(( الوعل ))ـ
قصة قصيرة
أنور عبد العزيز
كل ذلك الكلام الكثير الهاديء في نغماته وسكونه وقناعاته المشوب حيناً بتوترات مؤذية وبوجع مرّ حزين ما أقنعت نجم بقرار العودة .. فهموا ذلك رغم انه لم يفه بكلمة واحدة مريحة ... عرفوا ذلك من غمامة سوداء اجتاحت ملامح وجهه المتصلب فتأكد للجميع ولأخيه عزّت ان ذلك الوجه وبالعينين الكابيتين قد حسم رفض العودة بقرار باتر قاطع كسكين ملتمعة بشفرة حادّة دون أن يكلّف فمه ولسانه بكلمة واحدة حتى لو بدت خافتة مهموسة ... مرّ نهار تبعه آخر وآخر وتطاولت امسيات وجلسات الحشد الصغير من نجم المهاجر وزوجته واولاده وأخيه عزّت القادم من البعيد وبعد مباركة مؤذن الجامع في تلك القرية الجبلية الأليفة .. ولولا العربية الفصيحة لمؤذن الجامع لما استطاع ذلك الجمع ان يلتمّ على نفسه بأنسانية التعارف واللقاء العجيب الذي جمع بين الأخوين بعد تيه وضياع نجم لستين عاما وأكثر ...
ذلك الصبي والفتى المتوهج بدفق الحياة وصلابة الجسد والروح احتمل لسنتين واكثر .. بعد موت أبيه .. حرائق عصا الرمّان شرائط وشروخاً في ساعديه وساقيه وظهره وحتى عبر خطوط في وجهه .. ما كان ابشعها وأشدّها إيلاماً عصيّ الرمان تبدّد فيها أمه شكرية احزان واقعها وأيام القهر بتلك الضربات الجنونية للفتى الطري بسنوات عمره وجلده واحلامه .. لم يجد ابدا سبباً مقنعاً لتلك القسوة الهمجية الشرسة والموقف المعادي ابدا لكل حركة او كلمة تصدر عنه وحتى لبريئات الافعال وحتى الكلام مما يصدف ان تصدر عن عمر غضّ لم يتسلح بعد بخبرات حياة ناضجة ، وكانت شكرية خانقة له برغباتها الجنونية الصادمة المطالبة ان يتصرف معها ومع كل شؤون الحياة المكشوفة والخفية باتزان رجولة كاملة وعقل واسع عليم .. وهذا ما لم يكن متمتعا به في كل حين وكما تريد ، وما كان مستساغا في عقله الصغير ان تحتمل اية نزوات منه وان بدت لكل البشر انها نزوات لابد ان تخترق وتجتاح من كان في مثل عمره وفورانه ..
حاوروه وداروا به مع كل حديث وباشارات من كلام مفهوم وغير مفهوم ... فما استجاب لهم الا بذهول ووجه حزين وعينين غاصتين بدمع مقهور وبالتفاتته لرأس ووجه وعيني اخيه عزّت يقبلّه صامتا هامسا بكلمات غير منطوقة وكأنه هو فقط من يسمعها : شكرية .. شكرية .. موسل .. أصليل أكع ... شكرية .. شكرية .. كزلاني ذلك الجمع غابت عنه فائدة كل لغة .. فلا العربية نفعت ولا التركية ولولا العربية الفصيحة لمؤذن جامع القرية لانقطعت ايّة وشيجة انسانية معبرة بينهم .. وحتى تلك الفصيحة ما نفعت عزّت الا بنثار كلمات محدودة .. عزّت القادم من بعيد ليسترد اخاه كان هو ايضا محروما من تعليم متكامل وحتى من حدود دنيا ، فهو لا يتذكر من تحصيله غير سنتين في الابتدائية منذ عمر بعيد تكفلت السنون بضياع ونسيان ما حفظه من نزر كلمات فصيحة .. والمؤذن لم يلهج الا بالفصيحة التي بدت لعزّت وكانها لغة اجنبية .. والمؤذن لم يفهم من عامية عزّت بموصليتها غير لغة اجنبية قياسا لعربيته النقية المضيئة ... لم يكن ذلك الجمع الصغير من الخرسان ، ولكن ما جرى وتداولوه بمعاناة عسيرة كان فعلا ( حوار طرشان ) وان كانت اذانهم اكثر حساسية وارق سمعاً من فأر .... ورغم كل محاولاتهم في التواصل فما ازدادت ارواحهم الا توترا بمواجهة غموض الكلمات وانغلاقها وتيه معانيها .. ولولا لغة الاشارات التي حرّرتهم من محنتهم مع هذا الغريب الوافد لظلت حلقتهم مغلقة مسوّرة بخانق من العجز عن فهم اي شيء ... لجأوا للغة اجدادهم القدامى ولآلآف السنين بوضوح وبراءة وصدق تلك الاشارات التي حلّت لهم معضلة اهم ضرورات التواصل الانساني وهي اللغة ، فاخترعوا – عبر تجارب الحياة والسنين – لغة الاشارات ولغة ضربات الطبول ولغات الرنين برموز الطَرْقِ على المعادن ولغات النفخ في القرون المجوفة والقصب واشعال النيران على قمم الجبال كرسائل للبعيد البعيد ... اما لغة الاشارات فهي كانت لغة حيّة مفهومة في ادق اشاراتها ودلالاتها ومعانيها .. لغة واضحة نقية صافية لا كذب ولا خداع فيها مما يلوث اللغات العصرية من سخام الاكاذيب والزيف والدجل والمخاتلة واللف والدوران دون وضوح المقاصد المستورة والتي هي في غالبياتها اكاذيب وتلفيقات ومواجهات غير حقيقية تعتمد ابدا حيل الانسان ومخترعاته من تلاوين النفاق وعدم الجهر بالصدق واشاعة روح التيه بما هو مخادع من ظاهر الكلام ... لغة الاشارات تلك ما استعصى عليها شيء من الفهم حتى في تمييز الالوان والروائح وفي التعبير عن أدق وأرق الانسانيات مادية ومعنوية وعن الاصعب والاصعب من كل الحاجات في واقعياتها ومن مخزون الاستذكارات والاحلام والاماني الواضحة والمستورة .. الاشارات تلك كانت من لغة الروح ، لذا لم تتاخر في الوصول لمتلقيها والاستجابة لدوافعها وأهدافها غريزيا وبكل بساطة الحياة وحنانها وتوهجاتها في معطياتها المختلفة ...
