في حوار أدبي ثقافي
حاورهُ – عَذاب الركابيّ
حيرتي عجزتُ عن إذابةِ ثلجها المتراكم على جبالِ لحظاتي المخمليّة، وأنا أصطافُ مزهواً في عوالمَ وأخيلةِ مبدعينَ كبار، جلّهم أصدقائي وبيننا جراحٌ وأحلام، وحينَ منحتُ القلبَ استراحة التذكّر، وهو يجدّدُ نبضَهُ، وجدتني أمامَ أستاذي وصديقي المبدع الموصليّ – العراقيّ الكبير أنور عبد العزيز، بإبداعهِ القصّصي المؤسّس لجيلٍ، ونظراتهُ ورؤاه النقدية المؤثرة في أجيال وأجيال، وعلاقاتهُ الصباحية بمجايليه من الأدباء والكتّاب والمبدعين، وهو يتوّجُ أمانيه ، ويفضّض أحلامهُ بعطر إبداعاتهم !!ويضبطُ ساعة القلبِ على لقاءاتهم !!
ولا ، وجدتني أمامَ مبدعٍ مؤسّس لفنّ راقٍ من فنون الإبداع، وهو القصّة القصيرة، الّتي يراها ملاذهُ، وشمسَهُ، ودليلَهُ،
ولا يطمحُ إلاّ الوفاء لأبجديتها ، وتقديس عوالمها وأخيلتها ، فهي( فنّ حيوي فاعل ومؤثّر) – حسب تعبيره !!
ولماذا القصّة القصيرة، وليسَ الرواية أو القصيدة ياصديقي؟ لأنّها الحياة بكلّ أشكالها وألوانها ، وهي الواقع المرّ بصورتهِ الحقيقية لا الزخرفية .. يراها ( فنّاً صعباً ) ، وأنّ إتقانها والخوض في كيميائها (يحتاجُ إلى مروّضٍ ماهرٍ) !!
المبدعُ الكبير أنور عبد العزيز هو البساطةُ المسموحة ، بكلّ ما في تلقائيتها من عبقريةٍ ، .. بسيطٌ كرغيفِ الأهلِ ، وأحاديثهم وشكواهم من آلامهم ، محبوبٌ كعطر تحياتهم ، وحرارة عناقهم ،ولهُ اسمهُ الإبداعي ، وثقلهُ الثقافي ، وقامتهُ الأدبيّة المؤثرة الفاعلة في محيطنا الثقافي العراقي والعربي، وهو الوفيّ لكلّ كلمةٍ خطتها أصابعهُ النحيلة من دون أن ترتعش ، ولكلّ كلمةٍ قرأها بعيون القلب ، وقد أحدثت في الذاكرة انقلاباً ، وبركانَ ودٍّ وفرحٍ وأمانٍ .. وفيّ لجذورهِ أبداً، ويرى الانقطاع عن الجذور ، والتبجح بالاأبوية مكابرة ، ومسألة خائبة :" نحنُ نتاجٌ كلّي ، بتأثيرات من معارفَ سابقةٍ ولاحقةٍ ".. منحتهُ الكلمات ، بكلّ بلاغتها الباذخة ، هذهِ الحكمة والرؤى التي أرادَ لها أن توقظَ عصافيرَ الصباحِ ، وهي تغردُ لتخفّف من عذاباتِ وهمومِ وقتنا العسير .. فليسّ هناك مكانٌ آمنٌ في دنيانا ، والمكانُ الآمن الحالم لديهِ هو الكلماتُ ، وسكنهُ الدائمُ قلبهُ ، وهويتهُ الأعظمُ أوراقهُ ،وقلمهُ ، وإبداعهُ ، ومحبّةُ الآخرين !!
حديثي وحواري مع صديقي القديم أنور عبد العزيز ، وأنا أدوسُ على عشبِ القلبِ ، لأختصرَ سنينَ فراقِنا ، يأخذُ شكلَ العناقِ والقُبلِ ، وأراهُ قريباً كمطلعِ القصيدة القادمة !!
صدرَ لهُ من المجموعات القصصية:
-الوجعُ الضائعُ – الموصل 1976
-طائر الجنون – دمشق 1993
-النهر والذاكرة – بغداد 1997
-طائر الماء – بغداد2001
-جدار الغزلان – بغداد2003
-ضوء العشب – بغداد 2005
- مقاعد حجرة – الموصل 2010
- حلم البلبل – بغداد 2013 ( لمناسبة بغداد عاصمة للثقافة العربية )
. كاتبُ مقال نقدي منذ العام 1955 وفي مختلف المجالات الثقافية والأدبية والفكرية .
كتبَ عن نتاجهِ القصصي كبار النقاد والكتاب في العراق والوطن العربي .
. ترجمتْ قصصه إلى اللغة الإنجليزية .
. القصّة القصيرة كنز ومدّخر إنساني .
