ثنائية الدمّ والنار في ديوان: (النار لا تلهمني غير دمي) ـ
انور عبد العزيز
هل أبدأ ( بالإهداء الجميل لديوانه لي بعبارات مضيئة لخّصت عمرين : عمر قصائده الأولى بديوان : ( فاتحة النار ) 1974 وعمر ما فعلته تلك القصائد وما حفرته السنون ومن ضنى الوجع الإنساني في عمر الشاعر ..
يكتب عبد الوهاب اسماعيل (1945) هديته فيقول: ( بدأت فاتحة النار عام 1974 وظلّت حرائقها تحاصرني وتلاحقني وتجمر أضلاعي كي أتنفّس حرّها وأنضح في يابس أيامها ضلالي وظلالي التي أوهمتني بسراب الحلم وألهمتني دمي الذي ضاع وبقيت منه هذه الخربشات على الورق) .. هكذا إذن يا عبد الوهاب كل ذلك الوجع الإنساني والأنين يستحيل الى خربشات يا لضيعة من يمنح هذه الدنيا أكثر من استحقاقاتها ! ونتأمل الغلاف الأخير للديوان فنرى الشاعر قد اختار مقطعاً من قصيدة لخّصت وجمعت وأبانت عن كل تعب الدنيا ومخزون الألم في ديوان الشاعر: (وتمادى الجرح في الملح وشبنا / ونبا السهم وطاش ../ كان عمراً صرصراً / هامت مراجيح المنى فيه / وغامت غصّة الورد / بأحداق الفراش ../ فاسألي هذا الظما / من أيّ عصر سكن العظم ؟ / ألم تحفل به أرواحنا يوماً ؟ / سلي قارورة الجمر ،/ لماذا الموت يردينا ولم نسقِ العطاش ؟../)
( النار لا تلهمني غير دمي ) ديوان للشاعر عبد الوهاب اسماعيل صادر عن مطبعة الديار بالموصل / 2013 من أو في أربع وأربعين صفحة ومائة من القطع المتوسط وبغلاف جميل مثير ملتهب بجمرات الشعر والحياة معاً .. وجاء هذا الديوان – لا أقول نهاية – بل تواصلاً لمشروع شعري إبداعي باذخ معتز بالتراث الشعري العربي وتقاليده وآلياته وعلى وفق منظور عصري حيوي متطور .. فاتحة النار 1974 ، طقس آخر 1987 ، هواجس على مرآة خاصة 2001 ، لا فضاء سوى وحشتي 2007 ، غصون المنتهى 2010 ، صبوات متأخرة 2013 .. هذا فضلاً عن العديد من المساهمات المشتركة شعرية ، ومن شعريات مسرحية مشتركة مع الشاعر المبدع معد الجبوري .. كما ان له عشر مخطوطات ستضيئها مستقبلاً حروف المطابع بإذن الله .. يضاف لذلك ولع الشاعر واهتماماته ومتابعاته للشعر الشعبي وبخصوصيات نبضه الحميم وبالإحتفاء بالمضيء الأثير منه والحرص على نشر نماذجه ومع أيّة فرصة للنشر ، وكان ذلك متواصلاً يوم كان الشاعر مديراً لتحرير جريدة الحدباء لسنوات ..
هي أربع وعشرون قصيدة تلفحها نيران الهجير .. النار وبضراوتها شكّلت ( وحدة موضوع متجانس ) للديوان عبر كلّ قصائده .. هذا هو إذن الديوان عندما يكون قصائد كثيرة هي - كل تلك القصائد - تبدو وببساطة وبذائقة غالبية من القرّاء والمتلقّين قصيدة ثريّة واحدة مضمومة ملمومة وبحنو وحنان على أوجاع الشاعر وبخصوصيتها وعلى أوجاع دنياه بتفتح إنساني بعيد عن أيّة أحزان شخصية مغلقة ومنكفئة على نفسها ومع محاولات الشاعر أن يبتعد بها عن أيّة ذاتية إلاّ ما تواصل بوشائج مع ذاتيات الآخرين وهمومهم ومواجعهم فهو يتحسس أبداً ان إشكاليات الوجود واحدة تمسّ كل الآخرين بحرائقها .
قبل أن أتغلغل لحميميات نبض الشاعر في قصائده، وقبل أن أتسرّب بذائقتي في ثناياها، وقبل أن أنتشي بمذاقها السحري رغم موجعاته بل ومع هذه الموجعات .. أتوقّف عند العنوان .. عنوان الديوان .. مؤملا من قارئيه أن يتوقفوا عنده لسبر مضمونه ورمزياته ودلالاته وإشاراته .. حقاً إذا قالوا : العنوان هو " ثريّا النص " وأشهر من عرف بها هو القاصّ الراحل محمود عبد الوهاب .. وتوالى كثيرون في التركيز على حكاية العنوان ومدلولاته ، حتى ان منهم من اقترب من حدّ المبالغة – ربّما – ليؤكد ان العنوان هو القصّة كلّها أو القصيدة كلّها أو ( النص ) كلّه .. هي إذن وجهات نظر حتى إذا اختلف معها في الحكم عليها النقاد والأدباء والقرّاء ، فهي تظل محترمة ومقبولة طالما هي ( قناعات) وحتى في تطرفها عند البعض ..
عنوان ديوان الشاعر عبدالوهاب اسماعيل: (النار لا تلهمني غير دمي) .. مقولة أو أطروحة : النار والدم أو الدم والنار .. هذا التأكيد على هذه الوحدة حياتيا وعضويا لغة .. النار كانت أبداً فاتحة حضارة .. والدم هو الحياة منذ أول قطرة أهدرها قابيل من دم أخيه .. النار والدم .. هما إذن وهج حضارة وديمومة حياة رائعة .. وهما هما أيضاً – يا لبؤسهما وبؤس الإنسان معهما – كانا وسيظلان أبدا حرائق موت ودم وحروب بشعة مروّعة على كل أرض وفي كل زمان ومع كل بشر .. ورغم مرور آلاف السنين على إنسان هذه الارض البائسة ، فهو لم يستطع توظيفهما – النار والدم – لسعادته إلاّ قليلاً قياساً لشهواته المستعرة الهمجية الوحشية ان يحصر فائدتهما في القتل والموت وأن يوسع أبداً التفاعل والتعاطي معهما ، في هاتين النزعتين الشريرتين لكي يرسّخ مفهوم العبودية واللاعدالة ومفهوم السيادة على الآخرين بأبشع حالات البطش من مخترعات النار والتي عجّلت في اختراع البارود لها تسريعاً وتوسيعاً لحالات ومساحات الموت ..
في (الإهداء) الذي يوجهّه الشاعر لقرّائه وأحبّته .. يختصر- وكما في غالبية دواوينه – تلك الأطروحة الأثيرة عند الشاعر: عبثية الحياة ومفهومها التائه .. محنة الوجود ونهاية الموت الأليمة .. ومع الموت يصل الشاعر – في أكثر من قصيدة لحالة رعب صوفيّة يخفيها أو يكشفها بأمل الخلاص وبأمل العفو عن كل ما اجترحه الإنسان – أيّ إنسان – في تخبطاته الحياتية ومع الوجود ..
