يهود الموصل .... بين التاريخ والسياسة
التي أريد لها ان تكون تاريخا
بقلم : اسامة غاندي
الحلقة الثالثة والأخيرة
بالتزامن مع نشره في مركز الحسو للدراسات الكمية والتراثية
التي أريد لها ان تكون تاريخا
بقلم : اسامة غاندي
الحلقة الثالثة والأخيرة
بالتزامن مع نشره في مركز الحسو للدراسات الكمية والتراثية
إرادة التعايش والتقارب
هناك ملاحظة مهمة في تعايش اليهود مع السادة والدخول في جوارهم بعض الوقت ، وهي أن اليهود لا يستفزون الوضع الذين يعيشون في وسطه . ويلتقون مع الوسط الاجتماعي المغاير لهم في اقرب نقطة توصلهم وتساعده على الالتقاء بدون حرج . هذا من الناحية الاجتماعية والتعايش ، أما من ناحية العقيدة والالتقاء مع الاخرين في وسط الطريق ، في موضوع التعاطي الديني . فيلتزمون ما امكن الالتزام به من حدود دينية وطقوس تكون مقبولة لدى الطرف الاخر ( والذي يشكل غالبيته المسلمون في الموصل ) ،
فهم يلتقون مع المسلمون في اكثر من نقطة في مجتمع الموصل ( مثالا ) . لا يمانعون ابدا في استخدام المزارات والمراقد الاسلامية ، واحيانا يتبركون بها مثل المسلمين ، كانوا يزورون باستمرا ر النبي جرجيس ومرقده والنبي يونس ، ويتداخلون في بعض الشعائر الاسلامية . ولعل هذا ما يفسر صعوبة التداخل بين الوقف الاسلامي واملاك اليهود المصادرة . وبين مقابرهم واضرحتهم وبعض الاضرحة الاسلامية المتداخلة معها . ويقولون انبياؤنا في الموصل ، هم عويديا وناحوم ويونس .
كذلك لا يثيرون حفيظة المسلمين في موضوع اللبس والهندام وما يتوفر فيه من حشمة بالغة واستتار كثير ، خاصة فيما يتعلق بنسائهم ، ولعل الملاحظ في بعض الصور المرفقة من ازياء نسائهم ما يشي بذلك . مع اضفاء صورة من التقشف والزهد في نوعية الملابس ، واختيار الوان باهتة غير مزركشة لا تثير الانتباه ولا تبعث على الاعجاب ، بل تثير الشفقة وتستدر العطف . زهد وتقشف غير مصطنع ، لعله اراده ذاتية في الانكماش والاستغراق في حياة البساطة . وهذا ما يفسر ربما نزعتهم الذاتية في عدم الاكثار من الاطعمة الدسمة ، والمحافظة على النحافة في الشكل ، ويرون أن الدسامة تجرح المعتقد الديني، وحالة السمو الروحي لهم ، وربما كان هذا من فعل الجوع والحاجة وتكرس على مر الزمن ، ليأخذ طابعا دينيا للاجيال اللاحقة ، ومن ذلك تحريمهم لحوم الجمال . وهذا ما قربهم الى حالات وجدانية اقرب ما تكون الى التصوف ، والعيش في الزوايا والرباطات التي كانت مخصصة للمنقطعين لحالات التجرد الروحي . قسم كبير من اليهود بهذا النزوع استوعبتهم او جذبتهم حياة التصوف ، وغابوا في التكيات والزوايا . وتتناقل الروايات الشعبية الموصلية كثيرا ، عن حالة اشخاص مجهولي الهوية ، كانوا يجوبون الارض موشحين بالسواد وبثياب بالية ، بعض الحكايات تذهب بعيدا لتروي لنا كيف انهم اكتشفوا هذا (( الجذبه )) وهذا المصطلح يعني لدى الموصلين الاشخاص الذين انقطعوا للتأمل والفكر والعبادة . لا اعرف اصل التسمية ، لكن ارجح ان تكون محرفة عن كلمة (( جهبذ )) يعني الانسان الواصل الى الله ، في التعبير الصوفي الغنوصي ، تتناقل الروايات كيف أن بعض الاشخاص، اكتشفوا ان هذا (( الجذبه )) هو ضابط كبير في الجيش البريطاني او جاسوس كبير . وفي الموصل تجد هذه المظاهر الصوفية قديما ، حضورها في المكان وفي الذاكرة وفي الحياة ، كانت مشاهدة بزخم في زوايا المجتمع حتى عهد قريب .
ايضا لليهود بعض العادات والتقاليد الذين يتماهون بها مع المسلمين مما يسهل ويكثر نقاط الاتفاق ، ويبعد الاختلاف الحياتي خطوة ، منها عادة الختان والعفة ، ومنها حالة تناول المطعومات والمشروبات وغيرها . لذلك تقبل الموصليون برحابة صدر منتجاتهم الغذائية التي يصنعونها ، وخاصة تلك التي تتعرض الى معالجات التجفيف والكبس والتخليل ، ويبدو انهم كانوا بارعين في هذا ، اذا لم يكن هم من اوجد حالة التقنين وطرق خزن المواد وإدامة استخدامها وحفظها لمدد طويلة . ومع كل هذا وذاك فبعضهم حاول فعلا وبجدية ،أن يكون ضمن النسيج الاجتماعي للمجتمع ، وتقرب اكثر عبر دعوات طيبة وجادة وصافية ، وكما أثر عن بعضهم اسهامات اقتصادية وصناعية وتنموية ، فقد أثر عن ادبائهم وعلمائهم مقالات ودعوات تصب في هذا الاطار . يقول مير بصري (1911ــ 2005 ) وهو أديب واقتصادي عراقي ، في قصيدته ( يهودي في ظل الاسلام )
إن كنتُ من موسى قد قَبَسْتُ عقيدتي فأنا المقيمُ بِظِلَّ دينِ مُحَمَّدِ
وسماحةُ الاسلامِ كانت موئِــــــــــلي وبلاغةُ القرآن كانت موردي
ما نال من حبي لامةِ احْمَــــــــــــــدٍ كوني على دينِ الكليمِ تَعَبُّدِي
وتنسب نفس القصيدة احيانا الى انور شاؤل ، وهو اديب عراقي هو الاخر ، مع اضافة بيت يقول
سأظلُّ ذَيَّاكَ السمؤالِ في الوَفَـــــا أَسَعِدْتُ في بغدادَ أم لم أُسْعَدِ .
ومثل هذه العواطف نجدها في كتاب أحمد سوسة ، رائد هندسة الري في العراق ، والذي افاض من مشاعره في كتابه ( في طريقي الى الاسلام ) .
