبات المتحف البريطاني في معبد عشتار بمدينة نينوى على نص مسماري يتحدث عن زلزال وقع في مدينة نينوى وهو عبارة عن رسالة موجهة من كاتب يدعى نابو- شُمَ- أوكِن إلى الملك الذي حدث في عهده الزلزال والذي لم يذكر اسمه في هذا النص [5]، وتذكر الرسالة: (إلى الملك سيدي، عبدك نابو-شُمَ- أوكِن الكاتب، سلام إلى مولاي الملك، ليحفظ الالهين نابو ومردُك سيدي الملك، مولاي: في الحادي والعشرين من شهر أيلول حدث زلزال، وإن الجزء الخلفي من المدينة بكامله انهار (حرفياً ملقى على الأرض)، أما سور الجزء الخلفي من المدينة فباق ٍ (باستثناء) 30,5 ذراعاً من ذلك السور الذي تناثر وسقط في الجانب المجاور للمدينة. وإن المعبد مهدم ، إلا أنني مسرور (أن) (تماثيل) الآلهة كلهم سالمون. وأما إطار (؟) نافذة المعبد... من رواق المعبد، ومن ذراع واحد (؟) من ... انهار، انهار أحد ... من هذا المعبد، بالنسبة للجدار الخارجي من البوابة العظيمة المجاورة، ومن البوابة العظيمة... انهارا (بخصوص) بيت (وبخصوص) سجن المدينة إنهار قسم أو قسمان منه، ليأتِ كبير المعماريين(؟) ويفتش رسمياً)[6].
ويبدو من النص أن العديد من مباني المدينة كانت قد دُمِّرت .. أجزاء من المعبد وأجزاء من سجن المدينة (*)، وفي نص آخر يرجع إلى عهد الملك شُلمانُ- أشاريد (الأول) (شلمنصر الأول) (1274-1245 ق.م) يؤكد على تكرار ظاهرة الزلازل في المدينة، إذ يشير النص إلى أن معبد عشتار كان قد أصابه الدمار في عهد شُلمانُ- أشاريد (الأول) وبخصوص ذلك نقرأ ما نصه:
milu Šulmanu (ma-nu)-ašarid ša-ak-ni iluBel Šangi A-šur šarra dan-nu šar [Kiššati šar matu] A-šur E-nu-ma bit ilu Ištar belit aluNi-na-a belti-ia e-na-[aÑ ša i-na] pa-na milu Šamši (Ši)-ilu Adad e-pu-šu ar-ki-šu milu A-šur-uballit a-[bi] ud-di-šu bitu šu-u iari-i-bi a-na si-Ñir-ti-šu [e-na-aÑ] an- ša-ti- šu ak-sir u ma-ak-ta i š-tu uš- še- šu a-d [I gab-dib- šu e-pu-uš [7] .
مِلُ شُلمَنو (مـَ- نُ)- آشَرِد شـَ- آكـ- نِ اِلُ بِل شَنج آ- شُر شَرُ دانـ-نُ شَر [كِشَتِ شَر مَتُ] آ-شُر اِنـُ- مَ بِت اِلُ اِشَتَر بِلتِ آلُ نـِ- نـَ- آ بِلتِ- يَ ا- نـَ- [آخ شَ اِ- نَ] ﭙـَ- نَ ميلُ شَ (شـِ) اِلُ آدَد ا- ﭙـُ- شُ آر كـِ- شُ ميلُ آ- شُر- أُبِلِط آ- [بِ] أُد- دِ شُ بِتُ شـُ- اُ اِ- نَ دِ- اِ- بِ آ- نَ سـِ –خِر- تِ- شُ [ ا- نـَ- آخ] آنـ- شـَ- تـِ- شُ آكـ- سِر اُمـَ- آ- تَ اِشـ- تُ اُشـ- شـِ- شُ آ- د [اِ جَبـ- دِبـ- شُ ا- ﭙـُ- اُش.
(شُلمانُ- أشاريد (الأول) حاكم بيل كاهن آشور الملك القوي ملك (العالم) ملك بلاد آشور عند معبد عشتار سيدة نينوى، سيدتي، سابقاً في زمن شمشي- أدد (الأول) وبعده آشور أوبالط والدي أعاده، المعبد كان قد دمر بسبب الزلزال أنا أسندت الأجزاء المتساقطة من السقف وبنيت الأساسات).
