بنك الفقراء (محاولة للتعبد بالفكرة) – الحلقة الثانية
اسامة غاندي
محمد يونس، الشاب البنغالي العائد حديثا من الولايات المتحدة الامريكية، بعد أن حصل على الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة فاندربليت بولاية تينيسي الامريكية، يشهد جدلا يوميا بين ابيه الرجل الموسر الذي يعمل صائغا في مدينة شيتاجونج البنغالية (بنغلاديش)، والذي يضفي من الإِيسَار والاريحية على بيته، وبين أمه صفية التي تخجل أن تَرُدَّ فقيرا او جائعا يقف بالباب، يستجدي الطعام او المعونة ، لذلك فهي تلبي طلبات كل السائلين بروح طيبة ورضى ، وكأنها مسؤول مطعم أو إعاشة مكلفة بتوزيع الارزاق
جدال بين الام والاب، من النوع الرحيم الرؤوف، الاب يعترض على تشجيع المزيد من الفقراء اذا استمرت الام بالإِطعام الممنهج. والام تبرر فعلها ، بانها تؤدي مناسك العطف والرحمة.ـ
يوما ما اشتد الجدل وبدا على غير عادته ، وصحا محمد يونس على المناقشة الحادة . الاب يقول لها
ـــ ولكنك سوف لن تقضي على فقرهم وجوعهم . هي ترد عليه :ـ
ـــ ولكن مافي اليد حيلة غير هذا ، اذا كنت انت بمالك لم تستطع حل مشكلتهم ، وأنا بصدقتي لم استطع حل المشكلة ، ( وهنا سكتت كمن تذكر شيئا ، والتفت الى ابنها محمد يونس الواقف بجانبها ) واستدركت قائلة
ـــ حتى هذا حامل الدكتوراه في الاقتصاد ، وغيره ، لم يستطيعوا بما درسوه أن يقدموا لهم شيئا غير هذه اللقمة
كانت هذه الكلمات كافية ، لتدفع محمد يونس استاذ الاقتصاد البنغالي، بأن يتيقن بان الفكرة يجب أن تصل الى البطون، لا أن تُسَطَّرَ في القراطيس، وأن لامهارة ولا كفاءة لشخص دون أن يترجم ما يحمله الى واقع، فذهب يطرق ابواب كل المصارف والبنوك ، داعيا الى اقراض الناس الفقراء ، ومدراء المصارف والبنوك يردون عليه بالضحك والاستغراب، لان الفقراء لايملكون ضمانات للقروض ، وهو يدعو الى الاقراض بدون ضمانات . كان هذا سنة 1972 وبنغلاديش منفصلة حديثا عن الهند ومن ثم عن باكستان ، والفقر ينخر اوصالها نخرا . وتفاقمت ازمتها في سنة 1974 لتٌحدث مجاعة مأساوية فيها ذهب ضحيتها في تقديرات غير رسمية وغير موثوقة ، مليون ونصف ضحية.ـ
هنا أعلن محمد يونس الحرب على الفقر، ولكم حربه كانت عبر الفكرة، فأسس (الجرامين) والجرامين بالبنغالية تعني، بنك القرية . وهو عبارة عن صندوق يمنح قروضا متناهية الصغر للفقراء، بدون ضمانات ، وبهذه القروض يستطيع بعض الفقراء من تكوين مشروع او بداية مشروع بسيط جدا . وعبر آلية محكمة ورحيمة تراعي الخسارة لكن مع الخلق ، استطاع ان يروج للمشروع بشكل جيد ، واستطاع ان ينمو ويكبر ، واستطاع أن يحصل على ضمانات شعبية ووجدانية منحت المشروع الثقة ، وانتهى الامر بظهور مؤسسة مالية كبيرة في بنغلاديش اطلق عليها (مصرف الفقراء) لها اليوم في بنغلاديش 2468 فرعا . ويعمل فيها من الموظفين فقط 24703، ويقتات عليها 12 مليون نسمة (تقديرات 2009 لم يتسن لي التأكد من صحتها). وانتهى الامر بمحمد