قصة قصيرة
((ما لم تروه شهرزاد من حكاية الشاطر حسن))
أنور عبد العزيز
((ما لم تروه شهرزاد من حكاية الشاطر حسن))
أنور عبد العزيز
تمادت شهرزاد وأطالت واسترخت مع لذائذ حكاياها لألف ليلة وزادت.. وهي أبداً –وكما لفق الرواة- لم تكن قلقة على مصيرها وبنات جنسها بقدر ما كانت تطفئ في روحها شهوة حكي أزلية وبعد أن أطمأنت أنها تروي وتحكي لملك بليد أبله أسترخى وأستأنس بحكاياتها فهي منذ الليلة الأولى أدركت أنها تتعامل مع عقلية رجل ومشاعر رجل ووساوس رجل استغفلته راوية أنثى خبيرة بعقم فهم الرجال وبراءتهم وسذاجة عقولهم وسطحية مدركاتهم قياساً لمناورات أية امرأة أمية جاهلة تزن الرجل من مجرد نظرة ومجرد أيماءة أو حركة أو كلمة تصدر عنه.. وهي يحلو لها بمكرها أن ترسخ في عقل رجلها أنه هو الأمر الناهي المسيطر وهو الأول والأخير وهو المعشوق صاحب الرأي الصائب في كل شأن... خابت كل تهويمات السندباد وكل الشطار وحسن أولهم الذي ما عرف شطارة العقل فما نفعتهم البحار السبعة وجزر الواق واق بمخلوقاتها الغريبة الشوهاء المصنوعة من مخيلة شهرزاد بأي شيء ولو بتحقيق شذرات من آمال ضئيلة، ظلوا تائهين مع الحياة –رغم عناد المغامرة- في أحلام السعادات الخفية المجهولة الواعدة والضائعة، ومع كل أصرار شهرزاد لإنقاذهم ببديل من عالم هنيء مرفه مغاير لبؤس جوعهم وحفائهم ومن عري العقول والأجساد وحظوظ منكودة طالما أن كل أمانيها لهم ظلت تائهة بثرثرات ليالٍ عجائبية لم يبلغ قدراتها ومواهبها الخارقة ألف رجل من فارغي المعنى ومن ذوي الألسنة الطويلة الحادة الشرهة الحاذقة في رصف تلاوين مبهرة من خواء الكلام.. وكما تدور الحكاية فهي قصة حب مسروق والسارق دبّ..ـ
كان الشاطر حسن قد تاه بحب صبية العينين العشبيتين والوجه الوضيء والجديلة الواحدة والشقراء السميكة الملمومة وقد سرحت وتجاوزت نصف ظهرها الفتي المنتصب..ـ
طاب وحلا لهما العيش في ظل ذلك الحب الوارف بكل المسرات، ما كان الشاطر حسن يصدق –وقد مرت شهور- أنه صار حلما بهياً في عين وروح وديعته الجميلة رغم عسر أيام البرد والجوع إلا من دفء ذلك الجنون الجميل في عاطفتها وسعادتها وحلم الآتي من مزيد فرح وجودها... سرحت يوماً في الغابة.. كانت مبهورةً بأصوات الماء والطير والشجر.. طال مسارها, شحب ضوء الشمس ومع اقتراب عتمة المساء كانت الغابة قد انتهت لتواجه مرتفعاً بخانق صخري وباب كهف انطلقت منه يدان مشعرتان لوحش لمّها مندفعاً بها لظلمة كهفه... ومن ذلك المساء وتلك الليلة وظلمة الكهف بدأت حكاية جديدة لضياع الحلوة.. تاه العاشق حسن وضاع عندما استبطأ عودتها، مرت عليه ليلة ثقيلة كئيبة.. ليلة وأخرى يوم آخر وآخر وما عادت.. ذبل عقله وقلبه.. صبر قليلاً في البداية ولما استطالت الأيام وتطاولت وامتدت، استعان بأكثر من دليل من متابعي الأثر وبخبرات عجيبة تميز وبدقة لا تصدق بين آثار أقدام البشر أو حيوان مع اتجاهاتها وحتى تحديد زمن مرورها وما تتركه من علامات وإشارات على العشب والرمل والتراب والطين ومع تحديد الوقت واتجاه المسارات حتى لو كانت متعرجة وبكل التواءات الدروب واختلاف طبيعة ومكونات مسالكها مع معرفة مدى تواصل المسير أو توقفه واستراحته في هذا المكان أو ذلك.. تاهت بالشاطر كل الطرق والبلدان فما سمع لها صدى على أي أرض.. كل نصائح أحبته من الحفاة والصعاليك ومدعي الحنكة والذكاء وقوة الحيلة والدهاء ما أضاءت له أي مسلك.. أجتاز وجاوز ظلمات البحار السبعة والعشرة ورمال الصحاري في ليالي الرعب ونهارات حرائق شموس من نار تذيب حتى الحجر.. جال في غابات مظلمة وعبر كل مدن الذهب والرصاص في أعماق محيطات هادرة فما التقطت عيناه أية إشارة لها وما سمعت أذناه غير هدير أمواج وفحيح غابات بعواصف راعدة أحالت لياليه لكوابيس مخيفة... جرّب أن يكرر آماله مع جنيّ وآخر وأكثر من محابيس الدهور في قماقمهم المسحورة فما وعوا حالته الصعبة ولم يحصل غير فرح الجنيّ بحريته وتحرره بعد أن هشّمت صرخاته في طلب العون والرحمة قمقم وسجن الأزمان السحيقة.. ذلك القمقم.. ذلك الجني المارد المستثار ليحقق لنفسه حلم الخلاص قبل أن يستطيع بأية طريقة ويعجز تام تحقيق أية آمال وأحلام مسترخية للبائسين اليائسين الحائرين بدنياهم.. تتواتر الحكاية وأكثر من حكاية فتضيف أن ذلك الوحش أو الدب أو المخلوق الشائه قد ظفر بغنيمته وصيده الذهبي فأدخل الحلوة كهفه الصامت وسدّ بابه بصخرة ثقيلة..ـ