ذلك الصبيّ الفتيّ الجميل بخضرة عينيه وشعره الفحمي اللامع ومن مخزون قوة غير عادية في يديه وصدره ورجليه والاهم في ارادته ... احتمل عذاب شكرية وبكل الوانه القاتمة الكئيبة المؤذية .. كل عصيّ الرمّان ما اهتزت بقسوتها على جلده ، المدمّرة فقط هي تلك الشتائم الوسخة المندلقة من الفم الملوث بالسموم والتي احرقت روح ابيه هي كانت الخاتمة لقراره النهائي الفرار رغم تعلقه بأخيه الاصغر عزّت ورغم محبته لمحلته الغزلاني طالما اصليل هو صديقه وجاره .. اصليل (الصبي الذئب ) بعرائه وحفائه ورجليه القصبيتين يصارع الريح وعواصف المطر في شوراع ودروب وساحات ومنعطفات وحدائق وكراجات وحانات شطوط النهر والغابات طائرا ككنغر مسليا بشر المدينة والاطفال بقفزاته .. ذلك الاخرس المسودّ بعرائه ابن جارتهم العجوز ... كانت تحبه وكم تمنّاها وحلم بها أمّاً .. ما كان اصليل يألف احدا .. هوذلك المستوحش الابدي من اسم الناس ورائحتهم وكل وجودهم لانهم مؤذون .. الأرملة العجوز العمياء ومن طعامها الفقير الذي ما زاد عن أقراص خبز وتمرات وبصل وفجل وحساء ماء مدهون في أيام متباعدة شهيّاً في أعين وذائقة الصبيّين بمحبة وحنان العمياء مع كركراتهما الضاجّة لطرائف العجوز وحكاياتها المسلّية ومن تلك الوليمة الفقيرة تملأ صحناً يأكل منه نجم ولا احد يصدق ان ذلك الصبي التائه عقلا أصليل يحتمل ان يشاركه احد في طعامه ... حدث ذلك مرة ومرات وكانت العمياء حامية له كلما عصف الغضب الهائج بشكرية ويتذكر انه كان يبيت مع أصليل عندما لا تجد العمياء حلا منقذا ومع فورة هياج شكرية لدرجة رعب من صوتها الصاخب الضاج بالتهديد فتضطرب العمياء حانية على الفتى المنكود دافعة به مخبوءا قافلة عليه غرفة بيتها الطينية الوحيدة .. العجوز حذرة من نوبات شكرية منتبهة تتذكر شكلها وشراستها قبل عماها كانت شرا ولعنة مسمومة واذى لكل الجيران مخيفة بجسدها الكبير وعينيها الصغيرتين الحادتين كباشق .. وما كان غريبا على العمياء وصف شكرية الاكيد بانها مسترجلة وان ضمها لقائمة النساء وخانة النساء هو خطأ فاحش وظلم لعذوبة وحنان النساء .
شتيمة بعد شتيمة بعد شتيمة وكان احطها واقذرها سفالة هي القاصمة الاخيرة لروح ابيه وذكراه .. لا يتذكر ان اباه كان سيئا ... وراسخ في عقله وروحه ان ذلك الاب يكفيه ان سبب موته كان مهنته الشاقة الخطرة في تهديم البيوت العتيقة من صلابة صخورها وعلو مبانيها وبادوات بدائية ثقيلة مرهقة .. هذا ما كان ابوه العائد ابدا لبيته ملوثا برائحة الجص والتراب مكدودا بنحوله وهزاله وتعبه مالئا بمنديل كبير طعام اهله .. هذا هو ابي ! فلماذا يا امي لا توقفين سيل الخراء من فمك الأرنبي المشوّه المعوج ... ضاعت كل نصائح الجيران ان تخفّف ولو قليلا من عدوانيتها تجاه المنكود فقرر امره وما تردد او حزن او تراجع عن قراره ...
رغم ان ذلك الضحى كان غيوما سودا وعواصف مطر وجنون طقس فقد بدأ مسيرته ملتحفا ببالطو ثخين وقرصين وثلاثة من الخبز .. تجاوز المدينة باتجاه الشمال بقرية وقريتين وثلاث .. كانت الارض في البداية مستوية ، ثم بدأت مرتفعة قليلا قليلا بحافات صخور ووديان صغيرة .. بعدها غابة .. كان المطر قد توقف وهدأت الطبيعة وارتسمت في طريقه ظلال من الغروب التمعت في رؤوس الاشجار والصخور الناتئة العالية .. ما كان خائفا وبات ليلته في شبه مغارة بمواجهة شجرة هرمة معمّرة حامية آنست روحه .. ما كان يحمل غير زوّادة الخبز وسكيّن مطمئنة .. كان متعبا واستراح لنوم لذيذ طال لساعات وانهته مساقط شمس دافئة لمطلع نهار صافٍ في في زرقة سمائه وتوهج ضيائه ... في ذلك الصباح بدا نشيطا ولم يشعر الا بتعب خفيف في قدميه .. بعصا صُلبة وسكين بدأ مسيراً جديداً اجتاز فيه برك ومساقط مياه ضحلة ومن خلال قصب شيطاني متطاول .. انهى مسيرة المياه والقصب منزعجاً من لزوجة الطين ليتواصل مع مسيرة رمل ووخزات شوك .. وبدت له من بعيد مرتفعات .. كانت جبالا جرداء وبلا ثلوج .. التف حولها .. بدأت تظهر له القرى .. ما استغربت القرى مروره الا في حالات نادرة حامت حوله الشكوك ، تجاوزها وبلا عناء ولغياب أكثرها من وجود لحكومة .. قرية بعد قرية بعد قرية .. تغيرت الوجوه وودّع في القرية التي غادرها منذ أيام اخر كلمة عربية واخر رغيف خبز من اخر تنور وكرم امراة عراقية .. رغم طول مسيره واختلاف القرى فقد طاول المسير وكانت التنانير ومعها حنان النساء هي مأواه وما أدام له الصبر والقوّة على تجاوز الامكنة والقرى .. قرى جديدة والازياء اختلفت مشرقة بالالوان الزاهية من حمراء وخضراء وزرقاء ومن كل لون بهيج .. واندحر في روحه ذلك الاسود الكئيب الذي ما نزعته شكرية ابدا وهو ما بدا له ولكثيرين طيلة سنين رمزا كاذبا لوفاء موهوم يخفي كمّا هائلا من كراهية غير مبررة .. هو الان يجتاز قرى الاغراب ويلقى فيها الماوى والامان حتى اغرته اكثر من قرية بالبقاء فيها لاي امد يرغب فيه .. تجاوز تلك الدعوات بحميميتها الأليفة وطارت به قدماه لقرى ابعد وكأنه يريد ان يبتعد اكثر واكثر من ذكرى ما تركه مع أن ذلك صار الان في البعيد البعيد .. المضني على مطاولة المسير صار يمسح شيئا شيئا من ذاكرته ملامح شكرية وهذا ما جعله مستغربا .. الملامح التي كانت راسخة في باصرته وبصيرته ومخيلته هي للعجوز العمياء وولدها اصليل ولملامح من الموصل وازقتها وشوارعها ومعها الشطوط والغابات ..