يهدي الديوان فيقول نثراً وبلغة هي أيضاً من روح الشعر ومن أحزان الشاعر: ( إلى خلاّن الصفاء .. من سبق منهم ومن ينتظر .. وما بدّلوا تبديلا .. إليهمو .. وكأن العمر سويعات .. لم نكد نتلمّس دبيب عقاربها .. حتى داهمتنا بدقّاتها .. معلنة انتصافها منّا .. قبل أن ينتصف الفرح .. سويعات .. رأينا نذور غروبها وراء الأفق البعيد .. تلوِّح لنا بعباءاتها .. لتأخذنا إلى غيابة الصمت .. قبل أن تكتمل الرؤيا بأقمارها ، وقبل أن يدلوا السيّارة بدلوهم في مغاليق الحلم .... إلى الأحبّة الذين أتنفّس عبقهم ، وتصخب ذاكرتي بأسمائهم .. أصدقائي .. إليهمو .. عسى أن تسعدهم هذه الكلمات ...)
أيّما شجىً وأيّ حزن مرٍّ في هذه الكلمات .. وتأملْ معي قارئي العزيز – تصخب ذاكرتي بأسمائهم .. وقِفْ عند ( تصخب ) رمز محبّة ووفاء لأصدقائه وناس دنياه فما كان الشاعر إلاّ محبّا للجميع ، وما كان يخشاه هو أنْ تمسّه كراهية أحد .. كان أبداً يبحث عن صديق شاطباً أية فكرة لمعاداة الآخرين وخسارة محبّتهم .. ونعرف أيضاً من ( تصخب ) ان أصدقاء الشاعر كانوا كثرة وهو كان أبداً إنساناً بسيطاً غير منغلق على نفسه وما كان متباهياً مصاباً بغرورٍ أعمى ونرجسياتٍ كريهة من تلك التي أوصلت بعض المبتلين بها لحالات اقتربت أن تكون مريضة .. وكان هو الشاعر الذي يهمه أبداً أن يكون مضموماً في قلوب الجميع إذ رغم مرور السنين وتلاحق أعمار من غابوا ومن بقوا ، فإن الجميع ما يزالون – رغم شيخوخة العمر- تصهل ذاكرته بهم وتصهل كل واقعيات حياتهم وخفاياها في عقله وقلبه وروحه وضميره وكم كان صريحاً واضحاً مكشوفاً بعواطفه ازاء الجميع وما سعى أبداً لترهات تشغله عن منجزه الإبداعي تواصلاً عصرياً متطوراً مأخوذاً بدهشة التراث الشعري العربي - وبخصوصيات إبداعاته عند أكثر من شاعر- وبما أرساه عبقري البصرة الفنان الموسيقي الكبير الفراهيدي ..
القصيدة الأولى في الديوان هي بطولها وموضوعتها تكاد تشكل مشروع ملحمة مما قرأنا من ملاحم بأجوائها وطروحاتها ومشاعرها الإنسانية الظاهرة والدفينة المخبوءة في أعماق النفس :
( ماذا بعد الراح ؟.. / موتان ، ووجهي يتكدّس بينهما / وأموت بأودية الرهبة ، محزوناً ../ موتان ، وقلبي يجلد غربة روحي ../ علّقني بالصبر وبالعذر سنينا ../ أزوابع حلم ؟ تذروها عثرات العمر ، ورمضاء النزوة كنت أنا ؟../ أم رفّة عصفور ، في صبح مكسور الغزوة ؟ / أم خفق رياح ؟../ فالسوق وقد أغلق بوابته ، أودعني لرحيل الجمر بأضلاعي ../ والبوق وقد أرهق سبّابته / أشّرني بحفيف الحشرِ لأوجاعي ../ ومغاليق الرحمة ضاقتْ ../ والرحمة تكمن في قارعة المفتاحْ ../) ...
ونظلّ نهدر حبّاً وحزناً وحنيناً وأنيناً وخشية وخشوعاً وعناد حياة وخوف نهايات ورجاءً وأملاً واستعادة ( تذكارات ) مضت وانتهت وشحبت حتى في الذاكرة .. وتشبثاً بمأمول ما هو آتٍ رغم مجهوليات عواصفه وغضبه أو رضاه و.. و ... كثير كثير مما اختزنته هذه القصيدة ، وإذ هي استغرقت وأخذت من بدايات الديوان بنفسها الملحمي – وبكل استحقاق - ست عشرة صفحة وهي بعنوان : ( أودعني في الظلّ المسجور ) ومن موجعات الحالة الوجودية الشخصانية للشاعر وإذ هي – رغم خصوصيتها – قد تنعكس على الآخرين نقرأ في ( هكذا ) : ( واحد أنت أم أربعة ؟ / تتقطع ساقية / تكسر الماء في حلقها / وتجفّ على حافة المزرعة ../ واحدٌ أنت أم أربعة ../ تلك آمالك الألف وانسفحت ../ كي تكون مع الصبر / أجلد من جَلَد الظهر للبرذعة .../)
ويتواصل سليل الشعر العربي بموسيقاه فيقول : ( أفما كان حقّاً عليكْ ../ أن يريح الونى والديك ../ فلماذا اندفقت من الصُلب / قبل اكتمال الصليب / وكلّ الترائب موجعة موجعه ../ واحدٌ أنت / أم انت حزمةٌ من قصب ؟../ تجرح الماء حول المعابر / كي لا يطال الرّكَب ../ واحدٌ أنت أم أربعون ؟../ أتسمّي حماقات عمرك أسماءها ؟ / أم تثير الصبابات حدّ الجنون ؟ ../ هل تحوّلت عن قرن ثور ؟ / أمرّت على الأرض / في همهمات الردى / عاصفات المنون ؟../ قد أكلت ابتداء من الأبيض المشتهى / وانتهى أسوَدُ المنتهى / بين هذي القرون ../) ( يلاحظ القاريء توظيف بعض حكايات التراث وأمثاله كحكاية مقتل ومأكل الثور الأبيض شعريا ) .. ومن طريف القول تضمين ( خارطة جغرافية ) بروح من الشعر في قصيدة : ( صهيل الفلوات ) : ( مارد الدهر / سليل الفلوات ../ ساقه الله إلى الأرض صهيلاً / ثم أسماه الفرات ../ أعطب الرمل / وأدمى غرّتهْ ../ ألف كونٍ حمل الوجد / ليلقى دجلتهْ ../ رقّ في الرقّة / أو دار مع الدير/ وأضناه الرماد ../ في (الرمادي) / والبيادي / وضياع ( الهور) في تيه البلاد ../ ثمّ لمّا ../ أطفأ النخل / حريق العاشقين ../ وتلظّى التمر في الصبر / وشوق الضفتين ../ وجد الحلم مع ( القرنة) / و( البصرة) في بوّابة البحر / أقرّت مقلتَهْ ..) وتطول القصيدة لتلتحم مع مفردات وحالات إنسانية تبعد أسماء كل المدن والمواقع والأنهر التي ذكرها فتمنحها وجوداً إنسانياً شفيفاً متفاعلاً مع الإنسان وأقداره ..