الوحش الجميل وفرّ لها في كهفه العميق دفء لياليه الشتوية ووهج الضوء بمحروق عروق شجر الغابة الصلب والمعمّر، أنعشها وأجرى لها داخل الكهف في لهيب الصيف ينبوع ماء ثلجي فأبعد عنها لفح الحرّ.. ما الذي وفّره لها شاطر قلبها غير الأمنيات الحالمة الخائبة التي كان يخدره بها السندباد وغير الأماني المكذوبة لحبيس الدهور جني القمقم وهو أراده ملاذاً من مواجع الزمان.. الدب الجبلي الحنون الأليف أطعمها ما لا عين رأت وذائقة اشتهت وما لم يخطر على ذهن بشر ويتراءى لعين حسن الشاطر الحبيب الضائع وقد خطّ ورسم لها الجوع طريق صبر مرّ ووعود أمانٍ هزيلة مستحيلة، لذا غادر حسناء الكهف خضراء العينين المشتهاة من الأثنين سكون الروح وتذبذب حب جنوني حائر بين بشر وحيوان ومع بؤس قرار الاختيار الصعب والثبات لواحد فقط.. الدب الوديع المسالم المتصاغر معها أطعمها التوت المغسول بنبع بارد وبجمرته الدموية الشفيفة وطعم السكر المذاب.. أسكر شفتيها وفمها بعسل الورد والنحل الجبلي وكان سعيداً بفرحها بأكلته المفضلة.. ورغم أنه كان يبكي وينوح بحظه المتيبس في الحب كوحش، فقد دللّها وألبها الحرير المذهب وقرطاً ماسياً وطوّق عنقها الحليبي بقلادة من نور، ألبسها خّفاً من جلد تمساح هو قاتله.. لملم شعرها بورود الدنيا، حمّم جسدها بالمسك والعنبر وزهر البرتقال.. ومع كل ما فعله وتوهمه فقد كانت بعيدة عنه أن لم يكن بجسدها فبروحها التي ما زالت ترفرف مع حسن الذي لم يكن يملك من الشطارة غير أسم ألتصق به..ـ
وشهرزاد كبرت المسألة وجعلت من الشاطر أسطورة الأزمان... شهرزاد لعبت لعبتها المخاتلة وما كان يهمها من أمر حسن غير شهوتها للحكي والتلفيق، وهي ما كانت منحازة لحسن وهو من بني جنسها، ورغم أنها سعت لجعل صورة الدبّ كريهة فقد كانت تتمنى متلهفة لو أنها هي من أختارها الدب لتكون معشوقته وحتى محظيته لأبد الدهر، وهي رغم تعاطفها مع الصبية المأسورة في الكهف البعيد فقد كانت تحلم أن تكون هي ساكنته وهي المأسورة لتلتذ بمباهج ذلك الأسر الذي لم تدرك الصبيّة الغرّة تلاوين سعادته... وشهرزاد كانت خبيرة بما لم تحظ به المغرورة وهي هي شهرزاد ومن كانت تحلم بمن ينال شفتيها بسطوة دبّ ويهتك أسرار جسدها وينسج من شعرها خيمة حبّ، لذا فهي ما كانت محايدة وما أنصفت في تقدير حب الأثنين للصبية المغرورة وفشلت في مهمتها الحكائية كراوية أمينة وشاهدة أحداث.ـ
عاود حسن تجواله في كل أرض وبحر وسماء.. ألتقى بعزلة شيوخ سحرة معزولين عن دنيا البشر بمباخرهم وأحجيات صحائفهم ورموز مكعبات ودوائر من ورق ودخان.. لم تبق غجرية بودعها وخرزاتها إلا وقبع ذليلاً مستكيناً أمام أسرار زرقاوات الودع زار قارئاً شهيراً للنجوم والأفلاك فما وجد في برجه ونجمته أي أسم أو صورة للغائبة حتى أنه زار ركّابات الحُباب – وعندما أنهكه يأس وحزن فاجع، وحتى مصباح صديقه علاء الدين بأضوائه السحرية الكاشفة لم يهده لأي طريق وبعد أن اكتشف أن كل هؤلاء مخادعون، لجأ لأصحاب الخرقة بمسابحهم الطويلة الملفوفة على صدورهم تترنم حبّاتها الربانية وتهزج لنبض القلوب، التمس عندهم أملاً في أشراقاتهم الروحية المضيئة.. وخلواتهم المستحبّة.. رأى فيهم الطهر والصدق والأمانة، وحتى هؤلاء ما وجد عندهم حلاّ.. عند هؤلاء ومعهم شكا وناح.. طيبّوا خاطره وأبعدوه عن حالة اليأس وقد أشرقت روحه بنسمة وعد.. ومع هؤلاء ظل محتفظاً بنقوده وما خسر شيئاً وقاسموه خبزهم القليل المبارك من العليقة اللائذة بسواعدهم أو رقابهم، وتركوا الأمر لمشيئة الواحد القهّار العارف بآلام كل المقهورين والمحزونين... والذي لن يخذل عباده وأن طالت الشكوى فالصبر مطلوب في حالة تمادي اليأس.. ليس غير الصبر الجميل بمواجهة المحن العصية المعاندة.. تطول الحكاية فتسرد: أنّ الدبّ خالف خلقته وتكوينه الطبيعي فما أنحنى معها أبداً، كان حريصاً أن يظلّ منتصباً ليبعد عنها وينأى بها عن وساوس حيوانيته وشكله المغاير للبشر وليطمئنها بألفته وحنانه أن لها الأمر أبداً في كل شيء وعنده الطاعة المطلقة.. مع كل تفانيه وتنازلاته عن سطوته وسمعته ظلت تعاني حرقة الاختيار والثبات على قرار فظلت تائهة بين مجنونين: ذلك البائس الفقير الذي لا يملك ويحفظ لها غير نياته الطيبة وقلبه ومجنون آخر تجسّد لها في هذا الدب الطموح الظامئ للذاذات جسدها وكل أمله أن يفوز برضاها ولو بتمثيل أقترابه من الدائرة الإنسانية رغم حبه المخيف.. هذا الديو أو الوحش أو الدبّ الشائخ المتوحّد هو من مبتكرات ثرثرات شهرزاد في لياليها الممدودة مع مليكها المخدّر بنصف نومة وقد فاته الكثير مما كانت تهذر به فمتعة نومه تظل هي الأحلى من كل الحكايات، وهي شهرزاد عندما تلح في وصف الدب ودخيلته وحركات ومفاجآت عشقه وعنفه وصبواته المتأخرة أنما تطمح أن تكون وتظل –ولو حلماً- هي البديل في شهواتها المشتعلة حاجبة ودافعة –حكاية بعد حكاية-إلى المستور الخفيّ صورة وملامح الصّبية المأسورة لتحتل وتتسيّد هي كل الكهف وصاحبه ولو في الخيال..ـ