ادرك ذلك الفتى انه سار شوطا بعيدا عندما رأى حذاءه قد تهرأ وما عاد حذاء بل شرائط ممزقة وبلا كعوب ، وما حمى وانقذ رجليه غير حذاء اللباد السميك اهداه له بيت مزارع في القرية الاخيرة .. كان الصبي في فتوة فائرة ووسامة يتحسس وجودها وتأثيرها في أعين الاخرين وما غفل عن عيون الصبايا وهن يبحلقن تائهات في عينيه الخضراوين سارحات متمليات جسده ويديه وشعره مختفيات عن نظراته المثيرة سارقات ما يمكن ان يلحظن من اعجابه بوجودهن ان تهيأت له حينا لمحات من وجودهن الجميل ... في قرية جميلة وادعة محصّنة بجبل مهيب ، ومع ألفة مؤذن القرية وترحيبه وقبول رجالها به ... بات ليلته هانئا مطمئنا بوعد ان يصبح راعيا لقطيع صغير من غنم القرية .. بات ومع فجر يوم جديد اصبح راعيا شيئا شيئا أخذ يفكّ رموز اللغة الجديدة .. بعد اشهر وسنين صار متكلما بها واعيا لمعانيها ودلالاتها وأدقّ اشاراتها .. قوته وصبره وارادته وخلقه وصدقه ومحبة الاخرين رفعته لفلاح في مزرعة صغيرة محدودة وان بعدت عن القرية ... بعدها بسنين صارت ملكه ..يتأمل عزّت ذلك الجمع فيرى امرأة خجولة يبدو عليها النشاط والذكاء هي زوجته التي ما نطقت حتى الان بكلمة .. فقط هي تترقب وكمن يخشى من حدوث امر غير سار .. وبعد ان فهمت من مؤذن القرية ان عزّت جاء لاسترداد اخيه .. هي فقط ابتسمت وعلى حياء ... أبعد ستين سنة يبحثون عن ضائعهم ؟ ايّ قوم هؤلاء ؟! عزّت يمسح وجه زوجة أخيه بتقدير واحترام وليمرّ بعدها على ثلاثة وجوه مستفهمة حائرة لولدين وبنت .. هو العم لم يفهم حتى الان سرّ قلق الوجوه المستفهمة في نظراتها اليه وكأنه سارق يوشك على التقاط صيد ثمين ضاع منه منذ سنين .. وما كان يواجه نظراتهم تلك بغير الحنان فما جاء من اجله يكاد يزعزع ويهتك امان وسلام اسرتهم المتآلفة مع حبّ كبير للاب الطيب الوقور .. رغم ان الصمت صار هو المكان والحديث والعتاب ، فحتى هذا الصمت ما عاد مجديا وكل جهود عزّت ضاعت مع رفض الجميع وحتى لعودة الأسرة كلّها لموطن الاب الاصلي .. كل دفاعات عزّت اهتزت وتناثرت ومع كل قول انه ميسور في مدينته بتجارته الرابحة ومترف في اكوام من النقود وبأكثر من دار ستلم الغائب العائد واحدة منها ، وان كره ان يعيش متعطّلاً ومع هذا العمر فلأخيه اكثر من وسيلة يوفر له فيها عيشاً هانئاً .. ما تحسّس عزّت أية استجابة في وجه اخيه وكلما زاده اغراء نبعت على وجهه ملامح رفض وامتعاض وقهر واحزان كئيبة .. حتى عندما افهمه بالاشارات ان شكرية ماتت منذ سنين طويلة وما بقي من قبرها غير كسرات مهشمة من شاهدة مسودّة مغبرّة وغير كومة من تراب وأوراق قش وأشواك .. ظل وجهه غائما هامساً بصوت خفيض لمرّات عديدة : شكرية .. شكرية .. عندها اقفل عزّت على اي موضوع وتهيّأ للمغادرة حزينا مخذولا شاكرا لمؤذن القرية انسانيته التي لم يتحسس وجوداً لأمثالها في اي مكان فمدير الناحية ومختار القرية شكّا بأمره في البداية الضبابية لحضور نجم ، غير ان مؤذن الجامع وبعد طول اقامته معهم لسنين تكفله وطمأنهم بانه رجل مؤمن يؤدي الصلوات .. تدمع عيناه بنشيج كلما جاء ذكر لابراهيم واسماعيل ومحنة وحيرة المصرية هاجر مع ولدها الطريد .. تفيض عيناه لذكر فجيعة وصبر ايوب .. تراه مبهوتاً كلما نطقت شفتاه وترنمت بأسم يونس صاحب الحوت ودعاء استغفاره ثمّ وبرحمة من الله مطروحاً في عراء الساحل محميّا ومستأنساً بشجرة اليقطين .. تجدونه يشهق بدمع كلما قرأوا له سيرة يوسف وعذاب سجنه وغدر اخوته وحزن يعقوب .. ويبدو ملتاعاً متهجدا لدعاء زكريا .. مهموما لأحزان وقلق مريم رغم بشارة السماء .. وأضاف المؤذن :
