ـ(( وقت لحرائق الكلمات )) ... وأحزان الوجع المرّ
أنور عبد العزيز
في مطلع سبعينيات القرن الماضي وربما قبل ذلك بسنوات قليلة كان الشاعر ينتظر أشراقات حالة أبداعية غمرت روحه .. وكان الأبداع وفيّاً فلم يخذل هواجس الشاعر وتطلعاته لجديد وأختلاف ومغايرة في فن القول مقارنة بمجايليه على الأقل .. فكانت ولادة ديوانه البكر ( أعترافات المتّهم الغائب ) في مطلع السبعينيات .. وما كانت مفاجأة له عندما لقيت أضمامته الشعرية الأولى صدى نقدياً طيباً وقبولاً أليفا من جمهور القرّاء ... ثم تواصلت مسيرته الشعرية وبكل انتباه له من المشهد الثقافي ومن عشاق الشعرية وبكل حساسيّاتها الحياتية والأنسانية وبذائقة لغوية باذخة ومرهفة .. نصف قرن وأصداراته تترى بطبعات عراقية وسورية ومصرية حتى بلغ عددها 14 ديوانا شعريا منها مجموعته الكاملة الصادرة عن ( مؤسسة شمس للنشر والأعلام ) بالقاهرة سنة 2009 مضافا لها ( مسرحيات شعرية ) أدابا 1977 ، الشراره 1986 ، السيف والطبل 1994 ( فضاء بين جمرتين ) وهي أربع مسرحيات شعرية 2013 و ( مسرحيات غنائية ) 1987 مشاركة مع خلّه وصفيّه المبدع عبد الوهاب أسماعيل .. ومضافا لها أيضا : ( من أوراق الضفة الثالثة ) 2013 وهو أصداء للقطات من الذاكرة ..
(وقت لحرائق الكلمات ) .. ديوانه الأخير من أصدار ( مطبعة الديار بالموصل ) 2014 بغلاف ولوحة معبره وتصميم جميل للفنان المبدع عضيد طارق .. هذا الأصدار أشتمل على القصائد التي كتبت بين سنتي 2010 - 2013 وجاء ديوانها في 32 قصيدة ... أول ما يلفت أنتباه القاري هو ليس فقط شعرية القصائد بل حرص الشاعر حتى على شعرية عناوينه ومحاولة أنطاقها بجهرية كاشفة أو محاولة اخفاء مقاصدها الدفينة برمزية أو اشارات دلالات تمنح القاري ضوءا ليتلمس من خلالها ومن قدرات ذائقته القرائية ما يجعله قريبا مما أراد الشاعر أيصاله لمتلقيه ..هي اذاً حكاية العنوان وحسب ما طرحه النقاد حول أهمية العنوان وأستنطاقه .. وهو اذاً ذلك العنوان الذي منحه الراحل القاصّ محمود عبد الوهاب أهمية بالغة لحد أن سماه: (( ثريّا النص )) واذ يتساوى العنوان في تأثيره مع كل تجنيس أبداعي سواء كان شعراً أو قصّة أو رواية أو أي نص حر لا قيد عليه..هذه المقولة ( ثريّا النص ) ويعني بها الأضاءة و الكشف احتفل بها عديد من النقاد وحاوروا مصطلحها .. أضافوا له أو قلّلوا من هيمنته .. ومنهم بلغ معه ـ أي العنوان ـ حدّاً مبالغاً فيه حسب أجتهادهم وقناعاتهم ـ حتى قال بعض منهم ـ وهم ندرة ـ ان العنوان هو القصيدة كلها والرواية كلها والقصة كلها وحتى النصّ ...
من جماليات عناوين قصائده ـ لغة ومضامين ـ نستطيع القول أنها كلها عذبة ثرية رقراقة بنبض شاعري .. مع ذلك ـ وللايجاز ـ فسنهدي للقراء منها باقة مضيئة ملمومة : وردتي كانت وتاجى . طين الأنوثة . للبلاد التي تسكنني . ثلاثية الجريح . زنبقة تخترق الصفوف . أعلى الأشجار . أبريق الهوى . فلتهدر الكلمات . تنأى وأدنو و..و..و...
يمكن القول أن تياراً جارحاً موجعاً وأليماً صار يعصف بالشاعر في دواوينه الأخيرة بعد تلاوين فرح وأمل وبهجات وسعادات ودهشة بحب الحياة ومغرياتها مع حميميات صداقات وألفة لأصدقاء أمتلكوا عذوبة ووفاء واطمئنانا لروحية ومحبة لأنسان يكفي أنه شاعر .. دواوينه الأخيرة شيء أو أشياء غير ذلك .. ملامح وجع وأحزان مرة سود بددت سلام الشاعر وكيانه روحياً وشعرياً فالتجأ وأحتمى باستذكارات جميلة حلوة مرت بها دنياه وزمنه مع أسماء لمحبّين ومدن ومواقف انسانية وحالات أختزنتها ذاكرته المرهفة ولا يمكن أن تهدر منها اية ايماءة وأشارة وملامح من ضوء وقول وكلام مثير .. حشد من الذكريات ومخزون من واقعيات بهية عاشها الشاعر وبكل ما فيه من حب وحنان لمواقع الأمكنة ومسمياتها وبارتباطاتها بحركة الناس وممن لم ينس أي أحد منهم محبة وأعتزازا ولأن كل فرح حياته ظل ولعقود مرتبطا بذاكرة تلك الأماكن وناسها وحتى مع قسوة الحياة وظلمها لكثير من اولئك المحبين بسبب من فقر وخيبات وأحباطات ما كان الشاعر يسمح لنفسه أن ينأى بها عن مواجعهم .. واذا كانت الهموم في مجتمعه ومع ما فيهم تتقلب وتتغير بين مد وجزر , فان ما يواجهه حاليا يبدو كارثة وفجيعة شاملة وحتى زمنها لا يبدو له تغيير حتى بات مقتنعاً أن الزمن قد توقف وجمد وان حالة الأسى التي أتعبت البشر هي أبدية وقد أقتربت من حالة موت الأمل .. ولأنه شاعر , ولأنه لا بد له أن يتوازن مع موجعات الأشياء ليخلق لنفسه ملاذا من سكينة الروح , فهو قد تقهقر لماضيه كي ينتشله من حزن مرّ .. يستذكر ويسترجع ويحضر في أعماق ذاكرته علّه يلتقط منها ما مر به من سعادات فرح كي يعيد لروحه توازنها ولكي يستطيع التواصل مع الحياة حرصا على تواصله مع منجزه الأبداعي أضافة لان يحيا ـ ومعه كل الأخرين ـ حياة أنسانية أمنة ومشرقة ..ولكن هيهات .. فما نضحته القصائد من حزن الكلمات وأوجاع غربة وأغتراب حتى لمن كان في وطنه وبيته ومع لذائذ كتبه وقراءاته ...
الشاعر هنا لم يكن متوحدا وحيدا في تراجيديات أحزانه، بل كان شاهدا يرى ما قد لا يراه الأخرون عبر ( بانوراما ) فسيحة من مشاهد درامية كابوسية تكاد لا تصدق ولكنها أبدا صادمة صادقة طالما صدرت عن وعي حياتي وأنساني لشاعر مبدع كبير .. معد الجبوري بدأ شاعرا عموديا عروضيا ومن نتاج النابغة الموسيقي عبقري البصرة : الفراهيدي .. كان وسيظل علما شامخاً أثر لقرون كموسيقي ولغوي في الذائقة الشعرية العربية , ولكن طالما ان الحياة بكل مفاصلها وتفصيلاتيها وحركتها ـ ومنها اللغة والشعر ـ لا تثبت على حال فلا بد أن تؤثر فيها وتغيرها الأزمان .. وطالما ان داينمو الأشياء ـ حتى الجمادات ـ في تطور وتغير مستمرين بلا توقف .. وكان مخاضا وكان تجديدا أو تحديثا .. وكانت حركة ( للشعر الحر ) عراقية النبع .. وبعدها تجارب اكثر .. وبعدها تغيير وتجاوز لحركات شعرية اكثر جرأة وتحديثا .. ( حداثة ) و ( ما بعد الحداثة ) و ( ما بعد بعدها ) .. والشاعر منتبه ومع كل حركات الحداثة الشعرية .. هو لم يعرف السكونية .. ويعرف طريقه وما بدا له أبدا أنه يواجه أشكالا صعبة في التعبير , ومهما صعبت فلن تكون بأصعب من عروضيات الفراهيدي وأوزانه .. وأستأنس بهذا الجديد بتأن ودون تسرع وظل واثقاً من قدراته طالما هو ربيب ثقافة وتراث حضاري باذخ .. وطالما كان قد أمتلك لغة ثرية وتجارب حياتية واسعة وممتلئة .. تفاعل مع الأشكال الشعرية الجديدة وأحتفى بها أبداعيا مما أسعد وامتع وأفاد ذائقة القرّاء بشعر عمودي ومن كل لون في الحداثة الشعرية العربية ....