وفي نص مسماري آخر يعود إلى آشور- ريشي- إيشي (الأول) يتحدث فيه عن الزلزال الذي وقع في زمن أجداده من الملوك منهم شُلمانُ- أشاريد (الأول) وآشور- دان حيث يذكر ما نصه:
maš-šur-riši-išši ša-ak-ni ilu Bel šangi aš-šur bit Ištar ša[alu Ninua] belti-ia ša i-na maÑ-ra i-na tar-íi milu šulmanu (ma-nu)- ašarid šar matuaššur i-na ri-bi e-nu-Ña šarru a-lik pa-ni-ia an-Ñu-su-nu ud-di-šu ša-nu-te ŠU i-na ri-i-bi ša [tar-íi maš-šur-d] an [šar]matu aš-šur [8].
م آشـ- شُر- رِشـِ- اِشِ شَـ- آكـ- آكـ- نِ- اِلُ بِل شَنجِ آشـ- شرُ بِت اِشتَر شَ [آلُ نينوا] بِلتِـ-يَ شَ اِ-نَ مَخـ- رَ اِ-نَ تَر- صِ مِلُ شُلم آنو (مـَ- نُ)- آشَرِد شَر مَتُ آشُر اِ- نَ رِ- بِ ا- نـُ- خَ شَرُ آ- لِك ﭙـَ- نـِ- يَ آنـ- خـُ- سـُ- نُ اُد- دِ- شُ شـَ- نـُ- ت شو اِ- نَ رِ- اِ- بِ شَ [تَر- صِ م آشـ- شـُر-د] آن [شَر] مَتُ آشـ- شُر.
(آشور- ريشي- إيشي، حاكم بيل كاهن آشور. معبد عشتار العائد إلى مدينة نينوى سابقاً في زمن شُلمانُ- أشاريد (الأول) ملك بلاد آشور كان قد دمر في الزلزال، كان قد سبقني الملك شُلماَنُ- أشاريد وجدد أنقاضه هزة مرة أُخرى زلزال في زمن جدي آشور- دان ملك بلاد آشور).
ويتضح لنا من النصوص المسمارية أن المدينة مرت بحركات تكتونية وأنها كانت على خط الزلزال مما جعل المدينة في خطر مستمر حيث تعرضت إلى العديد من الهزات دمرت فيها مساحات كبيرة من المدينة، وهذا ما أكدته فعلاً النصوص المسمارية.[9]لاصطناعية فقد شهدت المدينة نمواً عمرانياً كبيراً شملت المعابد والقصور وبناء الأسوار وغيرها مما أحدث تغييراً في طوبغرافية المدينة، فقد قام سِن- أخي- إريبا بتوسيع مساحة المدينة إذ يذكر في أحد نصوصه أن محيط المدينة لم يكن يتجاوز الـ 9300 ذراع (أي ما يعادل الخمسة كيلومترات) جاء فيه:
Ninuaki šá ul-tu u-me pa-ni 9300 ina ammatu šu-bat li-me-ti-šu [10].
نينوا كِ شَ2 اُلـ- تُ اُ- م ﭙـ- نِ 9300 اِنَ آمَتُ شُـ- بَت لـِ- مـِ- تـِ- شُ.
(نينوى التي موقعها منذ القدم تقاس بـ 9300 ذراع محيطها).
و يستكمل الملك حديثه في النص عن قيامه بتوسيع مساحة المدينة جاء فيها:
Ša Ninuaki ali be-lu-ti-ia šu-bat-su uš-rab- bi[11] .
شَ نينواكِ آلِ بـِ- لـُ – تـِ – يَ شـ- بَتـ- سُ اُشـ - رَ بـ - بِ.
(منطقة نينوى مدينة سيدي الملك عملت على توسيعها)
لقد بين سِن - أخي- إريبا في النص مدى صغر محيط المدينة ثم يذكر بأنه قام بتوسيع المدينة، وإذا قارنا محيط المدينة الذي كانت عليه سابقاً أي ما يقارب الـ خمسة كيلومترات والمحيط الحالي الذي يقدر بـ 12,16 كم يظهر أن التوسيع الذي طرأ على المدينة بلغ أكثر من نصف المساحة الأصلية [12].
