انور عبد العزيز
حازم خليل ( 1943 ) قاص وروائي ثريّ في أبداعه السردي .. نشرت أول قصة له بعنوان : ( المصيدة ) في جريدة (الرسالة الموصلية ) سنة 1969 أي في نهاية الستينيات فاذا أعتمدنا العقود ـ فيمكن ضمه لقائمة قصّاصي السبعينيات .. مارس كتابة كل فنون السرد من قصة ورواية ومسرحية وحتى في ق . ق . ج .. نشر بين سنتي 1972 و 2013 أربع مجموعات قصصية وبعناوين :(هدية لنهر الخلاص)، (الخائف من الشمس) ، (فرانسان) ، (القادمون الجدد) وفي الرواية عشر روايات بدءا بـ ( جسور نهر السكّر ) 1976 ، ( الرياح القادمة من باطوفة ) 1984 ، ( الغرف البرتقالية 1986)، (التفاحة 1987 ) ، (الحوت 1987 ) ، ( زهرة 1990 ) ، (القطار الصاعد نحو الشمال 2007 ) ، (الطاحون 2009)، ( الجوّال 2011 ) ، ( رائحة السمك 2012 ) .. ومن المسرحيات : مسرحية واحدة بعنوان : ( الطريد ) كتبت سنة 1974 ونشرت في 2012 أضافة لمجموعة من قصص قصيرة جدا بعنوان : ( الناقوس ) صدرت سنة 2013 ..
( فحل التوت ) رواية من أصدار ( دار الشؤون الثقافية ) لمناسبة : ( بغداد عاصمة للثقافة العربية لسنة 2013 ) .. ( والتي تاريخ كتابتها هو سنة 2005 ) الأصدار من القطع المتوسط في او من 222 صفحة وقد توزعت الرواية على أربعة عشر فصلا جاءت متناسبة ومتوازنة من حيث حجم كل فصل وعدد صفحاته ومتطلبات وضرورات وقائعها ... ومما يرتبط بمسيرة الحياة وحركة الشخوص والأحداث مع تغيير الأماكن وما يفرضه كل مكان من تأثيرات حيوية تتناغم مع صراع الأحداث وبتأثير من عدة عوامل متشابكة : طبقية وأجتماعية وسيكولوجيه ومن فروقات حادة في مستويات الوعي والتعليم ومدى الفهم والتصرف بمواجهة الحياة ومع هيمنة صفات سلبية في غالبيتها مع قلة من حالات ايجابية فاعلة .. ومن أبرز صفات السلب كظاهرة أخلاقية هو عامل ( الغيرة ) الذي ان بدا قليل الوضوح وبشكل غير مباشر عند هذا النموذج أو ذاك من الرجال ، فانه مع النساء ومع المرأة كان واضحا صادما فاضحا .. وهو ما كان السبب في اثارة العديد من نوازع الشر الظاهرة والمستترة ليحيل حياة الشخوص ـ في غالبيتهم ـ لجحيم من مر العيش ولسلسلة من تآمرات متبادلة متواصلة صغيرة وكبيرة تبلغ حد الحاق الضرر والأذى بالأخرين ـ تشفّيا ـ ومما يصل للتسبّب في حالات قتل وسجن وتشريد وضياع وبما يؤدي بالنتيجة لفقدان أمثال هؤلاء لكل حالات أي هدوء نفسي ولألحاق أبشع الخسارات فيمن وقع عليه الضرر والأذى وفي اكثر من حالة أنقلاب وتردٍ حتى لمن كان السبب في اثارة الذعر والقلق والفوضى في حياة الأخرين من المستهدفين .. وفي اكثر من حالة لم نجد واقعة تستحق كل ذلك الضجيج وما رأينا فيها غير نوازع شر مكبوتة تبحث لها عن أي سبب مهما كان تافها لتلعب دورها في هتك سلام الأخرين وتدمير حياتهم أو مما تبقى لهم من حيوات شاحبة تكاد تبلغ حد الموت ... يضاف لذلك حالات غريبة من رغبات مرضية شديدة في مراقبة حياة الأخرين في كل مظاهرها ومعطياتها حتى لو لم تكن في مثل تلك المراقبات الدنيئة أية فائدة تعود على المتجسس والتي لا يجني منها غير وجع الرأس واهاجة قلقه هو قبل قلق الأخرين ...