بقلم : اسامة غاندي
ابراهيم طوقان شاعر عربي من فلسطين , شاء حظه العاثر ( كما يقول هو ) أن يعمل معلما للصبيان في مدرسة النجاح بنابلس , وكان كلما ضاق ذرعا بتصرفات الصبيان ومشاكستهم في الصف , نظر الى لوحة معلقة على الحائط فيها بيت شعر لامير الشعراء احمد شوقي عن المعلم , وهو بيت شهير سار مثلا
قم للمعلم وفه التبجيلا .................. كاد المعلم أن يكون رسولا
يحاول اثناء تأمله في هذه اللوحة أن يهديء قليلا من روعه , ولكن ولدنة الصبيان وضوضاءهم وصخبهم , اخرجته يوما عن طوره , فانفجر بقصيدة عارض فيها مثالية شوقي وهدوءه , وعيشته في البلاط الملكي كشاعر مترف . لم يعش في يوما مع صبيان ( عجايا كما يقول الموصليون ) فانفجر ينشد :
شوقي يقول وما درى بمصيبتي قُمْ للمعلم وفِّهِ التبجيلا
اقعدْ فديتك كيف يكون مبجلا من كان للنشء الصغار خليلا
ويكاد يفلقني ( الامير ) بقوله كاد المعلم أن يكون رسولا
يا من يريد الانتحار وجدته ‘ ان المعلم لا يعيش طويلا
لكني مع الاسف اراني اخالف الشاعر الكبير ابراهيم طوقان في النتيجة التي انتهى اليها , وهي أن المعلم لا يعيش طويلا , نعم المعلم يعيش ويعيش طويلا ايضا , بدليل أني اجلس اليوم مصاب بالانفلونزا الحادة ولا اقوى على التركيز , لأسطر في عيد المعلم وذكرى المعلم ما يجود به الخاطر وما يوفي ذلك الانسان حقه , وقد لا استطيع أن افيه حقه .
احتفظ بذاكرتي للمعلم باكثر من صورة ومشهد وشرف . وحسبي أن أشير الى أن وظيفة التعليم مارسها الخالق جل جلاله ونسبها الى نفسه باصرار وفخر فقال (( إقرأ وربك الأكرم . الذي علّم بالقلم . علّم الانسان مالم يعلم )) . وهذه هي الصورة الكلية المشرقة والعامة لكل من يمارس التعليم , ولكن لابد من الذهاب الى الخاص في وضع المعلم وتاريخ المعلم وتاريخ التعليم وتناقضات العملية التعليمية وتنوع مؤسساتها , لان نستقريء تاريخا اجتماعيا اوسع للمعلم .
أنا كشخص من جيل الستينيات يشكل لدي المعلم انسانا يكاد ينافس الاب في التوجيه والتربية , وتلقيت تعليما وتربية على ايدي المعلمين , وربما كانت التربية اكثر من التعليم , وهذه قضية بتنا لا نلتفت اليها كثيرا . وفي الطفولة وحيث الذاكرة فارغة وغير مشغولة بصور مآسي وقتل واصطراع وتكتل على اساس ما . يعلق في ذهني الى الان صورة المعلم المأخوذه من اول وهلة بدون افكار مسبقة , ذلك الانسان الذي يدخل الصف مهندما نظيفا لامعا متعطرا مترفا . ولاننا ونحن ا طفال بمثابة مشاهدين في قاعة عرض وانظارنا تجول فقط في الممثل الرئيس والوحيد على المسرح وهو المعلم , فان عيوننا ووجداننا وملاحظاتنا الدقيقة تجول في كل انحاء هذا الممثل من لبس وهندام وربطة عنق , لم اتذكر يوما أن معلما دخل علينا الصف بدون ربطة عنق ,( لم أر معلما في دشداشة ونعال ابو الصباعة ) حتى أننا نكاد نحصي على المعلم انفاسه . وربما فهم بعض المعلمين هذا الوضع , فكانوا يدخلون الصفوف كعرسان . هذا الوضع جعل المعلم متفرغا للتعليم وباريحية , رجلا خاليا من العقد والازمات النفسية , وموضع احترام المجتمع , وخاصة النساء كونه وجها إجتماعيا ,مما حفزه على الانفتاح والاستجابة للتطورات , فكان المستوى العلمي عاليا جدا . وأتفق ان يكون ( ولم يكن مصادفة ) حملة الوعي الوطني الجديد من المعلمين , فكانت الحركات الوطنية تعشعش في اوساطهم , وتكاد تكون حصرا فيهم .