يونس، أن ينال جائزة نوبل للسلام سنة 2003، ولم ينلها بالاقتصاد ، لانهم وجدوا أن المشروع انساني أكثر منه اقتصاديا او فكرة علمية والحق أن هذا الرجل منح وسام التفكر والتدبر والعمل الاخلاقي المثمر . وبه يجب أن نبدأ وأن نقتدي ، وهذا يذكرني بالخليل بن احمد الفراهيدي (صاحب العروض)، كان الخليل بن احمد الفراهيدي ، لايقف على مشكلة عويصة، الا وانصرف يفكر بها، وقد جاء على أكبر المشكلات في عصره فوضع لها حلولا وفيها قواعد. وهي ليست من نوع المعضلات الصغرى، انما معضلات كبيرة ثقافية ومجتمعية ، تعادلها الان قضية اكتشاف علاج للسرطان، او اكتشافات عظيمة أخرى، فقد استوقفته مشكلة التنقيط في الحروف العربية ، وكانت الكتابة في وقته بدون حركات إِعرابية، انما كانت نقطا، توضع فوق الحرف كفتحة وتحته ككسرة وبجانبه كضمة. وكانت هذه النقط مما يربك النص ، وتزدحم فيه نقاط الحروف مع نقاط الاعجام . فوضع الحركات الإِعرابية الحديثة ، واستوقفه مشكلة ضبط الايقاع والوزن في الشعر ، فكان يدلي نفسه في بئر عميق ويدمدم ويصيح ليميز بين النغمات ، الى ان وضع الاوزان والتفعيلات وفق ميزان قياسي سليم لا يقبل الخطأ ، لازلنا نتناقله ونتدراسة.ـ
لكن القصة الاهم في حياته ، والتي ذكرتني به وانا اشرح لفكرة بنك الفقراء ، هي : أنه وقف على عطارٍ ( بقال ) ، ورأى جارية صغيرة ارسلتها سيدتها لتشتري حوائج لها ، ووقع لها مع العطار (اللص) إِشكال حسابي، هي تدعي أن العطار غشها في الحساب ، والعطار يدعي خلاف ذلك ، فانصرف بعدها الى المسجد ، وهو يفكر كيف يعمل برنامجا حسابيا ، يحمي البائع والمشتري من الغبن بصورة حسابية تلقائية لاتقبل الخطأ (برنامج)، ودخل المسجد وهو يفكر، و أخذ يذرعه جيئة وذهابا، فكان أن ارتطم راسه بسارية المسجد ( التي لم يرها ) لشدة اجتهاده في التفكير ، فمات رحمه الله من أثر ذلك الارتطام القوي ( كما يذكر هذا المؤرخون ) . اسوق هذا المثل وذاك لاؤكد مرة أخرى ، ضرورة التفكير والتفكير فقط في هذه المرحلة ، لانه سينشط الفكر الى المحاولة ومن ثم التنفيذ، سيما وأن المشكلة مستفحلة، والعورة ( الفقر) أكبر من أن نغطيها، بنظريات و أو تفسيرات أو دعوات الى المساعدة والعطف.ـ
في بعض المجتمعات الاوربية، معالجات حياتية واقتصادية مبرمجة ومدروسة، أطلقت عليها أنا في كتاباتي حول الموضوع عنوان (هندسة الفقر) ، وهي كيف تستطيع أن تُحجّم الفقر ، أو توقفه عند حد معين ، أو تقضمه شيئا فشيئا ، أو تقلبه كطاقة ايضا . وتعتبر مملكة السويد الرائدة في هذا الاجراء، رغم أن السويد الان من الدول ذات الاقتصاد الثابت والصامد والقوي، لكنها قبل عقود قليلة فقط، كانت دولة فقيرة بكل معنى الفقر، وفقيرة الى درجة الاملاق ، ويذكر أن مليون سويدي هاجروا في الاربعينيات الى امريكا للبحث عن عمل ، في وقت كانت السويد كلها عبارة عن ثلاثة ملايين نسمة ، يقتلهم الفقر والجوع وتتكدس العوائل الكثيرة في مسكن متواضع ضيق عبارة عن سقائف ، أو حظائر