لماذا يصفّق هؤلاء ؟!
أنور عبد العزيز
مصباح خافت يكاد ضوؤه أن يكون محدوداً بدائرة محدودة ضيقة من منضدة دائرية وكومة أوراق وريشات كتابة ومحبرة .. رجل هادي صامت وقور بملامح كئيبة وشعر كثيف يغطي رقبته بنظرات ساهمة قلقة تتأمل بتوتر بياض الورق والحبر .. تضجّ في عقله وروحه وضميره تلاوين ألحان ونغمات سابقة هدرت بها وانفعلت أصابع ونفخات فرقته الموسيقية في قاعات وطنه ومدن أوربية عريقة في أنغمارها بسعادات الموسيقى وزهوها حياة متجددة للأسماع والعقول .. ذلك المساء وتلك الليلة ما عاد الرجل يألف رنين ألف كف متحمّسة مصفّقة لسمفونياته السابقة .. أحس أنه لم يفعل شيئا وكل ما أبدعه لم يكن غير خدوش لامست برقة سطوح النفس البشرية دون أن تحدث الأثر الذي ظل حلمه لسنين طويلة وهو ان الموسيقى ما خلقت الا لفعل التغيير وتطهير البشر من شرورهم والسمو بهم أنسانيا وأخلاقيا لما يقربهم أن يكونوا ملائكة حنان ومحبة ورحمة .. ذلك الحلم الكبير بدا عنده أول مرة متعارضا مع حالته الصحية النفسية الجديدة وقد أنقطع عن العالم بذوبان وصمت أي صوت في أذينه حتى ولو بأهتزازات ضئيلة .. الرجل الأنيس المحب للناس صار معانقا للغة الاشارة، للغة الكتابة اليه على قصاصات أجوبة على أستفهاماته حتى في تعامله مع فرقته الموسيقية .. كاد في البداية أن يهجر فنه وموسيقاه وفرقته، لكن جنون عشق الموسيقى وحب الحياة والتواصل معها كان هو الاقوى ولمن رأى في الموسيقى هي الحياة الحقيقية وكل ما غيرها ضياع وهراء .. يعمق الليل يزداد الرجل توتراً وقلقاً وهو يتأمل في مساحة الضوء الدائرية والأوراق النقيّة المنثورة والريشة وقطرات الحبر المنتظرة منذ أشهر تصخب في روحه بحثاً عن خلاص جميل ..
نغمات قاسية تتلوها نغمات أنيسة تتلوها نغمات حائرة تتلوها نغمات متشابكة مضطربة تتوّجها نغمات فرح وضجيج وسعادة تخنقها نغمات أحزان مُرّة تنكشف عنها من جديد نغمات رقص ملائكي .. كل ما فعله في عمر مضى هو سمفونيات صدرت عن أذنين لاقطتين لأدق وأرق الهمسات .. هو الأن في حالة مختلفة .. تعطلت الأذنان وأندحر فيهما أي همس وفأمة، ما بقي له غير الروح رغم كل أساه وكارثة أن يفقد موسيقي سمعه، فقد بدا مستبشرا في معانقة الروح وقد تأكد له من أوليات ما صار يحلم به من نغمات وألحان أن قوة الروح وسمع الروح صار عنده بديلا لألف أذن .. وهو الخبير بروح الموسيقى بات مقتنعاً بان ما يتحسسه من مشاعر وقناعات تجاه الموسيقى وابداعاتها لن يخيب طالما أن العقل والروح قد تكفّلا للرجل المحزون بأداء المهمّة وكأن حكاية السمع والأذنين قد صارت جزءا منسيّاً من عمره وتراثه القديم .. فبدا وكأنه يواجه عمله بسمفونية جديدة سيسمّونها التاسعة .. كان يتحرك في الغرفة وقد بلغ به القلق ـ رغم ثقته المطلقة بنفسه ـ حدّاً مؤذيا طال لساعات .. بعدها هدأ قليلا .. شيئاً شيئاً غمره أطمئنان لذيذ دفع باصابعه للمس ريشة الكتابة ثم مسكها بثقة وقوة .. ثم