التي أريد لها ان تكون تاريخا
بقلم : اسامة غاندي
الحلقة 2
تفخيخ الجغرافيا (( الجيتو الموصلي )) :ـ
يُصر اليهود على ترديد كلمة ( الحماية ) كلما أرخوا لتواجدهم ضمن المجتمعات الاسلامية خاصة ، وترد عبارات كثيرة مثل ( عاشوا تحت حماية السلطة \ كانوا بحماية السلطان الفلاني ) ، في إشارة واضحة او مبطنة الى الاضطهاد الذي كانوا يلاقونه في المجتمعات ، وهي فكرة تخدم السياسة ،أكثر ما تقرر واقعا تاريخيا واجتماعيا ، يريدون أن يؤكدوا للعالم كذلك، عدم وجود قوانين وادبيات تحمي وجود الاقليات في كل الاوقات ، الا أن يعيش اليهود تحت حمايات قوية ونافذة ، أو عبر دفع اموال لتأمين هذه الحماية للوجود اليهودي . لا استطيع ان اقر هذه المصطلح بصفته السياسية ، ولا افنده بواقعه التاريخي النسبي ، لاني ساعود اليه في وصف كيف عاش اليهود في الموصل في فترات متفاوتة سياسيا ، كي لا اقع في تناقض المواقف .
الأمر الاخر الذي يُصر التاريخ الاسرائيلي على إظهاره بشكل جلي ، كخيط درامي يربط الاحداث التاريخية ويبررها ، ويُظهر الاضطهاد عبر ايحاءات الكلمة ، هو مصطلح (( الجيتو )) والذي يعني تاريخيا وبشكل عام ، الاحياء التي سكنها اليهود في كل المجتمعات غير اليهودية ، والكلمة بالاصل تعني أحياء اليهود الفقيرة ، وباعتصار الكلمة وتوظيفها سياسيا ، ستتمدد وتنداح منها اوصاف أخرى ، كلها تخدم الفكرة السياسية التي تبرر اضطهاد اليهود في المجتمعات ، سيخرج من مصطلح الجيتو معنى الفقر والبؤس وانعدام الرعاية الصحية بشكلها الادني والخوف والاضطهاد ، مما حدا ببعض المؤرخين اليهود الى تعريف الكلمة (( الجيتو )) : بأنه المكان الذي يُجبر اليهود للعيش فيه وعزلهم عن المجتمع . بمعنى حصارهم وعزلهم سياسيا ، مستندا في تعريفه الى مرسوم بابوي اصدره البابا بولس الرابع سنة 1555 ، يحتم على اليهود الاقامة في حي خاص يُغلق عليهم مساءا ، ويُفتح صباحا ،
بين كلمة الحماية وكلمة الجيتو ، يجب أن يُبحت وجود اليهود في ارض الشتات ، كما يريدون هم ، لانه سيضفي على معاناتهم هالة من القداسة التاريخية ، ووافرا من التعويضات السياسية اللاحقة .
لكن كل هذا لم يكن في الموصل ، ولم ينطبق على يهود الموصل بالمعنى الحرفي ولا الايحائي للكلمة . لكن كلمة الحماية توفرت بشكل او باخر في فترات تاريخية ، ولها اسبابها الخاصة العامة والشاملة ،
أما كلمة الجيتو ، فلا تنطبق على الوجود اليهودي في الموصل ، رغم ان لديهم حيا خاصا بهم في الموصل لازالت اثاره قائمة لحد الان ، ولازالت التسمية تتردد على الالسن بحي اليهود ، وهي ايضا لاتقتصر على الكبار ممن حفظها ، لكنها شائعة ايضا على لسان الاخرين .
يُصر اليهود على ترديد كلمة ( الحماية ) كلما أرخوا لتواجدهم ضمن المجتمعات الاسلامية خاصة ، وترد عبارات كثيرة مثل ( عاشوا تحت حماية السلطة \ كانوا بحماية السلطان الفلاني ) ، في إشارة واضحة او مبطنة الى الاضطهاد الذي كانوا يلاقونه في المجتمعات ، وهي فكرة تخدم السياسة ،أكثر ما تقرر واقعا تاريخيا واجتماعيا ، يريدون أن يؤكدوا للعالم كذلك، عدم وجود قوانين وادبيات تحمي وجود الاقليات في كل الاوقات ، الا أن يعيش اليهود تحت حمايات قوية ونافذة ، أو عبر دفع اموال لتأمين هذه الحماية للوجود اليهودي . لا استطيع ان اقر هذه المصطلح بصفته السياسية ، ولا افنده بواقعه التاريخي النسبي ، لاني ساعود اليه في وصف كيف عاش اليهود في الموصل في فترات متفاوتة سياسيا ، كي لا اقع في تناقض المواقف .
الأمر الاخر الذي يُصر التاريخ الاسرائيلي على إظهاره بشكل جلي ، كخيط درامي يربط الاحداث التاريخية ويبررها ، ويُظهر الاضطهاد عبر ايحاءات الكلمة ، هو مصطلح (( الجيتو )) والذي يعني تاريخيا وبشكل عام ، الاحياء التي سكنها اليهود في كل المجتمعات غير اليهودية ، والكلمة بالاصل تعني أحياء اليهود الفقيرة ، وباعتصار الكلمة وتوظيفها سياسيا ، ستتمدد وتنداح منها اوصاف أخرى ، كلها تخدم الفكرة السياسية التي تبرر اضطهاد اليهود في المجتمعات ، سيخرج من مصطلح الجيتو معنى الفقر والبؤس وانعدام الرعاية الصحية بشكلها الادني والخوف والاضطهاد ، مما حدا ببعض المؤرخين اليهود الى تعريف الكلمة (( الجيتو )) : بأنه المكان الذي يُجبر اليهود للعيش فيه وعزلهم عن المجتمع . بمعنى حصارهم وعزلهم سياسيا ، مستندا في تعريفه الى مرسوم بابوي اصدره البابا بولس الرابع سنة 1555 ، يحتم على اليهود الاقامة في حي خاص يُغلق عليهم مساءا ، ويُفتح صباحا ،
بين كلمة الحماية وكلمة الجيتو ، يجب أن يُبحت وجود اليهود في ارض الشتات ، كما يريدون هم ، لانه سيضفي على معاناتهم هالة من القداسة التاريخية ، ووافرا من التعويضات السياسية اللاحقة .
لكن كل هذا لم يكن في الموصل ، ولم ينطبق على يهود الموصل بالمعنى الحرفي ولا الايحائي للكلمة . لكن كلمة الحماية توفرت بشكل او باخر في فترات تاريخية ، ولها اسبابها الخاصة العامة والشاملة ،
أما كلمة الجيتو ، فلا تنطبق على الوجود اليهودي في الموصل ، رغم ان لديهم حيا خاصا بهم في الموصل لازالت اثاره قائمة لحد الان ، ولازالت التسمية تتردد على الالسن بحي اليهود ، وهي ايضا لاتقتصر على الكبار ممن حفظها ، لكنها شائعة ايضا على لسان الاخرين .
في الموصل حي يُسمى بحي اليهود ، وشعبيا يُقال محلة اليهود ، وهي منطقة كبيرة نسبيا ، ولها عدة مداخل ومنافذ ، بيد أن المنفذ الرئيسي لها من منطقة ( حضيرة السادة ) في الفرع المبتديء ، من جامع السلطان ويس ، هذا الفرع يدخل رسميا ضمن منطقة اليهود، ينتهي هذا الفرع الى السوق الرئيسي لليهود المعروف بسوق اليهود . وهو عبارة عن حوانيت ( دكاكين ) مقوسة السقوف والواجهة ، على طريقة بناء البيوت الموصلية قديما ، ذات ابواب خشبية تطوى أفقيا عند الفتح . هذا السوق يقع في مقدمة الحي ، ويشكل بوابة له ، او كما يقولون حديقة خلفية . وصحيح انه موقع اقتصادي بحت ، الا أنه شكل محطة رصد وانذار مبكر للمنطقة ، وموقع حمائي اجتماعي نوعا ما ، لسكنة المنطقة . في هذا السوق كانت تتوفر الى عهد قريب نسبيا عدة خدمات وحوانيت متعددة المهام والوظائف ، من حلاق ونجار وحداد وبقال واسكافي وبائع ملابس وتمور ويابسات . بمعنى أن الترتيب او الحاجة ، أو حاجة اجتماعية بحتة ، فرضت أن يكون هذا السوق متكامل الخدمات لكي يوفر اكتفاءا ذاتيا لسكنة الحي اليهود . المتحسبين ربما لمفاجآت سياسية او اجتماعية ، تلزمهم أن يحتاطوا في التموين والاعتماد على الذات اثناء الازمات . وهي عادة ترافق اليهود ليس اوقات الحروب والازمات فقط ، بل ترافقهم حتى اوقات السلم .