ومن رغبات الشاعر في تضمين قصائد بأمثال وحكم ومقولات تراثية في قصيدة : ( ولم يجنح معي قمرٌ) .. لاحظ أخي القاريء شاعريته حتى في عناوينه : ( أمامك العمر جرى / وانحطم الفأس على الرأس / وأثرى الشجر الخائب / وجه حلمه المحطوبْ ../ يا ضيعة الدهر إذن يا وطني / وضيعة السهم / ولم يبق لديّ من الصبر / لديَّ قوس منزع / وقد صبوتُ / أطفأتُ دمي بنارك /...)
وعن حرائق لهب النار والدم التي اكتوى بها وطنه في قصيدة ( وهل يجدي الكلام ) وعبر نبرة يائسة حتى بعنوان القصيدة : ( حلم بليدٌ / واحتدامُ ../ فعليك يا وطني السلامُ ../ كلُّ البلابل بلبلت لغتي / وأوهامي / وعنّاها الظلامُ ../ هامَتْ بخارطتي رؤاك / وفي تفاصيلي هَوَتْ ../ وعلى مساقط جمرها / هدل الحِمامُ ../ ودّعت عاصفتي / ولم يعصف دمي سفرٌ / ولا قمرٌ / ولا وَصَلَتْ مشاويري / وأشرعتي حطامُ ../ حلم بليدٌ / واحتدامُ ../ واليوم نحدو جرحنا / فمتى ألملِمُ / من حفيف مزاغلي / حَرّ الرصاصات / التي اخترمَتْ / دروب التيه من حلب / وضمّتها الشآمُ ؟./ ) ومن القصيدة : ( أأثمتَ ؟؟ فالمتدافعون / يصادرون رؤى القطيع ؟/ لقد صبا يوماً / وضيّعه الغرامُ ../ يا أيّها المفؤود في جمر الرؤى / هذا حريق الأرض يُجْمِرُنا / ولم تنفع مصابرةٌ / وحتى الصمت لا يجدي ../ ولا يجدي الكلامُ ../ ) أي رابط جميل وأيّة وشيجة بين العنوان وخاتمته والتي هي هي نفس المفردات .. وأيّة وحدة عضوية بين غالبية عناوين الديوان وفنون القول والشعر الجميل ...
ومن أفول الضياء بتيه الظلمة الخانقة واحتراق دنيا الناس والشاعر بالضياع وصخب الإضطراب والتوجس من قصيدة ( ماذا ) : ( ولقد هرمت كما ترى ../ والأرض مغرمةٌ بحلو خرابها / غاب الجميع فهل ترى ؟../ غاب السكارى/ والحيارى / والذين توهموا / أن ينصروك / فلا تباعُ وتشترى ../ غابوا إذن / ويغيب إسمُكء ../)
( باحة الورد ) من مزيج شعر برائحة دم وورد : ( باحة الورد واحدة / ستكون اثنتين ../ تتكاثر ثالثة بالندى / كيف تطول الربوع ../ أو تضوع على الورد رابعة / مثلما لثغة الورد بين الشموع ../ بدمٍ فاغم تطفيء الغربتين ../ بدمٍ عارمٍ / بنذور الأنام ../ بحريق الصدى / أو صدوع الكلام ../ تتوزع في نفحنا وتغازل أسوارنا مرتين ../)
الشاعر لا يتوقف عند الحالة الساكنة أو يرتضيها فهو يظل مستأنساً بالأمل الحلو ولو كان تمنّيات إذ يقول : ( يوشك الليل ساعتها / أن يلمّ القلوعْ ../ كي تضجّ الشبابيك بالشمس / موقدة / في نثار الضلوعْ ../) هو هو الدم إذن .. دم الحياة في طغيانه الشعري :
(يا دماً ظلّ يسكنني بركام الحياة ../ يا دماً ظلّ يسكنني وألمّ الفتات ../ يا دما يغرق الآن باللحظة العابرة ../ أستجير بمحراثه / كي تنثَّ الحكايات / أحلامها / أو تصيد العبارات / أقلامها العاثرة ../ يا دم الأغنيات / هل أجرّ سطوحي إلى سكرتي / حيثما يقف الأخرس / الواضح السّمْتِ / بين اللغات ؟../ ) وينهي القصيدة بما يشبه ( مرثية ) إذ يقول : ( هكذا يا زمن / تفتدي العصر أثمارنا / ودم الموت / خلف الطلول ../ هكذا يا محن ../ صار أن يصطفيك الردى / عن سموم الدمن ../ لتلم عناوينها / كي نسميّ براءآت أقدارنا / في الدياجي وطن ../) وإذ يتحسس الشاعر أن تراجيديات الدم والنار قد أوغلت في ديوانه بعيداً ولآفاق مأساوية رغم انها واقعيات فعلاًً في حالة وطنه وشعبه وحالات شعوب أخرى بائسة عاشت وستظل لآماد بعيدة تعيش حالات موت وقهر وجوع مخنوقة بقيود آسرة من أنظمة طغيان لا ترى في شعوبها غير قطعان كتب عليها أن تساق بعصيّهم إلى الأبد ، ولذا حدثت انفجارات غضب تلك الشعوب والتي جاءت في مجملها إنفجارات خاوية خائبة أقسى وأخزى وأشدّ عمى ورعونة من حالات سابقة .. فسعى الشاعر لإيجاد معادل رومانسي أنيس مشركاً قصائد حالمة ربما وقد أقصد بكلامي هذا ما اصطلحوا عليه بـ ( ثورات الربيع العربي ) التي ومع كل أسباب حدوثها وضروراتها ، فقد جاءت بنتائجها – مخيبة لآمال المنتظرين والداعين لها وحتى القائمين بها وعندما استشرت فيها أيضاً – وبسرعة عجيبة – كل عوامل القهر والتسلط والفساد وفي كثير من مفاصلها حياتياً واقتصادياً وسياسياً وثقافياً فترفقَ بقارئه ليخفف عنه بقصائد هي غاية في عذوبة الشعر ..