*بدأتَ قاصّاً متميزاً ومؤثرّاً في جيلك .. لماذا القصّة القصيرة دونَ غيرها من فنون الكتابة ؟ ما الذي ادخرتهُ لكَ القصّة في بنك إبداعك المتعدّد ومثابرتك الثقافية أطالَ اللهُ عمرك؟
- القصة القصيرة فن حيوي فاعل ومؤثر , هي الحياة بكل تلاوينها الشاحبة والمضيئة متنفسة على الورق نابضة بهمّ الوجود الأنساني ،وبكل تفاعلاته التراجيدية المؤسية، وبقليل من فسحات الفرح في دنيا صاخبة بصراعات مرّة قاسية موجعة أليمة بسبب خيبة البشر واضطراب حياتهم وتخلخل توجهاتهم المصيرية وضعف وجمود مواقفهم المخذولة، فيما يواجههم من قسوة الواقع واضطرامه وتشظيه وتمزقه، ومما يجعلهم تائهين حائرين أمام مواقف عسيرة مهلكة تضعف فيهم قوة وحيوية الأمل الذي هو سر كلّ النجاحات في دنياهم .. أما عن مسببات اختيار القصة القصيرة فربما هو من تأثير البيئة التي عايشتها والتي أعطت لفن الحكي والحكايات شفاها ومن كتب ومرويات أهمية وقيمة معرفية كبيرة , ولما كانت تحويه في غالبيتها من اثارة واستفهامات وعناصر تشويق وفائدة ومتعة ضجّت بها الروح قبل العقل ... والقصة القصيرة بعد هذا كنز ومدّخر أنساني حان وحميم تضمن لكاتبها التوازن مع هذه الحياة بكل إشكالياتها العسيرة وتمنح قارئها فرح وشوق التلقي لأسرار الحياة وموحياتها ودوافعها المكشوفة والمخبوءة..
. القصّة القصيرة فنّ يحتاجُ إلى مروّض ماهر .
*يرى الروائي الكبير غارسيا ماركيز في كتابه "غريق على أرض صلبة" أنّ القصّة القصيرة أصعب من الرواية فهي ( كالسهم في الهدف) على حدّ قوله ..ما رأيك بقول هذا العبقري؟ وما وجه الصعوبة – برأيك - في هذا الفن الراقي؟
- فعلاً هي سهم يبحث عن الهدف , ولكن ما أصعبها وأقساها ومحيّراتها على القاص لتحقيق هدفٍ كبير ومع التزامه وانشداده حتى النهاية بالشروط الفنية الصعبة والقاهرة والتي قد تخذل كاتبها - في بعض محاولاته وتجاربه - فلا يجد في النهاية غير أن سهمه لمْ يفعل شيئا ًوما أحدثه ليس غير خدش وبلا تأثير محسوس .. الأصابة النافذة كانت هي قرار وجاءت النتيجة خدش عارض ما كان أبدا هو طموح القاص .. ومن هذه المقولة - والتي هي ثمرة ناضجة لتجارب مبدع كبير - يتأكد لنا - دون عناد ورفض من الآخرين - أن القصة القصيرة هي فن فيه صعوبة ان لم نقل أصعب من الرواية وتحتاج لمروّض ماهر أتقن فنون الصنعة القصصية الأبداعية ... لنتوقف قليلا ونحن نناقش مثل هذه الطروحات وربما هي مراجعة بعد ان كثر الكلام عن صعوبة أو سهولة هذا الجنس الأدبي مقارنة بغيره .. ولا أجد نفسي متناقضا عندما أتابع قراءات وأحكام ومقررات تبدو لي صارمة :
إن القصة فنّ صعب والرواية هي عمل سهل .. القصة فن صعب ولكن من الذي قرر ويقرر أن الرواية عمل سهل ؟ لا أدري وهذه مسألة غير مقنعة .. أي جنس أدبي وبمختلف تلاوينه ومسمياته قد يبدو صعباً قاهراً عند هذا أو ذاك من الأدباء , أو سهلا مستباحا في نظر آخرين وقناعاتهم ...
قالوا في مسألة الصعوبة والسهولة - وأضيف رأيي المتواضع - أن صعوبة القصة القصيرة تكمنُ في أن القاص يجب أن يحصر تحركات شخوصه القليلة والمحدودة عددياً ومع فترة زمنية ضيقة ، ومكان أضيق بتركيز كبير غير مخل في صفحتين وثلاث وحتى لو كانت عشرا ً .. عندها يحق لهم القول أن يجهروا بصعوبة فن القصة القصيرة وبالمقارنة مع رواية في 300 صفحة وأكثر وأكثر يجد الروائي نفسه حراً في التعامل مع عشرات الشخصيات وفي أزمنة مختلفة وأمكنة كثيرة وبآفاق رحيبة يتحرك فيها وعليها الروائي بعكس كاتب القصة القصيرة المخنوق، وبكل ما يطمح لمعالجته فنيا في صفحات محدودة عليه أن يملأها نابضة بالحياة ...
كل هذا صحيح ولكن أننسى أننا قرأنا وفي أكثر من رواية قاربت صفحاتها الألف أن الروائي تعامل فيها مع بطل واحد أو اثنين وقل ثلاثة في حيز مكاني ضيق وفي زمن محسوب بالساعات وليس بأسابيع وشهور وسنين .. ألا يبدو مثل هذا الأمر صعبا ولا أقول أكثر صعوبة من القصة القصيرة .. هذه المسألة نسبية وترتبط بقدرات مبدعيها سواء كانت قصة قصيرة أو رواية ولا أرى أسبابا معقولة أو ضرورات نقدية مهمة تترتب على مسألة الصعوبة والسهولة هذه ...
فإبداع الكاتب هو سيد القرارات ورضا الذائقة القرائية للمتلقين بوعيهم الثقافي والحياتي ربما يصلح أن يكون حكماً مقبولاً بأزاحته لحكاية الصعوبة والسهولة وبتفاعله مستأنسا ومنتشيا بقراءة أبداعية لذيذة ...
. حكاية الانقطاع عن الجذور خائبة وغير واقعية.