مثل هذا لا يمكن ان يمتدّ اليه شكّ بمطامع وخبث دنيوي وشكوك مريبة .. ورغم كل ما حصل فعزّت ما كان مخطئأ في البحث عن اخيه وبعد ان التقطت اذناه ذلك الخبر الشاحب بان اخاه ما يزال حيّا وهو في البعيد البعيد فيما وراء الحدود ... أبعد هذا يستطيع الصبر ؟ وكيف يصبر وقد هاجت روحه بعبق البشارة المفرحة ... ما تكرر من موقف نجم غير تلك القبلات حنونة على وجه اخيه وغير تلك الكلمات الدافئة المترعة بالتذكر والأسى والحنين .. عزّت قرداش .. موسل .. شكرية .. اسليل .. كزلاني .. ومع حزن عزت ولوعة روحه فقد كان فخوراً بمثل هذا الاخ الذي وصفه مؤذن الجامع بانه من سلالة أيائل ووعول ، ليس بسبب صلابة قرونها الناطحة لصخور قمم الجبال دون ان تتكسّر ، بل لصلابة الروح .. ما كانت تلك القرون المتصلّبة الفولاذية هي ما عاندت حتى الصخور وناطحتها ، بل هي تلك الروح الحيّة للسلالة والاجداد عبر دهور من السنين .. تلك الروح التي ما صارعت قمم الجبال وحافات الحجارة الناتئة كسيوف مشرعة .. وهي التي جرّدت هامات الثلوج وزمهريرها وتجلّدها من اي تأثير .. وهي التي صبّرتها شامخة ساكنة معاندة ومع اعتى العواصف الثلجية وهي تبدو لناظريها مهيبة من قريب او بعيد متلألئة مضيئة بمساقط من ضياء الشمس في حالات الصحو .. وهي هي نفسها في دروس الصبر والاحتمال مع هياج النوء وجنون الريح .. تبدو كهياكل جامدة رغم حيويتها .. كتماثيل لأشور وسومر وفرعون محرّرة من اي تأثير لاختلاف الطقس وفي كل حالات صخبه وهيجانه .. هي هي تلك الروح الحيّة المحاذرة المنتبهة حتى لسقطة حصاة .. لولا تلك الروح لانقرض جنسها من ازمان موغلة في اعماق الماضي البعيد وكحال الهياكل العظمية المتفسخة البشعة للداينوصورات ومن منقرضات غيرها .. تلك الروح الحيّة هي التي اوصلت ولدكم الينا ..
لا أريد أن أزيد ، فانا لم اسمع أو أرى أو اقرأ عن قسوة أية امرأة بل أمّ ونجم يصفها مختصراً : امّي مخلوق بشراسة لبوة وسموم أفعى وغدر عقرب وقذارة تمساح .. اي بشاعة ووجع دفين جاء بهذا الوصف ، عجيب اخي عزّت أمر تلك المرأة وغريب ومستنكر ما فعلته مع مثل هذا الولد الجميل .. وكيف ضحّت به وكأنها ممسوحة من عاطفة الأمومة كعقربة تلتهم صغارها .. . وهذا ما ظلّ يكرره المؤذن في أذن عزّت ... ما عاد لبقاء عزّت في تلك الديار معنى .. ويوما بعد يوم صار التواصل معهم بلهجة الموصل عقيمة ومغلقة وحتى مع المؤذن بعربيته الفصيحة التي ما تجاوزت اذنيه لعقله وكانها لغة اجنبية ومع موضوع معقّد وحسّاس هو امل العودة بعد هجرة سنين طويلة ممطوطة شاحبة غائرة في البعيد .. شيء غير قابل للحل عندها بدت له اللغة مسألة كبيرة كان فيها خاسراً .. تذكر شقاوته وهروبه من المدرسة .. ايّة مدرسة دون ان يكمل فيها مرحلة تقود لمرحلة اكثر فائدة عندها تذكر ان امهم شكرية كانت تتفنن في معاقبتهم لاتفه المخالفات دون ان تجد في هروبنا من مدارسنا مخالفة احس الان بنتائجها المدمّرة وأبسطها جهلي بلغتنا واسمعها دون فهم من تركي يلهج بها بكل اعتزاز واقتدار .. هذا الامر هو ليس خسارتي الوحيدة فكم عانيت – وانا تاجر سيارات – من جهلي حتى بالارقام اقف مبهوتاً عاجزاً كأبله امام ارقام السيارات والصكوك ...
ماعاد عزّت يحتمل قلق وهواجس أبنة أخيه الاخيرة هدية زوجته له وبعد أن تجاوز عمر السبعين في شيخوخته .. كانت تبدو مرعوبة تصرخ بعمّها عزّت : تريدون ابي .. تأخذون ابي .. لا اعطيكم ابي .. يلاطفها العم بحنان مخفّفاً عنها .. قلقة تبتسم له ، لم تكن مطمئنة ، وما هدأت الا بعد ان غادرهم وحيداً وكما جاء وحيداً ..
ما عاد البقاء مجدياً وان زاد بعض ايام فهو دفق عواطف ليس غير .. تركتهم .. غادرت تلك القرية الجميلة ووجه اخي والنظرة الحانية للمؤذن وتمتمات غير مفهومة من زوجة اخي واولادها ومن قبلات الاحفاد .. كل ما فعلته انني تركت في الغربة أخا تركيا محزوناً رغم كل سعاداته ورفاهيته ، حرمته شكرية من نكهة وطنه وجرّدته حتى من اول حرف من اسمها الذي تبدّل في فمه ممسوخاً لسين ثخينة مضمومة ثقيلة كريهة ...
* هذه القصة واقعية في كل مشاهدها ، وليس للقاص غير الفضل في احالة تلك الرحلة العنيدة القاسية المضنية للصبيّ المهاجر ... لرحلة ورقٍ وكتابةٍ .
* أصليل أكع : الصبي الذئب تعرفه الموصل في خمسينيات القرن الماضي
* كزلاني : المقصود به الغزلاني وهو حيّ يقع في جنوب الموصل واصل التسمية الغزلاني لقب لصوفي مشهور عاش في تلك المنطقة وسمّيت باسمه .