( فحل التوث ) .. هو جزء من مثل شعبي يقول : ( فحل التوث بالبستان هيبة ) ورغم ان شجرة التوث هذه ـ وكما وردت في الرواية ـ كانت أنسا وظلالا ومتعة لأجيال من رجال ونساء وأطفال أستأنسوا بوجودها وألفتها وعصافيرها .. فقد رأى الروائي فيها ومن قبله الذائقة الشعبية في مقولاتها : انها مع كل حنوها وأرتباطها بالمكان وبحركة الناس حولها ، فهي تظل (فحل توث ) ليس لها غير الهيبة الظاهرة فالثمر اللذيذ هو من عطاء الأنثى .. ويستثمر الروائي مظهرية ( فحل التوث ) ليكرر المقولة الشعبية على لسان الأم المفجوعة بمقتل زوجها والتي كلما أغرت وأثارت ودعت ولدها للأخذ بثأر أبيه .. لم نجد منه غير الصمت والعجز و الكسل والخذلان .. مرة بعد مرة بعد مرة حتى قاربت أن تيأس من بلاهة وخمول ولدها أن يجعل قلبها يهدا وروحها تستكين عندما تجد ان ولدها قد أخذ بثأر أبيه .. ولكن هيهات مما جعلها تتهمه بانه مخلوق فارغ تافه حاله كحال فحل التوث مظهرا لقوة وهمية وهيبة خادعة ليس اكثر ... أعود فاكرر : هذه الشجرة هكذا هو أنطباع الموروث الشعبي عنها رغم ان هذا الفحل كان شاهدا ومن أشهر وأقوى شخصيات الرواية نبضا وحضورا ولمراقبته وحنوه على اكثر من جيل مما رأه ومن أحداث زاخرة بالمفاجأت والفواجع والموجعات والهموم والأحزان مع قليل من سعادات عابرة ... يلاحظ قاريء الرواية أو قد يفاجأ بكثرة عدد الشخصيات والتي بلغ عددها عشرين شخصية بين رجل وامرأة ومن الصغار أيضا .. الا أنه ـ القاريء ـ بعد أن ينتهي منها ويحيط بشخوصها وأحداثها وأمكنتها وأزمنتها وتقلبات مصائر أبطالها .. سيجد أن هذه الشخوص وحركتها كانت مدروسة ومخططاً لها ولأدوارها بكل دقة وأنتباهه من الروائي .. وان هذه الشخوص ما كانت فيضا وليست مما أرهق الرواية أو أربك قارئها بل ان أختصار وحذف أية شخصية منها سيخلخل الرواية ويترك فيها فراغات سيظل القاريء يسأل عنها ويطلب ملئها ... كل شخصية كان لها دورها الحيوي الحر ودون تدخل من الروائي في تقرير حركتها ومصائرها حتى بدت فعلا وكأنها مسرح مضيء لمشاهديه دون أي تعتيم .. بل وبدت اكثر انها مارست أدوارها ـ في الحياة والرواية ـ وكما أشتهى لها كاتبها وكما كان يحلم في توصيل ما أراده من واقعهم وسلوكياتهم وأخلاقياتهم وحركاتهم فعلا وقولا ومع أضطرابهم وتقلباتهم النفسية لجمهور القراء .. القراء سيتعاطفون مع هذا وذاك من شخصياتها وسيستنكرون حتما مواقف ظلم وعدوان واستكانة وهوان وصَغار مما تفرزه مواقف وحالات القهر أو الضعف الأنساني .. سيكون قاريء هذه الرواية ـ وهو أيضا سيجد في بعض شخصياتها صدى لنفسه أو ممن يعرفهم من الأخرين - متمثلا في هذا النموذج أو ذاك من شخصيات الرواية .. فأبطال أية رواية – في الغالب – هم نحن وحتى لو اختلفت قليلا في الملامح والرؤية وعموم السلوكيات الايجابية والسلبية .. الصحية المعافاة ومما يمكن اعتباره حالات مرَضية بسيطة أو شديدة التعقيد لا علاج ولا شفاء لها .. القاريء سيخوض معمعة خلقتها الأحداث أو خلقها الروائي أو مما كان شاهدا