ومن الملاحظ على خارطة مدينة نينوى أن تصميمها أقرب ما يكون إلى الشكل متوازي المستطيلات غير المنتظم، وإن شكلها قريب أيضاً من شكل السمكة ، وأن قياسات أضلاعها الأربعة مختلفة وغير متساوية فالضلع الجنوبي يعد من أقصر أضلاع المدينة و يبلغ طوله (830م) أما الضلع الشرقي فيبلغ طوله (4,17 كم) في حين بلغ طول الضلع الشمالي (2,062 كم) أما الضلع الغربي فيعد من أطول أضلاع المدينة ويبلغ طوله (4,990 كم) [13].
ومما يميز طوبغرافية نينوى هو وجود تلين كبيرين الأول يطلق عليه تل قوينجق وهو الأكبر إذ تبلغ مساحته (1,820 كم2) وهو محاط من الجنوب والشرق بنهر الخوصر، ويحده من الجهة الغربية سور المدينة الغربي وفيه آثار القصور والمعابد التي بناها الملوك عبر العصور ويضم قصر سِن- أخي- إريبا وقصر آشور- بان- أﭙلي ومعبد عشتار ومعبد نابو وقصر آشور- ناصر- أﭙلي (الثاني) وغيره من القصور والمعابد غير المكتشفة [14].
أما التل الثاني (تل النبي يونس) فهو أصغر مساحة من الأول وتبلغ مساحته (1,260 كم2)، ويقع في أعلى التل جامع النبي يونس، ولم تجر فيه تنقيبات لحد الآن بسبب وجود الجامع، إلا أن الباحثين يعتقدون بوجود قصر الملك آشور- أخُ - إدينا (أسرحدون) (680-669 ق.م) في باطن هذا التل، ومما يؤيد ذلك العثور على ثيران مجنحة على بعد 23 م شرق تل النبي يونس مبنية من حجر الحلان مربعة الشكل كانت موضوعة عند مداخل بوابات قصر آشور- أخُ - إدينا [15] ،
إن الاهتمام بطوبغرافية نينوى لم تكن ظاهرة جديدة، إذ إن أقدم من اهتم بهذا الموضوع كان المقيم البريطاني كلوديوس ريـﭺ، ففي العام 1820م قام بمسح للموقع ووضع خارطة للمدينة تعد الأولى من نوعها في ذلك الوقت كانت أساساً لعلماء الآثار للقيام بالدراسات والأبحاث التي تتعلق بمدينة نينوى [16].
وفي العام 1852م قام فيليكس جونس بدراسة طوبغرافية المدينة ووضع خارطة جديدة للمدينة كتب عليها باللغة الانكليزية
(Nineveh)
، اعتبرت خارطة جونس أدق من الخارطة التي وضعها ريـﭺ كون أن فيليكس جونس كان مساحاً عسكرياً مهنياً في حين كان ريج قد إعتمد على إمكانياته الذاتية ، إذ قام بتخطيط حدود المدينة بدقة وحدد مواقع الخنادق المائية الواقعة خارج أسوار المدينة [17].
وكان للآثاري جورج سمث ثلاث زيارات لمدينة نينوى كان آخرها في العام 1873م وبقي فيها مدة من الزمن وضع من خلالها خارطة أوضح فيها طوبغرافية المدينة [18].لقد استمرت الدراسات والأبحاث التي تتعلق بطوبغرافية نينوى ووضعت أول خارطة كنتورية لتل قوينجق من قِبل الآثاري ليوناردو ويليام كينج وقد إصطحب معه الأثاري البريطاني كامبل طومبسون وذلك في العام 1905 بعد أن قام بدراسة موقع التل، وقد أظهرت الدراسة تفاصيل الموقع التقريبي لبقايا معظم البنايات والمساحات التي وزعت فيها [19].
وبعد ما يقارب الـ ربع قرن قدَّم الآثاري كامبل طومبسون خارطة جديدة لمدينة نينوى الأثرية حدد فيها ولأول مرة بعض مواقع أبواب المدينة [20], وعمل طومبسون في مدينة نينوى منذ العام 1929 ولغاية 1934.
لقد كان العمل متواصلاً لدراسة كل ما يتعلق بطوبغرافية نينوى واستخدم ولأول مرة التصوير الجوي لمواقع المدينة في العام 1929 عندما قام أحد طياري الجيش البريطاني ويدعى إنسول مصطحباً معه الطيار كراوفورد الذي كان يشغل منصب مؤسس ومحرر مجلة (Antiquity) التي تعنى بالآثار، إذ استطاع الرجلان أن يقوما بجهد شخصي عن طريق التصوير الجوي لموقع مدينة نينوى لتكون أول صورة جوية عمودية استخدمت في رسم خارطة لمدينة نينوى، وأوضحت من جديد الأبعاد الدقيقة لأسوار المدينة وبصورة أدق من الخرائط التي سبقتها [21].