*في السنوات الموصلية الجميلة المضيئة بفتيّ الأحلام ، وقدْ جمعتنا رأيتكم جيلاً مبدعاً مثابراً ، أضاف الكثير للحياة الثقافية العراقية .. كانوا مشدودين لنظراتك النقدية ، وكنت ترصد بالعين والقلب كلّ ما يكتبون.. قلْ لي مالذي يميز جيلكم عن غيره ؟ تذكر معي !! ماذا أضاف ؟ حدثني عن نزيفهم الذي صارَ مرجعاً مهماً للآتي من الأجيال!؟
- مسألة الأجيال هذه ومعها العقود من السنين لا أدري ماذا أقول عنها ! هل يكفي عقد من عشر سنوات لأصدار أحكام نقدية قاطعة ..هذا ما دأب النقاد عليه .. وإن جاء هذا الأمر تسهيلا لقراءة فترة محدودة فربما بدا معقولا , أما أن نبني على هذه العقود متفرقة أحكاما وقرارات تبدو لنا نهائية فمسألة مرفوضة .. حكاية الانقطاع عن الجذور خائبة متهافتة وغير واقعية حتى لمن أعلن عن نفسه وحيد زمانه وعقده ذي السنوات العشر . الإنسان عموما وبخصوصية الكاتب والشاعر وكل المبدعين - لا يمكن أبدا أن يكونوا معزولين نهائيا وغير متأثرين به حتى لو أدّعوا ذلك .. الإنسان ابن بيئته، وهذه البيئة تتشكل حضاريا وثقافيا من ماض وحاضر مع استشراف وتوقعات لما سيجيء به المستقبل ... شئنا أم أبينا فنحن نتاج كلّي وبتأثيرات من معارف سابقة ولاحقة .. التفرد مطلوب إبداعياً , ولكن حتى هذا التفرد خضع ويخضع لأحكام ومؤثرات فيها من الماضي الشيء الكثير ...إذ ليس من الواقعي والمعقول أن نخلع ثيابنا القديمة ونتعرّى , وحتى لو حصل ذلك وسترنا عرينا بثياب جديدة , فإننا سنرى بغفلة منا أو بدونها أن ما ارتديناه لم يستطع التحرر نهائيا من خيوط الماضي وبعض ألوانه وتطريزاته وملامحه ...
جيلنا في الخمسينيات وبعدها الستينيات - إن صحت التسمية - لم يكن أبدا مقطوعا عن جذوره .. أنا من المؤمنين بالتراكم الثقافي والمعرفي ، ثقافة بلد وإبداع مثقفين جهد وبناء متواصل، لن يحصل على إنجازات مضافة أن تنكّر لمعلمي ومؤسسي الماضي وشطب كل عذاباتهم مع دنيا الكتابة، وحاول أن يمحو ويمسح كل أثر لاسمائهم مخدوعاً أنه سيتفرد في زمنه وهو الأول والأخير مقطوع عن كل نسب ثقافي .. قدمنا في تلك السنين قدراتنا وحلمنا وطموحنا أن نتواصل مع مبدعي قابلات السنين .. وبحساب العقود فقد وضعني النقاد والأحبة القراء في خانة الستينيات رغم أن أول قصة لي كانت بعنوان ( شروق ) ونشرت في جريدة ( فتى العراق ) الموصلية سنة 1958 ... واستمر التواصل لعمر مديد - حياة وكتابة - لنعانق إضاءات وإشراقات قرن جديد مبهج ومثير بإبداعاته الخلّاقة وفي كل لون من تعبير الإنسان عن نفسه وزمنه وحياته عموما .. أعود فأقول : لا تمييز لجيل عن آخر .. حبّات متلألئة مضيئة في عقد ذهبي باهر جميل ...إن عتمت وأنطفأت منها حبّة فسيظهر تأثيرها في المتوازنات الضوئية للعقد السحري ...!!
. محمود جنداري تجاوز عراقيته لآفاق عالمية .
*لوْ طلبَ منك أن تختصر هؤلاء الأصدقاء المبدعين في كلمات شديدة الاقتصاد قليلة ماذا تقول:" محمود جنداري ، د. عمر الطالب ، معد الجبوري ، أمجد محمد سعيد ، سالم العزاوي ، ذنون أيوب ، بشرى البستاني ، نجمان ياسين ،عبد الوهاب اسماعيل"!!؟
- محمود جنداري: أيختصر هذا الاسم بكلمات شديدة الاقتصاد .. أعذرني وأسمح لي أن أسترسل معه .. جنداري مبدع كبير .. أننسى رائعته ( الشاحنة ) .. أما زلنا كقراء نتعايش ونحنُّ لقراءة متجدده لـ ( الدغل ) .. ومجموعة ( الحصار ) والأحلى والأبهى (عصر المدن ) أستنطق فيها سحريات التراث وطقوسه .. أستنطق طائره الحبيب العصفور ( زو ) لينعش روحه الظمأى للأسرار المغلقة .. في ( عصر المدن ) أنطق محمود جنداري حتى الحجر ليكشف ويهتك أسراره .. القاص تجاوز عراقيته لآفاق رحيبة عربية .. وأراه مستحقا - وبكل أقتدار - لتوصيف العالمية وحتى لقامات من هم أسياد الفنون الروائية بغرائبياتها السحرية وخصوصا من اللاتين .. لا نستكثر ذلك عليه أبدا .. أتألم - رغم أعجابي وذهولي أحيانا من بعض أبداعات الغرب القصصية والروائية - بحرمان محمود جنداري من ترجمة نصوصه لأكثر من لغة عالمية , تظل رغبتي هذه ورغبة محبيه من القراء بانتظار تحرك جاد من أختصاصيّي الأكاديمين ومن مؤسسات الترجمة الرصينة لفعل ثقافي مؤثر لأطلاع الأجانب على إبداعه الثري .. مقابل هذا يؤلمني كثيرا وأنا أقرأ أكثر من قصة مترجمة بائخة متهالكة ورديئة لمجرد أن صاحبها أجنبي
- وبخصوصية كونه من الغرب - منشورة في صحف ومجلات ثقافية عراقية وعربية شهيرة ..بعض هذه القصص لا يستحق النشر حتى ولو في جريدة محلية محدودة بعدد قرائها في بلدة صغيرة معزولة ... وهكذا هو الحال .