للعودة إلى الصفحة الرئيسة
قصة قصيرة
أنور عبد العزيز
كل ذلك الكلام الكثير الهاديء في نغماته وسكونه وقناعاته المشوب حيناً بتوترات مؤذية وبوجع مرّ حزين ما أقنعت نجم بقرار العودة .. فهموا ذلك رغم انه لم يفه بكلمة واحدة مريحة ... عرفوا ذلك من غمامة سوداء اجتاحت ملامح وجهه المتصلب فتأكد للجميع ولأخيه عزّت ان ذلك الوجه وبالعينين الكابيتين قد حسم رفض العودة بقرار باتر قاطع كسكين ملتمعة بشفرة حادّة دون أن يكلّف فمه ولسانه بكلمة واحدة حتى لو بدت خافتة مهموسة ... مرّ نهار تبعه آخر وآخر وتطاولت امسيات وجلسات الحشد الصغير من نجم المهاجر وزوجته واولاده وأخيه عزّت القادم من البعيد وبعد مباركة مؤذن الجامع في تلك القرية الجبلية الأليفة .. ولولا العربية الفصيحة لمؤذن الجامع لما استطاع ذلك الجمع ان يلتمّ على نفسه بأنسانية التعارف واللقاء العجيب الذي جمع بين الأخوين بعد تيه وضياع نجم لستين عاما وأكثر ...
ذلك الصبي والفتى المتوهج بدفق الحياة وصلابة الجسد والروح احتمل لسنتين واكثر .. بعد موت أبيه .. حرائق عصا الرمّان شرائط وشروخاً في ساعديه وساقيه وظهره وحتى عبر خطوط في وجهه .. ما كان ابشعها وأشدّها إيلاماً عصيّ الرمان تبدّد فيها أمه شكرية احزان واقعها وأيام القهر بتلك الضربات الجنونية للفتى الطري بسنوات عمره وجلده واحلامه .. لم يجد ابدا سبباً مقنعاً لتلك القسوة الهمجية الشرسة والموقف المعادي ابدا لكل حركة او كلمة تصدر عنه وحتى لبريئات الافعال وحتى الكلام مما يصدف ان تصدر عن عمر غضّ لم يتسلح بعد بخبرات حياة ناضجة ، وكانت شكرية خانقة له برغباتها الجنونية الصادمة المطالبة ان يتصرف معها ومع كل شؤون الحياة المكشوفة والخفية باتزان رجولة كاملة وعقل واسع عليم .. وهذا ما لم يكن متمتعا به في كل حين وكما تريد ، وما كان مستساغا في عقله الصغير ان تحتمل اية نزوات منه وان بدت لكل البشر انها نزوات لابد ان تخترق وتجتاح من كان في مثل عمره وفورانه ..
حاوروه وداروا به مع كل حديث وباشارات من كلام مفهوم وغير مفهوم ... فما استجاب لهم الا بذهول ووجه حزين وعينين غاصتين بدمع مقهور وبالتفاتته لرأس ووجه وعيني اخيه عزّت يقبلّه صامتا هامسا بكلمات غير منطوقة وكأنه هو فقط من يسمعها : شكرية .. شكرية .. موسل .. أصليل أكع ... شكرية .. شكرية .. كزلاني ذلك الجمع غابت عنه فائدة كل لغة .. فلا العربية نفعت ولا التركية ولولا العربية الفصيحة لمؤذن جامع القرية لانقطعت ايّة وشيجة انسانية معبرة بينهم .. وحتى تلك الفصيحة ما نفعت عزّت الا بنثار كلمات محدودة .. عزّت القادم من بعيد ليسترد اخاه كان هو ايضا محروما من تعليم متكامل وحتى من حدود دنيا ، فهو لا يتذكر من تحصيله غير سنتين في الابتدائية منذ عمر بعيد تكفلت السنون بضياع ونسيان ما حفظه من نزر كلمات فصيحة .. والمؤذن لم يلهج الا بالفصيحة التي بدت لعزّت وكانها لغة اجنبية .. والمؤذن لم يفهم من عامية عزّت بموصليتها غير لغة اجنبية قياسا لعربيته النقية المضيئة ... لم يكن ذلك الجمع الصغير من الخرسان ، ولكن ما جرى وتداولوه بمعاناة عسيرة كان فعلا ( حوار طرشان ) وان كانت اذانهم اكثر حساسية وارق سمعاً من فأر .... ورغم كل محاولاتهم في التواصل فما ازدادت ارواحهم الا توترا بمواجهة غموض الكلمات وانغلاقها وتيه معانيها .. ولولا لغة الاشارات التي حرّرتهم من محنتهم مع هذا الغريب الوافد لظلت حلقتهم مغلقة مسوّرة بخانق من العجز عن فهم اي شيء ... لجأوا للغة اجدادهم القدامى ولآلآف السنين بوضوح وبراءة وصدق تلك الاشارات التي حلّت لهم معضلة اهم ضرورات التواصل الانساني وهي اللغة ، فاخترعوا – عبر تجارب الحياة والسنين – لغة الاشارات ولغة ضربات الطبول ولغات الرنين برموز الطَرْقِ على المعادن ولغات النفخ في القرون المجوفة والقصب واشعال النيران على قمم الجبال كرسائل للبعيد البعيد ... اما لغة الاشارات فهي كانت لغة حيّة مفهومة في ادق اشاراتها ودلالاتها ومعانيها .. لغة واضحة نقية صافية لا كذب ولا خداع فيها مما يلوث اللغات العصرية من سخام الاكاذيب والزيف والدجل والمخاتلة واللف والدوران دون وضوح المقاصد المستورة والتي هي في غالبياتها اكاذيب وتلفيقات ومواجهات غير حقيقية تعتمد ابدا حيل الانسان ومخترعاته من تلاوين النفاق وعدم الجهر بالصدق واشاعة روح التيه بما هو مخادع من ظاهر الكلام ... لغة الاشارات تلك ما استعصى عليها شيء من الفهم حتى في تمييز الالوان والروائح وفي التعبير عن أدق وأرق الانسانيات مادية ومعنوية وعن الاصعب والاصعب من كل الحاجات في واقعياتها ومن مخزون الاستذكارات والاحلام والاماني الواضحة والمستورة .. الاشارات تلك كانت من لغة الروح ، لذا لم تتاخر في الوصول لمتلقيها والاستجابة لدوافعها وأهدافها غريزيا وبكل بساطة الحياة وحنانها وتوهجاتها في معطياتها المختلفة ...