حلوة الكهف أنيسة الوحش طال بها المقام.. أحسّت وعانت شيئاً من الملل في البداية لعزلة الكهف ووحشته، لكنها وبمرور الأيام ما عادت تحتمل الظلمة وظلت محرومة من معرفة دنيا الآخرين فهو ما كان يتساهل حتى لو مدت رأسها ونظرها خارج الكهف لتتأمل خضرة الغابة ولو من بعيد ولتمتع عينيها بأسراب الطيور المحلقة في زرقة السماء.. ذلك الملل صار محتداً في روحها فما عادت تحتمل.. هو لم يكن يعرف النوم.. نومته إغفاءات قصيرة متقطعة.. في ظهيرة ساخنة من غليان الشمس ما استطاعت حتى رطوبة الكهف أن تقاومها فأختنق بوخامة ثقيلة أثقلت نومة الموحش وجسده فبدا لها كومة متصلبة من رصاص جامد.. عيناه –وفي كل نوماته- تظل مغلقتين، تفاجأت بهما مغمضتين، ولتتأكد وتطمئن أن نومتهُ ربما جاءت عميقة هذه المرّة وقد سحبته لحالة تشبه الموت, فمرّرت أصابعها وهزّتها أمام عينيه فما وعى لشيء رغم حذره وانتباهته، فالحالة اختلفت هذه المرّة فاندفعت الصبية بخفّة طائر وقفزات غزال وطيران كنغر لتتجاوز الكهف منحدرة في طريق صخري شائك متعّرج يوصلها بالغابة.. على قمة صخرة مجاورة كان ينتظرها وعل قويّ ليجتاز بها وعورات أخر الجبل ومنعطفاته الحلزونية وليحطّ بها بعد ساعات عند أول شجرة ظليلة في طرف الغابة قريباً من ساحل بجر... من هذا الساحل أحتفى بها حوت ازرق شقّ كل موج, كان حريصاً ألا يغطس وأن يظل قريباً بظهره مع سطح الماء ليضمن لها التنفس والحياة... سعيدة مهتاجة بفرح طفلة وهي ترى الحوت. يشقّ وجه الماء العاصف ومع جمال ورفرفات النوارس في طيرانها المنخفض وكأنها جوقة مصاحبة لسفر الحوت وتلك الغيمات الذهبية المحمّرة بلآلئ من خيوط الشمس... بحر وآخر وآخر و... حتى انتهى لساحل سابع بحر وأودع أمانته برفق لسهل أخضر وأرض زروع... ما شعرت عند ملامسة قدميها للساحل الاّ وبطائر الرخّ الهائل يلتقطها بمنقاره ليقطع بها آمنة مطمئنة سماء عريضة مديدة ولينزلها بهدوء في غابة ما تعيش فيها غير الفيلة, وقبل ان تتحسس قدماها الأرض المعشبة حتى شعرت بخرطوم فيل يرفعها لتستقر على ظهره, ما كان سريعاً في جريه وطال سفره بها حتى تلاشت رائحة غابته وآخر الغابات بعد يوم وليلة في طرف الصحراء من حرائق رمل كاوية... قبل ان تتحسس حرارة الرمل فقد استقبلها سنام بعير هادئ وقور ليجتاز بها مفاوز الرمال والشوك والحصى وليحطّ بها بعد ساعات من صبر الابل واحتمالها في ديار الحبيب, هدية طال غيابها أمام خيمة حسن الشاطر...ـ
ما أحتمل الشاطر صدمة الدهشة فظل مصعوقاً لدقائق مخدوعاً بأنه يحلم وكما ظل في كل أيام غيابها حالماً بعد أن تناوشته حالات يأس مرّ... أنا... أنا يا حبيبي مالك صامتاً؟ ألا تعرفني؟ أنسيت الحلوة؟ أهكذا تستقبلني؟... وكان هو في حالة من ضحك وفرح وبكاء... دخلت خيمة الروح وأنتشت بوجه حسن وعينيه وساعديه وقبلاته الجنونية وليستذكر ويستعيد طعم شفتي الكرز الملمومتين الظامئتين لألف قبلة... صارت روحاً ندية لخيمة الشعر بعد يباس... كانت فرحة منطلقة ضاحكة ملمومة بحنان أحضان مجنونها بعد خلاصها من خانق المغارة الذي ما كان غير حفرة صخرية معتمة موبوءة بحشراتها وخفافيشها والتي لا تصلح لغير الوحش... يحكي الحكاؤون ويروي الرواة: راوٍ بعد راوٍ بعد راوٍ حتى من الرواة المتأخرين وفي سلسلة قليل فيها الصدق وأكثرها أكاذيب أنّ عمراً من الهناءة وجنون الحبّ ظلّ موصولاً دافئاً في تلك الخيمة الجميلة المنفردة في ليل الصحراء تعايش نجوماً مضيئة متلألئة في عمق ليالٍ عذبة سحرية... فجأة تغيّر الحال وما جاءهم هادم اللذات ومفرّق الجماعات... ما حدث كان أقسى وأمرّ من هادم اللذّات فحلوة العينين وعاشقها ما عادا متآلفين وحل بينهما صمت موجع أليم... الصبيّة ما عادت تؤنسه بحيويتها وأثارتها... صارت تميل لعزلة موحشة وكثيراً ما خرجت لعري الصحراء طالما هو قابع في الخيمة... ورغم أنهما معاً في خيمة صغيرة فقد بدت ساهمة في كل صباحاتها ونهاراتها وحتى لياليها... ليس غير الصمت وأرتسامات حزن دفين عميق هتك روحها... ما أنتبه الشاطر في البداية, ولكن مع قسوة واضطراب حالته معها وبمرور أشهر - صار يلاحظ نوبات بكائها المتكررة وبدون أسباب... مرات لاحظ استحالة بكائها لنشيح موجع... الشاطر الذي ما عرف من الشطارة غير أسمها اللاصق به كعلق, فكان وهو المعروف بغرقه مع النساء في شبر ماء... ما أستوعب