وتوالت أعمال التصوير الجوي عن طريق الآثاري كامبل طومبسون وزميله هاتشنسون الذين عملا سويةً لوضع خارطة جوية مركبة لمدينة نينوى وذلك في العام 1932 فكانت مقياساً جديداً لدراسات مستقبلية عن المنظر الطبيعي الخاص بنينوى، وقاموا أيضاً في العام الذي تلاه بأخذ صورة جوية لموقع تل قوينجق تعد أقدم صورة جوية للموقع [22]. و في خمسينات القرن العشرين استؤنفت الأعمال الآثارية ألعراقية في مدينة نينوى ففي العام 1954 قام المهندس محمد علي مصطفى بتصميم أول خارطة كنتورية لموقع تل النبي يونس تعد الأولى من نوعها، وشهدت أعمال التنقيب أيضاً تصميم مجموعة من الخرائط المهمة التي أعدت بالمسح الجوي ونشرت بمقياس رسم 1:20000 مع مستوى خطوط 5 م فقد صممت خارطة جديدة أوضحت فيها الزاوية الشمالية الغربية لمدينة نينوى ، وأظهرت تفاصيل مهمة لموقع تل قوينجق وبعض التضاريس الأرضية الواقعة في الزاوية الشمالية الغربية للمدينة [23].
وبعد سنتين (وتحديداً في العام 1956) أُلتقطت صورة جوية لمقطع مستعرض من الزاوية الشمالية الشرقية للمدينة على مقياس 1:10000 عن طريق الصور العمودية التي أُخذت للموقع والتي كشفت بعض التضاريس منها نهر الخوصر، إلا أنها لم تكن بدرجة وضوح كافية للتعرف على باقي تضاريس المدينة [24].
وفي العام 1968 استطاع الدكتور طارق مظلوم أن يصمم خارطة لمدينة نينوى بَيّن فيها آثار الزحف العمراني الحديث داخل المدينة الأثرية وانتشاره في وسطها [25]. وقد أصبحت هذه الخارطة دليل عمل في مديرية الأثار العامة, وفي العام 1978 قدَّم جوليان ريد دراسة حول مدينة نينوى الموسعة في عصر سِن – أخي - إريبا إذ أثبت ما جاء به فيليكس جونس من أن اختيار موقع مدينة نينوى لم يكن عن طريق الصدفة، وأنها كانت واقعة عند الجزء الشرقي من منطقة هطول الأمطار لشمال بلاد الرافدين، وقدم جوليان ريد دراسة تتعلق بالأسماء والمواقع الخاصة بأبواب مدينة نينوى مع تصميم جديد لمخطط المدينة عن طريق دراسة النصوص المسمارية العائدة للملك سِن- أخي- إريبا [26].
وفي العام نفسه قدم عالم الآثار سيتون لويد دراسة أُخرى، فقد صمم خارطة جديدة بالاعتماد على خارطة فيليكس جونس فضلاً عن الكتابات المسمارية العائدة للملك سِن- أخي- إريبا وبين الطرق المحتملة التي كانت تسير عليها القنوات المائية للمشروع الإروائي الذي أقامه سِن- أخي- إريبا فضلاً عن دراسة طوبغرافية المناطق التي يمر منها ذلك المشروع [27].ومنذ العام 1990 أستخدمت الأقمار الاصطناعية بواسطة أشعة الليزر لتصوير المواقع الأثرية، وقامت بعثة من جامعة كاليفورنيا بتصوير مدينة نينوى الأثرية بالأقمار الاصطناعية ، وبالرغم من عدم وضوح الصورة إلا أنها أعطت انطباعاً عن المنظر الطبيعي الحضري المعاصر للمدينة، وكشفت الصور التي التقطت مدى التجاوز الذي حدث في الزحف العمراني الحديث واتساع رقعة المساحة المتجاوز عليها [28].
وفي العام 2001 نُشرت دراسة أُخرى لعالم الآثار جوليان ريد استطاع فيها أن يصمم خارطة حديثة لمدينة نينوى الأثرية ثبتت عليها بوابات المدينة الثمانية عشر فضلاً عن المواقع الأخرى[29].