فقط على مسيرتها الحياتية وقد ترك لهم ـ من منطلق أيمانه بالحرية ـ أن يتصرفوا مع الوقائع الطبيعية أو المفاجئة السهلة أو المعقدة .. البريئة والخبيثة .. الظاهرة والمستورة ـ كما يشتهون ... سيستمتع القارئ .. يحزن أو يفرح .. يشارك بمشاعره الصادقة أو يقف على الحياد متفرجا متخلصا من أشكاليات هو بمنأى عنها .. محاورا أو مستنطقا شخصياتها ـ أضافة لما رسمه لها مبدعها ـ سيتعايش في أمكنة وأزمنة مختلفة متباعدة أو متقاربة مع عبد المعين ، شكرية السمره ، حليمة زوجة يحيى الأسود وابنتها المتبناة ، نيله الأحمد ، بهيّة الأرملة الثرية ، هذّال المحمود ، يوسف السلطان ، سعدون الغضبان وزوجته مديحه الراقصة الفاتنه ، طارق ، عيّوش ، عدنان الطالب الجامعي أبن شكرية السمرة ، نجاة ، سارة الأبنة الوحيدة لسعدون الغضبان من مديحة ، عمر الحلبي ، فارس ، أحمد الغضبان ، نجاة ... ليس صعبا على القراء التعرف على شخصيات الرواية .. مجرد قراءة متأنية لأسماء الشخوص تعطي أنطباعا بأختلاف الملامح وربما الأصول والبيئات .. الأسماء لها دلالاتها المعبّرة عن الجذور ومع أختلاف البيئات .. دلالات الأسماء لها تأثيرها رغم أنها لا تصدق ـ في كل الأحوال ـ عن حياة الشخص ومسراه الحياتي وسلوكياته ، لكنها تظل مؤشرا مفيدا عند قراءة أحوال الشخوص وللتعرف عليهم ظاهرا وباطنا ... الأسماء عناوين لشخوص أصحابها ولكنها تظل عناوين غائمة في حالات ملتبسة ... وشخصيات الرواية وهي من عشرين تتوزع بين شخصيات مثالية نموذجية وشخصيات قلقة مضطربة حائرة ثم من نماذج شخصيات ضائعة تائهة لا تعرف طريقها بل وحتى هي غير معنية به طالما هي معاندة متصلّبة في مواقفها وقناعاتها وقراراتها المدمرة - لصاحبها وللأخرين ـ في كثير من المواقف التي تحتاج الى حسم عقلاني ، ولكن مثل هذا الحسم يظل مرتبكا عاجزا لغياب عقول ناضجة لا تعرف خيرها من شرها بل هي غالبا ما تكون أكثر ولعا وأقرب لأرتكاب الشرور وبكل مؤذياتها دون أي أحساس بضمير ولو في أدنى مستوياته .. حتى طفحت حياة أمثال هؤلاء بكل تلاوين الخداع والأكاذيب وحتى أستحالت حياتهم بعمومها لأحقاد لئيمة أوصلت بعضهم للتحريض على القتل ودفعت أخريات لممارسة الدعاره ونشرت بين الجميع حالات شكوك لا براهين عليها وليس غير الشبهات .. مثل هذه الحالة جعلت من حياة كل هؤلاء ـ حتى ممن نأى عنهم محاولا خلاص روحه من موبقاتهم ـ جهنم حارقة .. جهنم أشتهوا أن يتفحموا بها جميعا ... أمكنة أحداث الرواية لم تكن جامدة بمستقر واحد وكما هو تنوع الحياة فقد تنوعت الأماكن بين أزقة ضيقة ملتوية ودروب متربة أو موحلة في أحياء عتيقة وكأنها من أثار ألف سنة مضت .. وبين بلدات صغيرة أو من قرى الطين وصولا حتى لمدن شهيرة مترفة .. ثم تلك القصور الفخمة الفارهة الباذخة والمزارع المضيئة الخاصة البهيّة بكل موجودات الترف والمتع المستورة والمخفيّة .. الى جانب مساحات كبيرة لزروع يشقى بها فلاحون فقراء ومع حالات جوع وحفاء .. هي هي صورة التناقض قرأناها ونقرأها في اكثر من رواية وقصة عراقية وعربية .. الصورة هي