في نهاية السوق هناك مدخل رئيس له من جهة منطقة ( الشيخ فتحي والشفاء ) وهذا المدخل كان عبارة عن بوابة كبيرة يعلوها قوس من المرمر مع اسطوانات جانبية مدورة محشورة في اصل البناء ، يُعتقد انها كانت بوابة رئيسية للحي من جهة السوق ، وقد محاها مشروع انشاء الجسر الذي يُطلق عليه اهل الموصل ( الجسر الخامس ) ومقترباته . هذه البوابة كانت تخرج مباشرة على ثكنة عسكرية عثمانية قديمة ، فيها نوع من الحراسة لشيء ما ، لم اهتد اليه . وهذه الثكنة نفسها التي تداول عليها العسكر فيما بعد ، لتنتهي اخيرا ، أن تكون مركزا لشرطة الشيخ فتحي ، قبل أن يلتهمه هو الاخر مشروع انشاء الجسر الخامس او جسر الشفاء .
نعود الى محلة اليهود ، المنطقة الجغرافية التي تتضمنها محلة اليهود تقع وسط احياء او محلات ، من الشمال منطقة الشيخ فتحي ، ومن الشمال الشرقي محلة الشفاء او ذيل منها ، ومحلة الخاتونية ، ومن الشرق يحدها شارع الفاروق القديم المتجه الى المستشفى ، من الغرب تحدها بالكامل تقريبا محلة المشاهدة ، ومن الجنوب ؛ حضيرة السادة ، كجزء من منطقة الفاروق ، لمحلة اليهود من كل هذه الاحياء منافذ صغيرة ضيقة يُدلف منها الى محلة اليهود . وتكون البيوت في هذه الازقة عادة وجوهها الى الداخل ، فيما تكون ظهورها واسوارها العالية مستقيمة وملساء الى الخارج ، يتعذر تسلقها ، أو محاولة الوصول الى الاسطح فيها ، ربما لسبب تكتيكي معين ، وخاصة منافذها من منطقة المشاهدة . كل هذه المنافذ المؤدية الى محلة اليهود تنتهي الى بؤرة في الوسط . أو ما يشبه البؤرة ، وهو زقاق على شكل حلقة مدورة ، تسمى ( المعصرة ) ولازالت قائمة ، وتُعرف بنفس التسمية .
في هذه الدائرة يتواجد المعبد الرئيس لليهود . وعلى بعض جدرانه كتابات عبرية وفي سقف احدى قببه التي تتوسط الصالة الكبيرة ، رسومات غريبة عفا عليها الزمن وعدد من النوافذ الصغيرة التي زال زجاجها الملون او تكسر ، وربما هو ما عثر عليه الرائد \ الحاخام ستيفن سليبرغا الذي اشرنا اليه سابقا . وقال انه عثر على خمسة معابد في المنطقة ، والحقيقة لا يوجد الا هذا المعبد ، ومعبد آخر يُشك في انه معبد وهو قريب من مقام النبي دانيال على بعد امتار من الحي ، والذي سنأتي عليه في الحديث لاحقا . أما ما رآه فهو لا يعدو كونة مدرسة صغيرة للاطفال اليهود وهي اشبه بالحضانة البدائية ، وهذه المدرسة كانت في ضمن هذه المنطقة ( البؤرة \الدائرة ) التي نحن بصدد وصفها ، عدا ذلك فان هذه الدائرة وبيوتها كانت مكانا لعصر الزيتون والسمسم . احدهما لاستخدامات الاضاءة والطهي وتسويقه بشكل تجاري ، والثاني كان لتوفير مادة ( الطحينية \ الراشي ) وهي عصير السمسم .
هذه الدائرة في تصميمها البنائي ، كانت لا تؤدي الا الى نفسها ، بمعنى ان من لم يعرف المكان سيدور حول نفسه للخروج من المحلة . والمنطقة الحالية التي تسمى محلة اليهود ، هي ما تبقى من المحلة ، وكأن التسمية انكمشت كما انكمش الموقع الجغرافي للمحلة بفعل الزمن وتبدل الاسماء والتقسيمات الادارية وعملية التغييرات العمرانية ، لكنها في الحقيقة منطقة كبيرة ، تشمل حي اليهود ، وتشمل ايضا بعض المراقد والمزارات المتواجدة بالقرب من الحي الان ، وتشمل مدرسة كبيرة وحديثة ، كانت باسم مدرسة خضوري ، تقع في الجانب الاخر من الحي وقد هدمت هذه المدرسة قبل سنوات ، وكانت تشغلها لسنوات عديدة متوسطة الحدباء للبنين . وقد قرأت على احد اساطينها سنوات تأسيسها وبنائها 1836 . ولازال التاريخ يشغل فكري . لان في هذا التاريخ لم يكن يتاح لليهود انشاء مؤسسات علمية كهذه ، حسب اللوائح العثمانية ، حيث لم ترفع الجزية عنهم من قبل السلطان العثماني الا بعد هذا التاريخ بكثير . الامر الاخر ان اليعازرخضوري الشخصية اليهودية المعروفة في العراق ، لم يبدأ ببناء المدارس الا بعد سنة 1906 ، وهذا في بغداد ، الا انها كانت بناية متميزة مكسوة بشكل شبه كامل بالمرمر الموصلي الابيض ، وجيدة التهوية ، ولازال بعض من درس بها ( حينما كانت متوسطة رسمية ) شاهدا عليها ، وقد تركت فيما بعد واهملت ، وانتهت ألى ان تكون مخزنا للفحم قبل أن تُهدم ، لا سباب غير منطقية ولا حاجة ماسة لذلك . يقطع هذه المدرسة عن الحي الشارع الحديث العريض المؤدي الى الجسر والمؤدي الى منطقة باب سنجار من الجهة الاخرى ،
والامتداد الاخر للحي لم يكن سكنيا ، ولكن كان عبارة عن مقبرة مخصصة لدفن اليهود ، وهي تمتد بشكل افقي ، وقد استغرقها الجسر ومقترباته بالكامل ، ويُقال انها امتدت من نهاية بوابة سوق اليهود ، وانتهت بشكل ضيق لكنه طويل لتمتد على شكل افعى دقيقة ، لتستغرق بعض الاراضي التي تقع ضمن محلة الشفاء ، وكأنما كان اتفاقا ، أن يسير الجسر فوق المقبرة تماما ، وتتراص حجارته واسمنته فوقها تماما . مما اثار لدي استغرابا شديدا ، لدى تدقيقي في جغرافيا المنطقة . وقد ظلت بعض الدوائر الاسرائيلية تتساءل بالحاح عن موقع المقبرة ، وقد عثر على بقايا قبور في بيت يقع مقابل حديقة أو ساحة ( أمجد المفتي ) ، عثر عليها بالصدفة ، كما أن النزاع على ملكية الدار نفسه بين متخاصمين ، قد نبش كثير من التفصيلات الدقيقة ، الامر الذي أحال القضية الى العاصمة ، واصدرت امرا بغلق الموضوع نهائيا . ومما يثير الاستغراب أن هذه البقعة تقع بعيدا نسبيا عن سكن اليهود ، الا انها تشي بان مقبرة اليهود كانت ذات امتداد أفقي خيطي ، ربما وصل الى هذه المنطقة وما جاورها .
طبيعي أن تعتبر غالبية املاك هذه المنطقة من الاموال المجمدة التي حررت فيما بعد ، واستنفدت اجراءاتها القانونية لتؤول الى اصحابها الجدد بطريق البيع والشراء والاحالة الاخرى .