لكن تبقى افضل انواع الحمايات التي وفرها اليهود لانفسهم . داخل مجتمع مختلف معهم دينيا ، هي محاولتهم وباصرار للتعايش والانسجام والتأقلم ، وخفض الجناح والتستر ، وعدم استفزاز المكونات الاخرى بأي فعل مخالف . كما حموا انفسهم بنوعية المهن التي امتهنوها وعملوا فيها ، مهن تتطلب نوعا من المهارة والبساطة ، تكون بعيدة كل البعد عن المنافسة ، ولبساطتها تكون موضع زهد واستهانة بها من قبل الاخرين . وعدم التعرض لمهن ووظائف تثير حفيظة أحد . ولا يتعاملون مع شرائح ونوعية اعمال ، تستجلب نوعا من المماحكة الحادة وغير الآمنة ، فهم صناعيون ويمتهون التجارة ، وهذا الوضع يجعلهم على اتصال وتماس مع مستثمرين وتجار ، هم أحرص منهم على الا تكون هناك مشاكل أو مشاحنات من اي نوع . ولم يكونوا زراعيين ولا فلاحين ، ولا استثمروا في الزراعة ولا تعاطوها ، لما يتعلق بها من اتصال بالفلاحين ، وقبول بالنتائج غير المضمونة للزراعة ، والتي تكتنفها في كثير من الاحيان حسابات آخرى غير دقيقة وتقتضي المنازعة احيانا . كما أن الاراضي وزارعيها من ابناء الريف و يكونون دائما خارجين عن السيطرة وعن مظاهر الضبط المدني ( بمعنى انهم يستطيعون البقاء خارج سلطة القانون والملاحقة ) ، وهذا ما ميز يهود الموصل ويهود العراق عموما . بل كل اليهود الشرقيين ، انهم لا يجيدون الزراعة ولا يستثمرون فيها .يقول عالم الاجتماع ( فيليب مندس ) : أن السلطات الاسرائيلية ، كانت تتخطى تكليف اليهود العراقيين في الاعمال الزراعية لافتقارهم الشديد في امور الزراعة : ــ
تجسير الفجوات الثقافية بالاجتهاد
يعمل يهود الموصل في الحياكة والصياغة وفي الفنون ، وفي مهن تتداخل مع الكيمياء والتركيبات الكيماوية ، والتي قربتهم اكثر الى مجالات العطارة والصيدلة ، فقد عُرف منهم عطارون في الموصل وكانوا في وقت يحتكرون تركيب الاعشاب والمواد العطارية وانتاجه على شكل ادوية ومراهم . برز منهم في هذه المهنة ابراهام ساسون ، وهم من مزج بين مهنتي البقال والعطار ، أو جعل البقال يتوسع في بيع المواد العطارية . وفي مهنة الصياغة والتعامل مع الذهب والفضة ، وتكاد تكون صورة اليهودي الصائغ حاضرة في الادبيات الموصلية وفي مروياتهم . وكانوا الى وقت قريب لهم حوانيتهم في الموصل . وقديما اثارت لهم مهنة الصياغة مشكلة وجود الاموال السائلة ومادة الذهب نفسه ، كمادة ثمينة وقيمة ، تجعله موضع سرقة او ابتزاز او ملاحظة ، وهي المشكلة التي تفتقت عنها اذهانهم الى ايجاد صيغة تعامل تجاري ، يعتمد المقايضة والمبادلة البحتة ، سلعة بسلعة ، مع التركيز على عدم وجود اموال سائلة بكثافة ، وعدم احتياجهم الى من يرعاها ويحرسها ، فكانت التعامل هو تبديل المصوغات الذهبية والفضية الكاملة ، بنفس المعدن خاما بعد ان يضاف اليه ثمن الصياغة ، وأظن أن هذا التعامل ظل ساريا في سوق صاغة الموصل حتى وقت قريب ، ومن هذا التعامل قادهم الى سلسلة تجارات بسيطة يبيعون فيه سلعا مقابل سلع آخرى ، ولعل منها تبديل الاواني المنزلية البلورية ( الفرفوري ) بالملابس القديمة المستعملة . والذي كان سائدا في الموصل . ومنه انسحب وتعلم الناس الى بيع نبات (( السعد والبجنجل )) بالخبز اليابس ، الذي بدورة يبيعوه لمربي الجاموس والماشية ويقايضوه بالحليب وهكذا . يعني يضمنون الآمان للثروة بطريقة فنية اقتصادية ، ومعنى هذه العبارة ، أن تكون لهم رؤوس اموال ليست سائلة ماليا لكنها مقيمة كثروة وقيمة ، تحرك السوق ، ولاتغري اللصوص والمنافسين ، كما أن قيمتها في كيفية تدويلها وتصريفها، وليست قيمتها فيما تحتويه من رصيد .
هناك ملاحظة مهمة في تعايش اليهود مع السادة والدخول في جوارهم بعض الوقت ، وهي أن اليهود لا يستفزون الوضع الذين يعيشون في وسطه . ويلتقون مع الوسط الاجتماعي المغاير لهم في اقرب نقطة توصلهم وتساعده على الالتقاء بدون حرج . هذا من الناحية الاجتماعية والتعايش ، أما من ناحية العقيدة والالتقاء مع الاخرين في وسط الطريق ، في موضوع التعاطي الديني . فيلتزمون ما امكن الالتزام به من حدود دينية وطقوس تكون مقبولة لدى الطرف الاخر ( والذي يشكل غالبيته المسلمون في الموصل ) ،
فهم يلتقون مع المسلمون في اكثر من نقطة في مجتمع الموصل ( مثالا ) . لا يمانعون ابدا في استخدام المزارات والمراقد الاسلامية ، واحيانا يتبركون بها مثل المسلمين ، كانوا يزورون باستمرا ر النبي جرجيس ومرقده والنبي يونس ، ويتداخلون في بعض الشعائر الاسلامية . ولعل هذا ما يفسر صعوبة التداخل بين الوقف الاسلامي واملاك اليهود المصادرة . وبين مقابرهم واضرحتهم وبعض الاضرحة الاسلامية المتداخلة معها . ويقولون انبياؤنا في الموصل ، هم عويديا وناحوم ويونس .
كذلك لا يثيرون حفيظة المسلمين في موضوع اللبس والهندام وما يتوفر فيه من حشمة بالغة واستتار كثير ، خاصة فيما يتعلق بنسائهم ، ولعل الملاحظ في بعض الصور المرفقة من ازياء نسائهم ما يشي بذلك . مع اضفاء صورة من التقشف والزهد في نوعية الملابس ، واختيار الوان باهتة غير مزركشة لا تثير الانتباه ولا تبعث على الاعجاب ، بل تثير الشفقة وتستدر العطف . زهد وتقشف غير مصطنع ، لعله اراده ذاتية في الانكماش والاستغراق في حياة البساطة . وهذا ما يفسر ربما نزعتهم الذاتية في عدم الاكثار من الاطعمة الدسمة ، والمحافظة على النحافة في الشكل ، ويرون أن الدسامة تجرح المعتقد الديني، وحالة السمو الروحي لهم ، وربما كان هذا من فعل الجوع والحاجة وتكرس على مر الزمن ، ليأخذ طابعا دينيا للاجيال اللاحقة ، ومن ذلك تحريمهم لحوم الجمال . وهذا ما قربهم الى حالات وجدانية اقرب ما تكون الى التصوف ، والعيش في الزوايا والرباطات التي كانت مخصصة للمنقطعين لحالات التجرد الروحي . قسم كبير من اليهود بهذا النزوع استوعبتهم او جذبتهم حياة التصوف ، وغابوا في التكيات والزوايا . وتتناقل الروايات الشعبية الموصلية كثيرا ، عن حالة اشخاص مجهولي الهوية ، كانوا يجوبون الارض موشحين بالسواد وبثياب بالية ، بعض الحكايات تذهب بعيدا لتروي لنا كيف انهم اكتشفوا هذا (( الجذبه )) وهذا المصطلح يعني لدى الموصلين الاشخاص الذين انقطعوا للتأمل والفكر والعبادة . لا اعرف اصل التسمية ، لكن ارجح ان تكون محرفة عن كلمة (( جهبذ )) يعني الانسان الواصل الى الله ، في التعبير الصوفي الغنوصي ، تتناقل الروايات كيف أن بعض الاشخاص، اكتشفوا ان هذا (( الجذبه )) هو ضابط كبير في الجيش البريطاني او جاسوس كبير . وفي الموصل تجد هذه المظاهر الصوفية قديما ، حضورها في المكان وفي الذاكرة وفي الحياة ، كانت مشاهدة بزخم في زوايا المجتمع حتى عهد قريب .