عمر الطالب ... ؟
معد الجبوري: شاعر مبدع كبير عراقيا وعربيا .. أبدع أيضا في مسرحه الشعري ... وربما الميزة الملحوظة في إبداع معد هو تناوله الجميل لموضوعات تراثية شعبية لم يقترب أبدا من ملامحها الخارجية وقشراتها .. بل نقل لنا روح التراث وبحس تراجيدي إنساني حميم تتحسس من خلاله عمق ورمزيات ودلالات هذا التراث بكل أزقته وحرفييه وهيبة رجاله وحنان النساء والأمهات ومع كل صور هذا التراث وبعشق يكاد يتناثر كلآليء من كلمات وحروف وموازنات حميمة واسترجاعات حتى لخطوط جص قديم تعاند فناء الأزمنة على حيطان قديمة منخورة .. ثم في شعره مع الناس الكادحين في صباحات الأرزاق في باحة ( باب الجديد ) محلته العتيقة الأثيرة ومع رسوم حمامها الشعبي الملموم تحت قبة ومنارة مسجد أثري قديم .. إضافة لغزلياته وبكل أشجانها وتشظياتها .. مع أستذكارات مسيرة عمر و أحبة وأصدقاء .. ووصف ساحر لشواخص مدينته الحضارية ...
أمجد محمد سعيد: مبدع بدأ رومانسيا .. تحول بعدها بسنين لغنائيات عذبة رائعة ليستقر أخيرا وبما يجمع هذا كله مضافا له مخزون تجارب العمر مع الحياة والناس ومع حوار الذات وبمنحى يكاد يقترب من الفلسفة بشيء من الوجودية وحكمياتها في هذه السنين المتأخرة زمنيا ...
سالم العزاوي: الصديق الراحل العزيز .. قاص بين حالة التجويد والقدرات المحدودة .. غالبية شخوص قصصه من رواد المقاهي ومن الدروب والطرقات وأحيانا الجامعة .. والأكثر من المتنقلين في باصات المدينة ولمختلف خطوط سيرها للأحياء الجديدة .. حاور وعايش عوالم هذه الباصات وهو كان شخصيا من المولعين بكثرة الحركة والتنقل واللقاء بالأصدقاء، وبحثا عن كل خبر ومجلة جديدة تعنى بقضايا ومتابعات السينما وخاصة المصرية منها .. وقد بلغ في نهايات عمره لقدرات كبيرة في مجال النقد السينمائي .. رحمه الله !
ذنون أيوب: لا أدري لم حشرت ذنون أيوب مع هذه الأسماء المترافقة عمريا ؟ ألكونه موصليا فقط ؟ ذنون أيوب من سنوات سابقة على هؤلاء .. هو محسوب على ثلاثينيات وأربعينيات وحتى خمسينيات القرن الماضي .. روائي قارب أسلوب قصصه وروايات من أساليب المقالة - إلا مع حالات فنية قليلة هو وغالبية رهطه من كتاب ذلك الزمان عرفوا بأسلوب ( المقاصة ) أي هي قصة مكتوبة بنفس مقالي , وان شئت فقل : هي مقالة مكتوبة بأسلوب قصصي - وهو الأدق - مثله مثل جعفر الخليلي وآخرين ألتزموا في كل كتاباتهم بهذا الأسلوب حتى سليمان فيضي أستأنس بهذا الأسلوب في ( الرواية الإيقاظية ) وكذا الرائد محمود أحمد السيد في ( جلال خالد ) ومع كل رواياته.. وعذرهم – وكما قالوا – وكما توصل اليه النقّاد الذين جاءوا بعدهم : أن المجتمع العراقي - في تلك السنين - كان يعاني من فقر وجوع و أمية وتخلّف في كل مفاصل الحياة , لذا فإن الرمزية والغموض وضرورات الفن القصصي وكما هي مرسومة عربيا وأوربيا ربما لا تحقق لهم هدف الوصول لما كانوا يرغبون في توصيله لمجتمعهم .. وغالب ما كتبوه كان بأهداف سياسية ولمعالجة أمراض مجتمعهم , لذا كانت قناعتهم كبيرة بأنهم على الطريق الصحيح ،وظلوا متكئين بحججهم أن شعبنا غالبية أمّية لن يفهم أو يستوعب مستجدات الفنون القصصية .. وعندما نستوعب منهم هذا الطرح يتأكد لنا أن هدفهم الأسمى والكبير كان هو الرغبة في استثارة القراء وتبنيهم لواقعهم المزري وما فعله الاستعمار ويفعله مع توابعه من داخل الوطن لإبقائهم أبدا جهلة وأميين وفقراء جياعا وقريبين من حالة عري وحفاء .. حتى الأغاني الشعبية ودواوين الشعر الشعبي ساهمت حالمة بخلق وعي عامل على تغيير الأوضاع والخلاص من حكم الأجنبي .. ولكن هيهات وحتى مع تواصل الأعمار والسنين ..
بشرى البستاني: شاعرة مبدعة وفدائية أكاديمية بجهدها الكبير الدؤوب – حتى بعد تقاعدها - لتحقيق مستويات مرموقة لها ولغيرها من طلبة الدراسات العليا في مجال البحوث الأكاديمية ..