قصائد حبّ وغزل وسياحات لمواقع جمالية تركت أثراً في ذائقته كسائح وشاعر وإنسان يلهمه ( المكان ) بوجوده وعذوبته فيتغزل به وكما أن الأمكنة الحلوة لها مذاقات المرأة المشتهاة جسداً وروحاً ونجد مثالا لذلك عندما تتوحد عنده جماليات المراة والمكان في قصيدة ( رأس البسيط ) ورأس البسيط هذا هو مصيف سوري يقع على البحر .. فيقول : ( بسراب من رذاذ عاثر بالصخر / ينساب على قوس قزح ../ وبضحكات / من المركب أصدَتْ../ في زوايا القلب / والوقت انسفح ../ سأراها / إنها حورية البحر أمامي / سأرى بسمتها قربي / وفي راحتها يرغو القدح ../ سارى تلك الشطوط / بثلاث من بنات الروم / في البحر على طوّافة / والبحر صيّاد / بصنارته ينتظر الصيد / ويرمي بالخيوط ؟../ سأراها ../ خلف صمت الجبل الأقرع ( والأقرع هذا كما جاء في هامش الشاعر هو جبل حدودي يطلّ على ساحل البحر بين تركيا وسوريا ) خوّاض البحور ../ تحمل الدنيا إلى مملكة الغيم وتجتاح العصور ../ وتناديني / أنا القادم من خاصرة العمر / على نجّادة أعدو / تعالْ ../ إدفع الدهر / فمن أقصى ثغور الأرض / تذروك السماوات الثقالْ .../ إتبع العمر غوايات / ستدميك بواكيه / وتبكيه / فجمر الموصلِ ../ مثله مثلك / أحنى سنبل الوقت / وضلع المنجلِ ../ مثله مثلك / جلمود / رماه الشوق عصراً من عَلِ ../ مثله مثلك نجمٌ / بمغار الفتل مشدودٌ /( إنتبه لعشق الشاعر لتراثه ونبض واإشارات من قصائد موغلة في القدم ) يرجّ الحلم في الكأس / ويرخي بحنايا الكلكل ../)
ومن نفحات غزل حسي ما يزال حلم الشاعر أن يمتح منه ففي قصيدة ( وشم يتنادى دمه عشقا وتهزج روحه للمرأة : ( أطفئي الحكمة / هذا عرق السفح / تنادى ضوعه / لا تكتميني ../ ضجّت الأشجار بالطير / وألقتني إلى عصف جنوني ../ أبدا ../ لم يبق طين باردٌ / في مزنتي / يثني عروق الغيم / أيقظت الهوى / للمعمعات الباقية .../ ثم ثنّيت بصحرائي / وأدميت عرى الملح / على أوطارها حمرا / وأجريت صهيل النار خلف الساقية ../ ) ومنها : ( هيئي لي فاحم الليل / فقرصاني فنارٌ / عاقر البحر / وطرفي فاتك الموج / على المرج أضاء .../ ) ومنها أيضا صعودا لحالة مستعرة : ( أطفئي المصباح طبعي نزقٌ / والنار لا تلهمني غير دمي / ( هذا هو بيت القصيد كما قالت العرب ) وإذا حارت دياجيري / رميت الشوط في اللجّة مسعوراً / وأسبلت النواعير/ على الموج ورويت مفازات فمي ../ ) وتتواصل شاعرية هذه القصيدة بأكثر من مقطع لينهي أحلامه الحسيّة بثقة الشاعر بقدراته وشاعريته : (ها أنا أمتلك الرعد / وأدمي أمهات الشعر / في قافيتي الأولى / وأرقيها بجمر الثانية ../ أجزليني / أجزل الله رؤاك الحانية../ أو دَعيني / أحكم الرعد / لنحدو البرق في هذا البهاء ../ أمطريني / وكما شاء / سراب العطش الدامي / من المزن نشاء ..)
. ومن مثيلات قصائد الغزل الحسي قصيدته المعنونة ( مرآة ) : ( وها أنا أصهل في البرق / وفي سحابتي / لأمسك القمر .../ فأمطري يا حلوتي / يحدوك يا ثائرة العطر دمي / ودفّئي الوقت معي / كي نرشق المرآة بالحجر /...) وإذا كانت ( مقولة الدم لا يصير ماء ) معروفة في حياتنا منذ أزمان بعيدة .. فقد تحسسها الشاعر غير ذلك في أيامنا هذه مقلوبة عندما قال : ( فأطلعي الأقمار والأسرار / من خدر الندى والكبرياء ../ واثأري / من رعشة النجمة والغيمة / صار الدم ماء .../.) ومن خيبات الحب يشكو الشاعر رغم انه يسعى لهذا الحبّ ويعرف ان فيه عذابه وهلاكه : ( أيها الحب الهلاك / وأنا أسعى الى ظلك / أستعدي ضَلال الشوق / أسترعي هواك ../ أيها القانص / أحكمتَ مغاليق الشراك ../ صار يعروني نداء القرب / والعروة وثقى / والهوى يشرق / في نافذة الوحشة / مذبوحاً / وأشقى .. أيها القلب الذبيحُ ../ أنا أرجوك / لقد أتعبت أفراسي / فهلا أستريح ؟../)
ومن فيوضات عذوبة رومانسياته الغزلية في ( أيها الوجه المليح ) وهي كلها من مقطوعات أشبه ما تكون (بالسونيتات) تتسابق مع بعضها بقدرات عاطفية وترانيم من موسيقى الشعر والروح .. أخترت لقاريء الديوان :
( أيها الوعد الصريح ../ وأنا الذاهل / مذ طافت بأنفاسي / رؤاك البيض / والديك يصيح ../ وأنا الذاهل / وانساحت بعينيك سماواتي / منىً / وأنشدّ غصن الروح / بالحبل المتين .../ ) وتتواصل القصيدة مقطعاً بعد مقطع ثم ليقول : ( أيها الحبّ الجموح / أيها الأقرب من حبل الوتين ../) ( والوتين هذه قرآنية ولطالما تعرّف قراء شاعرنا في غالبية دواوينه مدى تأثره وتواصله مع التراث اللغوي لهذه الأمة بدءاً من القران الكريم والحديث الشريف والشعر جاهلياً وبعده مع كل العصور الأدبية مضافاً له تراثاً ثريّاً من الحكم والأمثال وشهيرات المقولات .. إن كل كتاباتي عن الشاعر وشعره ومع أمنيتي نقل صورة عنه ، لن يغني ولن تكون أبداً بديلاً عن فيض شاعرية بدأت أصلاً ومنذ سبعينيات القرن الماضي .. ومنذ ( فاتحة النار ) أول ديوان له شبه متكاملة ثرية العطاء واضحة الأهداف وكأن الشاعر قد بدأ مبكراً بتخطيط مترف لشاعرية ستعرش ألواناً من فنون القول الشعري وبقدرات متكاملة في فهم واستيعاب التراث الشعري في أغراضه ومقاصده وموسيقاه وأوزانه ما كان منها أصيلاً وما تمتع به من ثراء بتقادم الأزمان وولادات لم تكن قليلة لأسماء شامخة جعلت من الشعر العربي شعراً عالمياً طالما أن ذلك الشعر لم يخلد للجمود فيذوي ، بل التصق حميمياً بكل حركات الشعر العالمية ومدارسها ومذاهبها وتسمياتها تطوراً ووصولاً إلى اقصى حركات الحداثة والتجديد عند عدد غير قليل من رموزه الكبيرة ومن مختلف الإتجاهات الشعرية التي حظيت بتقدير وقبول عال عند ذائقة القرّاء عراقيّاً وعربيّاً وكذا في الأحكام النقدية ...
بعد هذا : هنيئاً للشاعر منجزه الإبداعي المعمّر بأربعين سنة .. والبقيّة تأتي بإذن الله .. وآملاً أن يحقق هذا الديوان الفائدة والمتعة معاً لجمهور القرّاء ومن محترفي القراءة الحريصة على جهد الشاعر ومعاناته وجدّيته مع فنون القول ومع ذلك التأصيل التراثي – الذي يصل عند شاعرنا لدرجة اقرب ما تكون لعشق صوفي ...