ذلك الصبيّ الفتيّ الجميل بخضرة عينيه وشعره الفحمي اللامع ومن مخزون قوة غير عادية في يديه وصدره ورجليه والاهم في ارادته ... احتمل عذاب شكرية وبكل الوانه القاتمة الكئيبة المؤذية .. كل عصيّ الرمّان ما اهتزت بقسوتها على جلده ، المدمّرة فقط هي تلك الشتائم الوسخة المندلقة من الفم الملوث بالسموم والتي احرقت روح ابيه هي كانت الخاتمة لقراره النهائي الفرار رغم تعلقه بأخيه الاصغر عزّت ورغم محبته لمحلته الغزلاني طالما اصليل هو صديقه وجاره .. اصليل (الصبي الذئب ) بعرائه وحفائه ورجليه القصبيتين يصارع الريح وعواصف المطر في شوراع ودروب وساحات ومنعطفات وحدائق وكراجات وحانات شطوط النهر والغابات طائرا ككنغر مسليا بشر المدينة والاطفال بقفزاته .. ذلك الاخرس المسودّ بعرائه ابن جارتهم العجوز ... كانت تحبه وكم تمنّاها وحلم بها أمّاً .. ما كان اصليل يألف احدا .. هوذلك المستوحش الابدي من اسم الناس ورائحتهم وكل وجودهم لانهم مؤذون .. الأرملة العجوز العمياء ومن طعامها الفقير الذي ما زاد عن أقراص خبز وتمرات وبصل وفجل وحساء ماء مدهون في أيام متباعدة شهيّاً في أعين وذائقة الصبيّين بمحبة وحنان العمياء مع كركراتهما الضاجّة لطرائف العجوز وحكاياتها المسلّية ومن تلك الوليمة الفقيرة تملأ صحناً يأكل منه نجم ولا احد يصدق ان ذلك الصبي التائه عقلا أصليل يحتمل ان يشاركه احد في طعامه ... حدث ذلك مرة ومرات وكانت العمياء حامية له كلما عصف الغضب الهائج بشكرية ويتذكر انه كان يبيت مع أصليل عندما لا تجد العمياء حلا منقذا ومع فورة هياج شكرية لدرجة رعب من صوتها الصاخب الضاج بالتهديد فتضطرب العمياء حانية على الفتى المنكود دافعة به مخبوءا قافلة عليه غرفة بيتها الطينية الوحيدة .. العجوز حذرة من نوبات شكرية منتبهة تتذكر شكلها وشراستها قبل عماها كانت شرا ولعنة مسمومة واذى لكل الجيران مخيفة بجسدها الكبير وعينيها الصغيرتين الحادتين كباشق .. وما كان غريبا على العمياء وصف شكرية الاكيد بانها مسترجلة وان ضمها لقائمة النساء وخانة النساء هو خطأ فاحش وظلم لعذوبة وحنان النساء .
شتيمة بعد شتيمة بعد شتيمة وكان احطها واقذرها سفالة هي القاصمة الاخيرة لروح ابيه وذكراه .. لا يتذكر ان اباه كان سيئا ... وراسخ في عقله وروحه ان ذلك الاب يكفيه ان سبب موته كان مهنته الشاقة الخطرة في تهديم البيوت العتيقة من صلابة صخورها وعلو مبانيها وبادوات بدائية ثقيلة مرهقة .. هذا ما كان ابوه العائد ابدا لبيته ملوثا برائحة الجص والتراب مكدودا بنحوله وهزاله وتعبه مالئا بمنديل كبير طعام اهله .. هذا هو ابي ! فلماذا يا امي لا توقفين سيل الخراء من فمك الأرنبي المشوّه المعوج ... ضاعت كل نصائح الجيران ان تخفّف ولو قليلا من عدوانيتها تجاه المنكود فقرر امره وما تردد او حزن او تراجع عن قراره ...
رغم ان ذلك الضحى كان غيوما سودا وعواصف مطر وجنون طقس فقد بدأ مسيرته ملتحفا ببالطو ثخين وقرصين وثلاثة من الخبز .. تجاوز المدينة باتجاه الشمال بقرية وقريتين وثلاث .. كانت الارض في البداية مستوية ، ثم بدأت مرتفعة قليلا قليلا بحافات صخور ووديان صغيرة .. بعدها غابة .. كان المطر قد توقف وهدأت الطبيعة وارتسمت في طريقه ظلال من الغروب التمعت في رؤوس الاشجار والصخور الناتئة العالية .. ما كان خائفا وبات ليلته في شبه مغارة بمواجهة شجرة هرمة معمّرة حامية آنست روحه .. ما كان يحمل غير زوّادة الخبز وسكيّن مطمئنة .. كان متعبا واستراح لنوم لذيذ طال لساعات وانهته مساقط شمس دافئة لمطلع نهار صافٍ في في زرقة سمائه وتوهج ضيائه ... في ذلك الصباح بدا نشيطا ولم يشعر الا بتعب خفيف في قدميه .. بعصا صُلبة وسكين بدأ مسيراً جديداً اجتاز فيه برك ومساقط مياه ضحلة ومن خلال قصب شيطاني متطاول .. انهى مسيرة المياه والقصب منزعجاً من لزوجة الطين ليتواصل مع مسيرة رمل ووخزات شوك .. وبدت له من بعيد مرتفعات .. كانت جبالا جرداء وبلا ثلوج .. التف حولها .. بدأت تظهر له القرى .. ما استغربت القرى مروره الا في حالات نادرة حامت حوله الشكوك ، تجاوزها وبلا عناء ولغياب أكثرها من وجود لحكومة .. قرية بعد قرية بعد قرية .. تغيرت الوجوه وودّع في القرية التي غادرها منذ أيام اخر كلمة عربية واخر رغيف خبز من اخر تنور وكرم امراة عراقية .. رغم طول مسيره واختلاف القرى فقد طاول المسير وكانت التنانير ومعها حنان النساء هي مأواه وما أدام له الصبر والقوّة على تجاوز الامكنة والقرى .. قرى جديدة والازياء اختلفت مشرقة بالالوان الزاهية من حمراء وخضراء وزرقاء ومن كل لون بهيج .. واندحر في روحه ذلك الاسود الكئيب الذي ما نزعته شكرية ابدا وهو ما بدا له ولكثيرين طيلة سنين رمزا كاذبا لوفاء موهوم يخفي كمّا هائلا من كراهية غير مبررة .. هو الان يجتاز قرى الاغراب ويلقى فيها الماوى والامان حتى اغرته اكثر من قرية بالبقاء فيها لاي امد يرغب فيه .. تجاوز تلك الدعوات بحميميتها الأليفة وطارت به قدماه لقرى ابعد وكأنه يريد ان يبتعد اكثر واكثر من ذكرى ما تركه مع أن ذلك صار الان في البعيد البعيد .. المضني على مطاولة المسير صار يمسح شيئا شيئا من ذاكرته ملامح شكرية وهذا ما جعله مستغربا .. الملامح التي كانت راسخة في باصرته وبصيرته ومخيلته هي للعجوز العمياء وولدها اصليل ولملامح من الموصل وازقتها وشوارعها ومعها الشطوط والغابات ..