نجمان ياسين: قصصي كبير عراقيا وعربيا في منجزه الإبداعي .. معنيّ و( مجنون ) بمجانينه باختيار غالبية كبيرة منهم لشخوصه ومن الحمقى والمشردين والبلهاء والضائعين التائهين الحائرين مع دنياهم .. أصدر أكثر من مجموعة قصصية ورواية ..وتوقف أكثر من ناقد عند مجموعته الأثيرة : ( جنون وما أشبه ) لواقعيتها الصادمة ولمحليتها المبهرة وهي تجوس في أعماق ( الشيخ فتحي ) محلته العتيقة كما يسميها ومع تراسيم وملامح الموصل القديمة من كل الشواهد والمشاهد والجسر الحديدي القديم ومع الصيادين وسوق السمك ومن عمق الأزقة و البيوت القميئة الحانية على بعضها ومن طقوس وخرافات وسحريات العقول والأعمار الكبيرة .. ومن حنين أصوات المآذن ودروب المارة والأسواق بمغريات معروضاتها ومن كل ما يصل اليك من الوان وروائح واشارات حلوة اليفة هي من روح الموسيقا ...
عبد الوهاب أسماعيل: شاعر مبدع عمودي حريص على جماليات موسيقاه ولما يقرّبه من غنائيات الموشحات الأندلسيه .. مولع بالشعر الشعبي ومن متابعي منجزاته .. وصف وغزل وحنين شفيف لماض يحس أنه يتلاشى ويضيع من عينيه وروحه بسبب تسارع مرّ السنين بلا مراجعة ولحظة توقف .. في غالبية من قصائده الأخيرة تكثر وتتردد أطروحة الموت والحياة ، بل وتحس خوف الشاعر من اقتراب هذه النهاية وبحزن عميق يصل حد الفجيعة , وحتى عندما يقر بهذه الحقيقة الأزلية التي حرمته من حميميات أحبة وأهل وأصدقاء , فهو يمنّي نفسه بحسن العاقبة والختام .. وصّاف بكل تفاصيل القصيدة ماديا وروحيا ..
. ليسَ هناك مكان آمن في دنيا الفوضى والضياع .
*في روايته الرائعة " الغرينغو العجوز"كتب كارلوس فوينتس يقول:"ليس من مكان آمن في العالم".. قلْ ما المكان الآمن للمبدع الحقيقي ؟ وما الإضافة التي يعطر بها المكان روح المبدع ورؤاه ، وتبرّر لهُ جنونه الضروريّ ؟؟
- رغم أنه لمْ يعُدْ لا للمبدع ولا لغيره من مكان آمن في دنيا الفوضى والتيه والضياع ومن كل ألوان السواد في أجواء ما يحصل من خراب وكوابيس وزلازل وكوارث وفجائعيات اختارها البشر - كل البشر - وبخصوصيات مواطن كثيرة بائسة من هذا العالم , فإن أفضل ما يبدو مناسبا للمبدع اليائس الأليف والأنيس هو الهروب واللجوء بنفسه للحلم والكتاب , فمن سحريات حلمه وكتبه سيصنع له ملاذا آمنا , ومن هذا الملاذ - إن كان مثقفا حقيقيا - سيتفاعل دوره كشاهد على ما يراه , شاهد وناصح وموجه ليس غير , فإن بالغنا وطلبنا منه المواجهة وفاعلية أكثر , نكون قد ظلمناه .. هو موجّه ومنبّه لما يعترض الإنسانية من مخاطر .. هذا هو دوره ولم يكن - الا في حالات نادرة - فاعلا بواقعية مواجهة , ثم هو ليس مسؤولا حكوميا ولا إداريا ولا يتحكم في مواقع سياسية مهمة صانعة ومنفّذه للقرار , فلماذا نبالغ في إحراجه ولا نعي أهمية الدور المحسوب له وعليه تجاه القضايا الساخنة بل الملتهبة .. دوره كأديب وحكيم ورجل حلم وقراءة وكتاب .. ألا يكفيه هذا ؟! لو انتبهت الشعوب وأعطت أذنها لكلماته وحصيلة أحلامه الواعية الذكية وترجمتها لواقعيات ملموسة لما حاق ولحق بها كل هذا الخراب ..
. الرواية كتاب وصورة مع كلّ تشظيات الحياة .
*" الرواية هي كتاب الحياة" – د.هـ . لورانس
" الرواية صورة الحياة" – جيمس جويس
" الرواية صدىً لضحكة الإله" – ميلان كونديرا
كناقد ومبدع أي تعريف من هذه التعريفات هو الأقرب لرؤاك؟ وما تعريفك أنت للرواية ؟
- لو مزجنا التعريفات الثلاثة لكانت النتيجة رائعة ومثاليه وشبه متكاملة .. عندها تكون الرواية كتابا وصورة مع كل تشظيات الحياة وسخرياتها .. ولكنك أخي حتما تريد التفصيل : لورانس يراها حياة عريضة وجويس : ليست أكثر من صورة .. الصورة مهما كانت واضحة وصافية ونقية فقد تكون مخادعة ولا تكشف كل المخبوءات وسخريات الأقدار ليست غير جزء محدود وضئيل من الحياة .. وأن أردت أن تحصرني بجواب محدد فسأقول لك : مقولة لورانس هي الأكثر صدقاً وترجمة وفاعلية وتأثيراً بمحركات التغيير وأعني الكتاب .. بعد هذا تريد مني تعريفا ! ومع هؤلاء العمالقة الكبار .. لماذا تريد توريطي .. فإن أصررت فسأقول لأخي وصديقي : إن كل رواية لا تحتوي على فضح وكشف وتعرية لأسباب القبح البشري , ولا تسعى لرفع الظلم عن الإنسان وتحقيق السعادة له ومع العدل الغائب أبدا عن هذه الأرض , وبجرأة على كشف المستور من الخبث والغدر والكراهية , لا يحق لنا أن نصفها بالرواية .. هي لن تكون - إن خلت من أهداف إنسانية - غير كومة كبيرة من أوراق ممسوخة أضاعت جهد كاتبها وأضاعت ساعات خاوية المعنى من عمره , وأضاعت فرصة لكاتبها لأن ينضمّ بروايته لمصفوفات الروايات الإنسانية الكبيرة التي استطاعت - حتى ولو بتأثير غير مباشر - إنقاد البشرية من جنون وهلاك تسعى اليه بسرعة مخيفة .. أدريِ أنني لم آتِ بتعريف مقنّن ومحدّد , ولكنني مطمئن إلى أن مقولتي المتواضعة قد تعبر عن الحياة بصورة وملامح الرواية التي أستأنس بقراءتها وهي كتاب - وبشرطها الأنساني - عندها قد ألتقي بمقولة لورانس ...