ان أي ( عرض ) أو ( نقد ) أو حتى ( شرح مستفيض ) لن ينقل للقاريء ملامح قدرات الشاعر الأبداعية .. الشاعر ـ وكما أتمنى - لن يحيط القراء بمنجزه ما لم يقرأوا ديوانه كاملا .. طالما انه يتمتع بوحدة عضوية كاملة ـ وبخصوصيّة هذا الديوان ـ الذي ظلت ( موضوعته أو ثيمته ) في غالبيتها متماسكة متلاحمة بمفردات من الحزن والوجع والألم والأستذكار والأحساس بعزلة الروح والتغريب والغربة مع وجود الوطن والأهل والأصدقاء والأحبة وحركة الناس وتذكار الوجوه الغائمة والأماكن والاسفار وبحيرة من يسأل : لماذا يحدث كل ذلك ؟! ولماذا هذه النهاية الأليمة مع وجع العمر وأقتراب نهاية الرحلة المجهولة ؟! مع ذلك ـ وكما قيل ـ ( شيء خير من لا شي ) ..وعسى أن يكون هذا القليل من الشواهد والمشاهد الشعرية مما يصور أو يقرب ـ في القليل ـ ملامح ديوانه الأخير في ذائقة متلقيه :
من مطلع الديوان وفي قصيدة ( تسأل من ؟ ) : ألف سؤال ربما تطلق . حتى توقظ الصخر . ولا جواب . فأنت وسط غاب . تخطف حتى حبة البندق فيه . من فم السنجاب . تسأل من . في زمن أغبر . فيه يسرق الكحل من العين . وفوق عش كل بلبل غراب ؟ تسأل من ؟ تسأل من ؟ حتى الذي في صدره . علم من الكتاب . منعقد لسانه . وهو يرى الفساد . يمتد من الباب . الى المحراب ... وتأكيدا لغياب بيض أيام الشاعر يقول من قصيدة ( من الحنظل حتى الغيظ ) : ولت أيامي البيض . وأقبلت الأقفاص . فأين اولي ؟ وأنا طائر برّ.لا يصدح في قفص . صوتي نافذتي . وفضائي الكلمات . أين اولي . وأمام خطاي . الحفر أنتشرت .وتشابكت الطرقات ؟ في زمن وقح . يلوي في صدري . حتى عنق الشاهين ... مرٌّ وجعي . مرٌّ ما أتجرعه . مرٌّ قطعي عن شفتي . ونفيي حتى عن ظلي ... وأنهض لا بد لصوتك أن يخترق الأيام السود .. ومن قصيدة ( وخزة الكأس ) : فانظر الأن . كنت قصيدة عشق . تضجّ بصوت الينابيع . كنت أمير الحرائق . والخلق والعنفوان .وها أنت مثل قصاصة نثر . عليها ينام الجليد . وهي تحلم أن تتنفس فوق الورق . ان بيت القصيد . أن تظل . الى أخر الشوط . تضرب في لجّة الخلق . ما دام فيك رمق . ومن قصيدة ( ولا يكتسح اليباب سواه ) نقرأ صورة ومشهدا حديثا عن تمزق الأمة وتشرذمها : منذ ألف وقيعة ومثار نقع . حيث جسّاس بن مرة . بعد يطلب ثأر خالته البسوس . وعبس مازالت تحشد للنزال . وليس في ذبيان . من أحد يمد يدا الى عبس . اذا لم تغلب الغبراء داحس . أي واد موحش هذا ! فمن فيه تفانوا أمس حتى الأن .لن يتورعوا من أن يدقوا كل يوم . عطر منشم بيننا . وأمامنا ووراءنا . ريح تدق قلوبنا دقا .وتذرو شملنا مثل الهشيم . على التراب .. والقصيدة طويلة استأنست بشواهد واقعية من التراث ومن تضمين لشعر جاهلي . ومن قصيدة مهداة ليوسف البارودي بعنوان ( لؤلؤة تركيّة ) : قبلة قبل أن أنثر الورد . بل قبلتان . لعيون ( ألاينا ) . فمذ فتحت لي أبوابها . وأناملك . تاجي الشمس . والموج لي صولجان . أي لؤلؤة . تتوهج بين الجبال , ألاينا . وتحتضن البحر منذ الأزل !! والقصيدة طويلة مشحونة بعشق حسيّ وبرومانسية حالمة .. استحوذت على ثمان صفحات من الديوان بقطعه المتوسط والذي جاء في أربعين ومائة صفحة ... والقصيدة بعد هذا من الشعر الغنائي وبميلها لعذوبة الوصف الرومانسي مع مشاعر حسية يحاول الشاعر أن يخفيها أو يتستر عليها وهي من بعض معاناة شيوخ العمر في أخر الشوط يحاولون بأصرار أن يظهروا أبدا أقوياء وبعافية الشباب المتوهج ولكن النهايات غالبا في جانبها الحسي لا أقول أنها خائبة , ولكنها تظل نهايات لا ترقى أبدا ولا تترجم رغبات الرومانس التي تظل هي المتسيدة مع خفوت شعلة الرغبات المخفية وفي حالة أن يصبح الشعر هو البديل المعالج لثورة الرغبات المخنوقة بقيود الرقابة الداخلية ومع أحكام الأخرين المتزمتة بأنطباعات راسخة عن عمر الشيوخ وسلوكياتهم وهم - وكما يقال ـ شمس عصر قاربت على الذبول والأنطفاء وفي حالة أنتظار مخيف ...ومن جماليات سياحات الشاعر وانطباعاته وحيث تشكل المدن حياة لنفسها وللأخرين كالبشر نقرأ من قصيدة ( وردتي كانت وتاجي ) : أفيقي في أعماقي يا وردة آسيا . عودي بي لمدائن طيعة . مثل الطين بكفي . مدائن تقدح في ذاكرتي الآن . كومضة حلم . وبها في صدري . ينفك على مصراعيه رتاج .حيث بواخر ( دكا ) . تنساب على وقع السيتار . وموسيقى وأغاني طاغور .تحلق بي صوب قطوف دانية . عند شواطئ أنهار البنغال . وفي ( بانكوك ) . يرفرف سرب أوز أبيض حولي . و( بتايا ) تنشرني فوق سواحلها وهي على جسدي تهطل وردا . غضّاً بضّاً . حتى يتفتح زهر الماء .