بدايات نثر الحلم على الورق .. كانت بدايته بطيئة ثم بدأت تتسارع مع مشاعره وتلاوين صراعات عقل وروح وضمير وقلم .. راحت الريشة تكتب همساتها منسابة بنسائم عذبة وحفيف أوراق شجر مهتزة وخفقات أجنحة الطير ومع موج البحر وزرقة السماء، ثم يضطرب جو الورقة والريشة والحبر بغيوم سود كالحة وعواصف همجية مخيفة تستحيل لنوازع رعب .. الرعب الأهوج الجامح لن يطيل البقاء، يندحر بنغمات حبٍّ وأنس وحنان ودفء عاطفي بعد قسوة برد ومشاعر ثلجية انانية .. بعدها تتغلغل الريشة لفضح القبح البشري وقسوته ولتدين تفاهات الحمقى والمغرورين .. بعدها تعرية الدوافع الخبيثة الماكرة للأشرار أعداء الحياة .. الريشة تتحرك وبكل انفعالات الرجل العظيم الحاني على مصائر البشر وبتمنيات من لغة الموسيقى تكاد تكون كلاماً وصوتاً عالياً يدقّ ويضرب على مشاعر صُلبة صلدة جافة اثمة علّه يحرك فيها شيئا من بقية ضمائر مهزولة لتتحسس بها آدمية الاخرين .. طال الليل واقترب الفجر .. وتتأمل المنضدة وبفعل المصباح والبقعة المضاءة ومن منثورها لمسافة ابعد من المنضدة وعلى الارض تجد ان الورقة التي بدأها الرجل ما عادت موجودة بل باتت اوراقاً كثيرة ممزقة وملمومة حتى استقرت اخيراً بنوتة ثابتة نهائية واضحة هشّ وبشّ بها مبدعها وهو يمرّرها امام عينيه الملتمعتين بفرح غامر رافقه وامتزج به ضوء فجرٍ جديد من عمر الرجل وموسيقاه .. كان مرهقاً حدّ الاعياء وكان قد نسي اطفاء ضوء المصباح منطرحاً بنومة ثقيلة تآلفت معها احلام نوم وبقايا من نثار يقظة واعية لما فعله وانجزه من مهمة أحسّ رغم تواضعه انه اتى بعمل كبير هدأ به عقله واستقرت روحه بشيء من رضا عن نفسه وعن منجزه الاخير ...
بعد أشهر من تلك الليلة المضنية التي أرّقت روح وعيني المبدع الاستثنائي أعلنت القاعة الملكية عن ليلة موسيقية تأريخية سيحضرها الامبراطور، وعن سمفونية جديدة لراهب الموسيقى، احتفت الصحف بالحدث الكبير .. وتهيأت الاف الاذان والقلوب حالمة بمقعد وان كان في اخر الصفوف، وتحسس كثيرون من خوف هجر الحظ لهم وخسارة متعة لن تتكرر في اعمارهم .. رغم ثقة الموسيقي بثمرات تلك الليلة الشتوية وبقناعته انه حقق شيئا جديدا، فان قلقاً مفاجئأ آلمه .. خوف كبير من أن يكون قد بالغ في تقدير عمله وأن للاخرين رأياً فيما أنتجه ربّما سيكون مضاداً لقناعته .. لم يكن مهتماً لرعاية الامبراطور لأول حفلة لسمفونيته التاسعة، فهو مع حبّه وتقديره للامبراطور المعروف لحبه للموسيقى ورعاية الفنون، فأن اي سمفونية له واي ابداع موسيقي لمجايليه يعدل عنده الف امبراطور .. كان الحديث عن السمفونية وحتى قبل سماعها وتذوقها قد صار حديث المحافل الموسيقية والصحف والناس وكلما تصاعد الكلام عنها تفاقم القلق في روح الأصمّ واضطربت نفسه حتى بات – رغم خوفه وقلقه – يستعجل حلول تلك اللية اذ لعل في انتهائها نهاية لقلقه وهواجسه وتوجساته .. حلّ الموعد .. لم ينم ليلتها الا لساعة وساعتين