ايضا لليهود بعض العادات والتقاليد الذين يتماهون بها مع المسلمين مما يسهل ويكثر نقاط الاتفاق ، ويبعد الاختلاف الحياتي خطوة ، منها عادة الختان والعفة ، ومنها حالة تناول المطعومات والمشروبات وغيرها . لذلك تقبل الموصليون برحابة صدر منتجاتهم الغذائية التي يصنعونها ، وخاصة تلك التي تتعرض الى معالجات التجفيف والكبس والتخليل ، ويبدو انهم كانوا بارعين في هذا ، اذا لم يكن هم من اوجد حالة التقنين وطرق خزن المواد وإدامة استخدامها وحفظها لمدد طويلة . ومع كل هذا وذاك فبعضهم حاول فعلا وبجدية ،أن يكون ضمن النسيج الاجتماعي للمجتمع ، وتقرب اكثر عبر دعوات طيبة وجادة وصافية ، وكما أثر عن بعضهم اسهامات اقتصادية وصناعية وتنموية ، فقد أثر عن ادبائهم وعلمائهم مقالات ودعوات تصب في هذا الاطار . يقول مير بصري (1911ــ 2005 ) وهو أديب واقتصادي عراقي ، في قصيدته ( يهودي في ظل الاسلام )
إن كنتُ من موسى قد قَبَسْتُ عقيدتي فأنا المقيمُ بِظِلَّ دينِ مُحَمَّدِ
وسماحةُ الاسلامِ كانت موئِــــــــــلي وبلاغةُ القرآن كانت موردي
ما نال من حبي لامةِ احْمَــــــــــــــدٍ كوني على دينِ الكليمِ تَعَبُّدِي
وتنسب نفس القصيدة احيانا الى انور شاؤل ، وهو اديب عراقي هو الاخر ، مع اضافة بيت يقول
سأظلُّ ذَيَّاكَ السمؤالِ في الوَفَـــــا أَسَعِدْتُ في بغدادَ أم لم أُسْعَدِ .
ومثل هذه العواطف نجدها في كتاب أحمد سوسة ، رائد هندسة الري في العراق ، والذي افاض من مشاعره في كتابه ( في طريقي الى الاسلام ) .
لكن تبقى افضل انواع الحمايات التي وفرها اليهود لانفسهم . داخل مجتمع مختلف معهم دينيا ، هي محاولتهم وباصرار للتعايش والانسجام والتأقلم ، وخفض الجناح والتستر ، وعدم استفزاز المكونات الاخرى بأي فعل مخالف . كما حموا انفسهم بنوعية المهن التي امتهنوها وعملوا فيها ، مهن تتطلب نوعا من المهارة والبساطة ، تكون بعيدة كل البعد عن المنافسة ، ولبساطتها تكون موضع زهد واستهانة بها من قبل الاخرين . وعدم التعرض لمهن ووظائف تثير حفيظة أحد . ولا يتعاملون مع شرائح ونوعية اعمال ، تستجلب نوعا من المماحكة الحادة وغير الآمنة ، فهم صناعيون ويمتهون التجارة ، وهذا الوضع يجعلهم على اتصال وتماس مع مستثمرين وتجار ، هم أحرص منهم على الا تكون هناك مشاكل أو مشاحنات من اي نوع . ولم يكونوا زراعيين ولا فلاحين ، ولا استثمروا في الزراعة ولا تعاطوها ، لما يتعلق بها من اتصال بالفلاحين ، وقبول بالنتائج غير المضمونة للزراعة ، والتي تكتنفها في كثير من الاحيان حسابات آخرى غير دقيقة وتقتضي المنازعة احيانا . كما أن الاراضي وزارعيها من ابناء الريف و يكونون دائما خارجين عن السيطرة وعن مظاهر الضبط المدني ( بمعنى انهم يستطيعون البقاء خارج سلطة القانون والملاحقة ) ، وهذا ما ميز يهود الموصل ويهود العراق عموما . بل كل اليهود الشرقيين ، انهم لا يجيدون الزراعة ولا يستثمرون فيها .يقول عالم الاجتماع ( فيليب مندس ) : أن السلطات الاسرائيلية ، كانت تتخطى تكليف اليهود العراقيين في الاعمال الزراعية لافتقارهم الشديد في امور الزراعة : ــ
تجسير الفجوات الثقافية بالاجتهاد
يعمل يهود الموصل في الحياكة والصياغة وفي الفنون ، وفي مهن تتداخل مع الكيمياء والتركيبات الكيماوية ، والتي قربتهم اكثر الى مجالات العطارة والصيدلة ، فقد عُرف منهم عطارون في الموصل وكانوا في وقت يحتكرون تركيب الاعشاب والمواد العطارية وانتاجه على شكل ادوية ومراهم . برز منهم في هذه المهنة ابراهام ساسون ، وهم من مزج بين مهنتي البقال والعطار ، أو جعل البقال يتوسع في بيع المواد العطارية . وفي مهنة الصياغة والتعامل مع الذهب والفضة ، وتكاد تكون صورة اليهودي الصائغ حاضرة في الادبيات الموصلية وفي مروياتهم . وكانوا الى وقت قريب لهم حوانيتهم في الموصل . وقديما اثارت لهم مهنة الصياغة مشكلة وجود الاموال السائلة ومادة الذهب نفسه ، كمادة ثمينة وقيمة ، تجعله موضع سرقة او ابتزاز او ملاحظة ، وهي المشكلة التي تفتقت عنها اذهانهم الى ايجاد صيغة تعامل تجاري ، يعتمد المقايضة والمبادلة البحتة ، سلعة بسلعة ، مع التركيز على عدم وجود اموال سائلة بكثافة ، وعدم احتياجهم الى من يرعاها ويحرسها ، فكانت التعامل هو تبديل المصوغات الذهبية والفضية الكاملة ، بنفس المعدن خاما بعد ان يضاف اليه ثمن الصياغة ، وأظن أن هذا التعامل ظل ساريا في سوق صاغة الموصل حتى وقت قريب ، ومن هذا التعامل قادهم الى سلسلة تجارات بسيطة يبيعون فيه سلعا مقابل سلع آخرى ، ولعل منها تبديل الاواني المنزلية البلورية ( الفرفوري ) بالملابس القديمة المستعملة . والذي كان سائدا في الموصل . ومنه انسحب وتعلم الناس الى بيع نبات (( السعد والبجنجل )) بالخبز اليابس ، الذي بدورة يبيعوه لمربي الجاموس والماشية ويقايضوه بالحليب وهكذا . يعني يضمنون الآمان للثروة بطريقة فنية اقتصادية ، ومعنى هذه العبارة ، أن تكون لهم رؤوس اموال ليست سائلة ماليا لكنها مقيمة كثروة وقيمة ، تحرك السوق ، ولاتغري اللصوص والمنافسين ، كما أن قيمتها في كيفية تدويلها وتصريفها، وليست قيمتها فيما تحتويه من رصيد .
كما أن من شأن هذه التعاملات التجارية أن تحقق لهم تشغيلا جيدا للايدي العاملة ومنع تعطلها . وكذلك فهي نموذج تجارات لا تغري الاخرين كثيرا بمنافستهم فيها ، وهذا يُفسر الى حد ما ، عدم تعاملهم بالربا والفائدة في الموصل ، أو لم يُعرف عنهم هذا ، كما عُرف عن اليهودي في مجتمعات اوربا ، وربما لهذا اسباب أخرى ، تتعلق بنوعية المجتمع الموصلي الذي يستحرم مثل هذا الاقراض بفائدة و ويعتمد بدائل له وهي ، القروض الحسنة ، أو أن نخوة وشهامة الاقرباء تنشل المحتاج والمعسر .
وقد عمل اليهود في التجارت الوسيطة ( القومسيون بمعناه القديم ، وهو ربط صاحب رأس المال او الملاك ،بالانتاج عبر منظومة تجارية ، لا يستطيع صاحب رأس المال التفرد في ادارة وتسويق الانتاج وحده ) ، ويحتكرون الفكرة فيها لوحدهم . وحينما يطرحون فكرة ما ، فهم من يستطيع ، أو من يعرف كيف ينفذها . والتجارات الوسيطة توفر لهم عملية مسك السوق من الوسط . والسيطرة على مافيه من فوق ومن تحت ،
كما عملوا في الحياكة والنسيج واجادوا فيها ، كما عملوا في النسخ ، وهي مهنة قليلة الطلب في الموصل لكن عٌرف منهم نساخون . وعملوا كذلك في مقالع الجص والنورة واستخراجها ، ومحاولة ايجاد خلطات متطورة ، وأكثر فاعلية من مزج انواع عديدة من التربة . وبلغة اقتصادية اكاديمية نقول : أن اليهود كانوا لا يتعاملون بتلك المصالح التي لا يمتلكون فيها وسائل الانتاج ولا يسيطرون عليها ولا تقع ضمن حيازتهم ، ومثال هذا الزراعة مثلا وتربية المواشي والنقل وغيرها .