وبين يدي يلين العاج .. مدن لا نبض أنوثة فيها . ليست مدنا . والمدن الأبهى من أغدو فيها صوفيا . يتجسد في الحلّاج . فأنا هي وهي أنا اذ نتوحد حتى الذوبان . خذيني يا وردة أوربا .للأنثى ( بودابست ) وأسرار الدانوب الأزرق . حيث السيدة المجرية .تخطفني من غفلة عيني . وتصعد بي .. تهبط بي . من سفح الجبل الأثري فأمرق من قفص الشرق .أشيب ..تشيب الأيام . وتبقى المجرية , سيدة السبعينيات , تفيض شبابا فيّ , أنتشليني يا فائقة الدانوب , من النسيان المطبق . ضمّيني . حتى يتلألأ في صدري , نجم وهّاج ... وتتواصل القصيدة لتحنو مع وردة وجميلة
أفيقي يا وردة أفريقيا . عودي بي للغابة والبحر . وموسيقى المطر الأسود . حيث الساحرة الفارعة السوداء , تطير بأشرعة الحب , الى جزر نائية , تتلاطم فيها من حولي أمواج , وتعربد في أعماقي أمواج . عودي بي أيتها اللؤلؤة السوداء الى القرن الأفريقي , أشتعلي فيّ كعود بخور , ودعيني أتناثر كالفلفل والشيح , على شجر العنبو والبابايا , قولي عاد مليك الغاب , فما زال هنا بين الأحراش له عرش , ومن السحر الغامض تاج .. وفي قصيدة ( على سطح ساخن ) وصف في غاية الجمال لحركة البحار أبيضها وأحمرها وأسودها بلون الطبيعة وأشراقة الشمس وضياع الحدود بالتقاء الشرق بالغرب ومع الطير والحلم والماء ومن دهشة الشاعر لكل ما يراه جديدا ومثيرا حتى انه أنهى القصيدة بأنه ربما كان مختلفا عن الأخرين في انتباهاته بالقول : ( يا لي من فضوليّ وحيد فوق سطح الباخرة ) ... في قصيدة ( طين الأنوثة ) نقرأ في كل مقاطعها تكريما كبيرا رائعا للمرأة وبخصوصية نساء وطنه وهي قصيدة من عشرة مقاطع تتلاحق وتتسارع مقطعا بعد مقطع في ابداع شعري جميل : ان كانت حواء الجنة , من سابع ضلع , من أضلاعك يا أدم , قد ولدت , وهبطت الى الأرض بها , من أغوتك بتفاحتها الأولى , فأنا من أول ضلع , في حواء الارض ولدت .. الشاعر ولاعتزازه بالمرأة ككائن انساني حانٍ وجميل يمنحها أسما واحدا : لم أدع وصلا بك , يا ليلى فأنا , منذ فتحت على الدنيا عيني , وأنت أمامي , وورائي أنت , حولي .. بعدي أنت وقبلي , أمي ليلى , وحفيدتي الأحلى ليلى , وشريكة عمري , أدعوها : ليلى , بهواك الساكن فيّ وفيك , أمير العشاق أنا يا ليلاي , تدور كؤوس بينهم , ولهم متكأ في ظلي , وقتيل هواك أنا , أرأيت قتيلا يعشق قاتله , مثلي ؟ في المقطع الثاني للقصيدة نقرأ : الشمس هي الأنثى في لغتي , والقمر الوضّاء , هلالاً أو بدراً كان , هو الذكر ... ما أجمل هذا بين لغات الأرض !, فلولا الشمس ما كان القمر .. ثم تتواصل القصيدة : الأوراق اناث , والكلمات أناث , في أي خطاب .. في أي خطاب .. فاذا أجتمعت , في ساعة طلق , ولدت ذكرا , هو خير جليس للأنسان , نسميه : كتاب ... في مقطعها العاشر ـ وهو الأخير ـ ترسم القصيدة : عين الرؤيا نطقت , في قول الرسام الفنان :
في التقليد , وفي التجريد , اللوحة أنثى , ونساء الأرض هي الألوان .. بعدها نقرأ قصة يوسف وزليخا في قصيدة ( وقدّ قميص التردد) بصياغة شعرية جديدة مع مراعاة الأصل في مراوغة زليخا وصدق نبي الله ... ثم تأتي ثلاث قصائد يجمعها عنوان موحد هو : ( من ترانيم بلاد الرافدين ) .. ترنيمة لأوروك والثانية لنينوى والثالثة لبابل .. من ترنمية أوروك هذا الأنين : ريح ريح ريح .. ظبي مذبوح . وضباع والغة في دمه . تنهش حتى العظم , وللغدر دبيب وفحيح . والشعب ينوح ريح ريح ريح . مذ داهم خمبابا أوروك , تداعت أبراج وصروح .. نزحت عنها حتى الطير : يماما وشواهين , وغصت بالغربان السوح .. والشعب ينوح .... وتتواصل القصيدة مع محنة أوروك حتى نبلغ : فاطلع يا كلكامش من أوجاع المنفى , وأنهض يا أنكيدو , من دمك المسفوح ..
ومن ( ترنمية نينوى ) : طوى الزمان ما طوى . وكل من راوده الحلم . بأن يلوى اليه عنق الماضي .عليه أفعوان وهمه ألتوى . ونينوى ظلت هي الموصل . الموصل ظلت نينوى . كم طوى الزمان ما طوى .كم زحف الغزاة للحصن العبوري .وكم تهشمت أجنحة الثيران .والسور هوى . ونينوى ظلت هي الموصل .
والموصل ظلت نينوى . طوى الزمان ما طوى . وكلما جعجع بوق الغزو . قام الخضر من مقامه . وسار فوق الجمر , حتى الماء في دجلة بالجمر أكتوى . ونينوى ظلت هي الموصل . والموصل ظلت نينوى ... فقام حتى صاحب الحوت نبي الله ذا النون ... ومن ( ترنمية بابل ) : تدور الرحى . والزمان يدور . وتمضي عصور . وتأتي عصور وبابل بين الفراتين أشور . بابل أوروك . بابل أور ... ومن نزف هذه الترنيمة الحزينة : تدور الرحى . والزمان يدور . وها هي بابل . شعب جريح وغيظ يفور . فيا شعب بابل . من يولد اليوم من رحم الجرح ... هي هي نبرة الحزن والأسى يشدو بها الشاعر في ( قال الراعي ) :
من الرعاة أقفر المرعى . وفيه الغرباء أنتشروا . كانوا يفحّون وراء الأكمة . وذات غفلة اليك أنحدروا . من شفتيك أنتزعوا الناي . ومن خيمتك الأوتاد . ثم شوهوا ملامح المرعى . فناح الزرع والضرع معا .فما الذي تنتظر ؟ ... لم أعد أدري
ـ عزيزي القارئ - ماذا أختار وماذا أترك من هذا الفيض الشعري في أشراقاته ونبضه وحنينه وأنينه ومواجعه وأستذكاراته وبقدرات وتلقائية محبّبة .. وكل ما في الديوان مؤثر وأثير يجتاح عقل متلقيه وروحه وضميره ..بثقة وقناعة مطلقة بان الشاعر يفتح كوى مشرعة لضوء القول والكلام وبجدلية مفعمة عند الشاعر في محاورته للشعر والحياة معاً ومن تجارب دنياه المستفيضة بعطاء ثري حفر عميقا في شعره : لغة وصورا وأخيلة ونبضات نور بهيّ ... فاقرأ معي وتأمل ( ثلاثية الجريح ) ومنها : لم يعد ثمة فنجان . لهذي الزوبعه .وهي تطوي الرأس تلو الرأس . حتى لم تعد تدري . اتنجاب ليالي العصف . عن كوفيّة أم قبّعه ؟ فلقد غطّاك . من أخمص نعليك . الى أقصى السماوات . عجاج المعمعه ..أطبقوا مثل غمامه . فوق عينيك . وسدّوا أذنيك . أنتزعوا ما أنتزعوا منك .وما كان لهم عندك . من ظفر قلامة ... قصيدة ( دون قناع ) من ذهبيات شعره وبهائه وتألقه : لا تقل بعد أن ولغوا في انائك , أي فتى قد أضاعوا . ولا تبك أيام ملك مضاع .وأغسل الأن كفّيك . من زمن لا يراك . وما عاد فيه سواك معك . كل مالك فيه أطّلاع وباع .مبعد أنت عنه . تصيح تصيح . وغيرك لن يسمعك .. قل ، وأنت ترى كيف تسقط اقنعة ، تلو اقنعة : كبريائي معي وسأبقى أشق طريقي دون قناع ...
ومن محور رئيس بعنوان ( مفردات تحت ريشتي ) نقرأ قصائد بعناوين : شيخ , لغاف . أحمق . قرية . سجينة . أصابعي . ثم قصيدة ( أعلى الأشجار ) وهي مهداة لأم حارث .. قصيدة عمودية من أو في أربعة عشر بيتا من روعة القريض :
يا من تهدهد بالحنان كهولتي / وترى غبار الشيب ضوء نهار
أنت النهار ضياؤه في خافقي / بل أنت لا الشيب الوقور وقاري
ثم قصيدة ( أبريق الهوى ) .. ثم ( فلتهدر الكلمات ) : لا عزلتي تجدي ولا حَرَدِي
وهي أيضا من عروضيات الشعر وفي ثلاثة عشر بيتا رائعا .. بعدها قصيدة :
( بعد خمسين صحراء ) وهي أيضا من الأستذكارات الحزينة لمواقع وأماكن : الموصل ودجله ومحلة ( باب عراق ) ومع القناطر والأزقة .. في ( تنأى وأدنو ) محاورة مع دجلة والماء والنوارس واليمام وزهر الاقحوان وكل عذب من أغاني العشق والأحلام .. وكل هذا قد استحال ـ في روح الشاعر - لمنفى : منفاي صرت . ولا أراني فيك بعد ولا أراك .لقد نأيت كما نأى نهر الحياة . وها أنا يا أنت من منفاي فيك . اليك أدنو . كي أراني ... بعدها ( شهقة على طلل ) وذكرى المحلة العتيقة والجد والمنزل وأحاديث الايوان ونكهة السجاد والوسائد والشراشف والمرايا وكل ما في ( الغرف الشرقية ) من جماليات الماضي وتراثياته وعبقه .. وفي ( كأس الزوال ) ذلك الرمز الجميل : بساتين الفستق الموصلي ومن الأماكن ( عين كبريت ) ثم عن أسطح البيوت وسراديبها ودشاديش الرجال وعباءات النساء ومع الأطيار والروازين والأبواب والقناطر والأقواس والستائر .. كل ذلك كان في زمن الصبا .. ثم جاء الشيب وتعب العمر ومرارة الحياة وتنتهي : فاعترف . ان يوما دنا . هو أقرب منك اليك . طفحت بالمرارة كأسك . في زمن كل شيء به من يديك يفر وينأى . لقد قضى الأمر . لا بد أن تتجرع . كأس الزوال ...