ادرك ذلك الفتى انه سار شوطا بعيدا عندما رأى حذاءه قد تهرأ وما عاد حذاء بل شرائط ممزقة وبلا كعوب ، وما حمى وانقذ رجليه غير حذاء اللباد السميك اهداه له بيت مزارع في القرية الاخيرة .. كان الصبي في فتوة فائرة ووسامة يتحسس وجودها وتأثيرها في أعين الاخرين وما غفل عن عيون الصبايا وهن يبحلقن تائهات في عينيه الخضراوين سارحات متمليات جسده ويديه وشعره مختفيات عن نظراته المثيرة سارقات ما يمكن ان يلحظن من اعجابه بوجودهن ان تهيأت له حينا لمحات من وجودهن الجميل ... في قرية جميلة وادعة محصّنة بجبل مهيب ، ومع ألفة مؤذن القرية وترحيبه وقبول رجالها به ... بات ليلته هانئا مطمئنا بوعد ان يصبح راعيا لقطيع صغير من غنم القرية .. بات ومع فجر يوم جديد اصبح راعيا شيئا شيئا أخذ يفكّ رموز اللغة الجديدة .. بعد اشهر وسنين صار متكلما بها واعيا لمعانيها ودلالاتها وأدقّ اشاراتها .. قوته وصبره وارادته وخلقه وصدقه ومحبة الاخرين رفعته لفلاح في مزرعة صغيرة محدودة وان بعدت عن القرية ... بعدها بسنين صارت ملكه ..يتأمل عزّت ذلك الجمع فيرى امرأة خجولة يبدو عليها النشاط والذكاء هي زوجته التي ما نطقت حتى الان بكلمة .. فقط هي تترقب وكمن يخشى من حدوث امر غير سار .. وبعد ان فهمت من مؤذن القرية ان عزّت جاء لاسترداد اخيه .. هي فقط ابتسمت وعلى حياء ... أبعد ستين سنة يبحثون عن ضائعهم ؟ ايّ قوم هؤلاء ؟! عزّت يمسح وجه زوجة أخيه بتقدير واحترام وليمرّ بعدها على ثلاثة وجوه مستفهمة حائرة لولدين وبنت .. هو العم لم يفهم حتى الان سرّ قلق الوجوه المستفهمة في نظراتها اليه وكأنه سارق يوشك على التقاط صيد ثمين ضاع منه منذ سنين .. وما كان يواجه نظراتهم تلك بغير الحنان فما جاء من اجله يكاد يزعزع ويهتك امان وسلام اسرتهم المتآلفة مع حبّ كبير للاب الطيب الوقور .. رغم ان الصمت صار هو المكان والحديث والعتاب ، فحتى هذا الصمت ما عاد مجديا وكل جهود عزّت ضاعت مع رفض الجميع وحتى لعودة الأسرة كلّها لموطن الاب الاصلي .. كل دفاعات عزّت اهتزت وتناثرت ومع كل قول انه ميسور في مدينته بتجارته الرابحة ومترف في اكوام من النقود وبأكثر من دار ستلم الغائب العائد واحدة منها ، وان كره ان يعيش متعطّلاً ومع هذا العمر فلأخيه اكثر من وسيلة يوفر له فيها عيشاً هانئاً .. ما تحسّس عزّت أية استجابة في وجه اخيه وكلما زاده اغراء نبعت على وجهه ملامح رفض وامتعاض وقهر واحزان كئيبة .. حتى عندما افهمه بالاشارات ان شكرية ماتت منذ سنين طويلة وما بقي من قبرها غير كسرات مهشمة من شاهدة مسودّة مغبرّة وغير كومة من تراب وأوراق قش وأشواك .. ظل وجهه غائما هامساً بصوت خفيض لمرّات عديدة : شكرية .. شكرية .. عندها اقفل عزّت على اي موضوع وتهيّأ للمغادرة حزينا مخذولا شاكرا لمؤذن القرية انسانيته التي لم يتحسس وجوداً لأمثالها في اي مكان فمدير الناحية ومختار القرية شكّا بأمره في البداية الضبابية لحضور نجم ، غير ان مؤذن الجامع وبعد طول اقامته معهم لسنين تكفله وطمأنهم بانه رجل مؤمن يؤدي الصلوات .. تدمع عيناه بنشيج كلما جاء ذكر لابراهيم واسماعيل ومحنة وحيرة المصرية هاجر مع ولدها الطريد .. تفيض عيناه لذكر فجيعة وصبر ايوب .. تراه مبهوتاً كلما نطقت شفتاه وترنمت بأسم يونس صاحب الحوت ودعاء استغفاره ثمّ وبرحمة من الله مطروحاً في عراء الساحل محميّا ومستأنساً بشجرة اليقطين .. تجدونه يشهق بدمع كلما قرأوا له سيرة يوسف وعذاب سجنه وغدر اخوته وحزن يعقوب .. ويبدو ملتاعاً متهجدا لدعاء زكريا .. مهموما لأحزان وقلق مريم رغم بشارة السماء .. وأضاف المؤذن :