وقد عمل اليهود في التجارت الوسيطة ( القومسيون بمعناه القديم ، وهو ربط صاحب رأس المال او الملاك ،بالانتاج عبر منظومة تجارية ، لا يستطيع صاحب رأس المال التفرد في ادارة وتسويق الانتاج وحده ) ، ويحتكرون الفكرة فيها لوحدهم . وحينما يطرحون فكرة ما ، فهم من يستطيع ، أو من يعرف كيف ينفذها . والتجارات الوسيطة توفر لهم عملية مسك السوق من الوسط . والسيطرة على مافيه من فوق ومن تحت ،
كما عملوا في الحياكة والنسيج واجادوا فيها ، كما عملوا في النسخ ، وهي مهنة قليلة الطلب في الموصل لكن عٌرف منهم نساخون . وعملوا كذلك في مقالع الجص والنورة واستخراجها ، ومحاولة ايجاد خلطات متطورة ، وأكثر فاعلية من مزج انواع عديدة من التربة . وبلغة اقتصادية اكاديمية نقول : أن اليهود كانوا لا يتعاملون بتلك المصالح التي لا يمتلكون فيها وسائل الانتاج ولا يسيطرون عليها ولا تقع ضمن حيازتهم ، ومثال هذا الزراعة مثلا وتربية المواشي والنقل وغيرها .
ويلاحظ انهم ام يكونوا يتعاملون مع صناعة ، تكون موادها الخام بعيدة عنهم أو قليلة او شحيحة أو يعز عليها الطلب ، أو انهم يتعرضون للابتزاز والمساومة جراء الحصول عليها . لذلك فهم يسعون دائما الى توفير البدائل ، ويعتمدون الوجود الرخيص والمبتذل والمتوفر للمواد الخام . ويحاولون ايجاد تصريفات تجارية ذات جدوى وطلب اقتصادي ، من مواد غير ذات قيمة ، او شبيهة بالنفايات . ويتفننون في اعادة انتاج وتصنيع المواد غير ذات القيمة .
لقد كانوا يستثمرون بكل شيء، ويعولون على اصغر جهد وربح ممكن في التجارة ، ويعتبرون الترويج السلعي للبضاعة توفيرا لسوق ولنشاط تجاري ، بغض النظر عن كمية الربح . وكلنا يتذكر كيف كانوا يبيعون السكر في الموصل باسعار خفيضة ورخيصة ، لغرض تصريف اكبر كمية ممكنة والاستفادة من الاكياس الصوفية المصنوعة من الالياف ( الجنفاص ) ، ويحسبون ارباحهم في الاكياس الفارغة . ويبيعون الشاي بنفس الطريقة ليكسبوا من فراغ الصناديق الخشبية ، التي كان الشاي يعبأ بها . وكيف انهم استفادوا من تصريف الشحوم التي كانت ترمى بالنفايات ، وادخلوها في صناعة الصابون . ولاحقا ادخلوها كمادة لتزييت المحركات التي ظهرت فيما بعد ، واستخدامات أخرى .
كانت الفكرة العملية الاقتصادية التي يعالجونها ، تشكل خطا انتاجيا كاملا ودورة كاملة الى النهاية ، ليضمنوا احتكار الفكرة والصناعة نفسها ، كما انهم يوظفون المعُطى الاجتماعي توظيفا اقتصاديا ، شأنه في ذلك شأن كل الحاجات الاجتماعية الاخرى . فهم على سبيل المثال ، يزوجون ابناءهم وبناتهم مبكرا ، ويعتمدون الزواج المبكر ، لتحقيق غايتين اساسيتين وملحتين . الاولى توفير كادر بشري يعزز وجودهم ، وتوفير ايدي عاملة منتجة وذاتية رخيصة أن لم نقل مجانية ، في مشاغل اقتصادية يهودية كثيرة ، تنتشر في البيوت ، حيث تنتشر في بيوتهم ورش ومجاميع للخياطة والتعليب وصناعة المواد الغذائية والتجفيف واصلاح وصيانة البضائع المتحصلة (اعادة انتاج المواد المستهلكة ) وهكذا . الغاية الثانية من الزواج المبكر : هو منع اي احتكاك من نوع جنسي او عاطفي مع الباقين ، مما قد يثير حساسية الباقين من شرائح المجتمع ، ويؤكد طبيعة اخلاقية ( قد تكون متخيلة ) ضدهم . في مجتمع يعتمد الفضيلة وصورتها الاولى في حماية المحارم . وبالتأكيد هو يوفر لهم ايضا حاجة اجتماعية ملحة . هو حاجة الحصول على الجنس ، وهم كمجتمع مغلق نوعا ما ، لا يعتمد التبشير ولا يرحب بفكرة كسب كوادر جديدة الى ديانته ، ويعتمد الاصل في تثبيت يهودية الاشخاص ، وليس الاكتساب الحديث . وقد ظل هذا النهج قائما حتى على مستوى الدولة التي يعيشيون في كنفها الان .
وهم من الداخل وفي تعاطيهم ونظرتهم الى الحياة لا يتقيدون بما يتقيدون به للخارج . لذلك فما يرفضه المجتمع خارجا او لا يتقبله ، أو لا يرحب به ، من انفتاح في العلاقات وتبسط في الفنون والاهتمامات تجري التغذية به من الداخل .
كما أنهم يتواطنون على فكرة الانفاق وبذل الجهد الفائق لانتاج الفكرة ، ويقتصدون في امور كثيرة بغية توفير المال والجهد اللازم لانتاج الفكرة . وترويجها ، ويستبقون الاحداث بالفكرة نفسها ، وفي التعاطي الاقتصادي تكون الفكرة آسرة ومربحة لمن يمتلكها ويستثمرها ، كما أن صاحب الفكرة ، يكون محميا بفكرته طالما بقيت الفكرة اخاذة ومتوهجة . هذا ما يُفسر تعلق كبار التجار والمهيمنين على الحياة الاقتصادية في وقت ما ، بالذي يحقق لهم نجاحا ورواجا ، وبالتالي يدفعه الى حماية هذا والدفاع عنه ، أو من تقليل الدعايات والاشاعات واشارات العداء والبغض ضده . وهي مسألة بالغة الاهمية ، تتعلق بحماية النفس عبر الدعاية اولاعلام وتحييد الرأي العام ، أو عبر شيوع جو غير مشحون ضد شخص او شريحة ما . منها انبثق هيمنة اليهود على الاعلام ، ومنها انبثق ايضا ، كيف يتجمعون جميعا ، ويوظفون جهودهم من اجل ايصال شخص ما الى منصب ما او سلطة او حضور ، وتسليحه بالمؤهلات المطلوبة او تلميعه اجتماعيا واعلاميا ، وتؤكد بعض الدراسات التاريخية الى أن قورش ( الملك الفارسي ) اُخذ تماما برفيقته اليهودية ، التي انتصرت لقومها وجعلته يعيد يهود بابل الى اورشليم ويغزو مملكة اشور ، ويحرر من فيها من السبي ، ويقلب المعادلة التاريخية كلها لصالح اليهود . وأظن أن اليهود بهذا ، كانوا ناجحين الى حد ما . وهم الان في مجتمعاتهم أكثر من ينفق على الابحاث والدراسات بسخاء .