أبداً مكر النساء وحيلهن ومكائدهن وحتى مع البلهاوات... ظلّ لاجئاً لصمته خشية أن يواجه ما يجرح شعوره, فما تفعله مع نفسها وانكماشها يخفي فاجعة له رغم ان كل عمره ما كان غير حلقات سود مغلقة من فواجع متلاحقة... عاد لضاربات الودع من جديد فما أوصلن له إشارة, استعاد قناعاته الخائبة بالمخضرمين من مشهوري فتح الفال فقد كانت مشكلته هذه المرّة محنة معقّدة فإذا كان في الماضي قد التجأ لهم للبحث عن ضائعة, فهذه المرّة هو الضائع الحائر وقد تلبّسه جنون الشك بديلاً مريعاً عن جنون الحب الجميل... وعاود قراءة طالعه في اعماق النجوم وعند قرّاء الكفّ, وفي تشكيلات وهمية في فناجين القهوة... وعندما انتهت كل اجابات هؤلاء لأصفار ومن سخرية أعتى عجوز هرمة مع عجائبيات وصفاتها السحرية, فقد ظلت الحلوة صامتة في خيمتها ومع بكاء مرّ ما عاد يحتمل أنينه بعد أن نسيت كركراتها الضاحكة كعصفور وبلبل طيلة سنين وكم كانت تحلوله قبلاتها مع غنج الكركرات المسليّة...ـ
يوماً بعد يوم ما عادت تشتهي طعاماً, صار طعامها الماء ولقيمات ضئيلة... نحف جسدها وبات هزيلاً كسعفة رفيعة... ارتسم شحوب مقلق على الوجه الجميل وما عادت تحس بأي وجود له, وان كانت قد ضاعت منه لزمن, فهو يشعر الآن بيقين ضياعها الأبدي... فجأة ما درى أي هاجس لعين حطّ وأناخ في عقله وهرس قلبه وروحه... بداله يوماً بعد يوم أن حنيناً جارفاً قد تلبّسها للكهف وحارسه الوحشي, وان ذلك الدبّ قد ترك في روحها وجسدها ما لم تستطع نسيانه من آثار ولذلذات بهيجة أسطورية... ما نسيت ذلك الدُب الذي كان قد حجر عليها سجينة مغارة كئيبة كان عند مغادرته لها لرحلات صيده يعتم باب المغارة بصخرة كبيرة صمّاء لكي يمحو في دخيلتها أيّ محاولة للهروب, رغم ذلك ها هي تعود اليه بأوجاع الذكرى حرّة من مغاليق أيّة صخرة, متفتحة لذكراه بكل الأشواق, واذا كانت قد روت لحسنها ساخرة ميل ذلك الدب لنوازع انسانية, فما أدرى الشاطر انها قد استطابت نوازعه الحيوانية العنيفة المدهشة والتي ما طاقها ومارسها أمهر الشطّار... عندما بلغ الأسى والحزن وقلق التوتر أبعد مدياته تذكّر اصحاب الخرقة والخطوة ونصيحة الصبر... رأى أن يحتمى بهم من جديد, ولكن أمثالهم من ذوي الضمائر النظيفة والقناعات الكبيرة بقبول أبسط حياة وأقلّها حاجة للدنيا الاّ من رغيف خبز وشربة ماء, كانوا قد رحلوا في البعيد البعيد, فأمثال هؤلاء من أصحاب الإشراقات النورانيّة يعيشون أبداً في اللامكان واللازمان, هم كانوا نصحوه ووصفوا له العلاج, وحتى لو التقاهم من جديد فلا علاج له عندهم غير ما فاهوا به من صدق في مواجهة خداع الزمان... مع هؤلاء تنسم قلبه بشيء من اطمئنان... فهم بسموّ أرواحهم وبساطتهم وتواضعهم ولطفهم وألفتهم وهزالهم ووجوههم الشاحبة وفقرهم وبقناعتهم المذهلة كرياضة روحية لسلام النفس... وأكدّوا له بيقينهم الاّ شيء في هذه الحياة يستحق الإثارة كل هذه الإثارة وان ضياع محبوبته ليس نهاية الدنيا وأن يظل ساعياً في بحثه ولا يقترب أبداً من موت الأمل...ـ
انتبهت شهرزاد ان حالة الشاطر حسن تشبه حالة مليكها المخبول بعد أن غَدرت به وخانته امرأة واحدة مع فارق طفيف بين الحالتين ورأت – عندما أحسّت بآلام محنته – ان تبدأ عملها وتكرس له ليالي جديدة بألف وألف أخرى لتنسيه أوجاع مصيبته, لكنها سرعان ما تراجعت رغباتها لواقعية الحياة, فهي عندما حكت لياليها الألفية وحتى عندما تطاولت هذه الليالي لم تشعر بأي خسارة وهدر للزمان, فهي كانت تروي لمليك الزمان مستأنسة بترف لذائذ الطعام والشراب, وهي كانت سكرى بين فاصل وفاصل من مروياتها بمتع أغاني المغنين ورقصات الجواري وألاعيب المهّرجين والحواة ومع كل ليلة ومع الفجر الناعس ونوم المليك, ظلت تحلم بليلة جديدة تعقبها ليالٍ تترى ومع هذا النعيم في قصور الأبّهة والقيّان والفلعان ومسبح العاريات وضاربات العود وتذلّل الشعراء في مدائحهم... لذا طالت لياليها واستطالت بحجة انقاذ بنات جنسها من القتل الدموي اليومي ومع أحلى النساء وبعد كل دخلة, فما الذي ستكسبه من حسن ذلك الصعلوك المتشرد البائس الحائر بجوعه وحفائه المتعاطف مع أمثاله من مغدوري هذه الحياة ليس غير, لذا فقد تراجعت بل ندمت لمجرّد فكرة احياء ذكرى الليالي ومع فقير مثل حسن... واذا كان المهزولون الشاحبون قد اختاروا له لعبة الصبر ليتواصل مع الحياة مهما قست, فإن شهرزاد رسمت له في حكاية مخصوصة له درب الموت المريح, محت شهرزاد من ذهنها وبسرعة خاطفة مشروع ليالٍ جديدة مكرّسة للشاطر ودفعت بحسن لطريق التيه والضلال فأضاع دربه, ونخره جنون العقل فاتجه به بعيداً عن مسار الخيمة فشكوكه القاتلة أحالت محبوبته لدمية جامدة... ومع فجر منكود غادر خيمة روحه القتيلة لمسار طويل طويل ونهارات قائظة محروقة بلهب رمال مشتعلة هائجة دوّارة لم تبق من جسده المتهالك المهزول بجوعه وعطشه والملتاع بيأسه, غير آثار سقيمة لشطارة ساذجة خائبة أهدته شهرة مكذوبة وغير أنفاس أخيرة لموت أكيد وبلا قبر...ــ