. الزمنُ هو زمنُ الرواية .
*يرى جلّ نقادنا أنّ الزمن " زمن الرواية" ما رأيك ؟وهلْ تعتقد أنّ هناك فناً يُمكن أن يتنازل عن كرسيهِ الوثير لفنّ آخر ؟ وكيف تفسّر هذا الجري المحموم من قبل كتّابنا( شعراء ، ونقادا ، وفنانين ، وصحفيين) لكتابة الرواية؟ أهي الرغبة في الحضور والانتشار أكثر أم ماذا؟
- هذا صحيح فالزمن - زمننا الحاضر - هو زمن رواية إذ هي أصبحت مقروءة من كثيرين والأقبال عليها كبير ومبيعاتها كثيرة حسب أقوال كثير من دور النشر وأصحاب المطابع والمكتبات , ولكن هذا لا يعني أبدا انحسار أو غياب الأجناس الأخرى .. فالقصة القصيرة ما تزال متسيّدة إلى جانب الرواية وعديد كبير ما يزالون يقرأون الشعر ( الحر وقصائد النثر ) وحتى الشعر العمودي ما يزال معانداً ولم يغادر .. وق . ق .ج لها أيضا من يبحث عن أصداراتها عراقيا وعربيا وحتى ( النص المفتوح ) له جمهوره .
. أنا كاتبُ قصّة قصيرة ولا أشتاق للقبِ الروائي .
*لمْ تكتب الرواية لماذا؟ يرى البعض أنّ لقب ( الروائي) أهم كثيراً وأوفر حظاً من لقب : الشاعر أو الناقد أو القاص؟ ويسيل عليه لعاب الكثيرين!
فكيف تفسّر هذا الكم من كتّاب الرواية ؟أهي ظاهرة صحية أم ماذا؟ حدثني !!
- أنت قلت ( الكمّ ) .. إذن هي مسألة غير فاعلة أو مؤثرة .. فكل هذا الكم عراقيا وعربيا وعبر السنين لم يفرز غير أعداد قليلة من مبدعي الرواية ما يزالون يحسبون بالآحاد وإن بالغنا فهم عشرات .. أما الآلاف من أسماء الطارئين على عالم الرواية فهم أرقام ليس أكثر , مع أن ( الكم ) في حسابات البعض يشكل ظاهرة ثقافية , لكنها تظل ظاهرة مرضية ضارة .. إذ يضيع فيها القرّاء ويتيهون - مع غياب النقد والتوجيه - وعيونهم تلتمع بمئات العناوين الكبيرة الخادعة بحثاً عن الرواية الحقيقية وبأصالتها الإبداعية وما أندرها الآن .. لا أدري كيف لا يعتز كاتب قصه قصيرة أو شاعر أو من أي جنس أدبي باختياره .. التنكر يشي بحالة من عدم الإيمان بنفسه ككاتب قصة قصيرة باحثاً له عن عنوان ووصف مغاير غالباً ما يكون - في هذه الأيام - حلم الرواية.. في أكثر من مقال و (حوار) قلت : أنا كاتب قصة قصيرة وسأظل معها معتزا بلقب القاص وما خطر ببالي ومنذ نصف قرن أبداً اشتياقي للقب ( الروائي ) .. وبعد تأملي لحالات كثيرة من التحول والانتقال السريع من قاص لروائي .. تأكد لي أن المسالة فيها معاناة من ( عقدة الروائي ) وكما تفضلت .. هم من يبحثون عن لقب سريع مطبوع وهم مخطئون حتى عند علمهم بأن ما كتبوه هو هراء روائي ليس غير , ولأنهم كتاب ( قصة قصيرة ) ، وتمرسوا عليها ومعها سنوات طويلة , فأن ما كتبوه من رواية أو روايات قد فضحتهم .. هم لم يفعلوا شيئاً .. هي هي قصصهم القصيرة أطالوها ومطّطوها - وهذا كلام مكرر لي - واهمين أنهم انتقلوا بها ( لخانة الرواية ) .. الرواية شيء آخر وعالم آخر وأجواء أخرى بشخوصها وأزمنتها وأمكنتها وبأفق واسع .. وما فعلوه غير هذا .. منهم من انتبه للأمر أو نبّهوه فغادر مسرعاً عائداً لكاتب قصة قصيرة , أما الأكثرية فظلت معاندة واكثرت من طبع رواية وأخرى وأكثر بوهم أن الكثرة لا الإبداع قد يوجد له حيزا وأسما في قوائم كتّاب الروايات الرصينة والمقروءة ... أنا لا أريد التشبه بالآخرين , ولكن رغبة تدعوني لأن أنقل لمحاوري العزيز وللأحبة من قراء (الزمان) البهية : أنني قرأت في ستينيات القرن الماضي وربّما السبعينيات - لا أتذكر جيدا - ومن (حوار ) مع المبدع القصصي المصري يوسف الشاروني أنه بدا منزعجا عندما ألح عليه محاوره أكثر من مرة : لماذا لا تكتب الرواية ؟ فأجابه و بتأكيد كبير : أنا كاتب قصة قصيرة ولماذا الرواية ؟! القصة القصيرة هي عشقي وتاريخي وتراثي .. أنا معتز بوصفي كاتبا للقصة القصيرة .. فلماذا السؤال ؟ وظل يكرر مثل هذا الكلام الذي يستحق منا كل تقدير .