هذا المظهر المدني الذي رافق عملية التعليم المدني الذي خلفت الاشكال التقليدية في التعليم القديم ( او الديني ) كانت توحي لنا بايحاءات اخرى غير معلنة ولكنها ربما تكون مقصودة , وهي أن ما نتلقاه تعليما فعلا وتعليما مفيدا . سيما واننا كنا متأكدين من الجدوى الاقتصادية من التعليم , كونه سيقودنا الى الوظيفة والاستقرار الاقتصادي , كما كان الاباء ايضا متأكدين من هذه النتيجة . ولهذا حرص الجميع على اكمال التعليم . ولا أتذكر أن في محلتنا الكبيرة جدا . من ولد ولا بنت , من عمر السادسة فما فوق كان خارج التعليم , أو كان متسربا منه ابدأ , حتى منهم من كان يغيب يوما عن المدرسة فانه يشعر شعور , الهارب من الخدمة العسكرية , وهو شعور رهيب ربما يدركه من عاش هذه التجربة واكتوى بنيرانها .
هذه الصورة الرائعة والجميلة للتعليم المدني , أثارت منذ وقت مبكر حفيظة المدارس القديمة , وحفيظة حواضنها الثقافية , ولأنها اضعف من ان تناهض هذه الموجة الحداثوية , فقد اخذت تناصبها العداء , عبر التلقين الديني الذي يصب في مجمله على كراهية اي شيء خارج الوصاية الدينية وتكفيره اذا لزم الامر , وأتخذت اشكالا أخرى , طالت شخص المعلم نفسه , فكانت تتوالى الاشاعات عن فسق المعلم وعن ضعف الثقة في المعلم . فحساسية الناس من المعلمين سببها الثورة المضادة التي قادها جماعة التعليم الديني القدماء ووسمت المعلمين بالانحراف . ومن المفارقات أن يكون هذا هو هدف المستعمرين الجدد الاول , والمعلن عنه بصراحة .
لكن الجو المدني العام للمجتمع والنزوع بقوة نحو البناء , جعل هذه المقاومة الضعيفة وغير الاخلاقية باهتة , لكنها مع الاسف شكلت مادة تراكمت بشدة بعد زوال الوعي , لتشكل العنوان العريض لفلسفة التعليم فيما بعد وشكل المجتمعات . وها نحن نذوق بعض ويلاتها الان .
هذه التناقضات التي زرعها البعض في وجدان الناس البسطاء والتي كانت مزروعة في وجدان بعض الاباء من الاميين والذين يتوازعون بين المدرسة كمرجع ثقافي للبناء وبين البيت بما يحمله من تناقضات , أثرت بشكل غير مرئي , لكنه هدام , على توحد الصورة في ذهن الانسان , وامكانية الاستفادة من الطاقات في تنمية المجتمع ,
وهذه التناقضات الاجتماعية على شكل تلاميذ متعددي المشارب والبيئات , كان المعلم في الصف يتلقاها ويعالجها , كل على طريقته .
من الصور الطريفة التي كانت تحدث في صفي , الصف الثالث الابتدائي , كان يجلس بجانبي تلميذان شقيقان , من وسط عمالي كادح , كان ابوهما يعمل حمالا على عربة يجرها حصان ( يسميها الموصليون الطنبر ) وكان هذان التلميذان يعملان مع ابيهما في ايام العطل , وكان الاب عند قيادته ( للطنبر ) يستعمل كلمة ( ديع ) بمد الياء , اذا اراد استنهاض الحصان وحثه على المسير , ويستعمل كلمة ( هوووووش ) اذا اراد ايقافه . ويبدو أن الاب لكثرة استعماله هذه الكلمات في الشغل , فقد أخذ لسانه عليها واصبح يستخدمها في البيت للغرض ذاته , ولكن ليس مع الحصان وانما مع البشر . ولانها كلمة اصبحت مفهومة , وبها حروف نابزة قوية , تفيد النهر ,( النهر بمعنى الزجر ايضا ويستخدمها الموصليون ايضا )
هذان الشقيقان اولاد الطنبرجي , كان المعلم في الصف كلما سالنا سؤالا , نتسابق جميعا على الاجابة , وكان لابد ان نرفع ايدينا اولا قبل أن يسمح لنا بالاجابة . حسب التعليمات , فترانا نرفع جميعا ايدينا , ونصرخ ...استاذ ...استاذ ...استاذ . لعلنا نفوز بالاجابة المبكرة .
الا ان هذين الشقيقين التلميذين , كانا يصيحان ,, ديع ....ديع ..ديع . وسط دهشة المعلم و ضحكنا اللامتناهي . ولا زلت اضحك كلما تذكرتها .