الموصل رحم جغرافي يحفظ الجنين ولا يتبناه
وهنا يجدر القول في الاشارة للحياة الاجتماعية في الموصل ، والجانب الاقتصادي منها . الذي شكل السمة البارزة للموصل كمجتمع ، واصبحت المقولات تنداح شيئا فشيئا عن طبيعة حياة الموصليين الاقتصادية ، والتي اخذت ابعادا مبالغا فيها ، تصل احيانا الى حد اتهام المجتمع ككل بالبخل او الشحة ، واوصاف أخرى ، تردد بطريقة ببغائية . كان بتاثير مجموعة الافكار والاساليب التي كرستها بعض الاقليات الدينية والعرقية في مدينة الموصل ، نتيجة تعاطيها مع المعاش ومع الاكتساب ومع مواجهة تحدي الفقر والازمات والحروب و والمجاعات والمرض . وكانت في كثير منها ، معالجات ذكية وفاعلة ومجدية ، أو على الاقل حدّت من تأثير الازمات على السكان، وهي بالمحصلة جهد فكري انساني ، يجب الا يُحتكر لاقلية معينة ، والا يُختصر في موقف سياسي ديني ديماغوجي ( الفكرة المسبقة ) . صبغ اليهود الحياة الاقتصادية بصبغة واضحة في الموصل ولكن بطبعة محلية تتقارب جدا مع طبيعة السكان ومعتقداتهم وتراثهم وعاداتهم الاجتماعية ، كما أنها تلبي حاجة البيئة والجغرافية التي تفرض نوعا من الاحتياط والمعالجات الفنية الذكية في توفير الطعام وتسيير المعاش وفق ما امكن من طرق وباقل الخسائر .
المظاهر الاجتماعية (( الازياء ))
كانت السلطات والانظمة المتعاقبة القديمة منها على وجه الخصوص ، تفرض على بعض الاقليات الدينية نوعا من التميز ، والعلامات في الاشكال والزي وطريقة التقديم في المجتمع ، كأرث ديني ،أو تعليمات دينية ، كلٌ فسره على طريقته الخاصة ، كما أن بعض المواطنين كان يغالي في تفسيره ، ويعتمده بشكل متعسف ، يصل الى درجة الظلم والعدوان . وقد يعتمده الوالي او السلطان في فترة ما ، أو يسكت عليه ، اذا كان يريد المزايدة مع المتزايدين حول الدين ، أو ان يشرعن نفسه ، في حالة خفوت شرعيته ، او تعالي صوت الشعب الغاضب ضد ظلمه . فتكون الشرعنة بمحاكاة مزاجات الجمهور المريضة منها ، او استدرار عطفهم وتأييدهم وسكوتهم على المظالم . ففي حين تنص التعاليم الاسلامية على مجرد أخذ الجزية من اهل الذمة فقط . وهي مبلغ من المال لقاء الحماية . ذهبت بعض الانظمة بعيدا ، بان فرضت نوعا من التميز في الزي والاكل وطريقة الكلام وطريقة السلام ، وساد في بعض هذه الفترات فرض زي معين على الاقليات الدينية في المجتمع ، خاصة في عهد السلاطين العثمانيين ، فقد فُرض على اليهودي مثلا ، أن لا يتشبه بالمسلمين في زي ولا يتبختر ولا يطيل ثوبه ولا يركب في حضرة راجل ، ويبدأ هو السلام ولا يُبتدأه . وبعضهم تطرف كثيرا في تصرفات لا تمت للتعاليم الاسلامية الخاصة بمعاملة اهل الذمة . على العكس من هذا كانت بعض الفترات مضيئة وتبشر بالخير ، وتعطي اليهود بعض الحقوق والتي منها حصر خصوماتهم واقضيتهم بمحاكم خاصة يديرها احبارهم ولجان دينية خاصة منهم ، وهي الفترة الاخيرة واللاحقة من العهد العثماني ، والذي ساد فيها نوع من الثورات الحقوقية والحركات والاحزاب التي ضغطت بشكل او بآخر على السلطة . من هذا فقد التزم اليهود بالتعليمات القديمة حول الزي والشكل وبعض العلامات الفارقة . فكان لهم زيهم الخاص . والذي تكرس بفعل الزمن ليصبح اشبه ما يكون ( بالزي القومي لهم ) ، وبعض الازياء الاخرى لهم املتها ظروف العمل ، ومناسبتها لهم ، فهم يعتمدون البياض في ثيابهم رجالية كانت أم نسائية ، والمخيطة باليد ، والمقفولة عند العنق ، خاصة للرجال منهم ، وبدون ( ياقة ) يعني منتهية الحوافي عند النحر ( الرقبة ) بحيث تبدو الرقبة واضحة وحرة . وذات اكمام قصيرة تصل حد الساعد . وعادة حينما تكون الرقبة والنحر، واضحين ، فان التجاعيد تظهر بصورة واضحة للعيان ، الامر الذي كان يثير بعض المتحذلقين ممن يستشهد بالاية الكريمة (( ناصية كاذبة خاطئة )) . وكأنه يريد أن يثبت اعجازا علميا ، في رقبة هذا المسكين . وهذا ما يميزهم عن الباقين الذين يرتدون الثياب ذاتها بحيث تغطي الرقبة ، وربما كانت الرقبة المخفية ب( الياقة ) اكثر تجعدا من هذا . ويلبسون عادة فوق الثياب معاطف او مايشبة المعاطف ، مخيطة من مادة ( الجنفاص ) الرخيص والثقيل والخشن ، والذي يؤخذ عادة من تجميع الاكياس التي تعبأ بها المواد مثل الحنطة والرز والبقوليات ، وهذا الزي يوفر لهم العملية والبساطة ، وربما كان في وقت من الاوقات يفي بالغرض ، لاجل تحقيق التمايز الذي اشرت اليه سالفا . وهذا زي العوام والغالبية الفقيرة منهم ، بينما يكون زي الموسرين واصحاب المصالح الخاصة والورش هو عبارة عن ثوب ( زبون \ قفطان ) من قماش ثخين املس ، طويل لكنه لا يغطي القدمين بل يرتفع عنها بمقدار شبر (وهي علامة مميزة ) ويغلق عند الرقبة باحكام ، ولا يترك مفتوحا . بخلاف الزي التقليدي لعرب الموصل الذين يرتدونه مفتوحا من الصدر ، ويعتمر مع الثوب طربوشا طويلا نوعا ما ، وهو ايضا علامة مميزة ، تختلف عن طرابيش الاخرين القصيرة نوعا ما ( الفيس ) ولا يضع فوق الطربوش اي قماش آخر ، بخلاف المسلمين الذين يلفون الطربوش احيانا بقماش اصفر او ابيض او اشكال آخرى في الدلالة على المقامات والوظائف والهيئات الاجتماعية . ومن يلاحظ الزي الخاص بالحلاقين والرجال الذين كانوا يختنون الاطفال في الموصل قبل عقدين او ثلاثة ، كان يشابه تماما هذا الزي ، وقد ظل الحلاقون المواصلة الى عهد قريب يلبسون ( الزبون \ القفطان) على الطريقة ذاتها مقفوله عند العنق ، والتي ظلت ايضا زيا خاصا بالمسيحيين من اهل الموصل الى عهد قريب او ما زال . وينتعلون احذية خفيفة ، وتكون في اغلب الاوقات عبارة عن قطع من جلد الجاموس السميك يُشد الى القدم بشرائط جلدية بما يشبة ( الصندل ) ، يخدم حركتهم الخفيفة وكثرة تنقلاتهم .
لكن كان منهم من يرتدي العقال مع الكوفية ، ويرتدي الازياء الخاصة بالقوميات والملل الاخرى في الموصل ، وكان احبارهم او بعضهم يعتمر الطربوش وعليه قماش اسود مصفوف على شكل ملفوفات منضودة حول الطربوش ، لبيان مقامه الروحي او استاذيته داخل الملة ، وعلى العموم فقد تحررت ازياؤهم كثيرا في العقود الثلاثة أو الاربعة الاخيرة قبل رحيلهم الى اسرائيل ، بحيث انتفى شكل التمايزات ، لكنهم كانوا قد الفوا بعض الازياء القديمة ، فظلوا يُعرفون بها في الموصل .