في الديوان قصيدتان موجهتان من الشاعر لولديه : رائد وحارث رأيت تأجيل الكلام فيهما حتى النهاية لأمتيازهما وتفردهما عندي وخصوصية معالجتهما لمسألة حيوية تتعلق بتواصل الأجيال وعبر معالجة من الشاعر رأيتها من غير المألوف المتعارف عليه في أداب التوجيه .. اذ طالما قرأنا في تراثنا الأدبي ـ منذ العصر الجاهلي وحتى الأن ـ رسائل من شعر أو نثر موجهة من الأباء لأبنائهم فيها الأرشاد والنصيحة للألتزام بالأخلاقيات الجميلة وتعليمات ووصايا أن ينهج الأبناء نهج الأباء في كل ما يحقق لهم طيب العيش والأمان والعيش بتوازن مقبول مع الحياة .. تلك الوصايا ـ سواء أخذ بها الأبناء أو أهملوها يمكن القول أنها أصبحت جنسا أدبيا بما حملته وتحمله من مضامين النصح والتنبيه وضرورة ألتزام مسيرة الأباء في سلوكياتهم الحياتية باعتبار الأبناء امتدادا وتواصلا لرحلة الأباء .. وقلما وجدنا ـ الا نادرا ـ من خرج من الأباء على تلك النصائح التقليدية ليضيف شيئا جديدا .. هذه الحالة لم تعد مقبولة عند الشاعر معد الجبوري .. فهو ان رأيناه يحلم ويطمع مع ولده رائد ليعيد ويكرر طقوسا وسفرات عايشها في حياته متمنيا أن يتواصل معها ولده بحب السفر والترحال , فأن الحالة قد أختلفت بخطابه لولده الشاعر الحارث .. مع رائد نراه يقول : بهدير موجك أنت . غطّ شواطئ ( أستنبول ) يا ولدي , وخذ فيها مكاني . هذا زمانك , لا زماني .. لا الموج بعد يرشني , بنوارس البسفور , لا جزر الأميرات البعيدة , لا السواحل , بعد تدعوني الى المجهول , لا الدبكات حولي والأغاني , عني تزيح الشيب , لا قدماي من ( للري ) الى ( تقسيم ) بعد منور حلمي , تحملاني .. هذا زمانك لا زماني , كم من دنان للجمال رأيت , كان نبيذها حولي يفوح كم من مغان , كنت زنبقة بها .. واليوم حين أطوف بين جنانها , فأنا ( غريب الوجه , واليد واللسان ) !.. هذا زمانك لا زماني فرغم أن الشاعر يرغب أن يكرر ولده حالة العشق الأسفار , فهو يدرك جيدا أن زمن ولده ليس زمنه الذي بدا يتلاشى شاحبا في غضون العمر والمشيب اذ لم تعد كل الأغاني تملك الغاء ومحو الشيب واقعيا وماديا وما يترتب على ذلك من نكوص نفسي قاهر وأليم ...
أما معد الجبوري ـ وهو الشاعر- عندما يخاطب ولده وهو شاعر أيضا , فان الحالة تختلف كليا عن كل ما جاء من ألوان خطاب الأباء لأبنائهم في تراثنا الثقافي , ولده الحارث سليل عروق الأب ومن صلب دمه , لكنه لا يريده في الشعر كذلك ..يتمناه مغايرا مختلفا متجددا أبدا لا يجمد على حالة واحدة طالما الشعر حياة وحركة وحتى من بعض جنون , فاذا كان جنون العقل حالة مرفوضة فجنون الشعر هو الأحلى ..
ولأهمية القصيدة وحيويتها ولحرص أن يتناغم معها القراء رأيت ألا أضحي ولو بكلمة من كل أبياتها .. بحنان الأب الشاعر يخاطب ولده وعنوان القصيدة ( زنبقة تخترق الصفوف ) :
قد تجافي . اذا لحظة الخلق هيمن سلطانها من تجافي . ربما بعض خيلك تكبو .
اذا ما تلاطمت الريح حولك . لكنك مثلك مثلي . قفاص أخيلة ورؤى . وأنا أنت في الشعر .زنبقة في بطون الفيافي ، راحل أبدا لمجاهيل غامضة . ها ثم في فضاء الكلام .اذا لوّح الصمت لي أو دنا منك . قلتُ وقلتَ : أيا بركة الصمت . ان ضفافك ليست ضفافي واذا ألتهم القيظ ما نستظل به , تصبح الكلمات ينابيع , في ظلها نستريح , ونرشف من سلسبيل القوافي .. الشاعر يؤكد على المغايرة والاختلاف والحضر في كل جديد محبب مقبول وطالما ان الضفاف مختلفة وحتى لو كانت ضفاف الأب ... ( ضفافك ليست ضفافي ) .. ثم التواصل برفض الشاعر أن يتشكل عند الأخرين أنطباع بأن ابن صلبه الحارث الشاعر هو امتداد لشاعرية أبيه ليس غير : ربما لم ير البعض فيك سواي . ألست سليل عروقي ؟ بلى أيها المتوهج , من طينتي أنت , لكن طينة شعرك منك , سواك بها لن تكون .. أي اقرار وأصرار جميل وأستشراف مستقبلي لشعر ولده طالما هو بصوت أخر وبصمة أخرى ليست فقط لأخرين بل حتى لأبيه الذي عايشه طفلا وصبيا وشابا في بيئة واحدة وبيت واحد بمشتركات كثيرة مادية ومعنوية ربما منها حتى القراءات كلها أو بعضها .. ثم يمتدح الأب درر أشعار ولده منبها اياه لعدم الألتفات الى أقزام من الفاشلين والحاسدين والمغرضين والمدعين والساعين أبدا لتخريب وتشويه نجاحات المبدعين بسبب من عجزهم وخوائهم وروحياتهم المظلمة السود المنخورة من الداخل والشائهة وهي تسعى أبدا لتعطيل وايقاف مسيرة الحياة المضيئة للأخرين وأهمها الشعر بومضاته الأبداعية :
درر كلماتك . تولد من صدف يتشكل فيك . ولا در في صدف المغرضين . هي ذي ومضاتك . في واحة الشعر تقدح . وليدّعِ المدعون . ان صوتك صوت أبيك . فلن ـ يحجب البرق لغو الصغار . دع الشك يركبهم . ويهيل عليهم .رماد قصائد بائسة مثلهم . وليظنوا الظنون . بالجديد الفريد خرقت الصفوف .قل , وأنت ترى . كيف تسقط أقنعة , تلو أقنعة : كبريائي معي .وسأبقى اشق طريقي ودون قناع ...