هذه التناقضات المجتمعية وغيرها كان ايضا يلمها المعلم من الصفوف ومن البيئات التي تحملها , وكان يتشكل لدى لمعلم احيانا نوع من التصرف يعرف به , هو في حقيقتة رد فعل على ما يواجهه من نوعية تلاميذ . وعرفت من هذا النوع بعض معلمين , بعضهم من اشتهر بالحزم واكاد اقول القسوة ولا اعتبرها
قسوة, بقدر ما كانت اصرارا على اداء الرسالة , وبعضهم بالرقة واللطف والهدوء , وهؤلاء كانت صفوفهم عبارة عن ( حمام نسوان ) وبعضهم اشتهر بحركات تبعث على الطرفة , لجميعهم اهدي له السلام والرحمة لمن توفي منهم .
منهم مثلا الاستاذ المرحوم ادريس عبد المجيد , كان معلما في صيغة ملاكم . وكان الطالب الغبي والمشاكس عبارة عن كيس ملاكمة , وكان جسمه يبعث الرهبة فينا , وكان احدنا اذا وقف امام السبورة يجيب عن سؤال ثم يخطيء فيه , فان وجهه سيكون جزء من السبورة . عبر بوكس , لم يضرب مثله عدنان القيسي , في زمانه , الى روحه الرحمه والى ذوية التحية .
وأدريس الكلاك , الذي ضربني في صباح يوم شتوي 18 مسطرة , لاني اخطأت في حرف جر , ومزجته مع الكلمة لفظا , ولم ابرزه كحرف جر .
وأذكر منهم المرحوم عبد الوهاب الكحلة , رجلا علما وعالما , كان شرودا دائم التفكير في مسالة من المسائل , حتى انه يدخل الصف ويقف يفكر طويلا , لان مسالة ما شغلته .
وعلى ذكر الظرفاء من المعلمين ممن درسوني , كان لنا ملعم يدرسنا مادة العلوم , وكان هذا المعلم يتمتع بمهارة رياضية نادرة , وهي قابليته على البصاق لمسافات طويلة , كمن يرمي الزانة , في العاب الساحة والميدان , وكان يحدد الهدف الذي سيبصق عليه ( طبعا الهدف هنا طالب ) . فكان بعض التلاميذ يتلقى البصقة بين عينيه مباشرة , وقلما يخطيء بصاقه .
ومن المتفكهين ايضا مدرس الانكليزية الذي كان حينما يكتب على السبورة وظهره تجاه الطلاب , كان ينظر في الجدول المعلق بجانب السبورة , وهذا الجدول داخل اطار مْجَوَّمْ , فيعكس صورة التلاميذ في الخلف كالمرآة . ولهذا يشير الى الطلبة وما يفعلون وراءه بوضوح , وكنا لا ندري كيف يرانا , الى ان اكتشفنا الاعيب فتاحي الفال .
ومن المعلمين الذين حضروا في ذهني ويحضرون رغم غيابهم الجسدي . هو المرحوم ممدوح الغضنفري . ويُذّكرني , كلما حضرت الذكرى بصورة المعلم المنضبط النشيط الحريص . وكان فيه رحمه الله مميزات لا يخطؤها كل من يراه . وهي انه لا يرى الا بكامل اناقته ولياقته , في مشية واثقة معهودة تنم عن توخ وحذر . ينتعل دائما حذاءا جلديا بلونين , ابيض واسود او ابيض وقهوائي , وربما هذا كان جزءا مما افتبسه من الهندام لنجوم في السينما المصرية , مثل فريد الاطرش وعبد السلام النابلسي . كان معلما في مدرسة الاخلاص في منطقة رأس الكور , وظل فيها الى أن احيل على التقاعد . وتلازمت صورته مع صورة المدرسة , حيث أنك اذا نسيت اسمه فيكفي أن تذكر اسم مدرسته ليأتيك الاسم الثلاثي له . رحل رحمه الله طيب السيرة والذكر .
يقابل هذا اصرار المعلمين على العمل بكل احترافية وتجرد . والحرص على اتمام الواجبات المنوطة بهم , فمثلا معلم الرياضة كان عليه أن ينتظر نهاية الدوام وخلو المدرسة ليعطي درسا في كرة السلة , في حوش مدرسة ضيق وفي منطقة شعبية , ومعلم النشيد ,( طبعا الغريب أن اغلب معلمي النشيد كانوا موسيقيين ) كذلك ينتظر . ويأتي معلمو الدروس الاضافية ( المجانية ) قبل الدوام بساعة . يدخلون المدرسة وقد جهز الفراش المدافيء النفطية ( علاء الدين الخضراء ) ووضعوها في الصفوف , للتدفئة . ويأتي المدير مبكرا قبل المعلمين ليتفقد احوال المدرسة .