مثل هذا لا يمكن ان يمتدّ اليه شكّ بمطامع وخبث دنيوي وشكوك مريبة .. ورغم كل ما حصل فعزّت ما كان مخطئأ في البحث عن اخيه وبعد ان التقطت اذناه ذلك الخبر الشاحب بان اخاه ما يزال حيّا وهو في البعيد البعيد فيما وراء الحدود ... أبعد هذا يستطيع الصبر ؟ وكيف يصبر وقد هاجت روحه بعبق البشارة المفرحة ... ما تكرر من موقف نجم غير تلك القبلات حنونة على وجه اخيه وغير تلك الكلمات الدافئة المترعة بالتذكر والأسى والحنين .. عزّت قرداش .. موسل .. شكرية .. اسليل .. كزلاني .. ومع حزن عزت ولوعة روحه فقد كان فخوراً بمثل هذا الاخ الذي وصفه مؤذن الجامع بانه من سلالة أيائل ووعول ، ليس بسبب صلابة قرونها الناطحة لصخور قمم الجبال دون ان تتكسّر ، بل لصلابة الروح .. ما كانت تلك القرون المتصلّبة الفولاذية هي ما عاندت حتى الصخور وناطحتها ، بل هي تلك الروح الحيّة للسلالة والاجداد عبر دهور من السنين .. تلك الروح التي ما صارعت قمم الجبال وحافات الحجارة الناتئة كسيوف مشرعة .. وهي التي جرّدت هامات الثلوج وزمهريرها وتجلّدها من اي تأثير .. وهي التي صبّرتها شامخة ساكنة معاندة ومع اعتى العواصف الثلجية وهي تبدو لناظريها مهيبة من قريب او بعيد متلألئة مضيئة بمساقط من ضياء الشمس في حالات الصحو .. وهي هي نفسها في دروس الصبر والاحتمال مع هياج النوء وجنون الريح .. تبدو كهياكل جامدة رغم حيويتها .. كتماثيل لأشور وسومر وفرعون محرّرة من اي تأثير لاختلاف الطقس وفي كل حالات صخبه وهيجانه .. هي هي تلك الروح الحيّة المحاذرة المنتبهة حتى لسقطة حصاة .. لولا تلك الروح لانقرض جنسها من ازمان موغلة في اعماق الماضي البعيد وكحال الهياكل العظمية المتفسخة البشعة للداينوصورات ومن منقرضات غيرها .. تلك الروح الحيّة هي التي اوصلت ولدكم الينا ..
لا أريد أن أزيد ، فانا لم اسمع أو أرى أو اقرأ عن قسوة أية امرأة بل أمّ ونجم يصفها مختصراً : امّي مخلوق بشراسة لبوة وسموم أفعى وغدر عقرب وقذارة تمساح .. اي بشاعة ووجع دفين جاء بهذا الوصف ، عجيب اخي عزّت أمر تلك المرأة وغريب ومستنكر ما فعلته مع مثل هذا الولد الجميل .. وكيف ضحّت به وكأنها ممسوحة من عاطفة الأمومة كعقربة تلتهم صغارها .. . وهذا ما ظلّ يكرره المؤذن في أذن عزّت ... ما عاد لبقاء عزّت في تلك الديار معنى .. ويوما بعد يوم صار التواصل معهم بلهجة الموصل عقيمة ومغلقة وحتى مع المؤذن بعربيته الفصيحة التي ما تجاوزت اذنيه لعقله وكانها لغة اجنبية ومع موضوع معقّد وحسّاس هو امل العودة بعد هجرة سنين طويلة ممطوطة شاحبة غائرة في البعيد .. شيء غير قابل للحل عندها بدت له اللغة مسألة كبيرة كان فيها خاسراً .. تذكر شقاوته وهروبه من المدرسة .. ايّة مدرسة دون ان يكمل فيها مرحلة تقود لمرحلة اكثر فائدة عندها تذكر ان امهم شكرية كانت تتفنن في معاقبتهم لاتفه المخالفات دون ان تجد في هروبنا من مدارسنا مخالفة احس الان بنتائجها المدمّرة وأبسطها جهلي بلغتنا واسمعها دون فهم من تركي يلهج بها بكل اعتزاز واقتدار .. هذا الامر هو ليس خسارتي الوحيدة فكم عانيت – وانا تاجر سيارات – من جهلي حتى بالارقام اقف مبهوتاً عاجزاً كأبله امام ارقام السيارات والصكوك ...
ماعاد عزّت يحتمل قلق وهواجس أبنة أخيه الاخيرة هدية زوجته له وبعد أن تجاوز عمر السبعين في شيخوخته .. كانت تبدو مرعوبة تصرخ بعمّها عزّت : تريدون ابي .. تأخذون ابي .. لا اعطيكم ابي .. يلاطفها العم بحنان مخفّفاً عنها .. قلقة تبتسم له ، لم تكن مطمئنة ، وما هدأت الا بعد ان غادرهم وحيداً وكما جاء وحيداً ..
ما عاد البقاء مجدياً وان زاد بعض ايام فهو دفق عواطف ليس غير .. تركتهم .. غادرت تلك القرية الجميلة ووجه اخي والنظرة الحانية للمؤذن وتمتمات غير مفهومة من زوجة اخي واولادها ومن قبلات الاحفاد .. كل ما فعلته انني تركت في الغربة أخا تركيا محزوناً رغم كل سعاداته ورفاهيته ، حرمته شكرية من نكهة وطنه وجرّدته حتى من اول حرف من اسمها الذي تبدّل في فمه ممسوخاً لسين ثخينة مضمومة ثقيلة كريهة ...
* هذه القصة واقعية في كل مشاهدها ، وليس للقاص غير الفضل في احالة تلك الرحلة العنيدة القاسية المضنية للصبيّ المهاجر ... لرحلة ورقٍ وكتابةٍ .
* أصليل أكع : الصبي الذئب تعرفه الموصل في خمسينيات القرن الماضي
* كزلاني : المقصود به الغزلاني وهو حيّ يقع في جنوب الموصل واصل التسمية الغزلاني لقب لصوفي مشهور عاش في تلك المنطقة وسمّيت باسمه .
للعودة إلى الصفحة الرئيسة