لم يكن سكن اليهود في هذه المنطقة وطبيعة حياتهم ، والممارسة الاقتصادية الواسعة لهم ، وحرية الحركة والتنقل والتعاطي الحياتي الفاعل مع بقية شرائح المجتمع ، ليتيح لنا وصف هذه المنطقة ب (( الجيتو )) حسب المفهوم السياسي للكلمة ، والمتضمن عزلهم والتضييق عليهم ، كذلك فان هذه المنطقة لم تكن الوحيدة التي سكن فيها اليهود في الموصل ، فقد تناثر بعض منهم في محلات ومواقع أخرى . وتعد محلة الكوازين ، أو بعض منها وخاصة المنطقة الملاصقة لجامع المصفي ( الجامع الاموي ) ، وفي الزقاق الملاصق للجامع والمعروف ب (( الزقاق الطويل )) والذي تطل أسطح بيوته العالية على نهر دجلة مباشرة ، منطقة سكن لبعض العوائل اليهودية التي كانت خارج محلة اليهود ، وخصوصا تلك التي كانت تمارس مهنة تصفية الذهب والفضة . وهم نسبة قليلة قياسا الى عوائل يهودية أخرى سكنت في نفس المنطقة ، وتحديدا في الفرع الكائن في ظهر الجامع مباشرة ، وهو زقاق ( مدرج ) يبدأ وينتهي بدرج . ولا ينتهي الى منفذ رغم طوله . وعلوه عن مستوى سطح المنطقة ، وقد سكنته في الغالب عوائل يهودية كانت تمارس مهنة الوتارة ، وهي تنظيف امعاء الحيوانات المذبوحة وتجفيفها واستخدامها استخدامات طبية واقتصادية أخرى ، وفيها ما يشبه الخط الانتاجي لهذه المهنة ، وقد ظلت هذه المهنة في المنطقة وظلت معاملها في البيوت نفسها الى وقت لاحق ، بعد ان ورثها بعض السكان الذين خلفوا اليهود في المساكن والصناعة نفسها . وقد عُثر في بعض بيوت هذه المنطقة ، على ذهب وحلي ومكنوزات في اقبيتها ، أو في ثنايا سقوفها خاصة في البيوت التي انهارت سقوفها أو آلت الى السقوط . حدثني بهذا المرحوم (( الحاج ابراهيم السماك )) احد الملاك لبيوت كثيرة في المنطقة ، والذي كان يعمل وسيطا تجاريا ( دلال ) يتوسط في بيع وشراء المواد العطارية بالجملة . اضافة الى انني رأيت جرارا وفخارا في سقوف بعض بيوتها ، وفي بعض البيوت ظاهرة أخرى ملفتة للنظر ، وهي كثرة الانفاق الارضية المعدة بعناية والمكسوة بالمرمر الابيض ، الموصلة بين البيوت وعلى مسافات طويلة ، عبر السراديب على شكل قناطر مما يتيح لعوائل هذه البيوت التنقل بحرية بين البيوت لغرض اداء الاعمال ، او لاشياء أخرى ، وتمنح جوا من السرية والامان على التنقل . ويبدو أن النفق الاطول والاكبر فيها ، ذلك الذي يؤدي الى بيت كبير ، يقع في الركن المقابل تماما لجامع المصفي ، ويُقال انه بيت المالك الاكبر لعملية التصفية والتصريف والتسويق ، وقد ظل هذا البيت مهجورا غير صالح لسكن منذ عقود ، وظلت حجارته حيطانه المتداعية والمنهارة في وسطه . وقد لفت انتباهي ملاحظة قالها لي شخص يهودي موصلي . ممن بقي في الموصل ولم يُرحل الى اسرائيل ، لانه اسلم واصر على البقاء في الموصل ،كان يكوي الملابس ( اوتجي ) في غرفة في الطوابق العلوية من خان المفتي بالموصل . نقلا عن اسلافه ، أن اليهود اختاروا هذه المنطقة العالية في الموصل ( الزقاق الطويل ) لانها تقع على قمة تل مرتفع ، يعد اعلى موقع في المنطقة ، وهذا يتيح لهم التنصل بصورة طبيعية من تهمة العلو في الارض ، حيث كانت بعض الفرمانات العثمانية تقضي ، بأن لا يجوز لليهود أن يعلو داره دار المسلم ولا قامته قامة المسلم ولا يركب دابة في حضرة مسلم راجل او قاعد . ويبدو أن البعض كان يطبق هذه التعليمات بحذافيرها كما لم يطبق تعليمات أخرى ، ارضاءا لنزعة العدوان والظهور على الاخرين ومداراة الشعور بالعظمة . لذلك فان البيوت العالية بطبيعتها في هذه المنطقة ، تعفيهم من هذا الشروط الثقيلة ، كما أن البيوت تُطل على دجلة مباشرة . ويبدو لي بان هذه الملاحظة مما جاد به الخيال الخصب للبعض ، او حُملت هذه الحمولة ، لايراد اشارة دينية مبطنة وانشطارية . هذه المنطقة كانت قريبة جدا على نهر دجلة وشواطئه ، مما يتيح لصناعتهم في تنظيف اجزاء الحيوان او تصفية الفضة والذهب التي تتطلب المياه القريبة والوافرة ، ويتيح لهم ايضا سهولة رمي نفاياتهم في المياه الجارية التي تجرفها دون ان تتكدس .
أمر آخر في هذه البيوت وهو ، أن الزقاق بكاملة كان موقوفا في دائرة الاوقاف ، الى عهد قريب ، وقفا غير قابل للتصرف وغير معروف المرجعية . الا ان بادرت الاوقاف في سنوات الثمانينيات بدعوة الاهالي الساكنين من لهم حق الحيازة قانونا ، الى تحرير الارض واجراءمعاملات الاستملاك . وما تبقى من بيوت متهدمة ساقطة لم يطالها يد التعمير والبناء .
كما أن هناك بعض المناطق الاخرى التي تواجدوا فيها ولكن على شكل افراد او بضع عوائل ، وصادف وجودهم في موقع عمل او لضرورة اقتصادية ، كل هذا ينفي تهمة (( الحي المعزول )) أو الجيتو ، عن وضع اليهود في الموصل ، على الاقل في الفترة التي نشرح نشاطهم فيها . وهذا يؤكد مقولات بعض الباحثين ، بأن اليهود في المنطقة العربية لم يعيشوا اجواء واضطهادات الجيتو . كما عاشوها مثلا في ايطاليا والمانيا ، حيث أن مصطلح الجيتو مأخوذ بالاساس من أسم حي ايطالي ( بور جيت ) 1 . كان فيه مسابك للمعادن ومنطقة قذرة وملوثة ولا تتوفر فيها اية تهوية .كانت مأوى للحيوانات ، وهو المكان الذي يدعي بعض الباحثين في التاريخ اليهودي ، أن اليهود أجبروا على العيش فيه . ويتضح هذا أكثر من طريقة ممارستهم للعقيدة والطقوس الدينية . حيث تتواجد لهم المعابد والمدارس الدينية ، وكذلك حريتهم في اتخاذ مقابر خاصة والدفن حسب الطريقة الموسوية ( كما يسمونها هم رسميا ) ويُتاح لهم التفرغ ايام السبت لعبادتهم الخاصة .
والامتداد الاخر للحي لم يكن سكنيا ، ولكن كان عبارة عن مقبرة مخصصة لدفن اليهود ، وهي تمتد بشكل افقي ، وقد استغرقها الجسر ومقترباته بالكامل ، ويُقال انها امتدت من نهاية بوابة سوق اليهود ، وانتهت بشكل ضيق لكنه طويل لتمتد على شكل افعى دقيقة ، لتستغرق بعض الاراضي التي تقع ضمن محلة الشفاء ، وكأنما كان اتفاقا ، أن يسير الجسر فوق المقبرة تماما ، وتتراص حجارته واسمنته فوقها تماما . مما اثار لدي استغرابا شديدا ، لدى تدقيقي في جغرافيا المنطقة . وقد ظلت بعض الدوائر الاسرائيلية تتساءل بالحاح عن موقع المقبرة ، وقد عثر على بقايا قبور في بيت يقع مقابل حديقة أو ساحة ( أمجد المفتي ) ، عثر عليها بالصدفة ، كما أن النزاع على ملكية الدار نفسه بين متخاصمين ، قد نبش كثير من التفصيلات الدقيقة ، الامر الذي أحال القضية الى العاصمة ، واصدرت امرا بغلق الموضوع نهائيا . ومما يثير الاستغراب أن هذه البقعة تقع بعيدا نسبيا عن سكن اليهود ، الا انها تشي بان مقبرة اليهود كانت ذات امتداد أفقي خيطي ، ربما وصل الى هذه المنطقة وما جاورها .
طبيعي أن تعتبر غالبية املاك هذه المنطقة من الاموال المجمدة التي حررت فيما بعد ، واستنفدت اجراءاتها القانونية لتؤول الى اصحابها الجدد بطريق البيع والشراء والاحالة الاخرى .