لا يخفى طبعا على المتتبع , أن معلمي المدارس الاولى ( الابتدائية ) أكثر علوقا بالذاكرة , وأكثر تشكيلا للوعي المبكر . وبدورهم أكثر من يتحمل العبء الاكبر من غربلة التناقضات الاجتماعية وتصحيح المسار وبالتالي التعامل المباشر مع الطلبة ومع المحيط الاجتماعي . وهي مهمة ادركها الغرب منذ وقت مبكر , وابدى لك عناية واضحة من حيت الدعم والاهتمام , وابراز الجانب الاجتماعي والقيمي للمعلم الابتدائي . مع أن الاية معكوسة لدينا تماما ,
أخذ المعلمون مساحة واسعة في التراث العربي , وان كانت الصفة شملت كل المعلمين والمؤدبين , الا ان التفكه والتندر كان من نصيبهم جميعا لسبب او لاخر , ولكني أظن أن كل الاسباب كانت من أجل منافسة مهنية أو خلاف سياسي لا أكثر , وأن الامر لا يتعلق بالعلم نفسه .
ولعل اكثر مساحة يمكن أن نتلمسها في ذكر مثالب المعلمين , لدى الجاحظ , في كتابه نوادر المعلمين وما هم عليه من الغفلة ( الكلام للجاحظ ) . وربما اراد الجاحظ أن يضرب او يغمز من قناة المدرسة الفقهية , المناهضة للمعتزلة , في توجههم العقلي . فقال في احدى وصاياه , لا تستشر معلم صبيان , ولاكثير القعود مع النساء .
أسوق هذه النموذج الجاحظي , لانتهي الى فرضية أن هناك دائما في الذاكرة الشعبية صراعا من نوع ما بين اتجاهين في المجتمع . يقفان على طرف نقيض , ويستخدمان ادوات في الصراع ربما لم تكن هي الصحيحة , لكنها تساعد على التأليب , ومن الاسف بمكان أن نجد بعض هذه المأثورات رائجة بعد مايقارب الالف سنة من عصر الجاحظ، ولانها تتكرر وتجد هناك من يسوقها بين فترة وأخرى , وباشكال كثيرة .
الحياة لم تنته بهذا الشكل الذي نعيشه لولا المعلم, ولولا جهود المعلم , ولولا كائن تولى التعليم , ايا كان شكله . وان كانت الحياة الان قد أملت علينا بعض الانصاف لهذا الكائن المبدع والمتفاني , لكن هناك المزيد مما يجب أن نقدمه للمعلم , من دعم معنوي ومادي , ومن رعاية للمعلمين الاباء والرواد . ومن استذكار دائم لفضلهم وتضحيتهم . ويتحتم علينا أن نباشر نهضتنا , ان كنا في وارد نهضة ما , بتقديم المعلم لقيادة الحياة , وأن تقتبس من دروس العالم المتحضر دروسه المبكرة في اعتماد العلم واربابه قادة للمجتمع .
في ذكرى المعلم لا يسعني الا أن اقدم التهنئة والامتنان لكل من علمني حرفا , ولكن من عرفته معلما , واخذت عنه عن بعد . والى اساتذتي الكبار من الابتدائية وحتى المراحل الجامعية المتقدمة , اسمى آيات الود والشكر والعرفان .
لقد كنت محظوظا جدا بالتلمذة على ايدي علماء اجلاء , لا أملك ان اوفيهم حقهم الا بالدعاء لهم والشكر والرحمة لمن غادرنا الى دار البقاء .
ومن قبيل الوفاء والعرفان , لابد أن اشكر عمي السيد محمد توفيق عزيز الفتاح , وشقيقتي الكبرى , السيدة صباح غاندي عزيز . من الوسط التربوي والتعليمي . اللذين كانا حاضنتي الادبية والعملية , بمجرد أن غادرت حاضنتي البايولوجية . لقد تعلمت منهما الكثير .
بقى ان نعود الى الشاعر العربي الكبير ابراهيم طوقان , وهو صاحب نشيد ( موطني ) الذي اعتمد اول نشيد وطني لفلسطين , وهو شقيق الشاعرة الرائدة فدوى طوقان . ومعلمها وملهمها , وقد ظلت رحمها الله تذكره بجلال الى ان توفيت رحمهما الله جميعا .
وابراهيم طوقان درس في دار المعلمين العالية في بغداد , في الاربعينيات , وفيها داهمه المرض ليرجع الى بلده فلسطين ويتوفى فيها سنة 1941 . وكان يستذكر في بغداد فكاهة معارضته لقصيدة احمد شوقي . فقال ما معناه , لم اجد في بغداد صبيان لاؤكد مقالتي , ولكني وجدت فيها معلمين بلا صبيان , او هكذا قال
*
الصفحة الرئيسة