ماشية ، بدون حمامات او مرافق ، يأكل بهم القمل ، ( كما يقولون هم ، بالمناسبة فهم يتحدثون عن هذا بكل فخر ووضوح ، ويُذكّرون الزائرين والمهاجرين دوما بتاريخهم هذا ، ولهم في ذلك متاحف يحتفظون ببعض المظاهر القديمة من حياتهم السالفة) ، لذلك فهم اليوم أكثر اصرارا، على أن يبعدوا عنهم شبح تلك الفترة، لذلك فهم يصدرون نشرات اقتصادية دورية، عن اتجاهات الاقتصاد والتحولات بعد عقد او عقدين ، تقول انه في سنة 2050 ، سيكون لدينا شحة في هذا المجال ، والآن مع ما هم من ترف نسبي ورفاه ورؤوس اموال ضخمة ، لهم احتفاليات خاصة ، يلبسون فيها الملابس المرقعة والاحذية الممزقة ، ويزورون اماكن معينة في الريف تذكرهم بتلك الفترة ويستلذون بها ايضا و مع العلم ان تكاليف الاقامة في تلك الاماكن باهضة ايضا ، لانها اصبحت سياحية.ـ
ما اريد الاشارة اليه في حالتهم ، أنهم يهندسون الفقر إن وجد في بعض مجتمعاتهم ، وذلك بتحري أيّة فكرة رائدة تختصر المصروف او تختصر الوظائف الحياتية ، ويسعون الى ذلك ، ويشجعون اي فكرة تصب في هذا الاتجاه ، كما أنهم متدربون بشكل جيد على أي ازمة طارئة تمر بمجتمعاتهم ، مثال ذلك ، لو فرضنا ان النفط انقطع بين ليلة وضحاها عن كل السويد ، فان جميع فراد الشعب سوف يذهبون الى اعمالهم في اليوم الثاني سيرا على الاقدام او على البغال او بالدراجات الهوائية ، دون ان تستطيع ملاحظة اي تغيير يطرأ على سير العمل . وهذا ليس مبعثه ، وعي الشعب فقط ( وان كان الوعي حاضرا بشكل كامل ) الا أن البرامج الاجتماعية والتعليمية في البلد ، كلها تصب في هذا الاتجاه . كما أن لهم بدائل كثيرة لأيِّ شيء. ومن ابرز ما يستوقفك في السويد ، أنه البلد الوحيد في العالم ، الذي ليس له نفايات من اي نوع ، كلها بالنهاية تعود في دورة معالجاتية الى الطبيعة . ولهم لذلك معامل ضخمة . وتعتبر النفايات ثروة بما تؤول اليه في النهاية من معالجات.ـ
هندسة الفقر هذه وجدتها بصورة قريبة لدى الموصليين ايضا ، وبخاصة الاخوة المسيحيين في الموصل . وكان اليهود المقيمون في الموصل قبل التهجير ، هم من يٌعرف بها (لذلك فلا زال البعض من الموصلين يقولون عن الحريص ، والذي يرفض الإقراض او المساعدة ، يهودي)، وأخذها عنهم المسيحيون ، ومن ثم كل ابناء الموصل الحاضرة . لذلك فان ما يٌطلق على سبيل الدعابة او الجد ، من أن الموصلي بخيل ، كانت صورته حسن التدبير والتخطيط ، والاكتفاء الذاتي ، و وتجميل الفقر بما يناسبه من سعة حيلة وحسن التدبير، وتوظيف جيد ورشيد لكل الطاقات المتاحة في سبيل بلوغ الكفاف وعدم الاحتياج. وتوزيع النقود والاموال المتاحة (والتي هي شحيحة بالتأكيد ) على كل الحاجيات ، وليس اقتصارها على الاكل والشرب.ـ
وهنا لا مانع في أن اورد مثالا لذلك ، مع التأكيد على ان هذا الترشيد فضيلة وحسن تصرف ، ولا يقدح ابدا في اي انسان ، بل العكس هو الصحيح ، هو أن يتسول ويمد يده لغيره بدون اضطرار ، ولا يقدح في مجتمع أن يعالج الفقر بالفكرة الرائدة والمتاحة ابدأ .ـ