لم يكن سكن اليهود في هذه المنطقة وطبيعة حياتهم ، والممارسة الاقتصادية الواسعة لهم ، وحرية الحركة والتنقل والتعاطي الحياتي الفاعل مع بقية شرائح المجتمع ، ليتيح لنا وصف هذه المنطقة ب (( الجيتو )) حسب المفهوم السياسي للكلمة ، والمتضمن عزلهم والتضييق عليهم ، كذلك فان هذه المنطقة لم تكن الوحيدة التي سكن فيها اليهود في الموصل ، فقد تناثر بعض منهم في محلات ومواقع أخرى . وتعد محلة الكوازين ، أو بعض منها وخاصة المنطقة الملاصقة لجامع المصفي ( الجامع الاموي ) ، وفي الزقاق الملاصق للجامع والمعروف ب (( الزقاق الطويل )) والذي تطل أسطح بيوته العالية على نهر دجلة مباشرة ، منطقة سكن لبعض العوائل اليهودية التي كانت خارج محلة اليهود ، وخصوصا تلك التي كانت تمارس مهنة تصفية الذهب والفضة . وهم نسبة قليلة قياسا الى عوائل يهودية أخرى سكنت في نفس المنطقة ، وتحديدا في الفرع الكائن في ظهر الجامع مباشرة ، وهو زقاق ( مدرج ) يبدأ وينتهي بدرج . ولا ينتهي الى منفذ رغم طوله . وعلوه عن مستوى سطح المنطقة ، وقد سكنته في الغالب عوائل يهودية كانت تمارس مهنة الوتارة ، وهي تنظيف امعاء الحيوانات المذبوحة وتجفيفها واستخدامها استخدامات طبية واقتصادية أخرى ، وفيها ما يشبه الخط الانتاجي لهذه المهنة ، وقد ظلت هذه المهنة في المنطقة وظلت معاملها في البيوت نفسها الى وقت لاحق ، بعد ان ورثها بعض السكان الذين خلفوا اليهود في المساكن والصناعة نفسها . وقد عُثر في بعض بيوت هذه المنطقة ، على ذهب وحلي ومكنوزات في اقبيتها ، أو في ثنايا سقوفها خاصة في البيوت التي انهارت سقوفها أو آلت الى السقوط . حدثني بهذا المرحوم (( الحاج ابراهيم السماك )) احد الملاك لبيوت كثيرة في المنطقة ، والذي كان يعمل وسيطا تجاريا ( دلال ) يتوسط في بيع وشراء المواد العطارية بالجملة . اضافة الى انني رأيت جرارا وفخارا في سقوف بعض بيوتها ، وفي بعض البيوت ظاهرة أخرى ملفتة للنظر ، وهي كثرة الانفاق الارضية المعدة بعناية والمكسوة بالمرمر الابيض ، الموصلة بين البيوت وعلى مسافات طويلة ، عبر السراديب على شكل قناطر مما يتيح لعوائل هذه البيوت التنقل بحرية بين البيوت لغرض اداء الاعمال ، او لاشياء أخرى ، وتمنح جوا من السرية والامان على التنقل . ويبدو أن النفق الاطول والاكبر فيها ، ذلك الذي يؤدي الى بيت كبير ، يقع في الركن المقابل تماما لجامع المصفي ، ويُقال انه بيت المالك الاكبر لعملية التصفية والتصريف والتسويق ، وقد ظل هذا البيت مهجورا غير صالح لسكن منذ عقود ، وظلت حجارته حيطانه المتداعية والمنهارة في وسطه . وقد لفت انتباهي ملاحظة قالها لي شخص يهودي موصلي . ممن بقي في الموصل ولم يُرحل الى اسرائيل ، لانه اسلم واصر على البقاء في الموصل ،كان يكوي الملابس ( اوتجي ) في غرفة في الطوابق العلوية من خان المفتي بالموصل . نقلا عن اسلافه ، أن اليهود اختاروا هذه المنطقة العالية في الموصل ( الزقاق الطويل ) لانها تقع على قمة تل مرتفع ، يعد اعلى موقع في المنطقة ، وهذا يتيح لهم التنصل بصورة طبيعية من تهمة العلو في الارض ، حيث كانت بعض الفرمانات العثمانية تقضي ، بأن لا يجوز لليهود أن يعلو داره دار المسلم ولا قامته قامة المسلم ولا يركب دابة في حضرة مسلم راجل او قاعد . ويبدو أن البعض كان يطبق هذه التعليمات بحذافيرها كما لم يطبق تعليمات أخرى ، ارضاءا لنزعة العدوان والظهور على الاخرين ومداراة الشعور بالعظمة . لذلك فان البيوت العالية بطبيعتها في هذه المنطقة ، تعفيهم من هذا الشروط الثقيلة ، كما أن البيوت تُطل على دجلة مباشرة . ويبدو لي بان هذه الملاحظة مما جاد به الخيال الخصب للبعض ، او حُملت هذه الحمولة ، لايراد اشارة دينية مبطنة وانشطارية . هذه المنطقة كانت قريبة جدا على نهر دجلة وشواطئه ، مما يتيح لصناعتهم في تنظيف اجزاء الحيوان او تصفية الفضة والذهب التي تتطلب المياه القريبة والوافرة ، ويتيح لهم ايضا سهولة رمي نفاياتهم في المياه الجارية التي تجرفها دون ان تتكدس .
أمر آخر في هذه البيوت وهو ، أن الزقاق بكاملة كان موقوفا في دائرة الاوقاف ، الى عهد قريب ، وقفا غير قابل للتصرف وغير معروف المرجعية . الا ان بادرت الاوقاف في سنوات الثمانينيات بدعوة الاهالي الساكنين من لهم حق الحيازة قانونا ، الى تحرير الارض واجراءمعاملات الاستملاك . وما تبقى من بيوت متهدمة ساقطة لم يطالها يد التعمير والبناء .
كما أن هناك بعض المناطق الاخرى التي تواجدوا فيها ولكن على شكل افراد او بضع عوائل ، وصادف وجودهم في موقع عمل او لضرورة اقتصادية ، كل هذا ينفي تهمة (( الحي المعزول )) أو الجيتو ، عن وضع اليهود في الموصل ، على الاقل في الفترة التي نشرح نشاطهم فيها . وهذا يؤكد مقولات بعض الباحثين ، بأن اليهود في المنطقة العربية لم يعيشوا اجواء واضطهادات الجيتو . كما عاشوها مثلا في ايطاليا والمانيا ، حيث أن مصطلح الجيتو مأخوذ بالاساس من أسم حي ايطالي ( بور جيت ) 1 . كان فيه مسابك للمعادن ومنطقة قذرة وملوثة ولا تتوفر فيها اية تهوية .كانت مأوى للحيوانات ، وهو المكان الذي يدعي بعض الباحثين في التاريخ اليهودي ، أن اليهود أجبروا على العيش فيه . ويتضح هذا أكثر من طريقة ممارستهم للعقيدة والطقوس الدينية . حيث تتواجد لهم المعابد والمدارس الدينية ، وكذلك حريتهم في اتخاذ مقابر خاصة والدفن حسب الطريقة الموسوية ( كما يسمونها هم رسميا ) ويُتاح لهم التفرغ ايام السبت لعبادتهم الخاصة .
وقد كان لهم زياراتم المنتظمة الى النبي ناحوم في ناحية القوش ، وزيارتهم الى مرقد النبي دانيال ، والذي يقع قريبا جدا من سكنهم التقليدي في ( محلة اليهود ) ويُعد وجود مرقد النبي دانيال ، رغم الشكوك التاريخية الكثيرة بشأن وجوده ، دلالة على نوع من الحرية الدينية كانت متاحة لهم ، وعلى ذكر النبي دانيال فأن له اكثر من مشهد وأكثر من موقع في العالم يتواجد فيه ،أو يُدعّى التواجد فيه ، ففي مدينة سوسة \ شوش ، الايرانية ، يوجد ضريح للنبي ، وهو أكثر الاماكن وفرة للتأكيدات التاريخية ، حيث ذكره احمد سوسة واشار اليه في كتابه ( في طريقي الى الاسلام ) ، ويردد الاخوة الشيعة حديثا عن الامام علي قوله ، من زاره ( اي ضريح النبي دانيال في ايران ) فقد زارني ،، وهو حديث من انتاجات القرائح الشعبية المتعاطفة ، لا صحة له اطلاقا لانه ببساطة يتنافى مع الاصل الاسلامي بحصر الزيارات واقتصارها على الانبياء . وربما كان هو جزء من الدعاية السياحية الايرانية والملبوسة لبوس فقهي فتاووي ، كما يحصل كثيرا هذه الايام . ويوجد مقام النبي دانيال ايضا في مدينة كركوك العراقية ، وكان بالاصل معبد يهودي تحول الى كنيسة ثم الى جامع ويقع ضمن قلعة كركوك الاثرية ، ويوجد ايضا في قبرص وفلسطين وفي بنت جبيل جنوب لبنان . ودانيال هو احد الانبياء الاربعة الكبار في التراث اليهودي ، ينتسب الى سبط يهوذا ، وهو اشهر نبي في اليهودية بعد موسى ، وأكثرهم مرجعية فكرية وعقائدية . أقتيد مع السبي البابلي وهو صغير وهناك تعلم الآرامية وتبحر في العلوم مما قربه من البلاط كثيرا واتخذه الملك نبوخذنصر مشاورا له ، نتيجة توقعاته المدروسة ، اليه ينسب الفضل كاملا في تكامل تعاليم اليهودية وتدوينها ، وتحت اشرافه كُتب التلمود اليهودي بقسميه ، الميجنا والجمارا . فيه التقت المسيحية واليهودية على نقطة عقائدية مشتركة فيما يخص العهد القديم . والذي اراه ، أن النبي دانيال يتواجد بشكل ضريح او مرقد كلما تواجد اليهود في بقعة ما ، أو احتيج الى مثابة عقائدية تعزز بعض الفضول والطقوس الدينية . أما ما يتعلق بمرقد النبي دانيال في الموصل ، هو بلا شك مرقد لشخص صالح او قديس اتفق جمهور عصره على صلاحه ، وتعلقت به فيما بعد مقولات تاريخية اخرى ، يبدو انها استقرت على اليهود ليؤمموا وجوههم شطره . ووجود النبي دانيال الحقيقي في الموصل في هذا الموضع غير معزز تاريخيا اولا ، وغير ممكن ، لان النبي دانيال