***
للعودة إلى الصفحة الرئيسة
انور عبد العزيز
هل أبدأ ( بالإهداء الجميل لديوانه لي بعبارات مضيئة لخّصت عمرين : عمر قصائده الأولى بديوان : ( فاتحة النار ) 1974 وعمر ما فعلته تلك القصائد وما حفرته السنون ومن ضنى الوجع الإنساني في عمر الشاعر ..
يكتب عبد الوهاب اسماعيل (1945) هديته فيقول: ( بدأت فاتحة النار عام 1974 وظلّت حرائقها تحاصرني وتلاحقني وتجمر أضلاعي كي أتنفّس حرّها وأنضح في يابس أيامها ضلالي وظلالي التي أوهمتني بسراب الحلم وألهمتني دمي الذي ضاع وبقيت منه هذه الخربشات على الورق) .. هكذا إذن يا عبد الوهاب كل ذلك الوجع الإنساني والأنين يستحيل الى خربشات يا لضيعة من يمنح هذه الدنيا أكثر من استحقاقاتها ! ونتأمل الغلاف الأخير للديوان فنرى الشاعر قد اختار مقطعاً من قصيدة لخّصت وجمعت وأبانت عن كل تعب الدنيا ومخزون الألم في ديوان الشاعر: (وتمادى الجرح في الملح وشبنا / ونبا السهم وطاش ../ كان عمراً صرصراً / هامت مراجيح المنى فيه / وغامت غصّة الورد / بأحداق الفراش ../ فاسألي هذا الظما / من أيّ عصر سكن العظم ؟ / ألم تحفل به أرواحنا يوماً ؟ / سلي قارورة الجمر ،/ لماذا الموت يردينا ولم نسقِ العطاش ؟../)
( النار لا تلهمني غير دمي ) ديوان للشاعر عبد الوهاب اسماعيل صادر عن مطبعة الديار بالموصل / 2013 من أو في أربع وأربعين صفحة ومائة من القطع المتوسط وبغلاف جميل مثير ملتهب بجمرات الشعر والحياة معاً .. وجاء هذا الديوان – لا أقول نهاية – بل تواصلاً لمشروع شعري إبداعي باذخ معتز بالتراث الشعري العربي وتقاليده وآلياته وعلى وفق منظور عصري حيوي متطور .. فاتحة النار 1974 ، طقس آخر 1987 ، هواجس على مرآة خاصة 2001 ، لا فضاء سوى وحشتي 2007 ، غصون المنتهى 2010 ، صبوات متأخرة 2013 .. هذا فضلاً عن العديد من المساهمات المشتركة شعرية ، ومن شعريات مسرحية مشتركة مع الشاعر المبدع معد الجبوري .. كما ان له عشر مخطوطات ستضيئها مستقبلاً حروف المطابع بإذن الله .. يضاف لذلك ولع الشاعر واهتماماته ومتابعاته للشعر الشعبي وبخصوصيات نبضه الحميم وبالإحتفاء بالمضيء الأثير منه والحرص على نشر نماذجه ومع أيّة فرصة للنشر ، وكان ذلك متواصلاً يوم كان الشاعر مديراً لتحرير جريدة الحدباء لسنوات ..
هي أربع وعشرون قصيدة تلفحها نيران الهجير .. النار وبضراوتها شكّلت ( وحدة موضوع متجانس ) للديوان عبر كلّ قصائده .. هذا هو إذن الديوان عندما يكون قصائد كثيرة هي - كل تلك القصائد - تبدو وببساطة وبذائقة غالبية من القرّاء والمتلقّين قصيدة ثريّة واحدة مضمومة ملمومة وبحنو وحنان على أوجاع الشاعر وبخصوصيتها وعلى أوجاع دنياه بتفتح إنساني بعيد عن أيّة أحزان شخصية مغلقة ومنكفئة على نفسها ومع محاولات الشاعر أن يبتعد بها عن أيّة ذاتية إلاّ ما تواصل بوشائج مع ذاتيات الآخرين وهمومهم ومواجعهم فهو يتحسس أبداً ان إشكاليات الوجود واحدة تمسّ كل الآخرين بحرائقها .
قبل أن أتغلغل لحميميات نبض الشاعر في قصائده، وقبل أن أتسرّب بذائقتي في ثناياها، وقبل أن أنتشي بمذاقها السحري رغم موجعاته بل ومع هذه الموجعات .. أتوقّف عند العنوان .. عنوان الديوان .. مؤملا من قارئيه أن يتوقفوا عنده لسبر مضمونه ورمزياته ودلالاته وإشاراته .. حقاً إذا قالوا : العنوان هو " ثريّا النص " وأشهر من عرف بها هو القاصّ الراحل محمود عبد الوهاب .. وتوالى كثيرون في التركيز على حكاية العنوان ومدلولاته ، حتى ان منهم من اقترب من حدّ المبالغة – ربّما – ليؤكد ان العنوان هو القصّة كلّها أو القصيدة كلّها أو ( النص ) كلّه .. هي إذن وجهات نظر حتى إذا اختلف معها في الحكم عليها النقاد والأدباء والقرّاء ، فهي تظل محترمة ومقبولة طالما هي ( قناعات) وحتى في تطرفها عند البعض ..
عنوان ديوان الشاعر عبدالوهاب اسماعيل: (النار لا تلهمني غير دمي) .. مقولة أو أطروحة : النار والدم أو الدم والنار .. هذا التأكيد على هذه الوحدة حياتيا وعضويا لغة .. النار كانت أبداً فاتحة حضارة .. والدم هو الحياة منذ أول قطرة أهدرها قابيل من دم أخيه .. النار والدم .. هما إذن وهج حضارة وديمومة حياة رائعة .. وهما هما أيضاً – يا لبؤسهما وبؤس الإنسان معهما – كانا وسيظلان أبدا حرائق موت ودم وحروب بشعة مروّعة على كل أرض وفي كل زمان ومع كل بشر .. ورغم مرور آلاف السنين على إنسان هذه الارض البائسة ، فهو لم يستطع توظيفهما – النار والدم – لسعادته إلاّ قليلاً قياساً لشهواته المستعرة الهمجية الوحشية ان يحصر فائدتهما في القتل والموت وأن يوسع أبداً التفاعل والتعاطي معهما ، في هاتين النزعتين الشريرتين لكي يرسّخ مفهوم العبودية واللاعدالة ومفهوم السيادة على الآخرين بأبشع حالات البطش من مخترعات النار والتي عجّلت في اختراع البارود لها تسريعاً وتوسيعاً لحالات ومساحات الموت ..
في (الإهداء) الذي يوجهّه الشاعر لقرّائه وأحبّته .. يختصر- وكما في غالبية دواوينه – تلك الأطروحة الأثيرة عند الشاعر: عبثية الحياة ومفهومها التائه .. محنة الوجود ونهاية الموت الأليمة .. ومع الموت يصل الشاعر – في أكثر من قصيدة لحالة رعب صوفيّة يخفيها أو يكشفها بأمل الخلاص وبأمل العفو عن كل ما اجترحه الإنسان – أيّ إنسان – في تخبطاته الحياتية ومع الوجود ..