القميص الرجالي لدى جارتي المسيحية ، كان يلبسه الاب ، فاذا رَثَّ و بٌلي ، قامت ربة البيت بقلبه على الوجه الثاني ليلبسه الابن مع ياقة مقلوبة ايضا، ليبدو حديثا ، فاذا أبلاه الولد أيضا، ذهب ليكون بعضا من ملابس تحتاتية تستخدم في العمل وهكذا. لكن مع اصرار على أن يبدو هذا القميص كل مرة، بزي جديد وهيئة جديدة لا يلاحظها أحد الا حالة جديدة، وتطاله يد ربة بيت خياطة ماهرة، وايضا ذواقة . وهكذا تتجدد الحياة بدون ان نخصص المزيد من الاموال لحاجات بالامكان تحويرها وإعادة انتاجها.ـ
ينطبق هذا ايضا على التفكير ، في حلاقة الرأس بالكامل (صفر) لأغلب الكهول والرجال الكبار والاطفال ، لغايات كثيرة، لعل اهمها الاقتصاد والنظافة ، عدا الانشغال كل فترة قريبة بتخصيص مبلغ لهذا، واذا كان هناك مبلغ مخصص، فبالامكان تخصيصه، لقضايا اخرى ( حتى لو كانت ترفيهية او كمالية ) لذلك لا اتذكر انا شخصيا متسولا في الموصل كان مسيحيا ، لان نوعا من التواطؤ بينهم كان لانتشال أي مدقع او عاجز ، وعبر تكليفه بعمل ما يتناسب مع عجزه وطاقته.ـ
طبيعي لا يُفهم من كلامي ، دعوة الناس الى لبس القديم ولاحلاقة الرأس توفيرا للمال ، المجتمع الان مترف نوعا ما ، ويستطيع شراء الجديد والحديث وعمل تقليعات جديدة في الرأس ، بقدر ماكان اشارة يُهم منها نوع التدبير.ـ
هناك الان الحاجة الى افكار مبتكرة ،تمتص زخم الفقر وسطوته ، وكذلك لكل المشكلات الحياتية المستعصية والمزمنة ، منها على سبيل المثال ، الحاجة الى ايجاد عناوين حرفية لاشغال جديدة، وامتصاص البطالة بها، ووتوسيع دائرة الخيارات لمحدودي الكفاءة والمهارة في العمل خارج الحرف المعروفة.ـ
وينسحب التفكر ايضا على المحاولة العنيدة والمصرة (ويجب أن تكون كذلك) في إيجاد حل جذري وشامل لمشكلة الطاقة الكهربائية مثلا ، ومشكلة الفلتان الامني ، والحماية الذاتية للمجتمعات في ظل الغياب الواضح للدولة والسياسيين . ولا اتصور ان يختلف معي أحد و في أن نقص الطاقة وغياب الامن ، اكبر مغذيين للفقر بطريقة أو بأخرى.ـ
اجدادنا في الموصل واجهوا ظروفا أكثر قتامة من هذه الظروف، وشحة في المواد الغذائية اكثر من هذا، مع انعدام وسائل الحفظ والتبريد والتجميد . لكن الفكرة والتثاقف بها ، ومحاولة التصرف ، كانت رائدهم الى ايجاد بدائل ، نراها الان في عصر الكهرباء والتكنلوجيا ، بدائل مناسبة جدا . ابتداء من عمارة البيوت التي قامت لتناسب حجم الوظائف الحياتية المطلوبة ، فكان السرداب للنوم في القيلولة وارضيه المرمر الابيض البارد الذي يمتص رطوبة الارض ، وكانت بعض الاماكن لخزن المواد الغذائية . وكان ايضا (الكبس والتعليب والتجفيف والسلق للمواد الغذائية كل حسب ما يقتضيه من حالة لكي يحافظ على قيمته ونكهته)، وقد افاض الاخوة الباحثون المواصلة في هذا ، وللاستاذ ازهر العبيدي مقالة مفصلة في هذا:ـ