_____________________________________
·الديو: مخلوق خرافي مخيف يجمع بين الصفتين الأنسانية والحيوانيّة.ـ
ركّابات الحُباب: ومفردها ركّابة الحب: هرمات شائخات مهولات ماكرات منفوشات الشعر شهيرات بكل أكاذيب الدجل والحيل ومهازل الخداع والحاق الأذى والضرر بالآخرين.ـ
**
عودة الى الصفحة الرئيسية
لقراءة المداخلات او للتعقيب ، يرجى النقر على كلمة
Comments
على السطر التالي - يساراً
كان الشاطر حسن قد تاه بحب صبية العينين العشبيتين والوجه الوضيء والجديلة الواحدة والشقراء السميكة الملمومة وقد سرحت وتجاوزت نصف ظهرها الفتي المنتصب..ـ
طاب وحلا لهما العيش في ظل ذلك الحب الوارف بكل المسرات، ما كان الشاطر حسن يصدق –وقد مرت شهور- أنه صار حلما بهياً في عين وروح وديعته الجميلة رغم عسر أيام البرد والجوع إلا من دفء ذلك الجنون الجميل في عاطفتها وسعادتها وحلم الآتي من مزيد فرح وجودها... سرحت يوماً في الغابة.. كانت مبهورةً بأصوات الماء والطير والشجر.. طال مسارها, شحب ضوء الشمس ومع اقتراب عتمة المساء كانت الغابة قد انتهت لتواجه مرتفعاً بخانق صخري وباب كهف انطلقت منه يدان مشعرتان لوحش لمّها مندفعاً بها لظلمة كهفه... ومن ذلك المساء وتلك الليلة وظلمة الكهف بدأت حكاية جديدة لضياع الحلوة.. تاه العاشق حسن وضاع عندما استبطأ عودتها، مرت عليه ليلة ثقيلة كئيبة.. ليلة وأخرى يوم آخر وآخر وما عادت.. ذبل عقله وقلبه.. صبر قليلاً في البداية ولما استطالت الأيام وتطاولت وامتدت، استعان بأكثر من دليل من متابعي الأثر وبخبرات عجيبة تميز وبدقة لا تصدق بين آثار أقدام البشر أو حيوان مع اتجاهاتها وحتى تحديد زمن مرورها وما تتركه من علامات وإشارات على العشب والرمل والتراب والطين ومع تحديد الوقت واتجاه المسارات حتى لو كانت متعرجة وبكل التواءات الدروب واختلاف طبيعة ومكونات مسالكها مع معرفة مدى تواصل المسير أو توقفه واستراحته في هذا المكان أو ذلك.. تاهت بالشاطر كل الطرق والبلدان فما سمع لها صدى على أي أرض.. كل نصائح أحبته من الحفاة والصعاليك ومدعي الحنكة والذكاء وقوة الحيلة والدهاء ما أضاءت له أي مسلك.. أجتاز وجاوز ظلمات البحار السبعة والعشرة ورمال الصحاري في ليالي الرعب ونهارات حرائق شموس من نار تذيب حتى الحجر.. جال في غابات مظلمة وعبر كل مدن الذهب والرصاص في أعماق محيطات هادرة فما التقطت عيناه أية إشارة لها وما سمعت أذناه غير هدير أمواج وفحيح غابات بعواصف راعدة أحالت لياليه لكوابيس مخيفة... جرّب أن يكرر آماله مع جنيّ وآخر وأكثر من محابيس الدهور في قماقمهم المسحورة فما وعوا حالته الصعبة ولم يحصل غير فرح الجنيّ بحريته وتحرره بعد أن هشّمت صرخاته في طلب العون والرحمة قمقم وسجن الأزمان السحيقة.. ذلك القمقم.. ذلك الجني المارد المستثار ليحقق لنفسه حلم الخلاص قبل أن يستطيع بأية طريقة ويعجز تام تحقيق أية آمال وأحلام مسترخية للبائسين اليائسين الحائرين بدنياهم.. تتواتر الحكاية وأكثر من حكاية فتضيف أن ذلك الوحش أو الدب أو المخلوق الشائه قد ظفر بغنيمته وصيده الذهبي فأدخل الحلوة كهفه الصامت وسدّ بابه بصخرة ثقيلة..ـ
الوحش الجميل وفرّ لها في كهفه العميق دفء لياليه الشتوية ووهج الضوء بمحروق عروق شجر الغابة الصلب والمعمّر، أنعشها وأجرى لها داخل الكهف في لهيب الصيف ينبوع ماء ثلجي فأبعد عنها لفح الحرّ.. ما الذي وفّره لها شاطر قلبها غير الأمنيات الحالمة الخائبة التي كان يخدره بها السندباد وغير الأماني المكذوبة لحبيس الدهور جني القمقم وهو أراده ملاذاً من مواجع الزمان.. الدب الجبلي الحنون الأليف أطعمها ما لا عين رأت وذائقة اشتهت وما لم يخطر على ذهن بشر ويتراءى لعين حسن الشاطر الحبيب الضائع وقد خطّ ورسم لها الجوع طريق صبر مرّ ووعود أمانٍ هزيلة مستحيلة، لذا غادر حسناء الكهف خضراء العينين المشتهاة من الأثنين سكون الروح وتذبذب حب جنوني حائر بين بشر وحيوان ومع بؤس قرار الاختيار الصعب والثبات لواحد فقط.. الدب الوديع المسالم المتصاغر معها أطعمها التوت المغسول بنبع بارد وبجمرته الدموية الشفيفة وطعم السكر المذاب.. أسكر شفتيها وفمها بعسل الورد والنحل الجبلي وكان سعيداً بفرحها بأكلته المفضلة.. ورغم أنه كان يبكي وينوح بحظه المتيبس في الحب كوحش، فقد دللّها وألبها الحرير المذهب وقرطاً ماسياً وطوّق عنقها الحليبي بقلادة من نور، ألبسها خّفاً من جلد تمساح هو قاتله.. لملم شعرها بورود الدنيا، حمّم جسدها بالمسك والعنبر وزهر البرتقال.. ومع كل ما فعله وتوهمه فقد كانت بعيدة عنه أن لم يكن بجسدها فبروحها التي ما زالت ترفرف مع حسن الذي لم يكن يملك من الشطارة غير أسم ألتصق به..ـ