يطيلون شعورهم ، وينظمونها جدائل تبرز من عماماتهم ، ولهم اغانٍ خاصة بهذا ، لازال بعضها يتردد على انه مأثور موصلي . ويرتبط الشعر لديهم بحالة طقس او منسك ديني . لكنه يبرز ذا اهمية في شكل ( السوالف ) وتسمى لدى الموصليين ( الزلف ) ، وهو الشعر المتدلي فوق الصدغين وحول الاذنيين . وبه يُعرف اليهودي المتدين ، ويروج بين المواصلة مثل شعبي دارج هو (( يهودي مزلف )) اي صاحب سالف ، او زلف كما يصطلح عليه الموصليون . كلمة السالف يقابلها في العبرية (بيئوت ) أي اركان . وقد ورد في العهد القديم نصا (( لاتقصروا رؤوسكم مستديرا ، ولا تفسد عارضيك )) لاويين 27\ 19 . وكان من علامات التقوى ان يترك الشعر متدليا على الصدغين . يتميز اليهود الشرقيين بهذا فقط ( الارثوذكس ) بينما يتحرر منه مثلا السفارديم ( يهود اوربا الغربية )، لذلك صدر في اسبانيا سنة 1408 مرسوم ملكي اسباني منع اليهود من حلق لحاهم ، واجبرهم على اثبات السوالف خاصة ، وهو يشبه الى حد ما المراسيم الالمانية التي صدرت ضدهم فيما بعد . وهو ما يشي( يشي : من الوشاية وتستخدم الكلمة ادبيا في حالات الاشارات البسيطة التي لا تدل على الحالة مباشرة ، أنما تدل على ما يؤدي اليها ، وهي بذلك تشبه الوشاية المعروفة ) ، بحالة تفاوت عقائدي بين السفارديم وبين المزراحيين ( يهود الشرق ) . اضافة الى هذا هناك اللحية ، واللحية كما كانت توفر لهم حاجة حياتية واجتماعية ودينية ، ايضا كانت سمة تلك العصور .
التعاطي الثقافي
1
اللغة
1
اللغة
لبس بعض يهود الموصل الزي البدوي العربي والكوفية والعقال ، دون أن يكون من اهل الريف او منحدرا منه . لكنه ادعى انه من اصول عربية ، وهو ما قاد الى اثارة موضوع اصل اليهود القومي ، وخاصة اولئك الذي تواجدوا في الشرق الاوسط ، فمع ان الجميع اتفق على انهم بقايا السبي الاشوري والبابلي ، لكن ايضا لهؤلاء جذر واصل ما يجب ان يرجعوا اليه ، وانتهى البحث في هذا الى اثبات اصولهم السامية ، ليغلقوا الباب امام اي تفصيلات أخرى . اثارة هذا الموضوع بالذات يفتح الباب الى مناقشة ودراسة الارث الثقافي لليهود . وتعاطيهم الثقافي . وفي دراسات الانثربولوجي ، التي تحدد اللغة كنوع من التعريف القومي للناس . فأن اليهود في الموصل كانوا يتقنون الارامية والسريانية والعبرية ، او لغة منها ، ويفهمونها ، واحيانا يكتبون بها . وأفضل ما تتوضح صورة اللغة العربية احيانا في مجال الحديث عن الاصل والتأصيل ، في مقارباتها مع اللغة الارامية والسريانية . ودراسة مخارج الحروف وطريقة الالقاء في كلتيهما . لانها من اصول واحدة ، واللغة الارامية لغة شقيقة للعربية على اشهر الاقوال . ولأنهم كأقلية دينية ، لا تملك الحق الكافي في مواجهة المجتمع ، مواجهة حادة وعلنية وندّية في الوقت نفسه . خاصة اوقات الخصومات والتلاعن ، فهم يتحصنون باللغة احيانا في تفريغ بعض من غضبهم واستيائهم من تصرف معين ، وهذا يتطلب قدرة ومهارة في استخدام اللغة ، وهو ما يجيدونه ، ويتطلب بعض مهارات بلاغية في اللغة ، منها التورية والكناية لايصال غضبهم واستيائهم . فكانوا يعمدون الى التوريات في اللفظ ، واللعب بالالفاظ . فحينما يريدون ان أن يلعنوا شخصا ما سابّهم ، وغمزهم في دينهم صراحة ، يجيبوه بقولهم ( اشتعل إيمانك = اشتعل دينك ) اي احترق ، وكلمة الايمان تُلفظ مفخمة ، وليست مرققة ، فهم يلفظونها ( ايمون ) على نسق سرياني شائع في قلب الالف واوا مع تفخيم الواو . فهم يورون ( من التورية ) بالايمان عن الدين . فاذا فهمها الشخص ، استطاعوا التخلص منها ، واذا لم يفهمها ، مضى اللعان الى سبيله ،ومن ذلك كلامهم حينما يريدون الدعاء على شخص ويتمنون له الموت فيقولون (( شالوك أعلى من ربعك )) بمعنى ، حملوك اعلى من رفاقك . وهي كناية عمن يحملوه ميتا في التابوت ، ويكون اعلى ممن يحمله من رفاقه . والجملة تحتمل معنييين ، اولهما هذا ، والثاني هو حمل العريس ليلة زفافه عاليا ويكون اعلىمن رفاقه ، لكنه يريدون المعنى الاول ، يورون بالمعنى الثاني عند الحاجة والخلاص .
ويقولون ايضا (( منبوش الصفحة )) ، لمن يريدون أن يقولوا عنه انه منبوش بالكامل ، وهي صيغة دعاء منحوتة على وزن مفعول ، مثل مرحوم ، بمعنى نسأل الله ان يرحمه ، اختصرها العرب في صيغة مفعول ، فكلمة منبوش ، تعني بصيغة الدعاء ( نتمنى لجسدك النبش ) . ولكنهم لا يستطيعون القول ان فلانا منبوشا بالكلية ، فيوردون الجزء ( الصفحة = الجانب ) ويريدون الكل ، في لعب فني بلاغي بالكلمات يدخل في باب المجازات . من كلماتهم المعتادة والتي ترسبت في المجتمع الموصلي او لازالت قيد الاستخدام . ( اطومغ \ اتلوبس \ اتوبع )وهي نحت آخر من الكلمات ، انطمغ بمعنى نام ، والبس ، واتبع ، وهكذا اي فعل أمر. يفيد الأمر مع السخرية والضجر ، وعمليات النحت والصياغة بهذه الكلمات كلها هو جزء من الارث السرياني اللغوي ، وله وجود في بعض اللهجات العربية ، الا انه حاضر بكثرة في اللهجة الموصلية . في احاديثهم يبهمون صورة المقصود ، ويتركونها لتأويل من يتأولها ، مما يتيح لهم سرعة التنصل، فيقول عفاك وكفاك واغناك وافداك .، والفاعل المحذوف هنا ، تحتمل ان يكون الله ، الذي هو الهك ، أو الله كما يتصورونه هم .
لكن لديهم كلمات هي ارث ديني بحت ، مثل كلمة ( افدالك ) يعني اذهب فداءا لك . و( عفاك وجناك وحذاك ) ، ومنها الاغنية المشهورة التي يُعتقد انها من تراثهم في الموصل ولا زالوا يرددونها في مغتربهم (( عفاكي عفاكي )) . وعلى ذكر المنظومة اللغوية لهم ، فهم يعتمدونها في تسمياتهم ايضا ، فهم يستخدمون تسميات توراتية واسماء انبيائهم . بنيامين \ يعازر \ موسى \ سليمان \ داؤد \ اسحاق ابراهيم ، واسماء اخرى تدخل في هذا السياق ، ساسون \ خضوري \ حسقيل \ ، كما يستخدمون اسماء مثل ، صالح \ فالح \ فاضل \ سامر . وعلى عادة السريان من معايشيهم ، لا يثبتون الالف واللام ، في النسبة الى الاشخاص والمدن ، فيقولون سامر نجار وحداد وقصاب ، ولا يقولون سامر القصاب والحداد والنجار ، كما يقولون داؤد موصلي \ بغدادي \ كركوكلي ، ولا يقولون داؤد الموصلي والبغدادي والكركوكلي .