أحد التجار من بيت الخفاف في باب السراي ، كان يأتيه زبائنه من القرى خارج الموصل ، وكان يوصيهم احيانا بجلب خروف كبير له ، ومعه 5 كيلوات جبن ابيض ، ولكن الذي لفت انتباه هذا القروي ، أن هذا التاجر قال عن الخروف ( سيُعَبِّرُنا الشِتِي كلُّو ) سيكفينا هذا الشتاء كله . فصاح الاعرابي ، ولكن هذا الخروف نحن نلتهمه في عشاء واحد . كيف يكفيك ، الا اذا كنت ستبقيه الى اخر ايام الشتاء فيلتهم دفعة واحدة ..ـ
قال له : لا ، ولكن سنذبحه ونقطعه ونُمَلِّحُهُ ونَكْبِسُهُ في جِرَار ، ثم نخرج قطعةً قطعةً منه يوميا ، وهكذا يطوي بنا الشتاء و والجبن كذلك.ـ
اخلص من هذا الى انه كان هناك توظيف للسلعة وتوظيف للمكان وتوظيف ايضا للحياة ، وحساب حكيم للمفاجاءات وتغيرات الاحوال فلا نحيا يوما و ونموت فصلا..ـ
وهذا سيعيننا على الصمود في الحياة ، ولا حاجة لاذكر بأن الموصل صمدت سنوات في وجه حصار نادر شاه ، واخذت تجتر ما ادخرته فساعدتها عقلية الاهالي على امتصاص هذا الحصار . وأكرر مرة أخرى أن هذا ينسحب على كل المشكلات الحياتية المستعصية ، والتي هي مغذيات للفقر ايضا ، لان وجود أي مشكلة حياتية تعيق المجتمعات عن التقدم الى أمام . وهنا تحضرني بقوة ، مشكلة التسيب الامني في العراق ، مع ما يعنية من فقدان ارواح واموال وخوف استثمار وتعطيل تنمية اقتصادية واضح . ويحضرني كيف اخترع سكان جزيرة اوكيناوا اليابانية ، فنون القتال الاعزل ( الجودو والكراتيه ) لَمَّا مٌنع عنهم حمل السلاح منعا باتا ، بكل اشكاله حتى السكاكين ، وكانت عصابات الساموراي المسلحة تُغير عليهم كل وقت وتقتل بهم ، فقاموا بابتكار اساليب القتال هذه ، لكي يدافعوا عن انفسهم ، وهي وسائل طوروها لتكون قاتلة وفعالة ، او على اقل الفروض ، هي اسلحة ذاتية بشكل من الاشكال .ـ
هناك روافد ومسببات كثيرة للفقر . كما أن هناك اكثر من لجام يُلجم به الفقر . واوله هو العلم بمعنى الوعي وليس بمعنى التعلم . الوعي سلاح فعال ضد الفقر ، يتسلح به افراد المجتمع ، ليقيهم شبح الفقر ، والعلم يتخذ اشكالا رفيعة اعلاها الاختراع والابتكار واقامة مجتمع اقتصادي قوي ، واشكالا اخرى متدينة ، هي اضعف الايمان ، ويستطيع الفرد اتيانها بمجرد التفكير .ـ
فعندما يٌجرح طفل او يتعرض لحادثة نتيجة اهمال ما في البيت ، فان حادثته او عَوَقَهُ اذا تم ، سيتطلب مستشفى واجور طبابة ورعاية ، وكلها امتصاص لاموال كانت مخصصة او يفترض ان تخصص لحاجات أخرى .ـ
والعامل الذي لايجتهد في اتخاذ ادوات الوقاية والسلامة ، يتعرض لحادث او عَوَقٍ سيعطله اولا ، ومن ثم يمتص ما لديه من مال لاجل التطبب . وهكذا بقية الحوادث . ناهيك عن الوعي المجتمعي ، بضرورة الاخلاص والنزاهة والعدل ، التي تساهم في تقليص المديات التي ينداح بها الفقر . الافكار والمقترحات والمقاربات في هذا كثيرة ومتشعبة ، وكلها بحجة الى من يصيرها ويناقشها ويستخلص منه الفائدة .ـ