وشهرزاد كبرت المسألة وجعلت من الشاطر أسطورة الأزمان... شهرزاد لعبت لعبتها المخاتلة وما كان يهمها من أمر حسن غير شهوتها للحكي والتلفيق، وهي ما كانت منحازة لحسن وهو من بني جنسها، ورغم أنها سعت لجعل صورة الدبّ كريهة فقد كانت تتمنى متلهفة لو أنها هي من أختارها الدب لتكون معشوقته وحتى محظيته لأبد الدهر، وهي رغم تعاطفها مع الصبية المأسورة في الكهف البعيد فقد كانت تحلم أن تكون هي ساكنته وهي المأسورة لتلتذ بمباهج ذلك الأسر الذي لم تدرك الصبيّة الغرّة تلاوين سعادته... وشهرزاد كانت خبيرة بما لم تحظ به المغرورة وهي هي شهرزاد ومن كانت تحلم بمن ينال شفتيها بسطوة دبّ ويهتك أسرار جسدها وينسج من شعرها خيمة حبّ، لذا فهي ما كانت محايدة وما أنصفت في تقدير حب الأثنين للصبية المغرورة وفشلت في مهمتها الحكائية كراوية أمينة وشاهدة أحداث.ـ
عاود حسن تجواله في كل أرض وبحر وسماء.. ألتقى بعزلة شيوخ سحرة معزولين عن دنيا البشر بمباخرهم وأحجيات صحائفهم ورموز مكعبات ودوائر من ورق ودخان.. لم تبق غجرية بودعها وخرزاتها إلا وقبع ذليلاً مستكيناً أمام أسرار زرقاوات الودع زار قارئاً شهيراً للنجوم والأفلاك فما وجد في برجه ونجمته أي أسم أو صورة للغائبة حتى أنه زار ركّابات الحُباب – وعندما أنهكه يأس وحزن فاجع، وحتى مصباح صديقه علاء الدين بأضوائه السحرية الكاشفة لم يهده لأي طريق وبعد أن اكتشف أن كل هؤلاء مخادعون، لجأ لأصحاب الخرقة بمسابحهم الطويلة الملفوفة على صدورهم تترنم حبّاتها الربانية وتهزج لنبض القلوب، التمس عندهم أملاً في أشراقاتهم الروحية المضيئة.. وخلواتهم المستحبّة.. رأى فيهم الطهر والصدق والأمانة، وحتى هؤلاء ما وجد عندهم حلاّ.. عند هؤلاء ومعهم شكا وناح.. طيبّوا خاطره وأبعدوه عن حالة اليأس وقد أشرقت روحه بنسمة وعد.. ومع هؤلاء ظل محتفظاً بنقوده وما خسر شيئاً وقاسموه خبزهم القليل المبارك من العليقة اللائذة بسواعدهم أو رقابهم، وتركوا الأمر لمشيئة الواحد القهّار العارف بآلام كل المقهورين والمحزونين... والذي لن يخذل عباده وأن طالت الشكوى فالصبر مطلوب في حالة تمادي اليأس.. ليس غير الصبر الجميل بمواجهة المحن العصية المعاندة.. تطول الحكاية فتسرد: أنّ الدبّ خالف خلقته وتكوينه الطبيعي فما أنحنى معها أبداً، كان حريصاً أن يظلّ منتصباً ليبعد عنها وينأى بها عن وساوس حيوانيته وشكله المغاير للبشر وليطمئنها بألفته وحنانه أن لها الأمر أبداً في كل شيء وعنده الطاعة المطلقة.. مع كل تفانيه وتنازلاته عن سطوته وسمعته ظلت تعاني حرقة الاختيار والثبات على قرار فظلت تائهة بين مجنونين: ذلك البائس الفقير الذي لا يملك ويحفظ لها غير نياته الطيبة وقلبه ومجنون آخر تجسّد لها في هذا الدب الطموح الظامئ للذاذات جسدها وكل أمله أن يفوز برضاها ولو بتمثيل أقترابه من الدائرة الإنسانية رغم حبه المخيف.. هذا الديو أو الوحش أو الدبّ الشائخ المتوحّد هو من مبتكرات ثرثرات شهرزاد في لياليها الممدودة مع مليكها المخدّر بنصف نومة وقد فاته الكثير مما كانت تهذر به فمتعة نومه تظل هي الأحلى من كل الحكايات، وهي شهرزاد عندما تلح في وصف الدب ودخيلته وحركات ومفاجآت عشقه وعنفه وصبواته المتأخرة أنما تطمح أن تكون وتظل –ولو حلماً- هي البديل في شهواتها المشتعلة حاجبة ودافعة –حكاية بعد حكاية-إلى المستور الخفيّ صورة وملامح الصّبية المأسورة لتحتل وتتسيّد هي كل الكهف وصاحبه ولو في الخيال..ـ