مع ملاحظة لغوية شائعة في استخداماتهم ، وهي نطق حرف السين شينا ، معتمدين في ذلك على أصل وروده ، أو أنهم يحققونه شينا بعد إخضاعه وفق العبرية . وكان هذا وجه التميز المقصود ، عن باقي اللغات التي تلتقي واياهم في سلالة واحدة ، فهم يقول موشي \ موسى ، وشالوم \ سالم ، وأنهم كذلك يمدون حركات الفتحة والكسرة ويشبعونها لتكون حرفا مصوتا ممدودا بالكامل ، مثل شامير \ سامر ، وشاؤول \ سائل .
هذه الفذلكة لقلة اهميتها ، بالنسبة الى التورية والاستخدامات اللغوية الاخرى ، لكنها مهمة جدا ، في شرح كيف أن اقلية دينية تنشيء لها منظومة متكاملة حتى من ناحية اللغة المستخدمة ، وهذا يعني أنها لم تكن هامشية ولم تكن عابثة ولا كانت خاملة حضاريا . وفي هذا مؤشر اكبر الى ان المحيط العام نفسه ( اقصد الموصل كمجتمع ) كان اكثر نشاطا بحيث انه حفزها لمواجهة تحديه الاكبر .
ويقولون ايضا (( منبوش الصفحة )) ، لمن يريدون أن يقولوا عنه انه منبوش بالكامل ، وهي صيغة دعاء منحوتة على وزن مفعول ، مثل مرحوم ، بمعنى نسأل الله ان يرحمه ، اختصرها العرب في صيغة مفعول ، فكلمة منبوش ، تعني بصيغة الدعاء ( نتمنى لجسدك النبش ) . ولكنهم لا يستطيعون القول ان فلانا منبوشا بالكلية ، فيوردون الجزء ( الصفحة = الجانب ) ويريدون الكل ، في لعب فني بلاغي بالكلمات يدخل في باب المجازات . من كلماتهم المعتادة والتي ترسبت في المجتمع الموصلي او لازالت قيد الاستخدام . ( اطومغ \ اتلوبس \ اتوبع )وهي نحت آخر من الكلمات ، انطمغ بمعنى نام ، والبس ، واتبع ، وهكذا اي فعل أمر. يفيد الأمر مع السخرية والضجر ، وعمليات النحت والصياغة بهذه الكلمات كلها هو جزء من الارث السرياني اللغوي ، وله وجود في بعض اللهجات العربية ، الا انه حاضر بكثرة في اللهجة الموصلية . في احاديثهم يبهمون صورة المقصود ، ويتركونها لتأويل من يتأولها ، مما يتيح لهم سرعة التنصل، فيقول عفاك وكفاك واغناك وافداك .، والفاعل المحذوف هنا ، تحتمل ان يكون الله ، الذي هو الهك ، أو الله كما يتصورونه هم .
لكن لديهم كلمات هي ارث ديني بحت ، مثل كلمة ( افدالك ) يعني اذهب فداءا لك . و( عفاك وجناك وحذاك ) ، ومنها الاغنية المشهورة التي يُعتقد انها من تراثهم في الموصل ولا زالوا يرددونها في مغتربهم (( عفاكي عفاكي )) . وعلى ذكر المنظومة اللغوية لهم ، فهم يعتمدونها في تسمياتهم ايضا ، فهم يستخدمون تسميات توراتية واسماء انبيائهم . بنيامين \ يعازر \ موسى \ سليمان \ داؤد \ اسحاق ابراهيم ، واسماء اخرى تدخل في هذا السياق ، ساسون \ خضوري \ حسقيل \ ، كما يستخدمون اسماء مثل ، صالح \ فالح \ فاضل \ سامر . وعلى عادة السريان من معايشيهم ، لا يثبتون الالف واللام ، في النسبة الى الاشخاص والمدن ، فيقولون سامر نجار وحداد وقصاب ، ولا يقولون سامر القصاب والحداد والنجار ، كما يقولون داؤد موصلي \ بغدادي \ كركوكلي ، ولا يقولون داؤد الموصلي والبغدادي والكركوكلي .
مع ملاحظة لغوية شائعة في استخداماتهم ، وهي نطق حرف السين شينا ، معتمدين في ذلك على أصل وروده ، أو أنهم يحققونه شينا بعد إخضاعه وفق العبرية . وكان هذا وجه التميز المقصود ، عن باقي اللغات التي تلتقي واياهم في سلالة واحدة ، فهم يقول موشي \ موسى ، وشالوم \ سالم ، وأنهم كذلك يمدون حركات الفتحة والكسرة ويشبعونها لتكون حرفا مصوتا ممدودا بالكامل ، مثل شامير \ سامر ، وشاؤول \ سائل .
هذه الفذلكة لقلة اهميتها ، بالنسبة الى التورية والاستخدامات اللغوية الاخرى ، لكنها مهمة جدا ، في شرح كيف أن اقلية دينية تنشيء لها منظومة متكاملة حتى من ناحية اللغة المستخدمة ، وهذا يعني أنها لم تكن هامشية ولم تكن عابثة ولا كانت خاملة حضاريا . وفي هذا مؤشر اكبر الى ان المحيط العام نفسه ( اقصد الموصل كمجتمع ) كان اكثر نشاطا بحيث انه حفزها لمواجهة تحديه الاكبر .
2
الفنون
الفنون
وأمر طبيعي أن تكون العلوم والفنون والافرازات الفنية والحضارية الاخرى ، مادة اساسية –عند اليهود - وهي اللغة ولغة التعبير المختلفة ، أو ان هذا الثراء اللغوي والادواتي سيقود الى وجود فني وثقافي في الموصل تصنعه هذه الاقلية او تلك .
لقد دثر اليهود الجو العام في الموصل ورفدوه ببعض المهارات والابداعات في مجال الفنون والموسيقى ، ففي الوقت الذي اهتم فيه المسيحيون ، بجانب التعليم والطبع والنشر وانشاء المدارس ، اهتم اليهود في العقود الاخيرة من وجودهم في الموصل ، بالفنون ، من غناء ورقص وموسيقى ، وبعض الفنون الاخرى كالمسرح والدمى وصناعة السينما وغيرها من الفنون ، كانت مدارسهم الدينية تنتج مجموعات غير قليلة ، من المنشدين والعازفين ، ممن يقومون بمهمة ترتيل وانشاد المزامير في المعابد ، وبعض هذه المجاميع كان يأخذ طريقه الى خارج المعبد ، وبعضها كانت تطفح موهبته فتسيل على شكل شهرة في العزف والغناء وغيره ، تجتذبه الحفلات الخاصة وصالونات الكبار الادبية ، وربما خرجت الى الشارع .
كان الفرع الخارج من شارع حلب باتجاه المتحف الحضاري ودائرة التلفزيون القديمة ، يعج بمكاتب الفنانين والعازفين ، بعد أن خرجت هذه المواهب الفنية تنشد الاستثمار بالفن ، وترويجه ، وهذه المكاتب عبارة عن غرف مستقلة يسكنها ، ويتخذها حانوتا في نفس الوقت بعض من الفنانين . والفنانات ايضا . وظل ذكر عازف العود حكمت وعازف الكمان غانم اليهودي ، وفيه سكنت بعض الفنانات من مطربات واستعراضيات . وفيه مرت سلطانة يوسف وسليمة مراد . وبعض اليهوديات من ارمينيا الذين استقدمهن المتعهدون اليهود . وقد ظل حضورهم في العزف على الالات واضحا ، واصبح حكرا عليهم في وقت من الاوقات ، حتى اضطر نوري السعيد رئيس وزراء العراق في وقت من الاوقات الى تأخير رحيل بعض الموسيقيين اليهود ، الى اسرائيل لعدم وجود بدلاء لهم من غير اليهود ممن يعزفون على بعض الالات . ومن هذا ما ذكره المرحوم هاشم محمد الرجب ( خبير المقام العراقي المعروف ) وحدث به أبنه السيد باهر الرجب ، من أن نوري السعيد ، طلب منه ومن الراحل شعوبي ابراهيم ، أن يتعلما العزف على السنطور لهاشم الرجب ، والعزف على آلة الجوزة لشعوبي ابراهيم ، وأنه سيؤخر ترحيل العازفين اليهود لهذه الالات الى ان يتعلما العزف ويتقنانه ، وهكذا كان . أمام هذا الحضور غير المنافس وهذا الاحتكار ، لم يكن غريبا أن يكون ملاكو المسارح ( التيارتو ) والكازينوهات والسينمات من اليهود ، المستثمرين لهذه الصناعة . وكانت البصمة الفنية التي تركها هذا الحضور واضحة جدا في الموصل .