وأنا أنهي هذا ( العرض ) أو ( النقد ) ـ سمه ما شئت ـ فلن أجد نهاية تصلح له غير أبيات نقشها وطرزها الشاعر في معاناته مع وهج الأبداع ومما يذكرنا بأطروحة ( أوجاع الكتابة ) للراحل القاص مهدي عيس الصقر .. أبيات ودع بها ديوانه وعلى الغلاف الأخير :
حين تعانق عيناك
ـ وميض قصيدته
ـ لحظة مولدها
يبكي الشاعر من فرح
ـ بدموع أنامله القلقه ...ـ
ويشكل مما يتخلق
ـ بين جوانحه
صورا تقطر موسيقى
ـ وبراعم ألوان
حتى تندى الكلمات
ـ وتخضلّ الورقة ...ـ
*
للعودة إلى الصفحة الرئيسة
أنور عبد العزيز
في مطلع سبعينيات القرن الماضي وربما قبل ذلك بسنوات قليلة كان الشاعر ينتظر أشراقات حالة أبداعية غمرت روحه .. وكان الأبداع وفيّاً فلم يخذل هواجس الشاعر وتطلعاته لجديد وأختلاف ومغايرة في فن القول مقارنة بمجايليه على الأقل .. فكانت ولادة ديوانه البكر ( أعترافات المتّهم الغائب ) في مطلع السبعينيات .. وما كانت مفاجأة له عندما لقيت أضمامته الشعرية الأولى صدى نقدياً طيباً وقبولاً أليفا من جمهور القرّاء ... ثم تواصلت مسيرته الشعرية وبكل انتباه له من المشهد الثقافي ومن عشاق الشعرية وبكل حساسيّاتها الحياتية والأنسانية وبذائقة لغوية باذخة ومرهفة .. نصف قرن وأصداراته تترى بطبعات عراقية وسورية ومصرية حتى بلغ عددها 14 ديوانا شعريا منها مجموعته الكاملة الصادرة عن ( مؤسسة شمس للنشر والأعلام ) بالقاهرة سنة 2009 مضافا لها ( مسرحيات شعرية ) أدابا 1977 ، الشراره 1986 ، السيف والطبل 1994 ( فضاء بين جمرتين ) وهي أربع مسرحيات شعرية 2013 و ( مسرحيات غنائية ) 1987 مشاركة مع خلّه وصفيّه المبدع عبد الوهاب أسماعيل .. ومضافا لها أيضا : ( من أوراق الضفة الثالثة ) 2013 وهو أصداء للقطات من الذاكرة ..
(وقت لحرائق الكلمات ) .. ديوانه الأخير من أصدار ( مطبعة الديار بالموصل ) 2014 بغلاف ولوحة معبره وتصميم جميل للفنان المبدع عضيد طارق .. هذا الأصدار أشتمل على القصائد التي كتبت بين سنتي 2010 - 2013 وجاء ديوانها في 32 قصيدة ... أول ما يلفت أنتباه القاري هو ليس فقط شعرية القصائد بل حرص الشاعر حتى على شعرية عناوينه ومحاولة أنطاقها بجهرية كاشفة أو محاولة اخفاء مقاصدها الدفينة برمزية أو اشارات دلالات تمنح القاري ضوءا ليتلمس من خلالها ومن قدرات ذائقته القرائية ما يجعله قريبا مما أراد الشاعر أيصاله لمتلقيه ..هي اذاً حكاية العنوان وحسب ما طرحه النقاد حول أهمية العنوان وأستنطاقه .. وهو اذاً ذلك العنوان الذي منحه الراحل القاصّ محمود عبد الوهاب أهمية بالغة لحد أن سماه: (( ثريّا النص )) واذ يتساوى العنوان في تأثيره مع كل تجنيس أبداعي سواء كان شعراً أو قصّة أو رواية أو أي نص حر لا قيد عليه..هذه المقولة ( ثريّا النص ) ويعني بها الأضاءة و الكشف احتفل بها عديد من النقاد وحاوروا مصطلحها .. أضافوا له أو قلّلوا من هيمنته .. ومنهم بلغ معه ـ أي العنوان ـ حدّاً مبالغاً فيه حسب أجتهادهم وقناعاتهم ـ حتى قال بعض منهم ـ وهم ندرة ـ ان العنوان هو القصيدة كلها والرواية كلها والقصة كلها وحتى النصّ ...
من جماليات عناوين قصائده ـ لغة ومضامين ـ نستطيع القول أنها كلها عذبة ثرية رقراقة بنبض شاعري .. مع ذلك ـ وللايجاز ـ فسنهدي للقراء منها باقة مضيئة ملمومة : وردتي كانت وتاجى . طين الأنوثة . للبلاد التي تسكنني . ثلاثية الجريح . زنبقة تخترق الصفوف . أعلى الأشجار . أبريق الهوى . فلتهدر الكلمات . تنأى وأدنو و..و..و...
يمكن القول أن تياراً جارحاً موجعاً وأليماً صار يعصف بالشاعر في دواوينه الأخيرة بعد تلاوين فرح وأمل وبهجات وسعادات ودهشة بحب الحياة ومغرياتها مع حميميات صداقات وألفة لأصدقاء أمتلكوا عذوبة ووفاء واطمئنانا لروحية ومحبة لأنسان يكفي أنه شاعر .. دواوينه الأخيرة شيء أو أشياء غير ذلك .. ملامح وجع وأحزان مرة سود بددت سلام الشاعر وكيانه روحياً وشعرياً فالتجأ وأحتمى باستذكارات جميلة حلوة مرت بها دنياه وزمنه مع أسماء لمحبّين ومدن ومواقف انسانية وحالات أختزنتها ذاكرته المرهفة ولا يمكن أن تهدر منها اية ايماءة وأشارة وملامح من ضوء وقول وكلام مثير .. حشد من الذكريات ومخزون من واقعيات بهية عاشها الشاعر وبكل ما فيه من حب وحنان لمواقع الأمكنة ومسمياتها وبارتباطاتها بحركة الناس وممن لم ينس أي أحد منهم محبة وأعتزازا ولأن كل فرح حياته ظل ولعقود مرتبطا بذاكرة تلك الأماكن وناسها وحتى مع قسوة الحياة وظلمها لكثير من اولئك المحبين بسبب من فقر وخيبات وأحباطات ما كان الشاعر يسمح لنفسه أن ينأى بها عن مواجعهم .. واذا كانت الهموم في مجتمعه ومع ما فيهم تتقلب وتتغير بين مد وجزر , فان ما يواجهه حاليا يبدو كارثة وفجيعة شاملة وحتى زمنها لا يبدو له تغيير حتى بات مقتنعاً أن الزمن قد توقف وجمد وان حالة الأسى التي أتعبت البشر هي أبدية وقد أقتربت من حالة موت الأمل .. ولأنه شاعر , ولأنه لا بد له أن يتوازن مع موجعات الأشياء ليخلق لنفسه ملاذا من سكينة الروح , فهو قد تقهقر لماضيه كي ينتشله من حزن مرّ .. يستذكر ويسترجع ويحضر في أعماق ذاكرته علّه يلتقط منها ما مر به من سعادات فرح كي يعيد لروحه توازنها ولكي يستطيع التواصل مع الحياة حرصا على تواصله مع منجزه الأبداعي أضافة لان يحيا ـ ومعه كل الأخرين ـ حياة أنسانية أمنة ومشرقة ..ولكن هيهات .. فما نضحته القصائد من حزن الكلمات وأوجاع غربة وأغتراب حتى لمن كان في وطنه وبيته ومع لذائذ كتبه وقراءاته ...
الشاعر هنا لم يكن متوحدا وحيدا في تراجيديات أحزانه، بل كان شاهدا يرى ما قد لا يراه الأخرون عبر ( بانوراما ) فسيحة من مشاهد درامية كابوسية تكاد لا تصدق ولكنها أبدا صادمة صادقة طالما صدرت عن وعي حياتي وأنساني لشاعر مبدع كبير .. معد الجبوري بدأ شاعرا عموديا عروضيا ومن نتاج النابغة الموسيقي عبقري البصرة : الفراهيدي .. كان وسيظل علما شامخاً أثر لقرون كموسيقي ولغوي في الذائقة الشعرية العربية , ولكن طالما ان الحياة بكل مفاصلها وتفصيلاتيها وحركتها ـ ومنها اللغة والشعر ـ لا تثبت على حال فلا بد أن تؤثر فيها وتغيرها الأزمان .. وطالما ان داينمو الأشياء ـ حتى الجمادات ـ في تطور وتغير مستمرين بلا توقف .. وكان مخاضا وكان تجديدا أو تحديثا .. وكانت حركة ( للشعر الحر ) عراقية النبع .. وبعدها تجارب اكثر .. وبعدها تغيير وتجاوز لحركات شعرية اكثر جرأة وتحديثا .. ( حداثة ) و ( ما بعد الحداثة ) و ( ما بعد بعدها ) .. والشاعر منتبه ومع كل حركات الحداثة الشعرية .. هو لم يعرف السكونية .. ويعرف طريقه وما بدا له أبدا أنه يواجه أشكالا صعبة في التعبير , ومهما صعبت فلن تكون بأصعب من عروضيات الفراهيدي وأوزانه .. وأستأنس بهذا الجديد بتأن ودون تسرع وظل واثقاً من قدراته طالما هو ربيب ثقافة وتراث حضاري باذخ .. وطالما كان قد أمتلك لغة ثرية وتجارب حياتية واسعة وممتلئة .. تفاعل مع الأشكال الشعرية الجديدة وأحتفى بها أبداعيا مما أسعد وامتع وأفاد ذائقة القرّاء بشعر عمودي ومن كل لون في الحداثة الشعرية العربية ....