هي لم تتغير .. المتغيرات فقط في تنوع الأساليب ومع أختلاف قدرات الكتابة ... التزمت الرواية الموروثات الشعبية في تعزيز طروحاتها وأرائها وظل هاجس الروائي المبدع حازم خليل أن يبقى متواصلا مع فيض من أمثال ومقولات الذائقة الشعبية بنصوصها ولهجتها ـ وكما نطق بها قائلها الأول ذلك المجهول ـ أو بما يعبر عن معانيها بصياغات من الروائي أو بتضمينها في هذا المشهد أو ذاك وبما يتطلبه المشهد أو بما يعزّزه ... واذا كانت الرواية قد أستندت لكثير من تلك الأمثال والمقولات الشفاهية ، فانها استعانت أيضا بطقوس حركية من عقليات السحر خاصة عند النساء مع عدم أعفاء حتى بعض الرجال من قناعاتها ـ وعندما تكون المرأة في أشد حالات الصراع مع أخريات في حالة محبّة وعشق هذا أو ذاك من الرجال .. السحر وما يبطل السحر من وسائل بدائية شتى تبدو مضحكة حتى لمن كان بنصف عقل .. الزار والخضرم والودع وملفوفات الأوراق السرية .. وفنجان القهوة .. أي بؤس عندما يضع الأنسان قدره في خطوط وتشكيلات تظهر في أسفل الفنجان يرسم بها قاريء الفنجان المحتال طريق ومسار حياة أنسان يائس مخذول فيبدأ مع الأبله السائل عن مصير حياته ساردا طريق حياة ـ أيجابا وسلبا ـ لهذا المخلوق الضائع الذي وضع قدره بما يتمتم أو يهذر به لسان متدرب على الخديعة حتى لو صدق أحيانا بما تجيء به الصدفة ليس غير ... هي اذن معركة طاحنة لسحر تطحن به هذه أو تلك وتحرق قلب غريمتها لتسلب منها زوجها أو حبيبها .. أو هو الأمل الخادع لامرأة أضاعت زوجها ليس بسبب حسد بل لحمقها وغبائها وجهلها في التصرف مع زوجها الذي لم يجد لنفسه ولها حلا غير الطلاق فاباح لها بفعلته الجريئة طريق بدويات الودع والخرز وملفوفات الأوراق المخبوءة في صرر جلدية وأيضا من منقوعات ومذاقات وشرب سوائل هذه العشبة أو تلك ويخبئن سرّاً مثل تلك ( المضمومات ) داخل مخدّات ازواجهن او في ثنايا فراشهم .. او يسقينه - دون ان يعرف – منقوعاتهن العشبيّة مع الشاي او قدح الماء حتى افسدن ودمّرن معدات وبطون ازواجهن وبعد ان جعلن منها حقول تجارب ولمرّات عديدة ... وتصل المبالغة حدها المقرف عندما يطلب منها الساحر أن تجلب له هذا العضو أو ذاك من حيوانات صغيرة وحتى مفترسة كأن تكون ذئبة أو ضبعة .. وكلما كان طلب الساحر أو الساحرة غريبا وصعبا فان ذلك مما يعزز الثقة به وبنتائجه من تلك المفجوعة البلهاء أو الحائر بعجزه عن حل قضيته ... والدافع أبدا لمثل هذه الممارسات هو فكرة ( الخيانة ) .. وخاصة خيانة الرجل الذي هو متهم بها أبدا ، لذا تسعى غالبية من النساء لشحذ جهودهن وتعطيل وتجميد حتى مجرد التفكير بها عند رجلها .. بعد هذا فالخيانة ـ في هذه الرواية ـ تجاوزت حالات الحب والعشق والزواج والطلاق لتصل لخيانة الرجال لعهودهم وضمائرهم وكلماتهم وقراراتهم وحتى تلك التي أقسموا على تنفيذها وعدم الأخلال بوعودها ... ثم هي رواية ( الأسرار ) التي لا تنكشف في زمنها ولا تنتشر رائحتها النتنة وفضيحتها الا بعد سنين من الغفلة عنها...وهي رواية أسرار وشكوك حطّمت ودمرت اكثر من أسرة ..