هنا علينا فقط ان نحاول بالفكرة والتأمل . يوما ما سنصل الى حلول . ثم علينا بمراجعة بعض الامور التي سلبتنا اياها المدنية الحديثة ، واتكالنا المستمر على ما يجود به الغير علينا ، ولعل مشكلة الكهرباء ، هذه اكبر دليل . ومن هنا سادعو دعوة مجنونة ( ولكم ان تسموها كذلك ) ، في شهر رمضان ، وحيث نتعبد بالفكرة ، أن يستضيف احد المساجد في رمضان طاقم اساتذة كلية الهندسة فرع الكهرباء . في جامعة الموصل ، يستضيفهم في درس في احد المساجد ، لكي يشرحوا فقط كيف يمكن ان نصنع طاقة كهربائية و او كيف يمكن لفكرة ما او مقترح ما أن ينجح . استدعوهم فقط ليتحدثوا كيف تعمل الكهرباء . فقط ليتحدثوا باي شيء عن الكهرباء ، ويقينا ستنزل عليكم ملائكة الرحمة في ذلك الدرس لانكم حاولتم وحاولتم فقط . وهكذا في كل مناحي الحياة .ـ
الفقر يا اخواني يأخذ اشكالا كثيرة في المجتمعات ، وما لم تكن المجتمعات محصنة بما لدى افرادها من وعي وارادة ، لن تستطيع أن تكافحه . وما لم تتضافر الجهود البشرية كلها ، لاتشكل طاقة أبدا .ـ
انا غير معجب بنمط الحياة في اوربا ، ولكني معجب من اصرارهم على استثمار العلم واستمطارٌ بما يُغاث به المجتمع . وبالعلوم التي تمنح الحصانة والوعي لهم . لو قيض لبلد مثل المانيا اليوم ( لاسامح الله ) أن يسقط عليه نيزك كبير ويدمره . ويشغل هذا الامر كل جيشهم والشرطة والدفاع المدني ، لرأيت المتطوعين من كل ابناء الشعب جاءوا زرافات ووحدانا الى مراكز الانقاذ ، يؤدون الواجب كأنهم مدربون عليه . فلا بد اذن من انزال الاخرين ليساهموا بالفكرة .ـ
الموضوع طويل ومتشعب كما قلت . وكانت كلماتي دعوة للفكرة ، ومن الفكرة سنجد انفسنا في غيرة وحَمِيَّةٍ لنواصل .ـ
وبمناسبة الحديث عن العلم والوعي ، لابد من التبرع والتصدق واخراج الزكاة او جمعها ، لانشاء مراكز بحثية ، ومؤسسات تعليمية منضبطة وجادة ، واذا لم يتيسر لها مال ، فلا مانع من ان يقوم الخبراء المتقاعدون وذوو الاختصاص العلمي ، من الذين يجدون فسحة من الوقت والتعاون وتسييل المعرفة والمشورة والخبرة بين الناس ، أن يقوموا بما يمليه الواجب . وذلك اضعف الايمان ، واقل ضريبة نؤديها للحياة التي جعلنا الله فيها خلائف . ولم نكن كذلك.ـ
بقي أن نقول ، أن الموصل مجتمع مثالي لظهور الافكار والتقليعات الجديدة في كل مناحي الحياة ، لان له ترسبات حضارية كثيرة ، وايضا لانه مجتمع اكتوى في القرون القديمة من الازمات وعالجها وامتص زخمها ، وانتصر عليها.ـ
على الانسان أن يصنع ، والطبيعة هي من يوفر المادة الخام..ـ
رمضان كريم عليكم وعلينا ، والى درس قادم في موضوع رمضاني آخر.ـ
----------------------------------------------------------------------------------------------
اضافة من هيئة التحرير: دعما لمقال الاستاذ أسامة غاندي ، قمنا باضافة افلام عن بنك الفقراء في بلدان مختلفة - كشاهد على قوة الفكرة عندما يتم تنفيذها باصرار وتصميم بعد دراسة وبحث واقعي و جاد.ـ
لمشاهدة الافلام
----------------------------------------------------------------------------------------------
للعودة إلى الصفحة الرئيسة