حلوة الكهف أنيسة الوحش طال بها المقام.. أحسّت وعانت شيئاً من الملل في البداية لعزلة الكهف ووحشته، لكنها وبمرور الأيام ما عادت تحتمل الظلمة وظلت محرومة من معرفة دنيا الآخرين فهو ما كان يتساهل حتى لو مدت رأسها ونظرها خارج الكهف لتتأمل خضرة الغابة ولو من بعيد ولتمتع عينيها بأسراب الطيور المحلقة في زرقة السماء.. ذلك الملل صار محتداً في روحها فما عادت تحتمل.. هو لم يكن يعرف النوم.. نومته إغفاءات قصيرة متقطعة.. في ظهيرة ساخنة من غليان الشمس ما استطاعت حتى رطوبة الكهف أن تقاومها فأختنق بوخامة ثقيلة أثقلت نومة الموحش وجسده فبدا لها كومة متصلبة من رصاص جامد.. عيناه –وفي كل نوماته- تظل مغلقتين، تفاجأت بهما مغمضتين، ولتتأكد وتطمئن أن نومتهُ ربما جاءت عميقة هذه المرّة وقد سحبته لحالة تشبه الموت, فمرّرت أصابعها وهزّتها أمام عينيه فما وعى لشيء رغم حذره وانتباهته، فالحالة اختلفت هذه المرّة فاندفعت الصبية بخفّة طائر وقفزات غزال وطيران كنغر لتتجاوز الكهف منحدرة في طريق صخري شائك متعّرج يوصلها بالغابة.. على قمة صخرة مجاورة كان ينتظرها وعل قويّ ليجتاز بها وعورات أخر الجبل ومنعطفاته الحلزونية وليحطّ بها بعد ساعات عند أول شجرة ظليلة في طرف الغابة قريباً من ساحل بجر... من هذا الساحل أحتفى بها حوت ازرق شقّ كل موج, كان حريصاً ألا يغطس وأن يظل قريباً بظهره مع سطح الماء ليضمن لها التنفس والحياة... سعيدة مهتاجة بفرح طفلة وهي ترى الحوت. يشقّ وجه الماء العاصف ومع جمال ورفرفات النوارس في طيرانها المنخفض وكأنها جوقة مصاحبة لسفر الحوت وتلك الغيمات الذهبية المحمّرة بلآلئ من خيوط الشمس... بحر وآخر وآخر و... حتى انتهى لساحل سابع بحر وأودع أمانته برفق لسهل أخضر وأرض زروع... ما شعرت عند ملامسة قدميها للساحل الاّ وبطائر الرخّ الهائل يلتقطها بمنقاره ليقطع بها آمنة مطمئنة سماء عريضة مديدة ولينزلها بهدوء في غابة ما تعيش فيها غير الفيلة, وقبل ان تتحسس قدماها الأرض المعشبة حتى شعرت بخرطوم فيل يرفعها لتستقر على ظهره, ما كان سريعاً في جريه وطال سفره بها حتى تلاشت رائحة غابته وآخر الغابات بعد يوم وليلة في طرف الصحراء من حرائق رمل كاوية... قبل ان تتحسس حرارة الرمل فقد استقبلها سنام بعير هادئ وقور ليجتاز بها مفاوز الرمال والشوك والحصى وليحطّ بها بعد ساعات من صبر الابل واحتمالها في ديار الحبيب, هدية طال غيابها أمام خيمة حسن الشاطر...ـ
ما أحتمل الشاطر صدمة الدهشة فظل مصعوقاً لدقائق مخدوعاً بأنه يحلم وكما ظل في كل أيام غيابها حالماً بعد أن تناوشته حالات يأس مرّ... أنا... أنا يا حبيبي مالك صامتاً؟ ألا تعرفني؟ أنسيت الحلوة؟ أهكذا تستقبلني؟... وكان هو في حالة من ضحك وفرح وبكاء... دخلت خيمة الروح وأنتشت بوجه حسن وعينيه وساعديه وقبلاته الجنونية وليستذكر ويستعيد طعم شفتي الكرز الملمومتين الظامئتين لألف قبلة... صارت روحاً ندية لخيمة الشعر بعد يباس... كانت فرحة منطلقة ضاحكة ملمومة بحنان أحضان مجنونها بعد خلاصها من خانق المغارة الذي ما كان غير حفرة صخرية معتمة موبوءة بحشراتها وخفافيشها والتي لا تصلح لغير الوحش... يحكي الحكاؤون ويروي الرواة: راوٍ بعد راوٍ بعد راوٍ حتى من الرواة المتأخرين وفي سلسلة قليل فيها الصدق وأكثرها أكاذيب أنّ عمراً من الهناءة وجنون الحبّ ظلّ موصولاً دافئاً في تلك الخيمة الجميلة المنفردة في ليل الصحراء تعايش نجوماً مضيئة متلألئة في عمق ليالٍ عذبة سحرية... فجأة تغيّر الحال وما جاءهم هادم اللذات ومفرّق الجماعات... ما حدث كان أقسى وأمرّ من هادم اللذّات فحلوة العينين وعاشقها ما عادا متآلفين وحل بينهما صمت موجع أليم... الصبيّة ما عادت تؤنسه بحيويتها وأثارتها... صارت تميل لعزلة موحشة وكثيراً ما خرجت لعري الصحراء طالما هو قابع في الخيمة... ورغم أنهما معاً في خيمة صغيرة فقد بدت ساهمة في كل صباحاتها ونهاراتها وحتى لياليها... ليس غير الصمت وأرتسامات حزن دفين عميق هتك روحها... ما أنتبه الشاطر في البداية, ولكن مع قسوة واضطراب حالته معها وبمرور أشهر - صار يلاحظ نوبات بكائها المتكررة وبدون أسباب... مرات لاحظ استحالة بكائها لنشيح موجع... الشاطر الذي ما عرف من الشطارة غير أسمها اللاصق به كعلق, فكان وهو المعروف بغرقه مع النساء في شبر ماء... ما أستوعب أبداً مكر النساء وحيلهن ومكائدهن وحتى مع البلهاوات... ظلّ لاجئاً لصمته خشية أن يواجه ما يجرح شعوره, فما تفعله مع نفسها وانكماشها يخفي فاجعة له رغم ان كل عمره ما كان غير حلقات سود مغلقة من فواجع متلاحقة... عاد لضاربات الودع من جديد فما أوصلن له إشارة, استعاد قناعاته الخائبة بالمخضرمين من مشهوري فتح الفال فقد كانت مشكلته هذه المرّة محنة معقّدة فإذا كان في الماضي قد التجأ لهم للبحث عن ضائعة, فهذه المرّة هو الضائع الحائر وقد تلبّسه جنون الشك بديلاً مريعاً عن جنون الحب الجميل... وعاود قراءة طالعه في اعماق النجوم وعند قرّاء الكفّ, وفي تشكيلات وهمية في فناجين القهوة... وعندما انتهت كل اجابات هؤلاء لأصفار ومن سخرية أعتى عجوز هرمة مع عجائبيات وصفاتها السحرية, فقد ظلت الحلوة صامتة في خيمتها ومع بكاء مرّ ما عاد يحتمل أنينه بعد أن نسيت كركراتها الضاحكة كعصفور وبلبل طيلة سنين وكم كانت تحلوله قبلاتها مع غنج الكركرات المسليّة...ـ
