انور عبد العزيز
هذه الاكتوبة كان لها ان تنضم لمقالي عن ديوان المبدع معد الجبوري : وبعنوان ((وقت لحرائق الكلمات واحزان الوجع المر)) والمنشور في دولية وعراقية ( الزمان ) الزاهرة (الف ياء) بتاريخ 18 / 2 / 2014 والتي رأيت وأرتأيت ان اخصص لها مقالة مستقلة اذ احسست ان المقالة الاولى ربما ستشكل بحجمها الكبير حرجاً نشرياً ، وفعلا – وكما توقعت – فقد احتلت – ولنقل شغلت – صفحة كاملة من جريدتنا الثريّة الرائعة .. وسبب ثان ربّما هو الاهمّ – في تقديري - انني بهذه الاضافة المستقلة اردت ان اؤكد على ظاهرة ( التكرار ) في الابداع الادبي عراقيا وعربيا وحتى في الاداب الاجنبية .. وبعد ان رأيت ان هذه الظاهرة متجلّية بفاعلية ووضوح في قصائد الديوان ... التكرار .. كظاهرة واضحة – قرأناه ومنذ نصف قرن واكثر في غالبية كبيرة من النتاج الادبي ومع مختلف الاجناس الادبية ، اضافة الى ان تراثنا الادبي عموما لم يخل – ولقرون – من مثل هذا التكرار وعبر كل العصور الادبية .. وظاهرة التكرار هذه طالما لاحظتها وتابعتها في كثير من الاصدارات الادبية : قصة ورواية ومسرحا وشعرا وحتى في المقاليات .. ان ما يدفع المبدع عموماً للتكرار هو ذلك الأحساس ـ صحّة أو خطأ ـ بأن تكرار لفظة أو جملة لمرتين وأحيانا لثلاث واكثر مما يثري القول وممّا يشحن المعنى بقوة وزخم مضامين وممّا يرسخ المعنى وممّا يجدّد حراك الكلمة والجملة ..
ويمنحهما دفقا وحيوية وأيضا لتنبيه القاريء ان مثل هذا التكرار لم يعد عبثيا أو تلاعباً ليس غير وانما اشترطته حالة البيت الشعري فنّاً وضرورة لم يكن من السهل على الشاعر أو المبدع عموما ألا يخضع لها وان يستجيب لمعطياتها .. كل هذا كلام مقبول وقناعات المبدع فيما يكتب ويصنع ويجتهد وتظل أبدا لها قيمتها في الذائقة النقدية والقرائية عموما ولكن الحال ـ في المجال التطبيقي ـ لن يكون أبدا ودائما في صف المنشيء ، فظاهرة ( التكرار ) تبدو حسّاسة جدّاً ودقيقة بين أن تكرر فتبدع ، أو ان تكرر فتفسد حتى ما سبقه وما كتب من جيد القول والكلام .. وحالات التخبّط ـ خاصة في النتاج السردي ـ كثيرا ما أطفأت وشوهت حتى الكلمة الأولى التي لو ظلّت على حالها منفردة معبأة بتأثيرها لوجدت لها صدىً طيّباً في نفوس القرّاء مكتفية بوقعها وتأثيرها اذ لم تزدها الثانية والثالثة غير برود في الأيقاع وأضعاف للمعنى وكأن كاتبها لم يملك غير اللهو العبثي بمثل هذه التكرارات الخائبة بل والمشوهة للنص السردي كأضافة غريبة لا جدوى فيها أو منها وفي هذا يمكن القول ان العديد من الروايات والمجموعات القصصية ـ عراقيا وعربيا ـ قد عانت من مثل هذا التشويه ولعقود كثيرة ، وكذا في الشعر أخف وأقل اذ لم تر الغالبية من المبدعين ضرورة لمثل هذا التكرار الذي قد يوقعهم في أنطفاء تأثير كلمة وأخرى أو قد لا يصل بهم لتعميق معنى أو تأثيث فكرة الا من كان منهم واثقا بحس ورهافة شعرية كبيرة وثقة مطلقة أنهم مبدعون وليسوا بهلوانات ممن فهموا ان الكتابة كلمات عارية مجردة تختصر من الكلمات كما تريد وتضيف وتكرر كما تريد ، فالتكرار ـ في المحصلة الأخيرة ـ هو ثبات مرسوم ومتخيّل بعدد كلماته في هاجس الشاعر ورؤاه .. مرسوم في ذاكرته وحسّه الشعري كمبدع وليس كراصف كلمات .. وهو دفق رؤيا الشاعر في أبهى تجلياته الأبداعية .. هي هي كلمات عذبة حالمة تسيل بها موجعات المبدع موحى بها ومرسوم لها أن تتكرر بأحقية مقنعة عندما يشارك بها الشاعر قارئه ليستأنس بها حتى لو تكررت اكثر من مرة .. اذن هو ذلك الخيط الابداعي السحري الذي يميز به كلمة مكرّرة ما جاءت أبدا محشورة .. وبين كلمات مكرّرة لأخر بدت مصطنعة متكلفة فمسخت وجه القصيدة بنتوءات وثآليل وبثور كان الحريّ بشاعرها ألا يغامر في مسألة هي في منتهى الحساسيّة الشعرية دقة وتأثيرا ...