يهدي الديوان فيقول نثراً وبلغة هي أيضاً من روح الشعر ومن أحزان الشاعر: ( إلى خلاّن الصفاء .. من سبق منهم ومن ينتظر .. وما بدّلوا تبديلا .. إليهمو .. وكأن العمر سويعات .. لم نكد نتلمّس دبيب عقاربها .. حتى داهمتنا بدقّاتها .. معلنة انتصافها منّا .. قبل أن ينتصف الفرح .. سويعات .. رأينا نذور غروبها وراء الأفق البعيد .. تلوِّح لنا بعباءاتها .. لتأخذنا إلى غيابة الصمت .. قبل أن تكتمل الرؤيا بأقمارها ، وقبل أن يدلوا السيّارة بدلوهم في مغاليق الحلم .... إلى الأحبّة الذين أتنفّس عبقهم ، وتصخب ذاكرتي بأسمائهم .. أصدقائي .. إليهمو .. عسى أن تسعدهم هذه الكلمات ...)
أيّما شجىً وأيّ حزن مرٍّ في هذه الكلمات .. وتأملْ معي قارئي العزيز – تصخب ذاكرتي بأسمائهم .. وقِفْ عند ( تصخب ) رمز محبّة ووفاء لأصدقائه وناس دنياه فما كان الشاعر إلاّ محبّا للجميع ، وما كان يخشاه هو أنْ تمسّه كراهية أحد .. كان أبداً يبحث عن صديق شاطباً أية فكرة لمعاداة الآخرين وخسارة محبّتهم .. ونعرف أيضاً من ( تصخب ) ان أصدقاء الشاعر كانوا كثرة وهو كان أبداً إنساناً بسيطاً غير منغلق على نفسه وما كان متباهياً مصاباً بغرورٍ أعمى ونرجسياتٍ كريهة من تلك التي أوصلت بعض المبتلين بها لحالات اقتربت أن تكون مريضة .. وكان هو الشاعر الذي يهمه أبداً أن يكون مضموماً في قلوب الجميع إذ رغم مرور السنين وتلاحق أعمار من غابوا ومن بقوا ، فإن الجميع ما يزالون – رغم شيخوخة العمر- تصهل ذاكرته بهم وتصهل كل واقعيات حياتهم وخفاياها في عقله وقلبه وروحه وضميره وكم كان صريحاً واضحاً مكشوفاً بعواطفه ازاء الجميع وما سعى أبداً لترهات تشغله عن منجزه الإبداعي تواصلاً عصرياً متطوراً مأخوذاً بدهشة التراث الشعري العربي - وبخصوصيات إبداعاته عند أكثر من شاعر- وبما أرساه عبقري البصرة الفنان الموسيقي الكبير الفراهيدي ..
القصيدة الأولى في الديوان هي بطولها وموضوعتها تكاد تشكل مشروع ملحمة مما قرأنا من ملاحم بأجوائها وطروحاتها ومشاعرها الإنسانية الظاهرة والدفينة المخبوءة في أعماق النفس :
( ماذا بعد الراح ؟.. / موتان ، ووجهي يتكدّس بينهما / وأموت بأودية الرهبة ، محزوناً ../ موتان ، وقلبي يجلد غربة روحي ../ علّقني بالصبر وبالعذر سنينا ../ أزوابع حلم ؟ تذروها عثرات العمر ، ورمضاء النزوة كنت أنا ؟../ أم رفّة عصفور ، في صبح مكسور الغزوة ؟ / أم خفق رياح ؟../ فالسوق وقد أغلق بوابته ، أودعني لرحيل الجمر بأضلاعي ../ والبوق وقد أرهق سبّابته / أشّرني بحفيف الحشرِ لأوجاعي ../ ومغاليق الرحمة ضاقتْ ../ والرحمة تكمن في قارعة المفتاحْ ../) ...
ونظلّ نهدر حبّاً وحزناً وحنيناً وأنيناً وخشية وخشوعاً وعناد حياة وخوف نهايات ورجاءً وأملاً واستعادة ( تذكارات ) مضت وانتهت وشحبت حتى في الذاكرة .. وتشبثاً بمأمول ما هو آتٍ رغم مجهوليات عواصفه وغضبه أو رضاه و.. و ... كثير كثير مما اختزنته هذه القصيدة ، وإذ هي استغرقت وأخذت من بدايات الديوان بنفسها الملحمي – وبكل استحقاق - ست عشرة صفحة وهي بعنوان : ( أودعني في الظلّ المسجور ) ومن موجعات الحالة الوجودية الشخصانية للشاعر وإذ هي – رغم خصوصيتها – قد تنعكس على الآخرين نقرأ في ( هكذا ) : ( واحد أنت أم أربعة ؟ / تتقطع ساقية / تكسر الماء في حلقها / وتجفّ على حافة المزرعة ../ واحدٌ أنت أم أربعة ../ تلك آمالك الألف وانسفحت ../ كي تكون مع الصبر / أجلد من جَلَد الظهر للبرذعة .../)
ويتواصل سليل الشعر العربي بموسيقاه فيقول : ( أفما كان حقّاً عليكْ ../ أن يريح الونى والديك ../ فلماذا اندفقت من الصُلب / قبل اكتمال الصليب / وكلّ الترائب موجعة موجعه ../ واحدٌ أنت / أم انت حزمةٌ من قصب ؟../ تجرح الماء حول المعابر / كي لا يطال الرّكَب ../ واحدٌ أنت أم أربعون ؟../ أتسمّي حماقات عمرك أسماءها ؟ / أم تثير الصبابات حدّ الجنون ؟ ../ هل تحوّلت عن قرن ثور ؟ / أمرّت على الأرض / في همهمات الردى / عاصفات المنون ؟../ قد أكلت ابتداء من الأبيض المشتهى / وانتهى أسوَدُ المنتهى / بين هذي القرون ../) ( يلاحظ القاريء توظيف بعض حكايات التراث وأمثاله كحكاية مقتل ومأكل الثور الأبيض شعريا ) .. ومن طريف القول تضمين ( خارطة جغرافية ) بروح من الشعر في قصيدة : ( صهيل الفلوات ) : ( مارد الدهر / سليل الفلوات ../ ساقه الله إلى الأرض صهيلاً / ثم أسماه الفرات ../ أعطب الرمل / وأدمى غرّتهْ ../ ألف كونٍ حمل الوجد / ليلقى دجلتهْ ../ رقّ في الرقّة / أو دار مع الدير/ وأضناه الرماد ../ في (الرمادي) / والبيادي / وضياع ( الهور) في تيه البلاد ../ ثمّ لمّا ../ أطفأ النخل / حريق العاشقين ../ وتلظّى التمر في الصبر / وشوق الضفتين ../ وجد الحلم مع ( القرنة) / و( البصرة) في بوّابة البحر / أقرّت مقلتَهْ ..) وتطول القصيدة لتلتحم مع مفردات وحالات إنسانية تبعد أسماء كل المدن والمواقع والأنهر التي ذكرها فتمنحها وجوداً إنسانياً شفيفاً متفاعلاً مع الإنسان وأقداره ..