الجنس ـ ولنخفّف الحالة فنصفها بالحسيّة ـ ظل ركيزة ومعالجا روائيا من البداية حتى النهاية .. بل هو كان المحرك لكل الشرور التي أقترفها المهووسون جنسيا ومن العقلاء الهادئين أيضا ظاهريا ولكنهم مطعونون بحمى الجنس في دواخلهم .. رغم هيمنة الجنس أو المشاعر الحسية مع خفوت المشاعر الرومانسية الحالمة أو غيابها .. لم نجد له ـ عند الروائي أي أستغلال لتأثيراته على القراء .. كان الروائي صادقا مع نفسه وفنه وقرائه عندما طرح مسألة الجنس وكما هي مع واقعيات أبطاله في التعاطي معه ، لكنه لم يلجأ أبدا الى الأثارة وما كان في تخطيطه للرواية ان يركز عليه ، ولكنه مع ذلك ـ كان حيويا مع أشارات ملغزة له دون الدخول في أية مشاهد فاضحة ...فالجنس ـ ومع بعض شراهته وعقده ـ كان له أن يكون أوضح لولا أن الروائي لوى قلمه وقمع شراهة بعض بطلاته .. ليظل عنده في حكم ( المسكوت عنه ) ولو قليلا ولأنه من محذورات القول رغم ايمانه ـ كروائي ـ الأ يتدخل أو يحد من حريات شخوصه .. والأكثر خشية ألا يتحسس أي قاريء ان ( الجنس ) واثاراته كان هو الهدف من أهتمامات الرواية ...
كان الروائي مبدعا في التفاعل مع كل خصوصيات روايته وأشتراطاتها الفنية كسارد .. مع هذا سيلحظ القراء ان الروائي تميز بـ ( حوارات ) رائعة وكما تجري واقعيا وكما هو مع حياة طبيعية لا تكلف فيها ولا تدخلات منه ولا تغيير أو تحوير أو تشويه أو مغايرة لما فاه ونطق به أبطاله : هذا الأبداع في حواراته ربما كان نتيجة لعشقه لفنون المسرح ومن أهمها الحوار وأيضا لقراءات ومشاهدات مسرحية كثيرة متنوعة وهو كان أيضا قد كتب مسرحية : وحتى مجموعاته القصصية نجد فيها عموما تميّزا في ( حوارياتها ) التي تبدو أغلبها طوع قلمه وبكل سهولة وتلقائية وكمسرى حياة أليفة ومن هذه " الحواريات " .. تساءل سعدون الغضبان بأستغراب :ـ ولماذا لا أكون أنا المسؤول عن عائلة المرحوم ؟! فرد هذّال المحمود ببرود : ـ لأن الأولاد هم أولادنا ، ونحن عمومتهم .. فقال سعدون : ألا يتحقق ذلك الأمر الا بزواجك من بهيّة ؟ قال هذال : أنا لم أتخذ هذا القرار الا لأقطع ألسنة السوء عن بهيّة .. فتضاحك سعدون وقال : أنا أحق اذا بحماية أبنة عمي من الأخرين .. ومن حوارية مخفيّة برموزها بين صبي غرّ متسائلا بالحاف وأمرأة شبقة : أين سقطت الكرة ؟ وعادل ليقول : لقد سقطت الكرة هنا بالتأكيد .. وأستفزّتها عبارته فتقدمت نحوه باحتجاج وقالت وهي توسع فتحة فستانها عند الصدر : ها هي ذي تعال وخذها .. وكان صوتها مليئا بالغواية ، ونهداها يكادان يبرزان خلال فتحة الفستان وكأنهما طائران أبيضان .. وأذهلته المفاجأة ... ومن الحوار ـ : فأراد الغضبان أن يضفي شيئا من المرح على تلك الجلسة فقال ليوسف السلطان ممازحا : لماذا لا تتقدم أنت لخطبتها يا أبا طارق ، أتنوي أن تقضي حياتك الى جانب زوجتك البوم هذه ؟ وأيضا : أخبرته أنه قال لها وبملء فمه في الليلة الأولى بأنه لم يتزوجها الا حرصا منه على شرف العائلة ، وهكذا أحسّت أنها وقعت في الشرك الذي كانت تخشاه وأضافت بمرارة : تصور ذلك المنطق ، الذي تم على أساسه ذلك الزواج ؟! وأضافت : انه لم يتزوجني ، بل أخذ مني رهينة ، سواء كان يدري أو كان لا يدري وقد نجح في محاولته تلك ... وواصلت وهي تشعل سيكارة أخرى : كلكم أيها الرجال هكذا ، لا يستثني أحد منكم ، لا تدافعون عن الحق والنور وشرع الله ، بل جل اهتمامكم ينصب في الدفاع عن كرامتكم وكبريائكم المزعومة ... وواصلت بعد صمت : أنت تراه كل يوم لا ينام في البيت سوى سويعات قليلة ، حتى يخرج لملاذه رغم بلوغ أولادنا مرحلة الشباب .. وتواصلا مع الحوارات : لا تكن غشيما يا سعدون ، فلقد حذرتك انه في حالة التنافس يتجاهل الناس قوانين الحقيقة والحب والصداقة وحتى الأخوة التي تربطهم .. حاول سعدون الغضبان أن يداري موقفه كالعادة فقاطعته من جديد وقد لمست أصراره وقالت : أتريد الحقيقة يا سعدون ؟ ودون أن تنتظر جوابه قالت : أنت رجل شهم ولكنك بلا عقل ... وتأكد أخيرا أنها باتت تشجعه بطريقة خفية وهو يلاحق ثريّة بتفاحات العسل مكتفية بقولها : أتركها أنها يتيمة .. وأنتبه على صوتها وهي عائدة من مشوارها ، وسرّه أنها لم تكتشف لقاءه بشكرية وهي تقول بتهكم ظاهر : ها قد عدت لتستعرض عضلاتك من جديد ! وأضافت فيما ظل صامتا : أستح يا ولد ، كم مرة قلت لك أن لا تقف هكذا شبه عار أمام الرائحات والغاديات ؟ وزمّت شفيتها الغليظتين وأزاحته عن طريقها ودخلت الدار .. تبعها الى الداخل ، وقال لها وهو يجلس قبالتها محاولا تغيير الموضوع : ما الأخبار ؟ قالت مغتاظة : أيوجد غير المصائب في هذا الزقاق ؟ أزداد أهتمامه أكثر وهو يسألها عن نوع تلك المصائب التي تتحدث عنها ، فأخبرته أن يحيى الأسود مزمع على الزواج فقال ضاحكا : وهل يريد بك الزواج يا أمي ؟! أنتفضت من مكانها وقالت باستنكار : أنقلع أيها النجس .. وضربته بفردة حذائها البلاستيكي وتفاداها وهو ينحرف وعاد ليضحك من جديد وتساءل: بمن يريد الزواج اذا يا أمي ؟ .. عاد اليها بعض الهدوء فقالت وهو يكرر السؤال عليها مرة أخرى وكأنه يستعجل أجابتها : تصور .. انه يريد الزواج من ثريّة !.. عند سماعه تلك الجملة ، أعتدل في جلسته وكأن الزنبور قرصه وتساءل غير مصدق : يتزوج من ثريّة ؟! وأضاف : وما كان موقفها .. قالت نيله بأسى : وماذا تملك تلك المسكينة ؟ وأضافت لائمة : ماذا جرى للناس ، أين غيرتهم .. لقد ربّاها منذ أن كانت صغيرة وأتخذها كأبنة له .. وتذكّر ونيله تقرأ الفنجان لها بحضوره وهي تقول لحليمه : ستتزوج هذه الفتاة رجلا بعمر أبيها .. يلاحظ القاري ان الروائي لا يأتي بحوارياته مجردة ( سؤال وجواب فقط ) بل يمهد لها ومعها الحالة النفسية للمتحاورين لكي يتحسس القاريء صدق ونبض مثل هذه الحوارات ، ولكي لا تأتي أيضا مجردة من أنفعالات المتحاورين من غضب ورفض أو من قبول وأستكانة وقناعات ...لقد غدوت الأن عريسا يا أبي .. فتضاحك يوسف السلطان : وهل هذا جديد على أبيك ؟ ومنها : وقال خلال شفتيه المتعشقتين بشفتيها : لقد أنتظرتك طويلا .. ردت خلال أنفاسها اللاهثة : انها الساعة التي أشتقت اليها .. وأخذها وهي في ملابسها الشفيفة .. كانت العملية سريعة وعنيفة متّقدة بالأحاسيس والحنان .. وقالت له وهي تعدل ثيابها وتسوي خصلات شعرها : هذا جنون ! قال لها : الجنون هو المعادل الوحيد لصرامة هذا الكون المغلق .. ونتابع : قالت بدهاء لقد قلت لهما ان تراب المرحوم لم يجف بعد ..فتساءل متضاحكا : ومتى سيجف تراب المرحوم ؟ .. وعلا صوت ضحكتها وهي تقول : يبدو أنه سوف لن يجف أبدا .. ووقف ذاهلا أمام أجابتها .. ومن الحوارات : وماذا في ذلك أقتل أخاه أحمد وأضافت : دم بدم ورجل برجل .. وتساءل عن ذنب أحمد ، فقالت وهي تتطلع الى فحل التوث المتعملق وسط الفناء : فحل التوث بالبستان هيبة .. وأيضا : أما كفاك تذلّل الرجل ، أما فهمت معنى رسالته التي أرسلها ؟! .. وتضاحكت نيله الأحمد وهي تردد بأزدراء : رسالة ، هكذا أذا .. لو كانت الأمور تحل بالرسائل لما كانت هناك مشاكل في هذه الدنيا .. ومن تأثيرات الفأل والفنجان ومقرراته : كان الفنجان الذي قرأته لي ، عندما كنت صغيرة وبالا عليّ ... فتمتمت نيله وهي تهم بالخروج : انه قدرك وليس الفنجان يا أبنتي .. وأضافت ، وكأنها تعزّيها ، وحليمة تتطلع اليهما بأهتمام : هذا هو نصيبك من الدنيا .. فردت ثريّة بمرارة وعتب : والله ما هو نصيبي، لكنه ظلم البشر ... ومن أخر الحوارات وبعد أن أخذت المرأة بالثأر بعد أن تقاعس (فحل التوث) عن أداء دوره المعروف والمطلوب منه وكما تقتضي الأعراف .. ما كانت تصدق ذلك والناس مصعوقين حولها من المفاجئة و هكذا أعتلت ظهره وأخذت تضرب رأسه بهراوتها ضربات سريعة ومتتالية حتى غدا جثة هامدة .. عندما سحبوها من فوقه ، تأكدوا أنه فارق الحياة فيما كانت الشرطة تطوّق المكان .. قال طارق في سره وفي أخر حوار مع النفس : لقد مات سعدون الغضبان .. متى يقضي يحي الأسود !
الرواية ولأنها رواية صراعات وأحقاد وكراهية وتربص ومتابعات لحياة الأخرين .. ولأنها رواية غيرة وعصبيات وتوترات حياتية ومع قتولات واتهامات وسجن .. فقد كان يمكن أن يتغير مسراها لرواية بوليسية أو شبه بوليسيه ، لكن مبدعها ـ وبتخطيط مسبق منه لها ـ نأى بها عن ذلك ، ولكي لا يظن أي قاريء ان كاتبها معنى ببوليسيتها فما جاء فيها من ملامح بوليسية لم تبعد عنها أبدا توصيفها بأنها : رواية أجتماعية مكتنزة بحالات صراع قد يبدو طبيعيا للبعض وشائها عند أخرين .. وقد كتبت بأسلوب من الواقعيه النقدية أو الواقعية الأجتماعية ) أو ( الواقعية الأنسانية ) ـ سمها ما شئت ـ فهي ـ ومع المحصّلة الأخيرة أنسانية في كل معالجاتها ومفاصلها وتفصيلات أحداثها ومع شخوص وأماكن وأزمنة واقعية حيوية النبض والتأثير في المتلقي ، مازج وناغم فيها كاتبها بين أساليب سردية مختلفة ومنها الجديد المتغير بحداثته فكان أن اهدى لقرائه رواية تستحق كل قراءة واعية مؤنسة وجادة ولتنضم للمكتبة الروائية : عراقيا وعربيا ...