كان في بابل زمن نبوخذ نصر وانها توفي في ارجائها ، ولم يتسن له ولا ليهود بابل ، الالتقاء بيهود اشور ، الا بعد سقوط مملكة نينوى على يد قورش الفارسي بمساعدة ( الجواسيس الميديين الذين كانوا في الداخل ) ، والتي كان شاهدا عليها النبي ناحوم ، وبعض المؤرخين يقول أن يهود بابل لم يلتقوا باخوانهم يهود اشور الا في عهد السلطان العثماني سليمان الاول ، حسب ما تقول نشرة باسم مزراحيين ( اليهود العرب ) ، اضافة الى هذا كله ، فان اليهودية التي خرجت من بابل على يد تدوينات دانيال التلمودية المتقدمة نوعا ما . لا تتسق وعقيدة اليهود الاشورين الذين هم اقرب ما يكونون الى الارثوذكسية اليهودية . وفي صدد الحديث عن النبي دانيال في الموصل ، والذي يبدو اني توقفت عنده كثيرا ، لاشباع فضول البعض . هناك اشارتان اضعهما بين يدي المهتمين ، وهما ، اولا : وجود ضريح في مدينة الاسكندرية المصرية باسم النبي دانيال الموصلي ( هكذا يُسمى في المنطقة ) ويتناول العوام حديثا فائضا عنه على انه نبي رحل رحلة روحية من الموصل الى الاسكندرية ، وهذه الرواية فندها الراحل علي مبارك في كتابه الخطط التوفيقية . وقال انه محمد دانيال الموصلي الشافعي ، فقيه كبير من فقهاء الشافعية في القرن الثامن الهجري ، قدم الاسكندرية ومات ودفن فيها . الاشارة الثانية هي .أن رقعة الغزال التاريخية المدون عليها نصوص توراتية قديمة ، التي وجدت في مكتبة الاوقاف بالموصل ، والتي اشيع يومها عن سرقتها وتهريبها الى اسرائيل ، ولا ادري اين استقرت اخيرا ، هي من مقتنيات جامع السلطان وَيّس ، الذي يقع في بداية الزقاق المؤدي الى محلة اليهود ، وهي اصلا مما عُثر عليه من مرقد النبي دانيال القريب جدا من الجامع ، واذا صحت هذه الرواية فهذا يعني أن اليهود قد القوا عنايتهم وعاطفتهم الدينية مبكرا في هذا المرقد . اضافة الى ان المرقد يجاوره بشكل غير مستقيم دار كبيرة مرصوفة بالمرمر ، يُشك انها كانت معبدا يهوديا . لان واجهتها الرخامية القديمة كانت تحتوي على اشارات وخطوط ونقوش عبرية توحي بذلك ، كما انها ملاصقة لمرقد يستلزم احيانا بعض المقتربات كما هي العادة .
تفخيخ التاريخ (( التدثر بالحماية )) :
وبقدر ما تعلق الوجود المكاني بمصطلح ومفهوم الجيتو . كان هناك تعلق بمصطلح أخر ، لا يقل أهمية وايحاءا سياسيا ، وهو مصطلح طغى بشدة بعد اطلاق دعوة انشاء وطن قومي لليهود . وهو مصطلح الحماية ، ولا ينفك المؤرخون أن يرددوا ان اليهود عاشوا في المجتمعات الاسلامية تحت الحماية . ويصرون كثيرا على ترديد هذه الكلمة .
اليهودي يهيء نفسه على فكرة أنه شعب بلا أرض ، والحقيقة انها عبارة وردت على لسان احد حاخاماتهم في بابل . وهم يفهمون بالضبط ماذا تعني الارض للانسان وللوجود كله . وما توفره من حماية وغطاء سياسي واجتماعي وهوياتي . وأن اقوى شعوب الارض بلا وطن ولا ارض سيصبح ضعيفا ولا يرتكز على قاعدة ، وهو ما مارسوه بالضبط من تفريغ قضية فلسطين من محتواها بتفريغها من قضية الارض . لذلك فهم يعوضون ما تمنحه الارض من قوة وحماية ودرع ، بسلسة اجراءات سياسية وفعاليات اجتماعية واقتصادية ، تعوض الى حد ما هذا الضياع وهذا الحنين . وتجعل وجودهم حاجة ملحة في المجتمعات التي يتواجدون فيها . رغم ان فكرة الارض نفسها تكون نسبية احيانا حينما يمنح الشتات والغربة، خُلقا آخر وصبغة أخرى حضارية للمجموعات العارية .
لقد شكلت بابل لليهود الولادة الثانية الاهم في تاريخهم . ولم تخرج اليهودية كمنظومة عقائدية ودينية متكاملة الا في بابل ، حيث تم تجميع وكتابة التلمود ( وهو الكتاب الاهم في اليهودية ) في بابل . وتقول الدراسات اليهودية الموثقة لهذا ، أن ذخيرة اليهود المنفيين الى بابل من التفاصيل التوراتية هزيلة جدا ، وكان لا بد من البحث عن مصادر لسد النقص في مجال الاسطورة ، واصبحت بابل محور اليهودية لاكثر من الف عام ، والمكان الذي سيتأقلم فيه اليهود انفسهم على أنهم شعب بلا أرض . ولخصوبة هذه الفترة وثرائها ، يُشار في الادبيات اليهودية عند الحديث عن كتابة التلمود في بابل ، بعبارة (( الاكاديميات البابلية )) . وهنا تجدر الاشارة، الى ان اليهود الاشوريين ( والموصلين منهم ) ، قد ملأوا فراغات كثيرة في العقيدة ، بما اكتسبوه من تفاعل مع المسلمين ، وما ترسب من افرارزات ثقافية اوجدها طول المحاكاة ، لهذا نراهم قد اقتربوا وجدانيا ودينيا من المسلمين ، او تواطأوا على هذه النتيجة طوعا . كما سنرى لاحقا .
كان على اليهود أن يوجدوا نوعا من الحماية الذاتية والتلقائية لانفسهم . تحميهم يوم تفقد المجتمعات النظام . وتفقد المجتمعات اتزانها والمعايير التعايشية . وهو ما يحصل كثيرا اثناء تغير الانظمة وتبدل الدول والسلاطين والغزوات والازمات السياسية ، ووجدوا هذه الحماية في هيئة كفاءات وامتيازات ، أو اعمال يحتكرونها ، تجعل الاخرين يحافظون على وجودهم ، أو يساعدونهم على الحياة ، وهذه في الغالب اخلاق الاقليات التي تتحسب للمفاجاءات ، لكن هذا التدثر الحمائي ، لا يعوض في فكر اليهود ولا في ترتيباتهم عن وجود مظلة سياسية يستظلون بها ، ويستطيعون تحت سقفها تأمين حياتهم واقتصادهم . فكان تركيزهم على موضوع الحماية كبيرا في دراساتهم و وكان موضوع الحماية نفسه ايضا واقعا او بعضا من واقع في فترات متفاوتة . وله مناسباته التاريخية والاجتماعية أيضا .
دخل اليهود في الموصل تحت حماية الاتابكة فترة رئاستهم للموصل ، وكانت هذه الحماية المباشرة من قبل الولاة ، توفر لهم كم قلنا بعض من البسطة والحرية في التحرك داخل المجتمع ، اضافة الى وجودهم المهم ومهاراتهم الاخرى ، وانضباطهم المدني الشديد ، ودخلوا فيما بعد تحت حماية الجليليين اثناء فترة ولايتهم على الموصل ، وبين الاتابكة والجليليين ، فاصلة زمنية طويلة نسبيا ، حكمت فيها عدة دول وسلالات ، ولم تتواتر أنباء عن دخولهم في حماية هذه الدول ، لكن المرجح ، أن تكون السلالات الحاكمة التي تنتمي عضويا الى سكان الموصل ، بمعنى ليسوا غزاة ولا عابري سبيل ، هم من يستكين اليهود اليهم ويعيشون تحت حمايتهم او يطلبونها . وهذا ما يتحقق في الاتابكة ، والجليليين الذين هم اصلا من ابناء الموصل . دخلوا بعدها في حماية سلطات أخرى ، أو اشكال سلطوية أخرى ، حينما استظلوا بالموجة الحقوقية التي سادت في اواخر الدولة العثمانية . والدعوات المدنية والسياسية التي ضغطت باتجاه حقوقي حديث ، وهي الفترة التي تخللها أيضا ، تغلغل بعض الحركات في جسد الدولة العثمانية وبروز بعض يهود سالونيك واشتراكهم الفعلي في الحركات والاحزاب المناوئة للعثمانيين ، ولعل رسالة الخاخام الاكبر في تركيا ( موشيه هاليفي ) الى والي الموصل سنة 1893، التي أكدت على الوالي ضرورة قبول وحماية اليهود الهاربين من قرية بار تنورة في تخوم دهوك . والذين تعرضوا الى حملات قتل وابادة قادها اهالي المنطقة ضدهم . تؤكد وجود ضغط ما على الوالي لان يتلقى الاشعارات من حاخامية في استنبول . وليس القوانين الموجودة ، او ليست مرجعيته الادارية . وأخيرا دخلوا في حماية بريطانيا التي هيمنت على العراق . لكنهم لم يعطوا بريطانيا فرصة حرقهم بهذه الحماية ولا الاستثمار بها ، مثلما فعلت مع المسيحيين ، الذين كانوا هدفا للانتقام لارتباطهم ( المتخيل من قبل العوام ) ببريطانيا ، والذي انتج حوادث مؤسفة ، لعل مجزرة سميل سنة 1933، مثالا صارخا عليها ( حيث استغل وضع المسيحيين في سميل ، :انهم حلفاء لبريطانيا ، أو يوفرون لها الدعم السياسي والاستخباراتي ضد المسلمين ، وهي فكرة متخيلة لدى بعض السكان المسلمين ، اذكتها بطريقة اوبأخرى بريطانيا ، في سبيل استخدام الطرفين كمحرقة ، واستثمار هذه المحرقة سياسيا ، لتمرير اجندة سياسية ) كما أن بريطانيا نفسها لم تجرؤ ( لسبب او لاخر ) على الاستثمار باليهود وحرقهم في معركة سياسية ، الا في الفترة الاخيرة التي ارادت ان تجبرهم على الرحيل الى اسرائيل ، وبضغط من الحركة الصهيونية .