أنا لا أتذكر - مع هذا العمر - كل تفاصيل إجاباته , ولكن أهمها كان هذا الموقف الذي دلّل على عمق ثقته بنفسه وبجنس الفن الذي أرتضاه لنفسه ولقرائه ..
. الحركة النقدية عاجزة عن ملاحقة المطبوع الثقافي .
*يشكو عديد من المبدعين في الساحة الثقافية العربية من النقد ، وقصور النقاد في مواكبة هذا التفجّر الإبداعي المتنوع .. كناقد ٍكيف تردّ على هذا الاتهام؟ وهل تقرّ بوجود حركة نقدية عربية جادة ؟ مَنْ مِنَ النقاد العراقيين والعرب والعالميين تقف عنده ، وتثق في حركة أصابعه ونغم قريحته !؟؟
- منذ خمسينيات القرن الماضي لم تبذل الحركة النقدية جهدا كبيرا في ملاحقة المطبوع الثقافي الأدبي وكذا الأجناس الأدبية .. أنا أتحدث عن العراق وليس لي علم كبير - رغم متابعاتي - بما يجري في أقطار أخرى خاصة فيما يتعلق بحركة النقد، وبما سأقوله عن النقاد العراقيين في علاقتهم بالمواد المنقودة .. غالبا ما يلجأ الناقد العراقي لانتظار ما سيصله من كتب مهداة من أصحابها : مجموعات قصصية أو روايات أو دواوين شعرية ولم يحصل - إلا في حالات قليلة ومع عدد محدود من القرّاء أن تابع ناقد حركة المطبوع في السوق الأدبية وراح يبحث عنها - على الجيد منها على الأقل والمستحقة للنقد - ليقدم عنها جهدا نقديا ( بحثاً أو مقالة ) يوفر بها على كاتبها حيرته لمعرفة موقف النقد منها - حتى لو اطمأن من رضا وقبول القراء بها - فمثل قراءة ذلك الناقد للجهد الأدبي - وخاصة إن كان من نتاجات الشباب - سيجعلهم يعرفون مواقع أقلامهم، وليس أقدامهم كما يقال وستزداد قيمة مثل ذلك النقد إن كان نقد كشف وترميم وبناء وتماسك وهداية وتوجيه وبمحبة لا نقد هدم وتخريب وكراهية وتدمير - ربما لقسوته - لروح الكاتب المعنوية وهو يخط أولى بشائر نتاجه الأدبي الذي قد يجيء - منذ بداياته - إبداعا متكاملاً أو يسلك سبل التطور التدريجي، وحسب معطيات قدرات الكاتب وبيئته الثقافية وظروف حياته ومن عوامل أخرى كثيرة متفاعلة معروفة هي التي تعمل مجتمعة على إنجاز عمل إبداعي أثير .. واستمرت الحالة هكذا عند كثيرين من النقاد وهي أبدا ليست دليل صحة على عافية النقد بل هي حالة مرضية لن تنتج إبداعاً .. وإذ حصل فعند ومع فئة صغيرة أعتادت أن تقدم كتبها هدايا لمن يستحق أوْ لا يستحق من النقاد وحتى القراء الذين قد يحتفون بها أو يهملونها .. هذا أبدا ليس طريق النقد .. ويظل المطلوب من الناقد المتابعة والملاحقة عبر التعرف على المطبوعات من مصادرها ومن هيئات النشر، وعبر الاطلاع بين زمن و آخر على إصدارات وطنه وبالحد الأدنى مدينته .. بعد هذا فعملية النقد في العراق ومنذ بدايات الحكم الملكي سنة 1921 وحتى الآن اتخذت - في الأغلب - صيغة رسمية تمثلت بإشراف وزارة التربية والمؤسسات العلمية , ثم جاءت بعدها وزارات الإرشاد ثم الإعلام وبعدها استقر اسم وزارة الثقافة بهيكلياتها المعروفة , وبالإضافة إلى الملامح والتوجهات الرسمية لمثل تلك الوزارات , فقد أخذت الأحزاب والجمعيات دوراً أخطر وأكبر في تبني أدبائها ومن المنضوين تحت منافعها ومن الناطقين باسمها خاصة في مجال الشعر , ومثلما لم يكن كثير من النتاج الأدبي بريئا في توجهاته , فقد أسهم عديد النقاد وشاركوا مواجهة أو خفية .. تصريحا أو تلميحا في دعم وإشهار مثل تلك النتاجات المشبوهة وبأكثر من وسيلة ماكرة مع تعتيم مقصود على المبدعين ،ولهذا السبب راجت ولسنين طويلة تلك المقولة الأليمة الشاكية نراها منشورة أبدا كتابة ومترددة شفاها بفم وألسنة عشرات من المبدعين وهم يشكون من تقزيمهم و تحجيمهم و إنكار تعب العمر مما كتبوه .. فضجت الشكوى على حالة التهميش تلك , فصرنا نقرأ ونسمع عبارة ( المهمّش ) دليلاً على العزلة ودليلاً أكبر على مظلوميته ...