الارث الذي ضاع في بزار السياسة
على الرغم من ان هذه الورقة البحثية ليست سياسية ، لكن لا بد من دراسة تأثيرات السياسة على اليهود وعلى وجودهم وعلى حمولتهم الثقافية والاجتماعية التي تركوها في الموصل والعراق عموما . والحقيقة الناصعة للعيان ، أن اليهود اندمجوا كثيرا في مجتمعات كالموصل ، لائمتهم تاريخا وجغرافيا وتقارب عقائدي ،(يعتقد اليهود أن لهم تاريخا عميقا نبت ضمن منظومة الفكر الشرقي ، ويعتقدون كذلك بان هذه الارض هي مهدهم ومهادهم ، وعاشوا طفولتهم التاريخية ضمن جغرافيا تتشابه كثيرا مع جغرافية الموصل ،اما التقارب العقائدي، فيأخذ اشكالا كثيرة ، غيّبتها مع الاسف محاولات سياسية بحتة ، تبدأ بمسألة الاتفاق في مجال التوحيد . واليهودية الاصلية دين توحيد ، وتنتهي بكثرة القصص الديني الوارد في التوراة أيضا ، والذي تخلل الذاكرة الشعبية الاسلامية )، اندمجوا رغم كل الصعوبات ، والمقروء من تاريخهم وتكريساتهم في الموصل ، أنهم ارادوا البقاء والعيش في هذه البقعة . لكن الصهيونية ، كحركة سياسية ، استخدمت العقيدة غطاءا روحيا لها فقط ، وادخلت اليهودية كدين ،في ساحة الصراع وطرحته كورقة سياسية . قطعت أي صلة روحية أو حنين لليهود الشرقيين ببلادهم الاصلية وباصولهم العراقية واراضيهم . والغريب أن بعض الانظمة السياسية العربية تعاونت بشكل مريب في هذا ، وازالت أي اثر لليهود في البلاد ، وسط صمت اسرائيلي مبارك . كما أنها ادركت نوعية اليهودي الشرقي وطريقة تكوينه ومتعلقاته الثقافية التي تتماهى احيانا مع مواطنه العربي والمسلم . فقد حاولت جاهدة تقديم يهود اوربا ، وسهلت صدارتهم للمشهد السياسي والقيادي ، لانهم كانوا صهاينة اكثر منهم يهود ، بينما يهود العراق كانوا يهودا أكثر منهم صهاينة . ولقد تضافرت بشكل متعاون وكثيف الحركة الصهيونية وبعض القوى السياسية المحلية ( السياسية منها ) على طمس أي اثر لليهود في الموصل، وقطع الطريق الى اي محاولة أو مشروع عودة او حنين . وهذا الحنين والشوق الى الوطن هو ما عزل اليهود العراقيين والموصليين منهم خاصة في اسرائيل ، زمنا عن باقي اخوانهم من اليهود السفارديم والاشكناز . وظل يلاحقهم حنين غامر الى الموصل والى العراق ، يتسرب بين اونة وأخرى على صور اغاني وتجمعات واستذكارات . وكلنا يعلم ان قضية الترحيل كان لاجل توطينهم في الارض الجديدة وكسب شرعية بهم ، وهو مخالف لكل المتعارف عليه من وطنية ومن دين ومن انسانية . لكن طبقة سياسية متحالفة مع رأي عام شعبي مخدر ، هو الذي جعل من ترحيلهم قضية وطنية التقت مع مصالح الصهيونية .
كانت عملية تهجير اليهود خطأ قوميا ووطنيا .سوقته بعض الدوائر ، حتى تلك التي تدعي الوطنية والدين ، على أنه مصلحة وطنية بحتة ، وتحت هذا التسويق جرى اغتيال التاريخ اليهودي ، إرثا وافرارازات ثقافية واجتماعية ، وسرقته تحت نفس هذا العنوان .
ولاجل تحقيق هذا الهدف ، تم طمس كل معالمهم في الموصل ، وطمس اثارهم ، وغموض مصير اموالهم وممتلكاتهم . وتمييعها عبر التزوير والتحريف بشكل لا يُصدق . وفي السبعينيات جرت محاولات من قبل البعض منهم ، لادارة املاك اليهود وجردها وتحويلها الى مال سائل ، ومقترح بان تكون الادارة في دولة المغرب ، عبر وسيط . لكنها فشلت ايضا . وأكتشفت في الموصل اكثر من مرة ، حالات وجود ارث يهودي على شكل مقبرة او كتابات او نصوص ، وبصورة عرضية ، الا أن الاوامر كانت تصدر بسرعة ومن اعلى المستويات بسد الموضوع والتعتيم على القضية . وعادت بعض الانظمة أخيرا بعد أن احست بالفخ الكبير ، والغرض من تهجير اليهود من العراق . ومع شديد الاسف يُعاد السيناريو نفسه ، مع مسيحيي العراق ، ولكن الراعي هذه المرة لم تكن الانظمة الحليفة لبريطانيا .
هاجرت اعداد كبيرة من اليهود الموصليين الى انكلترا ، متخطية الذهاب الى اسرائيل ، وهاجر بعضها من اسرائيل اليها ، بعد ما رفض التأقلم . ولازال للبقية من الاولاد والاحفاد بعض حنين .
يبقى ان نقول ان الحمولة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي القاها اليهود في الموصل ، توارثتها بعض الاقليات ، التي سكنت الموصل ، واحيانا بشكل يكاد يكون موزعا بالتساوي ، او كل على حسب استيعابه للطريقة الفنية في ادارة الاقتصاد . فقد اخذ الارمن ارثهم في اختيار المهن والصنائع . واخذ الموصلين طريقتهم في حفظ وتقنين التموين وتعبئة المواد الغذائية . واخذ الاكراد ما يتعلق بالفنون والبراغماتية . واخذ عنهم اليزيديون ، وربما هي مصادفة ، ازياءهم وطريقة لباسهم التقليدي ، خاصة للفقراء منهم ، وقبل عقدين او أكثر ، حينما كان اليزيديون ينتشرون في ساحة باب الطوب ، حيث يقيمون في فنادقهم المعتادة الموجودة هناك . كان المرحوم (( جَكُّومِي )) الكبابجي ، او هكذا يسمونه ، يردد عبارة مفادها (( لم اخلص من اليهود )) شرحها مرة للموجودين فقال ، يتطابق اليزيدي مع اليهودي في الزي بشكل لا يصدق ، وتتطابق الى حد ما هيئاتهم الجسمانية .
وورث عنهم الشبك اساليبهم في البناء الاقتصادي الشخصي .
كانت هذه قراءتي لوجود اليهود وحياتهم في الموصل ، متوكئا فيها على بعض الملاحظات والمصادر والمشاهدات ، واللقاءات المباشرة مع بعض الذين ينحدرون من اصول يهودية من الذين ترسبوا في الموصل ، وبعض الوثائق ، وايضا بعض الحوادث التي كنت شاهدا عليها والتي قادتني بصورة غير متوقعة الى اكتشاف اثر او خيط ما .
ولكن يبقى الاعتراض والنقد والاستدراك ، وبعض الملاحظات ضرورية من قبل من يملك معلومة ما ، لاضافتها للتاريخ .
***