مضطربتين في نعاسهما وحاجتها لنوم حقيقي غير مخاتل وقضى نهاراً بعدها في اشدّ حالات التوتر وفقدان التوازن النفسي .. بعد سهر ليلة مضنية ثقيلة ونهار قلق، هدأت روحه قليلاً بسبب تعب واجهاد، ورأى ان مهمته وما يجب عليه ان يكون في حالة وعي ويقظة لقيادة الاوركسترا تدفعان به لحالة هدوء وان عليه ان يكون الاقوى في مواجهة الحدث، ثم انها ليست المرة الاولى ولا الاختبار الاول في التفاعل والتعامل مع مهمته كموسيقي محترف ولسنين ... كان الامبراطور حاضرا والقاعة الملكية بكل طوابقها مليئة بعشاق الموسيقى ... ورغم تلك الالاف من البشر، كانت القاعة تبدو لمن في خارجها وحتى لمن في داخلها وكأنها خالية من أيّ روح ونفس .. كانوا حريصين على الا تصدر عنهم حتى ولو عطسة صغيرة خافتة او صوت تثاؤب .. ناس الموسيقى اولئك كانوا يدركون قيمة ما يسمعونه ليحتفظوا به ارثاً غالياً في ذاكرتهم لمستقبل العمر وهم المحظوظون اذ ستلتقط اذانهم وارواحهم نزف وهواجس الموسيقي الكبير حياة مترجمة لعزف وموسيقى ..
فتحت الستارة واطل عليهم محيّياً بايماءة قصيرة ثم ليواجه فرقته .. كان شامخاً في وقفته بوجه جامد كئيب وباحساس مستثار وهو يدرك ماذا يعني وداع الموسيقى لسمعه كلّياً وماذا تعني مواجهة كل هذا الجمهور المنتظر لابداع جديد ومعه مواجهة عيون فرقته الموسيقية وهو يلمح فيها نظرات الاسى وقد قاربت ان تستحيل لنظرات رثاء وكان هذا اشد ما يعذّبه ويؤذيه .. هذه المشاعر وصداها مرّت به خاطفة سريعة اذ تغلّب عليها احساس بتحدٍّ عقلاني لمواجهة محنته .
تحرّكت – في البداية – عصا القيادة في يده هادئة موزونة .. اهتزّت بعدها راسمة ومتلوّنة بمسار ريشة الكتابة في تلك الليلة الشتوية الكئيبة .. تساوقت النغمات .. اختلفت .. تعارضت .. ارتفعت .. انخفضت .. دوّت بضجيج .. وسكنت لما يقرب من صمت وهدوء .. علت صريخاً .. وانتكست احزانا وموجعات .. ضجّت بحالة صراع روحي لعذاب نفسي .. ثم انفرجت فرحاً ولهواً لدرجة العبث .. الوجه الجامد الحزين صار بانفعالاته وتراسيمه صورة للحياة .. ما عادت عيون احبته من الفرقة ترسل اشارات رثاء لقائدها .. تحوّلت لاشارات دهشة واعتزاز ومجد .. كانوا يعزفون وقد امتلأوا غبطة انهم يشاركون بعمل كبير لاستاذ ملهم، أدركوا ان هذه التاسعة ستصير لؤلؤة القرون والّا زمن يستطيع نسيانها وقهرها ومحوها، لذا فقد كانوا منتشين أنهم – ولحظوظهم الرائعة – اول من تحركت اصابعهم باوتارها ونفخت افواههم في ابواقها وماست اوتار الكمانات بتلاحينها .. وقد شكلت عندهم انهم كانوا الاوائل في تنفيذ هذا القتح الموسيقي، وهم كانوا ممن يحسبون للتاريخ حسابا كبيرا وانهم قد ضمنوا فرصة لن تتكرر ستسجلها كتب وتواريخ ومدوّنات الموسيقى لازمان طويلة قادمة، وهم ان كان لهم ايضا فضل الاداء حبّاً لقائدهم او خوفاً من ادنى زلّة يعرفون انه لا يتساهل بها او يحتملها فيثور ويغضب ثم يهدأ – بعد تحذير – او يسامح بعد سويعات ..