ومن رغبات الشاعر في تضمين قصائد بأمثال وحكم ومقولات تراثية في قصيدة : ( ولم يجنح معي قمرٌ) .. لاحظ أخي القاريء شاعريته حتى في عناوينه : ( أمامك العمر جرى / وانحطم الفأس على الرأس / وأثرى الشجر الخائب / وجه حلمه المحطوبْ ../ يا ضيعة الدهر إذن يا وطني / وضيعة السهم / ولم يبق لديّ من الصبر / لديَّ قوس منزع / وقد صبوتُ / أطفأتُ دمي بنارك /...)
وعن حرائق لهب النار والدم التي اكتوى بها وطنه في قصيدة ( وهل يجدي الكلام ) وعبر نبرة يائسة حتى بعنوان القصيدة : ( حلم بليدٌ / واحتدامُ ../ فعليك يا وطني السلامُ ../ كلُّ البلابل بلبلت لغتي / وأوهامي / وعنّاها الظلامُ ../ هامَتْ بخارطتي رؤاك / وفي تفاصيلي هَوَتْ ../ وعلى مساقط جمرها / هدل الحِمامُ ../ ودّعت عاصفتي / ولم يعصف دمي سفرٌ / ولا قمرٌ / ولا وَصَلَتْ مشاويري / وأشرعتي حطامُ ../ حلم بليدٌ / واحتدامُ ../ واليوم نحدو جرحنا / فمتى ألملِمُ / من حفيف مزاغلي / حَرّ الرصاصات / التي اخترمَتْ / دروب التيه من حلب / وضمّتها الشآمُ ؟./ ) ومن القصيدة : ( أأثمتَ ؟؟ فالمتدافعون / يصادرون رؤى القطيع ؟/ لقد صبا يوماً / وضيّعه الغرامُ ../ يا أيّها المفؤود في جمر الرؤى / هذا حريق الأرض يُجْمِرُنا / ولم تنفع مصابرةٌ / وحتى الصمت لا يجدي ../ ولا يجدي الكلامُ ../ ) أي رابط جميل وأيّة وشيجة بين العنوان وخاتمته والتي هي هي نفس المفردات .. وأيّة وحدة عضوية بين غالبية عناوين الديوان وفنون القول والشعر الجميل ...
ومن أفول الضياء بتيه الظلمة الخانقة واحتراق دنيا الناس والشاعر بالضياع وصخب الإضطراب والتوجس من قصيدة ( ماذا ) : ( ولقد هرمت كما ترى ../ والأرض مغرمةٌ بحلو خرابها / غاب الجميع فهل ترى ؟../ غاب السكارى/ والحيارى / والذين توهموا / أن ينصروك / فلا تباعُ وتشترى ../ غابوا إذن / ويغيب إسمُكء ../)
( باحة الورد ) من مزيج شعر برائحة دم وورد : ( باحة الورد واحدة / ستكون اثنتين ../ تتكاثر ثالثة بالندى / كيف تطول الربوع ../ أو تضوع على الورد رابعة / مثلما لثغة الورد بين الشموع ../ بدمٍ فاغم تطفيء الغربتين ../ بدمٍ عارمٍ / بنذور الأنام ../ بحريق الصدى / أو صدوع الكلام ../ تتوزع في نفحنا وتغازل أسوارنا مرتين ../)
الشاعر لا يتوقف عند الحالة الساكنة أو يرتضيها فهو يظل مستأنساً بالأمل الحلو ولو كان تمنّيات إذ يقول : ( يوشك الليل ساعتها / أن يلمّ القلوعْ ../ كي تضجّ الشبابيك بالشمس / موقدة / في نثار الضلوعْ ../) هو هو الدم إذن .. دم الحياة في طغيانه الشعري :
(يا دماً ظلّ يسكنني بركام الحياة ../ يا دماً ظلّ يسكنني وألمّ الفتات ../ يا دما يغرق الآن باللحظة العابرة ../ أستجير بمحراثه / كي تنثَّ الحكايات / أحلامها / أو تصيد العبارات / أقلامها العاثرة ../ يا دم الأغنيات / هل أجرّ سطوحي إلى سكرتي / حيثما يقف الأخرس / الواضح السّمْتِ / بين اللغات ؟../ ) وينهي القصيدة بما يشبه ( مرثية ) إذ يقول : ( هكذا يا زمن / تفتدي العصر أثمارنا / ودم الموت / خلف الطلول ../ هكذا يا محن ../ صار أن يصطفيك الردى / عن سموم الدمن ../ لتلم عناوينها / كي نسميّ براءآت أقدارنا / في الدياجي وطن ../) وإذ يتحسس الشاعر أن تراجيديات الدم والنار قد أوغلت في ديوانه بعيداً ولآفاق مأساوية رغم انها واقعيات فعلاًً في حالة وطنه وشعبه وحالات شعوب أخرى بائسة عاشت وستظل لآماد بعيدة تعيش حالات موت وقهر وجوع مخنوقة بقيود آسرة من أنظمة طغيان لا ترى في شعوبها غير قطعان كتب عليها أن تساق بعصيّهم إلى الأبد ، ولذا حدثت انفجارات غضب تلك الشعوب والتي جاءت في مجملها إنفجارات خاوية خائبة أقسى وأخزى وأشدّ عمى ورعونة من حالات سابقة .. فسعى الشاعر لإيجاد معادل رومانسي أنيس مشركاً قصائد حالمة ربما وقد أقصد بكلامي هذا ما اصطلحوا عليه بـ ( ثورات الربيع العربي ) التي ومع كل أسباب حدوثها وضروراتها ، فقد جاءت بنتائجها – مخيبة لآمال المنتظرين والداعين لها وحتى القائمين بها وعندما استشرت فيها أيضاً – وبسرعة عجيبة – كل عوامل القهر والتسلط والفساد وفي كثير من مفاصلها حياتياً واقتصادياً وسياسياً وثقافياً فترفقَ بقارئه ليخفف عنه بقصائد هي غاية في عذوبة الشعر ..