ان أي ( عرض ) أو ( نقد ) أو حتى ( شرح مستفيض ) لن ينقل للقاريء ملامح قدرات الشاعر الأبداعية .. الشاعر ـ وكما أتمنى - لن يحيط القراء بمنجزه ما لم يقرأوا ديوانه كاملا .. طالما انه يتمتع بوحدة عضوية كاملة ـ وبخصوصيّة هذا الديوان ـ الذي ظلت ( موضوعته أو ثيمته ) في غالبيتها متماسكة متلاحمة بمفردات من الحزن والوجع والألم والأستذكار والأحساس بعزلة الروح والتغريب والغربة مع وجود الوطن والأهل والأصدقاء والأحبة وحركة الناس وتذكار الوجوه الغائمة والأماكن والاسفار وبحيرة من يسأل : لماذا يحدث كل ذلك ؟! ولماذا هذه النهاية الأليمة مع وجع العمر وأقتراب نهاية الرحلة المجهولة ؟! مع ذلك ـ وكما قيل ـ ( شيء خير من لا شي ) ..وعسى أن يكون هذا القليل من الشواهد والمشاهد الشعرية مما يصور أو يقرب ـ في القليل ـ ملامح ديوانه الأخير في ذائقة متلقيه :
من مطلع الديوان وفي قصيدة ( تسأل من ؟ ) : ألف سؤال ربما تطلق . حتى توقظ الصخر . ولا جواب . فأنت وسط غاب . تخطف حتى حبة البندق فيه . من فم السنجاب . تسأل من . في زمن أغبر . فيه يسرق الكحل من العين . وفوق عش كل بلبل غراب ؟ تسأل من ؟ تسأل من ؟ حتى الذي في صدره . علم من الكتاب . منعقد لسانه . وهو يرى الفساد . يمتد من الباب . الى المحراب ... وتأكيدا لغياب بيض أيام الشاعر يقول من قصيدة ( من الحنظل حتى الغيظ ) : ولت أيامي البيض . وأقبلت الأقفاص . فأين اولي ؟ وأنا طائر برّ.لا يصدح في قفص . صوتي نافذتي . وفضائي الكلمات . أين اولي . وأمام خطاي . الحفر أنتشرت .وتشابكت الطرقات ؟ في زمن وقح . يلوي في صدري . حتى عنق الشاهين ... مرٌّ وجعي . مرٌّ ما أتجرعه . مرٌّ قطعي عن شفتي . ونفيي حتى عن ظلي ... وأنهض لا بد لصوتك أن يخترق الأيام السود .. ومن قصيدة ( وخزة الكأس ) : فانظر الأن . كنت قصيدة عشق . تضجّ بصوت الينابيع . كنت أمير الحرائق . والخلق والعنفوان .وها أنت مثل قصاصة نثر . عليها ينام الجليد . وهي تحلم أن تتنفس فوق الورق . ان بيت القصيد . أن تظل . الى أخر الشوط . تضرب في لجّة الخلق . ما دام فيك رمق . ومن قصيدة ( ولا يكتسح اليباب سواه ) نقرأ صورة ومشهدا حديثا عن تمزق الأمة وتشرذمها : منذ ألف وقيعة ومثار نقع . حيث جسّاس بن مرة . بعد يطلب ثأر خالته البسوس . وعبس مازالت تحشد للنزال . وليس في ذبيان . من أحد يمد يدا الى عبس . اذا لم تغلب الغبراء داحس . أي واد موحش هذا ! فمن فيه تفانوا أمس حتى الأن .لن يتورعوا من أن يدقوا كل يوم . عطر منشم بيننا . وأمامنا ووراءنا . ريح تدق قلوبنا دقا .وتذرو شملنا مثل الهشيم . على التراب .. والقصيدة طويلة استأنست بشواهد واقعية من التراث ومن تضمين لشعر جاهلي . ومن قصيدة مهداة ليوسف البارودي بعنوان ( لؤلؤة تركيّة ) : قبلة قبل أن أنثر الورد . بل قبلتان . لعيون ( ألاينا ) . فمذ فتحت لي أبوابها . وأناملك . تاجي الشمس . والموج لي صولجان . أي لؤلؤة . تتوهج بين الجبال , ألاينا . وتحتضن البحر منذ الأزل !! والقصيدة طويلة مشحونة بعشق حسيّ وبرومانسية حالمة .. استحوذت على ثمان صفحات من الديوان بقطعه المتوسط والذي جاء في أربعين ومائة صفحة ... والقصيدة بعد هذا من الشعر الغنائي وبميلها لعذوبة الوصف الرومانسي مع مشاعر حسية يحاول الشاعر أن يخفيها أو يتستر عليها وهي من بعض معاناة شيوخ العمر في أخر الشوط يحاولون بأصرار أن يظهروا أبدا أقوياء وبعافية الشباب المتوهج ولكن النهايات غالبا في جانبها الحسي لا أقول أنها خائبة , ولكنها تظل نهايات لا ترقى أبدا ولا تترجم رغبات الرومانس التي تظل هي المتسيدة مع خفوت شعلة الرغبات المخفية وفي حالة أن يصبح الشعر هو البديل المعالج لثورة الرغبات المخنوقة بقيود الرقابة الداخلية ومع أحكام الأخرين المتزمتة بأنطباعات راسخة عن عمر الشيوخ وسلوكياتهم وهم - وكما يقال ـ شمس عصر قاربت على الذبول والأنطفاء وفي حالة أنتظار مخيف ...ومن جماليات سياحات الشاعر وانطباعاته وحيث تشكل المدن حياة لنفسها وللأخرين كالبشر نقرأ من قصيدة ( وردتي كانت وتاجي ) : أفيقي في أعماقي يا وردة آسيا . عودي بي لمدائن طيعة . مثل الطين بكفي . مدائن تقدح في ذاكرتي الآن . كومضة حلم . وبها في صدري . ينفك على مصراعيه رتاج .حيث بواخر ( دكا ) . تنساب على وقع السيتار . وموسيقى وأغاني طاغور .تحلق بي صوب قطوف دانية . عند شواطئ أنهار البنغال . وفي ( بانكوك ) . يرفرف سرب أوز أبيض حولي . و( بتايا ) تنشرني فوق سواحلها وهي على جسدي تهطل وردا . غضّاً بضّاً . حتى يتفتح زهر الماء .