كانت حركات العصا تعيد ما رسمته وكتبته وروته ونغّمته الريشة مع رعشات الأصابع المتجمّدة في برد تلك الليلة في الغرفة الخاوية الخالية من اي ترف وكأنها كهف عابد وناسك بوذي او برهمي عارٍ وظلّ الصمت لصيقا الا من اذان متفتحة تخشى ان تفوتها اي اشارة او ترسيمة او حركة موسيقية وكان الحرص على كل موسيقى الدنيا قد تجمّع في تلك الليلة وانحصر في تلك التاسعة .. باشارة اخيرة غير متوقعة توقفت العصا وسكنت الاوتار وانطفأ نفخ الابواق .. ومع الاشارة والوقفة النهائية الاخيرة اهتزت القاعة بالتصفيق .. نهض الامبراطور واقفاً مصفّقاً بحماس ابعده عن اية هيئة لامبراطور او ملك مسؤول .. ظل يصفّق ومعه قرينته وافراد اسرته .. قائد الاوركسترا ما اطال الوقوف او ابقى له وجوداً على المسرح .. بأيماءة قصيرة سريعة حيّا جمهوره دون ان يخصّ او يحصر تحيته بالامبراطور .. واشبه ما يكون بالهروب غادر مسرعاً .. ظلّت القاعة تدوّي بتصفيق عالٍ مستمر ازداد قوّة وعلوّاً حتى بدا انه لن يتوقف .. تفرّق اعضاء الفرقة وغادروا المسرح .. حسبوا ان صانع تلك الملحمة الثريّة البهيّة سيعود بعد لحظات ليحيّي الجمهور والامبراطور ..استحالت اللحظات لدقائق .. وطالت تلك الدقائق لعشر واكثر والقاعة تضجّ وتهزج بالتصفيق ولا وجود لمسبّب كل ذلك التصفيق .. تفرّق اعضاء الفرقة بحثاً عنه في الغرف الجانبية وما خلف المسرح .. لم يصدفهم اي وجود له .. بعد جولات في اكثر من غرفة وجدوه جالساً على ارضية عارية مختبأً كهارب في غرفة ملابس التمثيل ..
كان يبدو في اسوأ حال وقد احاط رأسه بكفيه وكأنه يشكو من صداع اليم .. حاوروه لم يجب، استخدموا اشارات يعرف مرموزاتها .. افهموه ان عمله كان ناجحا وبتوهج كبير .. لم يجدوا عنده اي رد فعل لاشاراتهم رغم انه قد فهمها، صفقوا بأيديهم واشعروه ان القاعة وبكل طوابقها وآلآف الايدي لم تتوقف ومستمرة على التصفيق، وان الامبراطور بدا لهم بعد كل مدّة التصفيق وكأنه يبدأ تصفيقه اول مرّة وبحماس متجدد .. كان منظره في جلسته الحزينة صامتاً ملموماً على نفسه وكأنه قد خسر كل دنياه وعمره .. بعد ان لاطفوه ومازحوه ما حصلوا منه غير بقاء وجهه جامداً مخذولاً .. وعندما تطوّع أكثر من واحد منهم ومن ادراة المسرح ان يبشّروه بالنجاح المذهل لسمفونيته .. تحرّك قليلاً لقراءة ما في وجوههم وعيونهم وسرائرهم من حقائق ودلالات صدقٍ ليصدمهم بقولته وهو في اقسى حالة لمخلوق تائه مهموم وموجوع : ( لماذا يصفق هؤلاء ؟! )
*
للعودة إلى الصفحة الرئيسة