والحقيقة أن الحماية التي اسبغتها هذه السلطات سالفة الذكر ، لم تكن مجانية بالكامل ، ولم تكن ايضا استغلالا سياسيا مصلحيا بالكامل . فالاتابكة كانوا يعرفون قدرة اليهود كصناع وحرفيين بسطاء ، او كتجار ، على المساهمة في استقرار الاوضاع الاقتصادية في البلد . ودعم الجيش والحملات السياسية ، اما دعم مباشر عبر الانفاق المادي ، او المشاركة في استقرار الاوضاع وعدم حصول الغلاء والمجاعة ، وربما كان هذا اتفاقا ضمنيا غير معلن لكنه مفهوم .
أما الجليلييون فقد انطلقوا في حمايتهم من امور كثيرة ، منها ما هو انساني وديني ، بضرورة مراعاة اهل الذمّة وتمكينهم وحفظ اموالهم وانفسهم . وهو توجه مدني ايضا لما كان يُعرف عند الولاة الجليليين من براغماتية سياسية وحنكة ونزوع الى النظام ، ومنها ماهو سياسي ، اذ كان الجليليون تراودهم فكرة الاستقلال شبه الكامل عن العثمانيين ، والتصرف بحرية أكبر ، ويحتاجون بعضا من حشود الرأي العام وسكون الرعية وانسجامها . ومنه ما هو اقتصادي أيضا وهو حاجة المجتمعات الى الاستقرار الاقتصادي الذي يوفره اليهود بشكل او بآخر، والامر الملاحظ بشدة هو أن اليهود يوفرون فعلا الاستقرار الاقتصادي في البلاد التي يتواجدون فيها ، او تكون مصالحهم فيها . وفي العصر الحديث هناك بلدان مستقرة اقتصاديا ، لان الاستثمارات اليهودية فيها حاضرة .
بين كل هذه الانواع من الحمايات السياسية التي وفرتها هذه السلالات الحاكمة ،أو النهضة الحقوقية والسياسية في اواخر العهد العثماني او بريطانيا . هناك حماية اجتماعية ومعنوية جاهوية ، وفرتها لهم بعض الشخصيات والسلالات او القوميات ، أو تأملوا فيها هذا في الموصل ، وهي ليست حماية سلطوية سياسية بقدر ماهي اتفاق اجتماعي على التعايش والتكافؤ . وهي تقود الى عرض صورة اجتماعية لليهود من نوع آخر ، ربما تكون صورة اوضح . من هذه الطبقات والشرائح والشخصيات ،طبقة السادة الاشراف في الموصل ، من السلالة النبوية الكريمة ، وهي موضع احترام وتقدير من قبل المجتمع في الموصل بشتى اطيافه ، لاعتبارات كثيرة في مجملها ديني روحي . ويشكل السادة ، ثقالة اجتماعية وحالة ضغط اجتماعي اخلاقي في السكان . وهذا ما يجعلهم موضع حضور اجتماعي ظاهر .
والملاحظ ان اليهود يسكنون في حي يحده من جميع الجهات مناطق سكنها السادة من ال البيت . من المشاهدة الحسنيين الى الحياليين في الشيخ فتحي ، الى السادة العبادة ، الذين هم ملاصقون وبشكل يكاد يكون متداخلا مع محلةاليهود حيث لا يزال ( تل عبادة ) المعقل التقليدي لهم والذي يقع مباشرة من الطريق المؤدي من محلة اليهود الى المشاهدة جنوبا والى الشيخ فتحي شمالا . ومن الجنوب ايضا هناك السادة الاعرجية ، وبعض تفرعاتهم من العبيديين ( نسبة الى عبيد الاعرج ) والنقيب والفخري والمفتي وغيرهم . بعبارة اخرى مختصرة ان اليهود يسكنون وسط مناطق السادة بالضبط .
ورغم ان وجود اليهود في هذه المنطقة اقدم من وجود السادة الاشراف . حيث تذكر المصادر الى ان وجودهم يعود الى القرن السابع عشر، حيث استقدم السلطان العثماني عشيرتين كبيرتين من الحجاز . لحماية الموصل من غارات مستمرة من خارجها . رغم ان وجود السادة لاحق لوجود اليهود . الا أن الملاحظ أن السادة طوقوا اليهود من جميع الجهات في السكن . وتداخلوا معهم في بعض الواجبات الاجتماعية . حيث تقع مقابر اليهود ( المتخيلة ) وسط مراقد لكبار رجالات السادة ، ووسط مراقد للعديد من ابناء الحسن رضي الله عنه . والتي تنتشر على مدار المنطقة الجغرافية الكبيرة .بصيغة دائرة تمتد من محلة الشفاء مرورا بالشيخ فتحي وتستدير الى منطقة حضيرة السادة . وتتشابك هذه المراقد احيانا مع بعض معالم اليهود . مما يؤشر لحالة نوع من الحماية والدخالة والاستنجاد ، دخلها اليهود مع هذه الشريحة . وربما كانوا ناجحين في الثقة بها . ولما كانت الوجاهة تنحصر في بعض الاوقات ببعض اشخاص من الشريحة ، او يتسّيد المشهد الاجتماعي . فقد انحصرت في فترة معينة وتجلت واضحة ، في مجموعة اشخاص من العبيدين ، وممن ورد ذكره في هذا السياق ، هو السيد ( حبيب افندي العبيدي ) والذي يقع دارة وديوانه في بداية الطريق الرئيس المؤدي الى محلة اليهود . يواجهه مرقد النبي دانيال ، وتواتر الحديث على انه كان احيانا يتولى فض المنازعات بينهم ، او يستشيرونه في بعض امورهم ، وربما كانت وظيفته كمفتِ للموصل في وقت معين ، محلا لفض نزاعات أهلية ، أو أطمئن الى حكمته . وأنه كان يمنع ، بحضورة الاجتماعي ووجاهته الاخرين من الاعتداء عليهم أو غمط حقوقهم ، وهو ما توافر من اخبار حول هذا الموضوع .