قصائد حبّ وغزل وسياحات لمواقع جمالية تركت أثراً في ذائقته كسائح وشاعر وإنسان يلهمه ( المكان ) بوجوده وعذوبته فيتغزل به وكما أن الأمكنة الحلوة لها مذاقات المرأة المشتهاة جسداً وروحاً ونجد مثالا لذلك عندما تتوحد عنده جماليات المراة والمكان في قصيدة ( رأس البسيط ) ورأس البسيط هذا هو مصيف سوري يقع على البحر .. فيقول : ( بسراب من رذاذ عاثر بالصخر / ينساب على قوس قزح ../ وبضحكات / من المركب أصدَتْ../ في زوايا القلب / والوقت انسفح ../ سأراها / إنها حورية البحر أمامي / سأرى بسمتها قربي / وفي راحتها يرغو القدح ../ سارى تلك الشطوط / بثلاث من بنات الروم / في البحر على طوّافة / والبحر صيّاد / بصنارته ينتظر الصيد / ويرمي بالخيوط ؟../ سأراها ../ خلف صمت الجبل الأقرع ( والأقرع هذا كما جاء في هامش الشاعر هو جبل حدودي يطلّ على ساحل البحر بين تركيا وسوريا ) خوّاض البحور ../ تحمل الدنيا إلى مملكة الغيم وتجتاح العصور ../ وتناديني / أنا القادم من خاصرة العمر / على نجّادة أعدو / تعالْ ../ إدفع الدهر / فمن أقصى ثغور الأرض / تذروك السماوات الثقالْ .../ إتبع العمر غوايات / ستدميك بواكيه / وتبكيه / فجمر الموصلِ ../ مثله مثلك / أحنى سنبل الوقت / وضلع المنجلِ ../ مثله مثلك / جلمود / رماه الشوق عصراً من عَلِ ../ مثله مثلك نجمٌ / بمغار الفتل مشدودٌ /( إنتبه لعشق الشاعر لتراثه ونبض واإشارات من قصائد موغلة في القدم ) يرجّ الحلم في الكأس / ويرخي بحنايا الكلكل ../)
ومن نفحات غزل حسي ما يزال حلم الشاعر أن يمتح منه ففي قصيدة ( وشم يتنادى دمه عشقا وتهزج روحه للمرأة : ( أطفئي الحكمة / هذا عرق السفح / تنادى ضوعه / لا تكتميني ../ ضجّت الأشجار بالطير / وألقتني إلى عصف جنوني ../ أبدا ../ لم يبق طين باردٌ / في مزنتي / يثني عروق الغيم / أيقظت الهوى / للمعمعات الباقية .../ ثم ثنّيت بصحرائي / وأدميت عرى الملح / على أوطارها حمرا / وأجريت صهيل النار خلف الساقية ../ ) ومنها : ( هيئي لي فاحم الليل / فقرصاني فنارٌ / عاقر البحر / وطرفي فاتك الموج / على المرج أضاء .../ ) ومنها أيضا صعودا لحالة مستعرة : ( أطفئي المصباح طبعي نزقٌ / والنار لا تلهمني غير دمي / ( هذا هو بيت القصيد كما قالت العرب ) وإذا حارت دياجيري / رميت الشوط في اللجّة مسعوراً / وأسبلت النواعير/ على الموج ورويت مفازات فمي ../ ) وتتواصل شاعرية هذه القصيدة بأكثر من مقطع لينهي أحلامه الحسيّة بثقة الشاعر بقدراته وشاعريته : (ها أنا أمتلك الرعد / وأدمي أمهات الشعر / في قافيتي الأولى / وأرقيها بجمر الثانية ../ أجزليني / أجزل الله رؤاك الحانية../ أو دَعيني / أحكم الرعد / لنحدو البرق في هذا البهاء ../ أمطريني / وكما شاء / سراب العطش الدامي / من المزن نشاء ..)
. ومن مثيلات قصائد الغزل الحسي قصيدته المعنونة ( مرآة ) : ( وها أنا أصهل في البرق / وفي سحابتي / لأمسك القمر .../ فأمطري يا حلوتي / يحدوك يا ثائرة العطر دمي / ودفّئي الوقت معي / كي نرشق المرآة بالحجر /...) وإذا كانت ( مقولة الدم لا يصير ماء ) معروفة في حياتنا منذ أزمان بعيدة .. فقد تحسسها الشاعر غير ذلك في أيامنا هذه مقلوبة عندما قال : ( فأطلعي الأقمار والأسرار / من خدر الندى والكبرياء ../ واثأري / من رعشة النجمة والغيمة / صار الدم ماء .../.) ومن خيبات الحب يشكو الشاعر رغم انه يسعى لهذا الحبّ ويعرف ان فيه عذابه وهلاكه : ( أيها الحب الهلاك / وأنا أسعى الى ظلك / أستعدي ضَلال الشوق / أسترعي هواك ../ أيها القانص / أحكمتَ مغاليق الشراك ../ صار يعروني نداء القرب / والعروة وثقى / والهوى يشرق / في نافذة الوحشة / مذبوحاً / وأشقى .. أيها القلب الذبيحُ ../ أنا أرجوك / لقد أتعبت أفراسي / فهلا أستريح ؟../)
ومن فيوضات عذوبة رومانسياته الغزلية في ( أيها الوجه المليح ) وهي كلها من مقطوعات أشبه ما تكون (بالسونيتات) تتسابق مع بعضها بقدرات عاطفية وترانيم من موسيقى الشعر والروح .. أخترت لقاريء الديوان :
( أيها الوعد الصريح ../ وأنا الذاهل / مذ طافت بأنفاسي / رؤاك البيض / والديك يصيح ../ وأنا الذاهل / وانساحت بعينيك سماواتي / منىً / وأنشدّ غصن الروح / بالحبل المتين .../ ) وتتواصل القصيدة مقطعاً بعد مقطع ثم ليقول : ( أيها الحبّ الجموح / أيها الأقرب من حبل الوتين ../) ( والوتين هذه قرآنية ولطالما تعرّف قراء شاعرنا في غالبية دواوينه مدى تأثره وتواصله مع التراث اللغوي لهذه الأمة بدءاً من القران الكريم والحديث الشريف والشعر جاهلياً وبعده مع كل العصور الأدبية مضافاً له تراثاً ثريّاً من الحكم والأمثال وشهيرات المقولات .. إن كل كتاباتي عن الشاعر وشعره ومع أمنيتي نقل صورة عنه ، لن يغني ولن تكون أبداً بديلاً عن فيض شاعرية بدأت أصلاً ومنذ سبعينيات القرن الماضي .. ومنذ ( فاتحة النار ) أول ديوان له شبه متكاملة ثرية العطاء واضحة الأهداف وكأن الشاعر قد بدأ مبكراً بتخطيط مترف لشاعرية ستعرش ألواناً من فنون القول الشعري وبقدرات متكاملة في فهم واستيعاب التراث الشعري في أغراضه ومقاصده وموسيقاه وأوزانه ما كان منها أصيلاً وما تمتع به من ثراء بتقادم الأزمان وولادات لم تكن قليلة لأسماء شامخة جعلت من الشعر العربي شعراً عالمياً طالما أن ذلك الشعر لم يخلد للجمود فيذوي ، بل التصق حميمياً بكل حركات الشعر العالمية ومدارسها ومذاهبها وتسمياتها تطوراً ووصولاً إلى اقصى حركات الحداثة والتجديد عند عدد غير قليل من رموزه الكبيرة ومن مختلف الإتجاهات الشعرية التي حظيت بتقدير وقبول عال عند ذائقة القرّاء عراقيّاً وعربيّاً وكذا في الأحكام النقدية ...
بعد هذا : هنيئاً للشاعر منجزه الإبداعي المعمّر بأربعين سنة .. والبقيّة تأتي بإذن الله .. وآملاً أن يحقق هذا الديوان الفائدة والمتعة معاً لجمهور القرّاء ومن محترفي القراءة الحريصة على جهد الشاعر ومعاناته وجدّيته مع فنون القول ومع ذلك التأصيل التراثي – الذي يصل عند شاعرنا لدرجة اقرب ما تكون لعشق صوفي ...
***
للعودة إلى الصفحة الرئيسة