وبين يدي يلين العاج .. مدن لا نبض أنوثة فيها . ليست مدنا . والمدن الأبهى من أغدو فيها صوفيا . يتجسد في الحلّاج . فأنا هي وهي أنا اذ نتوحد حتى الذوبان . خذيني يا وردة أوربا .للأنثى ( بودابست ) وأسرار الدانوب الأزرق . حيث السيدة المجرية .تخطفني من غفلة عيني . وتصعد بي .. تهبط بي . من سفح الجبل الأثري فأمرق من قفص الشرق .أشيب ..تشيب الأيام . وتبقى المجرية , سيدة السبعينيات , تفيض شبابا فيّ , أنتشليني يا فائقة الدانوب , من النسيان المطبق . ضمّيني . حتى يتلألأ في صدري , نجم وهّاج ... وتتواصل القصيدة لتحنو مع وردة وجميلة
أفيقي يا وردة أفريقيا . عودي بي للغابة والبحر . وموسيقى المطر الأسود . حيث الساحرة الفارعة السوداء , تطير بأشرعة الحب , الى جزر نائية , تتلاطم فيها من حولي أمواج , وتعربد في أعماقي أمواج . عودي بي أيتها اللؤلؤة السوداء الى القرن الأفريقي , أشتعلي فيّ كعود بخور , ودعيني أتناثر كالفلفل والشيح , على شجر العنبو والبابايا , قولي عاد مليك الغاب , فما زال هنا بين الأحراش له عرش , ومن السحر الغامض تاج .. وفي قصيدة ( على سطح ساخن ) وصف في غاية الجمال لحركة البحار أبيضها وأحمرها وأسودها بلون الطبيعة وأشراقة الشمس وضياع الحدود بالتقاء الشرق بالغرب ومع الطير والحلم والماء ومن دهشة الشاعر لكل ما يراه جديدا ومثيرا حتى انه أنهى القصيدة بأنه ربما كان مختلفا عن الأخرين في انتباهاته بالقول : ( يا لي من فضوليّ وحيد فوق سطح الباخرة ) ... في قصيدة ( طين الأنوثة ) نقرأ في كل مقاطعها تكريما كبيرا رائعا للمرأة وبخصوصية نساء وطنه وهي قصيدة من عشرة مقاطع تتلاحق وتتسارع مقطعا بعد مقطع في ابداع شعري جميل : ان كانت حواء الجنة , من سابع ضلع , من أضلاعك يا أدم , قد ولدت , وهبطت الى الأرض بها , من أغوتك بتفاحتها الأولى , فأنا من أول ضلع , في حواء الارض ولدت .. الشاعر ولاعتزازه بالمرأة ككائن انساني حانٍ وجميل يمنحها أسما واحدا : لم أدع وصلا بك , يا ليلى فأنا , منذ فتحت على الدنيا عيني , وأنت أمامي , وورائي أنت , حولي .. بعدي أنت وقبلي , أمي ليلى , وحفيدتي الأحلى ليلى , وشريكة عمري , أدعوها : ليلى , بهواك الساكن فيّ وفيك , أمير العشاق أنا يا ليلاي , تدور كؤوس بينهم , ولهم متكأ في ظلي , وقتيل هواك أنا , أرأيت قتيلا يعشق قاتله , مثلي ؟ في المقطع الثاني للقصيدة نقرأ : الشمس هي الأنثى في لغتي , والقمر الوضّاء , هلالاً أو بدراً كان , هو الذكر ... ما أجمل هذا بين لغات الأرض !, فلولا الشمس ما كان القمر .. ثم تتواصل القصيدة : الأوراق اناث , والكلمات أناث , في أي خطاب .. في أي خطاب .. فاذا أجتمعت , في ساعة طلق , ولدت ذكرا , هو خير جليس للأنسان , نسميه : كتاب ... في مقطعها العاشر ـ وهو الأخير ـ ترسم القصيدة : عين الرؤيا نطقت , في قول الرسام الفنان :
في التقليد , وفي التجريد , اللوحة أنثى , ونساء الأرض هي الألوان .. بعدها نقرأ قصة يوسف وزليخا في قصيدة ( وقدّ قميص التردد) بصياغة شعرية جديدة مع مراعاة الأصل في مراوغة زليخا وصدق نبي الله ... ثم تأتي ثلاث قصائد يجمعها عنوان موحد هو : ( من ترانيم بلاد الرافدين ) .. ترنيمة لأوروك والثانية لنينوى والثالثة لبابل .. من ترنمية أوروك هذا الأنين : ريح ريح ريح .. ظبي مذبوح . وضباع والغة في دمه . تنهش حتى العظم , وللغدر دبيب وفحيح . والشعب ينوح ريح ريح ريح . مذ داهم خمبابا أوروك , تداعت أبراج وصروح .. نزحت عنها حتى الطير : يماما وشواهين , وغصت بالغربان السوح .. والشعب ينوح .... وتتواصل القصيدة مع محنة أوروك حتى نبلغ : فاطلع يا كلكامش من أوجاع المنفى , وأنهض يا أنكيدو , من دمك المسفوح ..
ومن ( ترنمية نينوى ) : طوى الزمان ما طوى . وكل من راوده الحلم . بأن يلوى اليه عنق الماضي .عليه أفعوان وهمه ألتوى . ونينوى ظلت هي الموصل . الموصل ظلت نينوى . كم طوى الزمان ما طوى .كم زحف الغزاة للحصن العبوري .وكم تهشمت أجنحة الثيران .والسور هوى . ونينوى ظلت هي الموصل .
والموصل ظلت نينوى . طوى الزمان ما طوى . وكلما جعجع بوق الغزو . قام الخضر من مقامه . وسار فوق الجمر , حتى الماء في دجلة بالجمر أكتوى . ونينوى ظلت هي الموصل . والموصل ظلت نينوى ... فقام حتى صاحب الحوت نبي الله ذا النون ... ومن ( ترنمية بابل ) : تدور الرحى . والزمان يدور . وتمضي عصور . وتأتي عصور وبابل بين الفراتين أشور . بابل أوروك . بابل أور ... ومن نزف هذه الترنيمة الحزينة : تدور الرحى . والزمان يدور . وها هي بابل . شعب جريح وغيظ يفور . فيا شعب بابل . من يولد اليوم من رحم الجرح ... هي هي نبرة الحزن والأسى يشدو بها الشاعر في ( قال الراعي ) :
من الرعاة أقفر المرعى . وفيه الغرباء أنتشروا . كانوا يفحّون وراء الأكمة . وذات غفلة اليك أنحدروا . من شفتيك أنتزعوا الناي . ومن خيمتك الأوتاد . ثم شوهوا ملامح المرعى . فناح الزرع والضرع معا .فما الذي تنتظر ؟ ... لم أعد أدري
ـ عزيزي القارئ - ماذا أختار وماذا أترك من هذا الفيض الشعري في أشراقاته ونبضه وحنينه وأنينه ومواجعه وأستذكاراته وبقدرات وتلقائية محبّبة .. وكل ما في الديوان مؤثر وأثير يجتاح عقل متلقيه وروحه وضميره ..بثقة وقناعة مطلقة بان الشاعر يفتح كوى مشرعة لضوء القول والكلام وبجدلية مفعمة عند الشاعر في محاورته للشعر والحياة معاً ومن تجارب دنياه المستفيضة بعطاء ثري حفر عميقا في شعره : لغة وصورا وأخيلة ونبضات نور بهيّ ... فاقرأ معي وتأمل ( ثلاثية الجريح ) ومنها : لم يعد ثمة فنجان . لهذي الزوبعه .وهي تطوي الرأس تلو الرأس . حتى لم تعد تدري . اتنجاب ليالي العصف . عن كوفيّة أم قبّعه ؟ فلقد غطّاك . من أخمص نعليك . الى أقصى السماوات . عجاج المعمعه ..أطبقوا مثل غمامه . فوق عينيك . وسدّوا أذنيك . أنتزعوا ما أنتزعوا منك .وما كان لهم عندك . من ظفر قلامة ... قصيدة ( دون قناع ) من ذهبيات شعره وبهائه وتألقه : لا تقل بعد أن ولغوا في انائك , أي فتى قد أضاعوا . ولا تبك أيام ملك مضاع .وأغسل الأن كفّيك . من زمن لا يراك . وما عاد فيه سواك معك . كل مالك فيه أطّلاع وباع .مبعد أنت عنه . تصيح تصيح . وغيرك لن يسمعك .. قل ، وأنت ترى كيف تسقط اقنعة ، تلو اقنعة : كبريائي معي وسأبقى أشق طريقي دون قناع ...
ومن محور رئيس بعنوان ( مفردات تحت ريشتي ) نقرأ قصائد بعناوين : شيخ , لغاف . أحمق . قرية . سجينة . أصابعي . ثم قصيدة ( أعلى الأشجار ) وهي مهداة لأم حارث .. قصيدة عمودية من أو في أربعة عشر بيتا من روعة القريض :
يا من تهدهد بالحنان كهولتي / وترى غبار الشيب ضوء نهار
أنت النهار ضياؤه في خافقي / بل أنت لا الشيب الوقور وقاري
ثم قصيدة ( أبريق الهوى ) .. ثم ( فلتهدر الكلمات ) : لا عزلتي تجدي ولا حَرَدِي
وهي أيضا من عروضيات الشعر وفي ثلاثة عشر بيتا رائعا .. بعدها قصيدة :
( بعد خمسين صحراء ) وهي أيضا من الأستذكارات الحزينة لمواقع وأماكن : الموصل ودجله ومحلة ( باب عراق ) ومع القناطر والأزقة .. في ( تنأى وأدنو ) محاورة مع دجلة والماء والنوارس واليمام وزهر الاقحوان وكل عذب من أغاني العشق والأحلام .. وكل هذا قد استحال ـ في روح الشاعر - لمنفى : منفاي صرت . ولا أراني فيك بعد ولا أراك .لقد نأيت كما نأى نهر الحياة . وها أنا يا أنت من منفاي فيك . اليك أدنو . كي أراني ... بعدها ( شهقة على طلل ) وذكرى المحلة العتيقة والجد والمنزل وأحاديث الايوان ونكهة السجاد والوسائد والشراشف والمرايا وكل ما في ( الغرف الشرقية ) من جماليات الماضي وتراثياته وعبقه .. وفي ( كأس الزوال ) ذلك الرمز الجميل : بساتين الفستق الموصلي ومن الأماكن ( عين كبريت ) ثم عن أسطح البيوت وسراديبها ودشاديش الرجال وعباءات النساء ومع الأطيار والروازين والأبواب والقناطر والأقواس والستائر .. كل ذلك كان في زمن الصبا .. ثم جاء الشيب وتعب العمر ومرارة الحياة وتنتهي : فاعترف . ان يوما دنا . هو أقرب منك اليك . طفحت بالمرارة كأسك . في زمن كل شيء به من يديك يفر وينأى . لقد قضى الأمر . لا بد أن تتجرع . كأس الزوال ...