كانت هذه الحماية هي افضل ما توفر لهم في العصر الحديث ، لان فيها معنى التعايش والانسجام . أكثر منها معنى الاستظلال بسلطة او الاستقواء بشخص على حساب الاخرين . حسب ما أكد السيد صالح اليهودي المكوجي ، الذي ورد ذكره سابقا ، وبالمناسبة فان لي شخصين باسم صالح ، كلاهما يهوديان ، احدهما موصلي كان يعمل مكوجيا ، توفي رحمة الله عليه بعد أن اسلم ، وصالح آخر كان يعمل خياطا في بغداد . بقي هو الاخر ولم يذهب الى اسرائيل ، بقي وحيدا في العراق بعد ان هاجر كل اهله وذويه ، توفي رحمه الله في الثمانينات . وفي الحديث عمن بقي من اليهود الموصليين ، هناك عوائل يهودية اسلمت وبقيت في الموصل وذهبت اصولها اليهودية ، وتفرعت وصار لها ذرية واحفاد . ولا ارى مبررا لذكر اسمائها كي لا استفز الابناء والاحفاد بهذا التاريخ ، كما انه لا يغير من الامر شيئا ، واخيرا وهو المهم انها اسلمت وانسجمت مع المجموع وحسن اسلامها . كما أن بعض العوائل اليهودية تحولت الى المسيحية في الموصل ، هروبا من فكرة الرحيل الى اسرائيل ، وحصل الاسلام والتحول الى المسيحية ، ايضا لدى البعض قبل فكرة الترحيل لاسباب شتى . ومايؤكد حصول مثل هذا التحول من اليهودية الى الديانتين الاخرتين ، هو اطلاعي على وثيقة قضائية قديمة حصل فيها جدال فقهي قانوني اثاره القاضي ومحكمة التمييز في وقتها ، حول رجل يهودي تحول الى المسيحية ، وهو كيف يتم الانتقال بين الديانات الثلاث . كان القضاء العراقي الذي يعتمد في مرجعيته الفقه الحنفي ، والذي يأخذ تدوينه القانوني في مجلة الاحكام العدلية ، ينص في بعض بنوده على جواز التحول الى الديانة الافضل ( بنظر اللائحة ) ، ففيما يؤكد القانون على جواز التحول من المسيحية واليهودية الى الاسلام . يتشاكل بعض الشيء فيما اذا كانت المسيحية ( بنظر القانون نفسه ) افضل من اليهودية ، حينذاك يُقبل من اليهودي الارتقاء الى المسيحية ، أم أن اليهودية افضل من المسيحية ، حينذاك يُعتبر انتقالا الى الادنى ، وهو ما يفسره القانون بانه ردة . هذا الجدل اكد لي حقيقة الحادثة .
*
الى اللقاء في الحلقة 3
اقرأ الحلقة 1
*
الصفحة الرئيسة
تفخيخ التاريخ (( التدثر بالحماية )) :
وبقدر ما تعلق الوجود المكاني بمصطلح ومفهوم الجيتو . كان هناك تعلق بمصطلح أخر ، لا يقل أهمية وايحاءا سياسيا ، وهو مصطلح طغى بشدة بعد اطلاق دعوة انشاء وطن قومي لليهود . وهو مصطلح الحماية ، ولا ينفك المؤرخون أن يرددوا ان اليهود عاشوا في المجتمعات الاسلامية تحت الحماية . ويصرون كثيرا على ترديد هذه الكلمة .
اليهودي يهيء نفسه على فكرة أنه شعب بلا أرض ، والحقيقة انها عبارة وردت على لسان احد حاخاماتهم في بابل . وهم يفهمون بالضبط ماذا تعني الارض للانسان وللوجود كله . وما توفره من حماية وغطاء سياسي واجتماعي وهوياتي . وأن اقوى شعوب الارض بلا وطن ولا ارض سيصبح ضعيفا ولا يرتكز على قاعدة ، وهو ما مارسوه بالضبط من تفريغ قضية فلسطين من محتواها بتفريغها من قضية الارض . لذلك فهم يعوضون ما تمنحه الارض من قوة وحماية ودرع ، بسلسة اجراءات سياسية وفعاليات اجتماعية واقتصادية ، تعوض الى حد ما هذا الضياع وهذا الحنين . وتجعل وجودهم حاجة ملحة في المجتمعات التي يتواجدون فيها . رغم ان فكرة الارض نفسها تكون نسبية احيانا حينما يمنح الشتات والغربة، خُلقا آخر وصبغة أخرى حضارية للمجموعات العارية .
لقد شكلت بابل لليهود الولادة الثانية الاهم في تاريخهم . ولم تخرج اليهودية كمنظومة عقائدية ودينية متكاملة الا في بابل ، حيث تم تجميع وكتابة التلمود ( وهو الكتاب الاهم في اليهودية ) في بابل . وتقول الدراسات اليهودية الموثقة لهذا ، أن ذخيرة اليهود المنفيين الى بابل من التفاصيل التوراتية هزيلة جدا ، وكان لا بد من البحث عن مصادر لسد النقص في مجال الاسطورة ، واصبحت بابل محور اليهودية لاكثر من الف عام ، والمكان الذي سيتأقلم فيه اليهود انفسهم على أنهم شعب بلا أرض . ولخصوبة هذه الفترة وثرائها ، يُشار في الادبيات اليهودية عند الحديث عن كتابة التلمود في بابل ، بعبارة (( الاكاديميات البابلية )) . وهنا تجدر الاشارة، الى ان اليهود الاشوريين ( والموصلين منهم ) ، قد ملأوا فراغات كثيرة في العقيدة ، بما اكتسبوه من تفاعل مع المسلمين ، وما ترسب من افرارزات ثقافية اوجدها طول المحاكاة ، لهذا نراهم قد اقتربوا وجدانيا ودينيا من المسلمين ، او تواطأوا على هذه النتيجة طوعا . كما سنرى لاحقا .
كان على اليهود أن يوجدوا نوعا من الحماية الذاتية والتلقائية لانفسهم . تحميهم يوم تفقد المجتمعات النظام . وتفقد المجتمعات اتزانها والمعايير التعايشية . وهو ما يحصل كثيرا اثناء تغير الانظمة وتبدل الدول والسلاطين والغزوات والازمات السياسية ، ووجدوا هذه الحماية في هيئة كفاءات وامتيازات ، أو اعمال يحتكرونها ، تجعل الاخرين يحافظون على وجودهم ، أو يساعدونهم على الحياة ، وهذه في الغالب اخلاق الاقليات التي تتحسب للمفاجاءات ، لكن هذا التدثر الحمائي ، لا يعوض في فكر اليهود ولا في ترتيباتهم عن وجود مظلة سياسية يستظلون بها ، ويستطيعون تحت سقفها تأمين حياتهم واقتصادهم . فكان تركيزهم على موضوع الحماية كبيرا في دراساتهم و وكان موضوع الحماية نفسه ايضا واقعا او بعضا من واقع في فترات متفاوتة . وله مناسباته التاريخية والاجتماعية أيضا .
دخل اليهود في الموصل تحت حماية الاتابكة فترة رئاستهم للموصل ، وكانت هذه الحماية المباشرة من قبل الولاة ، توفر لهم كم قلنا بعض من البسطة والحرية في التحرك داخل المجتمع ، اضافة الى وجودهم المهم ومهاراتهم الاخرى ، وانضباطهم المدني الشديد ، ودخلوا فيما بعد تحت حماية الجليليين اثناء فترة ولايتهم على الموصل ، وبين الاتابكة والجليليين ، فاصلة زمنية طويلة نسبيا ، حكمت فيها عدة دول وسلالات ، ولم تتواتر أنباء عن دخولهم في حماية هذه الدول ، لكن المرجح ، أن تكون السلالات الحاكمة التي تنتمي عضويا الى سكان الموصل ، بمعنى ليسوا غزاة ولا عابري سبيل ، هم من يستكين اليهود اليهم ويعيشون تحت حمايتهم او يطلبونها . وهذا ما يتحقق في الاتابكة ، والجليليين الذين هم اصلا من ابناء الموصل . دخلوا بعدها في حماية سلطات أخرى ، أو اشكال سلطوية أخرى ، حينما استظلوا بالموجة الحقوقية التي سادت في اواخر الدولة العثمانية . والدعوات المدنية والسياسية التي ضغطت باتجاه حقوقي حديث ، وهي الفترة التي تخللها أيضا ، تغلغل بعض الحركات في جسد الدولة العثمانية وبروز بعض يهود سالونيك واشتراكهم الفعلي في الحركات والاحزاب المناوئة للعثمانيين ، ولعل رسالة الخاخام الاكبر في تركيا ( موشيه هاليفي ) الى والي الموصل سنة 1893، التي أكدت على الوالي ضرورة قبول وحماية اليهود الهاربين من قرية بار تنورة في تخوم دهوك . والذين تعرضوا الى حملات قتل وابادة قادها اهالي المنطقة ضدهم . تؤكد وجود ضغط ما على الوالي لان يتلقى الاشعارات من حاخامية في استنبول . وليس القوانين الموجودة ، او ليست مرجعيته الادارية . وأخيرا دخلوا في حماية بريطانيا التي هيمنت على العراق . لكنهم لم يعطوا بريطانيا فرصة حرقهم بهذه الحماية ولا الاستثمار بها ، مثلما فعلت مع المسيحيين ، الذين كانوا هدفا للانتقام لارتباطهم ( المتخيل من قبل العوام ) ببريطانيا ، والذي انتج حوادث مؤسفة ، لعل مجزرة سميل سنة 1933، مثالا صارخا عليها ( حيث استغل وضع المسيحيين في سميل ، :انهم حلفاء لبريطانيا ، أو يوفرون لها الدعم السياسي والاستخباراتي ضد المسلمين ، وهي فكرة متخيلة لدى بعض السكان المسلمين ، اذكتها بطريقة اوبأخرى بريطانيا ، في سبيل استخدام الطرفين كمحرقة ، واستثمار هذه المحرقة سياسيا ، لتمرير اجندة سياسية ) كما أن بريطانيا نفسها لم تجرؤ ( لسبب او لاخر ) على الاستثمار باليهود وحرقهم في معركة سياسية ، الا في الفترة الاخيرة التي ارادت ان تجبرهم على الرحيل الى اسرائيل ، وبضغط من الحركة الصهيونية .