توقفت طويلا عند تكرارات المبدع معد الجبوري مكرراً ترديدها مع النفس، فلم أجد أية عثرة، لم أعثر على أية كلمة مكررة بدت دخيلة على النصّ الشعري .. لم أجد غير تلك السلاسة وذلك النبع الجميل منسابا بكلمة وبكلمتين بل وجملة مكرّرة بكاملها لم تترك في الذائقة القرائية غير القبول الجميل بها , بل ولكانت ربما بدت ناقصة مبتورة لو لم يضف لها التكرار طاقة حيوية فاعلة ومؤثرة ...
فمن هذا التكرار : ( تسأل منْ ) مكرّرة لمرتين ...ولفظة ( مُرّ ) لمرتين : ( مرّ وجعي .. مرّ ما أتجرعه .. مرّ قطعي عن شفتي ) ومع تكرار ( ربع قرن ) لمرتين .. وايضا : ( منذ الف وقيعة .. منذ الف طيش .. منذ اول سور قهر ) ومن ترنيمة بابل (تدور الرحى ) مكرّرة لثلاث مرات ومن قصيدة ( دون قناع ) تكرار للفعل ( تصيح ) لمرتين ومنه : ريح ريح ريح وجعل هذا التكرار مطلعاً لقصيدة ( ترنيمة لاوروك ) وتكررت هذه الترنيمة بعدها في بدايات ثلاثة مقاطع من القصيدة ومع تكرار ما بعد : ريح ريح ريح بمنظومة مكرّرة ايضا ومع كل مقطع : والشعب ينوح .. ومن تكرار الجملة الكاملة : ( طوى الزمان ما طوى ) اربع مرات وبمتلازمة لها مكرّرة ايضا جاءت بعدها : ( ونينوى ظلّت هي الموصل والموصل ظلّت نينوى ) مثل هذه المكرّرات نجد لها اكثر من شاهد في ديوانه الاخير وتكاد تشكل ملمحاً من ملامح شاعريته والتي وجدنا نماذج لها في غالبية من دواوينه السابقة والتي بلغ عددها مع مسرحياته الشعرية والغنائية عشرين اصداراً كان مفتتحها ديوانه البكر : ( اعترافات المتهم الغائب ) والذي تزامن صدوره مع مهرجان الفية ابي تمّام الذي اقيم سنة 1971 في الموصل .. ابو تمّام ذلك المجدّد الكبير في الشعرية العربيّة ومبشّراً لها بحداثة شعرية بدت طلائعها في تجارب الشعر الحرّ في العراق ... في اربعينيات القرن الماضي .. لتتواصل في تجارب اكثر جرأة وحداثة مع مسمّيات قصيدة النثر وما بعدها وصولا لأبعد حالات الحداثة .. ( حداثة ) و ( ما بعد الحداثة ) وما ( بعد بعدها ) لتلفّ تياراتها واطروحاتها ومناهجها وعنفوان تسارعها وتغيراتها ومفاجآتها ليس فقط عوالم الشعر بل لتمتد لمديات قصّية ولكل تلاوين الاجناس الادبية والفنّية ...
للعودة إلى الصفحة الرئيسة