في الديوان قصيدتان موجهتان من الشاعر لولديه : رائد وحارث رأيت تأجيل الكلام فيهما حتى النهاية لأمتيازهما وتفردهما عندي وخصوصية معالجتهما لمسألة حيوية تتعلق بتواصل الأجيال وعبر معالجة من الشاعر رأيتها من غير المألوف المتعارف عليه في أداب التوجيه .. اذ طالما قرأنا في تراثنا الأدبي ـ منذ العصر الجاهلي وحتى الأن ـ رسائل من شعر أو نثر موجهة من الأباء لأبنائهم فيها الأرشاد والنصيحة للألتزام بالأخلاقيات الجميلة وتعليمات ووصايا أن ينهج الأبناء نهج الأباء في كل ما يحقق لهم طيب العيش والأمان والعيش بتوازن مقبول مع الحياة .. تلك الوصايا ـ سواء أخذ بها الأبناء أو أهملوها يمكن القول أنها أصبحت جنسا أدبيا بما حملته وتحمله من مضامين النصح والتنبيه وضرورة ألتزام مسيرة الأباء في سلوكياتهم الحياتية باعتبار الأبناء امتدادا وتواصلا لرحلة الأباء .. وقلما وجدنا ـ الا نادرا ـ من خرج من الأباء على تلك النصائح التقليدية ليضيف شيئا جديدا .. هذه الحالة لم تعد مقبولة عند الشاعر معد الجبوري .. فهو ان رأيناه يحلم ويطمع مع ولده رائد ليعيد ويكرر طقوسا وسفرات عايشها في حياته متمنيا أن يتواصل معها ولده بحب السفر والترحال , فأن الحالة قد أختلفت بخطابه لولده الشاعر الحارث .. مع رائد نراه يقول : بهدير موجك أنت . غطّ شواطئ ( أستنبول ) يا ولدي , وخذ فيها مكاني . هذا زمانك , لا زماني .. لا الموج بعد يرشني , بنوارس البسفور , لا جزر الأميرات البعيدة , لا السواحل , بعد تدعوني الى المجهول , لا الدبكات حولي والأغاني , عني تزيح الشيب , لا قدماي من ( للري ) الى ( تقسيم ) بعد منور حلمي , تحملاني .. هذا زمانك لا زماني , كم من دنان للجمال رأيت , كان نبيذها حولي يفوح كم من مغان , كنت زنبقة بها .. واليوم حين أطوف بين جنانها , فأنا ( غريب الوجه , واليد واللسان ) !.. هذا زمانك لا زماني فرغم أن الشاعر يرغب أن يكرر ولده حالة العشق الأسفار , فهو يدرك جيدا أن زمن ولده ليس زمنه الذي بدا يتلاشى شاحبا في غضون العمر والمشيب اذ لم تعد كل الأغاني تملك الغاء ومحو الشيب واقعيا وماديا وما يترتب على ذلك من نكوص نفسي قاهر وأليم ...
أما معد الجبوري ـ وهو الشاعر- عندما يخاطب ولده وهو شاعر أيضا , فان الحالة تختلف كليا عن كل ما جاء من ألوان خطاب الأباء لأبنائهم في تراثنا الثقافي , ولده الحارث سليل عروق الأب ومن صلب دمه , لكنه لا يريده في الشعر كذلك ..يتمناه مغايرا مختلفا متجددا أبدا لا يجمد على حالة واحدة طالما الشعر حياة وحركة وحتى من بعض جنون , فاذا كان جنون العقل حالة مرفوضة فجنون الشعر هو الأحلى ..
ولأهمية القصيدة وحيويتها ولحرص أن يتناغم معها القراء رأيت ألا أضحي ولو بكلمة من كل أبياتها .. بحنان الأب الشاعر يخاطب ولده وعنوان القصيدة ( زنبقة تخترق الصفوف ) :
قد تجافي . اذا لحظة الخلق هيمن سلطانها من تجافي . ربما بعض خيلك تكبو .
اذا ما تلاطمت الريح حولك . لكنك مثلك مثلي . قفاص أخيلة ورؤى . وأنا أنت في الشعر .زنبقة في بطون الفيافي ، راحل أبدا لمجاهيل غامضة . ها ثم في فضاء الكلام .اذا لوّح الصمت لي أو دنا منك . قلتُ وقلتَ : أيا بركة الصمت . ان ضفافك ليست ضفافي واذا ألتهم القيظ ما نستظل به , تصبح الكلمات ينابيع , في ظلها نستريح , ونرشف من سلسبيل القوافي .. الشاعر يؤكد على المغايرة والاختلاف والحضر في كل جديد محبب مقبول وطالما ان الضفاف مختلفة وحتى لو كانت ضفاف الأب ... ( ضفافك ليست ضفافي ) .. ثم التواصل برفض الشاعر أن يتشكل عند الأخرين أنطباع بأن ابن صلبه الحارث الشاعر هو امتداد لشاعرية أبيه ليس غير : ربما لم ير البعض فيك سواي . ألست سليل عروقي ؟ بلى أيها المتوهج , من طينتي أنت , لكن طينة شعرك منك , سواك بها لن تكون .. أي اقرار وأصرار جميل وأستشراف مستقبلي لشعر ولده طالما هو بصوت أخر وبصمة أخرى ليست فقط لأخرين بل حتى لأبيه الذي عايشه طفلا وصبيا وشابا في بيئة واحدة وبيت واحد بمشتركات كثيرة مادية ومعنوية ربما منها حتى القراءات كلها أو بعضها .. ثم يمتدح الأب درر أشعار ولده منبها اياه لعدم الألتفات الى أقزام من الفاشلين والحاسدين والمغرضين والمدعين والساعين أبدا لتخريب وتشويه نجاحات المبدعين بسبب من عجزهم وخوائهم وروحياتهم المظلمة السود المنخورة من الداخل والشائهة وهي تسعى أبدا لتعطيل وايقاف مسيرة الحياة المضيئة للأخرين وأهمها الشعر بومضاته الأبداعية :
درر كلماتك . تولد من صدف يتشكل فيك . ولا در في صدف المغرضين . هي ذي ومضاتك . في واحة الشعر تقدح . وليدّعِ المدعون . ان صوتك صوت أبيك . فلن ـ يحجب البرق لغو الصغار . دع الشك يركبهم . ويهيل عليهم .رماد قصائد بائسة مثلهم . وليظنوا الظنون . بالجديد الفريد خرقت الصفوف .قل , وأنت ترى . كيف تسقط أقنعة , تلو أقنعة : كبريائي معي .وسأبقى اشق طريقي ودون قناع ...
وأنا أنهي هذا ( العرض ) أو ( النقد ) ـ سمه ما شئت ـ فلن أجد نهاية تصلح له غير أبيات نقشها وطرزها الشاعر في معاناته مع وهج الأبداع ومما يذكرنا بأطروحة ( أوجاع الكتابة ) للراحل القاص مهدي عيس الصقر .. أبيات ودع بها ديوانه وعلى الغلاف الأخير :
حين تعانق عيناك
ـ وميض قصيدته
ـ لحظة مولدها
يبكي الشاعر من فرح
ـ بدموع أنامله القلقه ...ـ
ويشكل مما يتخلق
ـ بين جوانحه
صورا تقطر موسيقى
ـ وبراعم ألوان
حتى تندى الكلمات
ـ وتخضلّ الورقة ...ـ
*
للعودة إلى الصفحة الرئيسة