والحقيقة أن الحماية التي اسبغتها هذه السلطات سالفة الذكر ، لم تكن مجانية بالكامل ، ولم تكن ايضا استغلالا سياسيا مصلحيا بالكامل . فالاتابكة كانوا يعرفون قدرة اليهود كصناع وحرفيين بسطاء ، او كتجار ، على المساهمة في استقرار الاوضاع الاقتصادية في البلد . ودعم الجيش والحملات السياسية ، اما دعم مباشر عبر الانفاق المادي ، او المشاركة في استقرار الاوضاع وعدم حصول الغلاء والمجاعة ، وربما كان هذا اتفاقا ضمنيا غير معلن لكنه مفهوم .
أما الجليلييون فقد انطلقوا في حمايتهم من امور كثيرة ، منها ما هو انساني وديني ، بضرورة مراعاة اهل الذمّة وتمكينهم وحفظ اموالهم وانفسهم . وهو توجه مدني ايضا لما كان يُعرف عند الولاة الجليليين من براغماتية سياسية وحنكة ونزوع الى النظام ، ومنها ماهو سياسي ، اذ كان الجليليون تراودهم فكرة الاستقلال شبه الكامل عن العثمانيين ، والتصرف بحرية أكبر ، ويحتاجون بعضا من حشود الرأي العام وسكون الرعية وانسجامها . ومنه ما هو اقتصادي أيضا وهو حاجة المجتمعات الى الاستقرار الاقتصادي الذي يوفره اليهود بشكل او بآخر، والامر الملاحظ بشدة هو أن اليهود يوفرون فعلا الاستقرار الاقتصادي في البلاد التي يتواجدون فيها ، او تكون مصالحهم فيها . وفي العصر الحديث هناك بلدان مستقرة اقتصاديا ، لان الاستثمارات اليهودية فيها حاضرة .
بين كل هذه الانواع من الحمايات السياسية التي وفرتها هذه السلالات الحاكمة ،أو النهضة الحقوقية والسياسية في اواخر العهد العثماني او بريطانيا . هناك حماية اجتماعية ومعنوية جاهوية ، وفرتها لهم بعض الشخصيات والسلالات او القوميات ، أو تأملوا فيها هذا في الموصل ، وهي ليست حماية سلطوية سياسية بقدر ماهي اتفاق اجتماعي على التعايش والتكافؤ . وهي تقود الى عرض صورة اجتماعية لليهود من نوع آخر ، ربما تكون صورة اوضح . من هذه الطبقات والشرائح والشخصيات ،طبقة السادة الاشراف في الموصل ، من السلالة النبوية الكريمة ، وهي موضع احترام وتقدير من قبل المجتمع في الموصل بشتى اطيافه ، لاعتبارات كثيرة في مجملها ديني روحي . ويشكل السادة ، ثقالة اجتماعية وحالة ضغط اجتماعي اخلاقي في السكان . وهذا ما يجعلهم موضع حضور اجتماعي ظاهر .
والملاحظ ان اليهود يسكنون في حي يحده من جميع الجهات مناطق سكنها السادة من ال البيت . من المشاهدة الحسنيين الى الحياليين في الشيخ فتحي ، الى السادة العبادة ، الذين هم ملاصقون وبشكل يكاد يكون متداخلا مع محلةاليهود حيث لا يزال ( تل عبادة ) المعقل التقليدي لهم والذي يقع مباشرة من الطريق المؤدي من محلة اليهود الى المشاهدة جنوبا والى الشيخ فتحي شمالا . ومن الجنوب ايضا هناك السادة الاعرجية ، وبعض تفرعاتهم من العبيديين ( نسبة الى عبيد الاعرج ) والنقيب والفخري والمفتي وغيرهم . بعبارة اخرى مختصرة ان اليهود يسكنون وسط مناطق السادة بالضبط .
ورغم ان وجود اليهود في هذه المنطقة اقدم من وجود السادة الاشراف . حيث تذكر المصادر الى ان وجودهم يعود الى القرن السابع عشر، حيث استقدم السلطان العثماني عشيرتين كبيرتين من الحجاز . لحماية الموصل من غارات مستمرة من خارجها . رغم ان وجود السادة لاحق لوجود اليهود . الا أن الملاحظ أن السادة طوقوا اليهود من جميع الجهات في السكن . وتداخلوا معهم في بعض الواجبات الاجتماعية . حيث تقع مقابر اليهود ( المتخيلة ) وسط مراقد لكبار رجالات السادة ، ووسط مراقد للعديد من ابناء الحسن رضي الله عنه . والتي تنتشر على مدار المنطقة الجغرافية الكبيرة .بصيغة دائرة تمتد من محلة الشفاء مرورا بالشيخ فتحي وتستدير الى منطقة حضيرة السادة . وتتشابك هذه المراقد احيانا مع بعض معالم اليهود . مما يؤشر لحالة نوع من الحماية والدخالة والاستنجاد ، دخلها اليهود مع هذه الشريحة . وربما كانوا ناجحين في الثقة بها . ولما كانت الوجاهة تنحصر في بعض الاوقات ببعض اشخاص من الشريحة ، او يتسّيد المشهد الاجتماعي . فقد انحصرت في فترة معينة وتجلت واضحة ، في مجموعة اشخاص من العبيدين ، وممن ورد ذكره في هذا السياق ، هو السيد ( حبيب افندي العبيدي ) والذي يقع دارة وديوانه في بداية الطريق الرئيس المؤدي الى محلة اليهود . يواجهه مرقد النبي دانيال ، وتواتر الحديث على انه كان احيانا يتولى فض المنازعات بينهم ، او يستشيرونه في بعض امورهم ، وربما كانت وظيفته كمفتِ للموصل في وقت معين ، محلا لفض نزاعات أهلية ، أو أطمئن الى حكمته . وأنه كان يمنع ، بحضورة الاجتماعي ووجاهته الاخرين من الاعتداء عليهم أو غمط حقوقهم ، وهو ما توافر من اخبار حول هذا الموضوع .
كانت هذه الحماية هي افضل ما توفر لهم في العصر الحديث ، لان فيها معنى التعايش والانسجام . أكثر منها معنى الاستظلال بسلطة او الاستقواء بشخص على حساب الاخرين . حسب ما أكد السيد صالح اليهودي المكوجي ، الذي ورد ذكره سابقا ، وبالمناسبة فان لي شخصين باسم صالح ، كلاهما يهوديان ، احدهما موصلي كان يعمل مكوجيا ، توفي رحمة الله عليه بعد أن اسلم ، وصالح آخر كان يعمل خياطا في بغداد . بقي هو الاخر ولم يذهب الى اسرائيل ، بقي وحيدا في العراق بعد ان هاجر كل اهله وذويه ، توفي رحمه الله في الثمانينات . وفي الحديث عمن بقي من اليهود الموصليين ، هناك عوائل يهودية اسلمت وبقيت في الموصل وذهبت اصولها اليهودية ، وتفرعت وصار لها ذرية واحفاد . ولا ارى مبررا لذكر اسمائها كي لا استفز الابناء والاحفاد بهذا التاريخ ، كما انه لا يغير من الامر شيئا ، واخيرا وهو المهم انها اسلمت وانسجمت مع المجموع وحسن اسلامها . كما أن بعض العوائل اليهودية تحولت الى المسيحية في الموصل ، هروبا من فكرة الرحيل الى اسرائيل ، وحصل الاسلام والتحول الى المسيحية ، ايضا لدى البعض قبل فكرة الترحيل لاسباب شتى . ومايؤكد حصول مثل هذا التحول من اليهودية الى الديانتين الاخرتين ، هو اطلاعي على وثيقة قضائية قديمة حصل فيها جدال فقهي قانوني اثاره القاضي ومحكمة التمييز في وقتها ، حول رجل يهودي تحول الى المسيحية ، وهو كيف يتم الانتقال بين الديانات الثلاث . كان القضاء العراقي الذي يعتمد في مرجعيته الفقه الحنفي ، والذي يأخذ تدوينه القانوني في مجلة الاحكام العدلية ، ينص في بعض بنوده على جواز التحول الى الديانة الافضل ( بنظر اللائحة ) ، ففيما يؤكد القانون على جواز التحول من المسيحية واليهودية الى الاسلام . يتشاكل بعض الشيء فيما اذا كانت المسيحية ( بنظر القانون نفسه ) افضل من اليهودية ، حينذاك يُقبل من اليهودي الارتقاء الى المسيحية ، أم أن اليهودية افضل من المسيحية ، حينذاك يُعتبر انتقالا الى الادنى ، وهو ما يفسره القانون بانه ردة . هذا الجدل اكد لي حقيقة الحادثة .
*
الى اللقاء في الحلقة 3
اقرأ الحلقة 1
*
الصفحة الرئيسة