يوماً بعد يوم ما عادت تشتهي طعاماً, صار طعامها الماء ولقيمات ضئيلة... نحف جسدها وبات هزيلاً كسعفة رفيعة... ارتسم شحوب مقلق على الوجه الجميل وما عادت تحس بأي وجود له, وان كانت قد ضاعت منه لزمن, فهو يشعر الآن بيقين ضياعها الأبدي... فجأة ما درى أي هاجس لعين حطّ وأناخ في عقله وهرس قلبه وروحه... بداله يوماً بعد يوم أن حنيناً جارفاً قد تلبّسها للكهف وحارسه الوحشي, وان ذلك الدبّ قد ترك في روحها وجسدها ما لم تستطع نسيانه من آثار ولذلذات بهيجة أسطورية... ما نسيت ذلك الدُب الذي كان قد حجر عليها سجينة مغارة كئيبة كان عند مغادرته لها لرحلات صيده يعتم باب المغارة بصخرة كبيرة صمّاء لكي يمحو في دخيلتها أيّ محاولة للهروب, رغم ذلك ها هي تعود اليه بأوجاع الذكرى حرّة من مغاليق أيّة صخرة, متفتحة لذكراه بكل الأشواق, واذا كانت قد روت لحسنها ساخرة ميل ذلك الدب لنوازع انسانية, فما أدرى الشاطر انها قد استطابت نوازعه الحيوانية العنيفة المدهشة والتي ما طاقها ومارسها أمهر الشطّار... عندما بلغ الأسى والحزن وقلق التوتر أبعد مدياته تذكّر اصحاب الخرقة والخطوة ونصيحة الصبر... رأى أن يحتمى بهم من جديد, ولكن أمثالهم من ذوي الضمائر النظيفة والقناعات الكبيرة بقبول أبسط حياة وأقلّها حاجة للدنيا الاّ من رغيف خبز وشربة ماء, كانوا قد رحلوا في البعيد البعيد, فأمثال هؤلاء من أصحاب الإشراقات النورانيّة يعيشون أبداً في اللامكان واللازمان, هم كانوا نصحوه ووصفوا له العلاج, وحتى لو التقاهم من جديد فلا علاج له عندهم غير ما فاهوا به من صدق في مواجهة خداع الزمان... مع هؤلاء تنسم قلبه بشيء من اطمئنان... فهم بسموّ أرواحهم وبساطتهم وتواضعهم ولطفهم وألفتهم وهزالهم ووجوههم الشاحبة وفقرهم وبقناعتهم المذهلة كرياضة روحية لسلام النفس... وأكدّوا له بيقينهم الاّ شيء في هذه الحياة يستحق الإثارة كل هذه الإثارة وان ضياع محبوبته ليس نهاية الدنيا وأن يظل ساعياً في بحثه ولا يقترب أبداً من موت الأمل...ـ
انتبهت شهرزاد ان حالة الشاطر حسن تشبه حالة مليكها المخبول بعد أن غَدرت به وخانته امرأة واحدة مع فارق طفيف بين الحالتين ورأت – عندما أحسّت بآلام محنته – ان تبدأ عملها وتكرس له ليالي جديدة بألف وألف أخرى لتنسيه أوجاع مصيبته, لكنها سرعان ما تراجعت رغباتها لواقعية الحياة, فهي عندما حكت لياليها الألفية وحتى عندما تطاولت هذه الليالي لم تشعر بأي خسارة وهدر للزمان, فهي كانت تروي لمليك الزمان مستأنسة بترف لذائذ الطعام والشراب, وهي كانت سكرى بين فاصل وفاصل من مروياتها بمتع أغاني المغنين ورقصات الجواري وألاعيب المهّرجين والحواة ومع كل ليلة ومع الفجر الناعس ونوم المليك, ظلت تحلم بليلة جديدة تعقبها ليالٍ تترى ومع هذا النعيم في قصور الأبّهة والقيّان والفلعان ومسبح العاريات وضاربات العود وتذلّل الشعراء في مدائحهم... لذا طالت لياليها واستطالت بحجة انقاذ بنات جنسها من القتل الدموي اليومي ومع أحلى النساء وبعد كل دخلة, فما الذي ستكسبه من حسن ذلك الصعلوك المتشرد البائس الحائر بجوعه وحفائه المتعاطف مع أمثاله من مغدوري هذه الحياة ليس غير, لذا فقد تراجعت بل ندمت لمجرّد فكرة احياء ذكرى الليالي ومع فقير مثل حسن... واذا كان المهزولون الشاحبون قد اختاروا له لعبة الصبر ليتواصل مع الحياة مهما قست, فإن شهرزاد رسمت له في حكاية مخصوصة له درب الموت المريح, محت شهرزاد من ذهنها وبسرعة خاطفة مشروع ليالٍ جديدة مكرّسة للشاطر ودفعت بحسن لطريق التيه والضلال فأضاع دربه, ونخره جنون العقل فاتجه به بعيداً عن مسار الخيمة فشكوكه القاتلة أحالت محبوبته لدمية جامدة... ومع فجر منكود غادر خيمة روحه القتيلة لمسار طويل طويل ونهارات قائظة محروقة بلهب رمال مشتعلة هائجة دوّارة لم تبق من جسده المتهالك المهزول بجوعه وعطشه والملتاع بيأسه, غير آثار سقيمة لشطارة ساذجة خائبة أهدته شهرة مكذوبة وغير أنفاس أخيرة لموت أكيد وبلا قبر...ــ
_____________________________________
·الديو: مخلوق خرافي مخيف يجمع بين الصفتين الأنسانية والحيوانيّة.ـ
ركّابات الحُباب: ومفردها ركّابة الحب: هرمات شائخات مهولات ماكرات منفوشات الشعر شهيرات بكل أكاذيب الدجل والحيل ومهازل الخداع والحاق الأذى والضرر بالآخرين.ـ
**
عودة الى الصفحة الرئيسية
لقراءة المداخلات او للتعقيب ، يرجى النقر على كلمة
Comments
على السطر التالي - يساراً