إن التطور الحاصل في برامجيات الحاسوب ودخول الانترنت الذي أصبح مكملاً لذلك التطور فضلاً عن البرامج الخاصة بالتصوير الجوي عن طريق الانترنت وخاصةً البرنامج المعروف بـ
Google earth
سهَّل من عملية التصوير الجوي للمواقع الأثرية ومنها مدينة نينوى؛ إذ أعطى هذا البرنامج صورة دقيقة للموقع بكل تفاصيله كما وضح الأراضي المتجاوز عليها من الأراضي التي حافظت على أثريتها وصممت أيضاً برامج حديثة في الآونة الأخيرة ومنها برنامج
AutoCAD
الذي يقوم برسم خرائط وأخذ قياسات للمدينة بما فيها أضلاع المدينة الأربعة فضلاً عن المساحات الكلية للمباني الأثرية المكتشفة داخل المدينة والمسافات التي تفصل بينهم دون الذهاب إلى الموقع(*)، وصمم برنامج آخر وهو برنامج
Global Mapar
الذي يمكن بوساطته وضع خارطة كنتورية للموقع وهذا ما تم تطبيقه فعلاً على مدينة نينوى.
لقد ساهمت هذه البرامج الحديثة في دراسة طوبوغرافية مدينة نينوى بطريقة علمية حديثة مع اختصار في الجهد والوقت.
المصادر
([1]) Jones. F, Notes on the Topography of Nineveh and the Other Cities of Assyria and on the General Geography of the Country Between the Tigris and the Upper zab, London, 1855, p.3-6.
([2]) Rivaroli. M, "Nineveh: From Ideology To Topography", Nineveh, Vol:1, London, 2005, p.200.
([3]) Stronach. D, "Notes on the Topography of Nineveh", in M. Liverani ed., New-Assyrian Geography, ROME, 1995, p.161.
([4]) Thompson.C, "The Buildings on Quyinjiq the layer Mound of Nineveh", Iraq, Vol:1, 1934, p.95.
([5]) Thompson. C, "A new Record of an Assyrian Earthquake", Iraq, Vol: 4, 1937, p.186.
([6]) Ibid, p.187.
(*) أشار النص إلى وجود سجن في المدينة إلا أنه لم يحدد موقعه وأن التنقيبات الأثرية لم تكشف عنه لحد الآن.
([7]) AAA, Vol:20, 95.
([8]) Ibid, p.97.
([9]) Thompson. C, A new Record…., op.cit, p.189.
ينظر ايضاً: خير الله بن ياسين العمري, الاثار الجلية في الحوادث الأرضية, تحقيق: عماد عبد السلام رؤوف, النجف, 1974.
([10]) Luckenbill.D.D, The Annals of Sennecherib, OIP, Vol:2, 1924, p.111.
([11]) Ibid, p.113.
([12]) Al Taweel. M, The Imperial Landscape of Ashur: Settlement and Land Use in the Assyrian Heart land, Heidlberger, 2008, p.28.
([13]) أُخذت القياسات بوساطة برنامج Auto CAD
([14]) Jones. F, op.cit, p.12.
([15]) عبدالستار العزاوي، ظهور الثور المجنح في تل النبي يونس، سومر، م45، ج1 و2، 1987-1988، ص96.
([16]) Stronach. D, op.cit, p.161.
([17]) Jones. F, op.cit, p.28.
([18]) Smith. G, Assyrian Discovories, London, 1875, p.200.
([19]) Stronach. D, op.cit, p.162.
([20]) Thompson. C and R.W. Hutchinson; A century of Exploration at Nineveh, London, 1929, p.103.
([21]) Stronach. D, op.cit, p.163.
([22]) Ibid, p.
([23]) Scott.L and Macginnis. J, "Notes on Nineveh", Iraq, Vol:52, 1990, p.65.
([24]) Stronach. D, op.cit, p.165.
([25]) طارق مظلوم، "نينوى"، سومر، م24-25، 1969، ص84.
([26]) Reade. J, "Studies in Assyrian Geography, part1: Sennacherib and the Waters of Nineveh, RA, Vol:72, 1978, p.50.
([27]) Stronach.D, op.cit, p.168.
([28]) Ibid, p.170.
([29]) RLA, Vol:9, p.390.
(*) لقد اعتمد في هذه الدراسة على برنامج Autocad كثيراً وخاصةً فيما يتعلق بالقياسات وتصميم الخرائط.
للعودة إلى الصفحة الرئيسة