بعد كل هذا قد يستفسر قاريء : أين هو الصراع ؟! سؤال منطقي ومتوقع ولكني ـ ولأسباب فنية ونقدية رأيت تأجيله حتى نهاية الكلام ، ولأن الروائي ـ ولأهمية ما توقعه من صراعات فيها ـ فقد بدأ مع هذا الصراع ومهّد له ومع الصفحة الأولى بل ومع اولى الكلمات عندما كتب : ما كان موت الحاج عبد المعين مفاجئا لسكان ذلك الزقاق ، فالكل كانوا يتوقعونه في أية لحظة ، وما كان لطب نيله الأحمد وأعشابها ، أن يغيروا من واقع الأمر شيئا ، فقد قرر الأطباء جميعا موته المحتم نظرا لعدم جدوى العلاج .. وفيما كان البعض يترحّمون عليه ، كان أخرون ينعتونه بالسوء وعدم الأستقامة ، متهمينه بأكل أموال الناس غدرا وحيلة ، حتى علا صوت بعض المسنين ناهيا)) :اذكروا محاسن موتاكم )) .. كان الحاج قد ترك صبيا واحدا لا يتجاوز العاشرة من عمره وابنتين ، فيما كانت زوجته بهية الغضبان قد جاوزت الأربعين عاما بقليل والتي أستطاعت الحفاظ على جمالها ولون بشرتها وتألق عينيها وانتصاب قامتها ، والتي أصرت على رعاية شيخوخته ، طمعا بثروته التي أغرتها بالتضحية ، حتى فازت بها أخيرا ، وقبل أن يودعوه القبر ...تساءلت شكرية السمرة وحليمة زوجة يحيى الاسود وابنتها المتبناة ثرية وهن يسترقن السمع لنيلة الأحمد وهي تقرر أن بهية لا يمكنها المكوث دونما رجل اكثر من شهر واحد ، فتساءلن عن السبب ، فقالت نيلة الأحمد بكلمة قاطعة : أنها مازالت شابة وتريد .. فتضاحك طارق وقال متبالها : وماذا تريد يا أمي ؟!.. كان كعادته يحاول اثارتها دائما ، فحدّقت فيه مليّا وضربته على كتفه وأجابت بدهاء : ألا تعرف ماذا تريد ؟.. وأضافت بريبة وخبث وهي تخفي أبتسامة ماكرة : تريد رجلا يحميها .. ثم واصلت وهو صامت : كل امرأة تريد رجلا يحميها ، لكن ليس كعبد المعين ، فقد كان رحمه الله مثل خرقة باليه .. فتضاحكت النسوة .. وعاد طارق للتساؤل من جديد :ماذا تعنين بالخرقة البالية يا أمي .. وحدّقت فيه من جديد ، ومن خلال شفتيها المزرقتين الغليظتين قالت : كفاك أسئلة يا ولد .. فرد محتجّاً : أنا أتساءل فقط ، فيما تعلقين على كل شيء ص 7 بهذا المفتتح المركّز ـ ومعروف أن لبدايات أي عمل سردي أبداعي أهميته البالغة وكما النهايات ـ أضاء الروائي لمؤشرات بدء صراع سيتطور لصراعات اشد قوة بتراجيدياتها الموجعة ونهاياتها المحزنة الأليمة ليس في مجتمع روايته فقط بل ولكل مجتمع مشابه بأمراضه وعقده وعنفوانيته بعيدا عن أية عقلانية وكذا بكل ما يسبّبه لنفسه من تشظيات وتمزّقات وأوجاع ونكبات تظل تنخر في حياته طالما هو من كان السبب الرئيس فيها وطالما هو يعيش ـ أنتبه أو لم ينبته ـ لحالات حياته الموغلة في الأوهام وخداع النفس قبل خداع الاخرين ...
للعودة إلى الصفحة الرئيسة