أما الطلب بذكر الأسماء فاعذرني وأبعدني عنها .. وعذري ما سأرويه لأخي الطيّب , فقبل سنين وفي أحد ( الحوارات ) طلب مني أن أذكر الناشطين ثقافيا في الموصل وألحّ على ذكر الكثرة .. لم أتردد تقديراً لرغبته وذكرت له اكثر من 200 اسم لقاص وشاعر وروائي ومقالي وناقد و أديب ومن المعروفين بالهم الثقافي .. ونُشر (( الحوار )) وظهر أنني نسيت أعز صديقين ومبدعَين : الباحث القدير سعد الدين خضر وكاتب أدب الأطفال طلال حسن .. هما صديقاي منذ نصف قرن بالإضافة لمجاورتهما إياي في الحي السكني ..
. لدينا صحافة ثقافية جادة ورصينة .
*كمثقف كبير ومتابع مثابر كيفَ تقيّم صحافتنا الثقافية ؟ يراها البعض أنها صحافة علاقات ومجاملات ، وتهتم بالكم لا بالكيف ! وهي ليستْ أكثر من مرآة مهشمة.. ماذا تقول؟
- ربّما تبدو لي هذه الأحكام سريعة وجائرة رغم أنها تصدق على حالات ، ولكننا لم نعدم أبداً ومنذ عقود من توفر صحافة ثقافية جادة ورصينة أهتمت بالكيف ولم تكن أبدا مرآة مهشّمة بل مرايا عاكسة لحالات ثقافية معافاة ومؤثرة إيجاباً في المتلقين .. لن تخلو الدنيا أبداً من علاقات ومجاملات ، ليس في الصحافة فقط بل وحتى اجتماعيا ، لذا يجب أن نبحث أبدا عن الإيجابي ونستهين بالسلبي ونحاول محوه ، وأن نسعى لتقدير فضل وجهد الآخرين المخلصين بدلاً من إزاحتهم وإنكار أدوارهم المنتجة ولئلا يقال إن الغيرة والحسد هما ما كانا يحركاننا للشك والإساءة .
. هوية المثقف هي إبداعه – حلمه .
*في السنوات الأخيرة التي سبقت فوضى ما يسمّى بالربيع العربي ، كثرَ حديث الكتّاب والمفكرين والمثقفين في لقاءات ومؤتمرات فكرية وأدبية ، في عواصمَ متعددة ، عن ( الهوية الثقافية) .. قلْ لي كيف يمكن تحقيق هوية ثقافية وسط هذا التشرذم ، والفرقة ، والتبعية ، والحروب المفتعلة ، والاحتلال ، وغياب مدن بكاملها عن الخريطة ؟
أخي العزيز كمثقف ماذا تقترح لتحقيق هوية ثقافية فاعلة ومنافسة ؟؟
- سواء بربيع عربي أو بغيره .. لن يجد المبدع الثقافي له من هوية غير هوية موحدة يجمعها ( كتابه وأوراقه وأقلامه وأحلامه ونقاء ضميره ومحبة الآخرين ) ليستحق اسم المثقف عبر هذه الهوية بعيدا عن كل الآصياف والشتاءات والخريفات او الاخرفة وبأمرة وقيادة السيد والاستاذ المدلّل : الربيع الوطني الدموي الكبير ومن المحيط إلى الخليج ..
. لا أخشى على نفسي وبلدي إلاّ موت الضمائر .
*في كتابه " مدن لا مرئية" يقول الإيطالي إيتالو كالفينو:" المدن مثل الأحلام مكونة من رغبات ومخاوف" .. بِمَ تحلم في مدينتك الربيعية ؟ ومّمَ تخاف ؟
- أحلم بكلّ جماليات الحياة النظيفة رغم كل ملوثات الظلمة الكئيبة المطوقة والثقيلة ، ولا أخشى على نفسي وبلدي غير موت الضمائر ...
*أصدرت أول مجموعة قصصية " الوجع الضائع"عام 1976 ، ومروراً بـ"طائر الجنون"-1993 ، و" النهر والذاكرة"-1997 و" طائر الماء " 2001 و "جدار الغزلان " 2003 و"ضوء العشب" 2005 و " مقاعد حجرية " 2010 و " وآخر مجاميعك " حلم البلبل "-2013،
ونزيفك الضروري ينبيء بالكثير أطال الله عمرك ورعاك ، فماذا ينتظر القاريء من جديد للمبدع الكبير أنور عبد العزيز !؟؟
- الجديد بإذن الله سيكون مجموعة قصصية تحت الطبع بعنوان: ( فنتازيا الأفاعي ) وقد تعقبها مجموعة لم أقرّر لها اسما نهائيا بعد وربّما سيكون : ( درّاجة تشيخوف ) أو أي عنوان آخر ملائم لها .. بالإضافة إلى كتاب نقدي لمجموعات قصصية ودواوين شعرية بعنوان : ( مرايا .. للزمن الآتي ).
وشكرا لجريدة " الزمان " البهيّة ولأخي الكريم المبدع في منجزه الأدبي و( حوارياته ) الذكية الثرية الممتعة والتي باتت لها أهمية كبيرة في مشغله الإبداعي وصداها الجميل لدى القرّاء .
* نُشرَ المقال في جريدة الزمان في 20-11-2013
للعودة إلى الصفحة الرئيسة