لأضافة التعقيبات أو لفراءتها، يرجى الضرب على الكلمة التالية
Comments
على يسار السطر التالي
جدال بين الام والاب، من النوع الرحيم الرؤوف، الاب يعترض على تشجيع المزيد من الفقراء اذا استمرت الام بالإِطعام الممنهج. والام تبرر فعلها ، بانها تؤدي مناسك العطف والرحمة.ـ
يوما ما اشتد الجدل وبدا على غير عادته ، وصحا محمد يونس على المناقشة الحادة . الاب يقول لها
ـــ ولكنك سوف لن تقضي على فقرهم وجوعهم . هي ترد عليه :ـ
ـــ ولكن مافي اليد حيلة غير هذا ، اذا كنت انت بمالك لم تستطع حل مشكلتهم ، وأنا بصدقتي لم استطع حل المشكلة ، ( وهنا سكتت كمن تذكر شيئا ، والتفت الى ابنها محمد يونس الواقف بجانبها ) واستدركت قائلة
ـــ حتى هذا حامل الدكتوراه في الاقتصاد ، وغيره ، لم يستطيعوا بما درسوه أن يقدموا لهم شيئا غير هذه اللقمة
كانت هذه الكلمات كافية ، لتدفع محمد يونس استاذ الاقتصاد البنغالي، بأن يتيقن بان الفكرة يجب أن تصل الى البطون، لا أن تُسَطَّرَ في القراطيس، وأن لامهارة ولا كفاءة لشخص دون أن يترجم ما يحمله الى واقع، فذهب يطرق ابواب كل المصارف والبنوك ، داعيا الى اقراض الناس الفقراء ، ومدراء المصارف والبنوك يردون عليه بالضحك والاستغراب، لان الفقراء لايملكون ضمانات للقروض ، وهو يدعو الى الاقراض بدون ضمانات . كان هذا سنة 1972 وبنغلاديش منفصلة حديثا عن الهند ومن ثم عن باكستان ، والفقر ينخر اوصالها نخرا . وتفاقمت ازمتها في سنة 1974 لتٌحدث مجاعة مأساوية فيها ذهب ضحيتها في تقديرات غير رسمية وغير موثوقة ، مليون ونصف ضحية.ـ
هنا أعلن محمد يونس الحرب على الفقر، ولكم حربه كانت عبر الفكرة، فأسس (الجرامين) والجرامين بالبنغالية تعني، بنك القرية . وهو عبارة عن صندوق يمنح قروضا متناهية الصغر للفقراء، بدون ضمانات ، وبهذه القروض يستطيع بعض الفقراء من تكوين مشروع او بداية مشروع بسيط جدا . وعبر آلية محكمة ورحيمة تراعي الخسارة لكن مع الخلق ، استطاع ان يروج للمشروع بشكل جيد ، واستطاع ان ينمو ويكبر ، واستطاع أن يحصل على ضمانات شعبية ووجدانية منحت المشروع الثقة ، وانتهى الامر بظهور مؤسسة مالية كبيرة في بنغلاديش اطلق عليها (مصرف الفقراء) لها اليوم في بنغلاديش 2468 فرعا . ويعمل فيها من الموظفين فقط 24703، ويقتات عليها 12 مليون نسمة (تقديرات 2009 لم يتسن لي التأكد من صحتها). وانتهى الامر بمحمد يونس، أن ينال جائزة نوبل للسلام سنة 2003، ولم ينلها بالاقتصاد ، لانهم وجدوا أن المشروع انساني أكثر منه اقتصاديا او فكرة علمية والحق أن هذا الرجل منح وسام التفكر والتدبر والعمل الاخلاقي المثمر . وبه يجب أن نبدأ وأن نقتدي ، وهذا يذكرني بالخليل بن احمد الفراهيدي (صاحب العروض)، كان الخليل بن احمد الفراهيدي ، لايقف على مشكلة عويصة، الا وانصرف يفكر بها، وقد جاء على أكبر المشكلات في عصره فوضع لها حلولا وفيها قواعد. وهي ليست من نوع المعضلات الصغرى، انما معضلات كبيرة ثقافية ومجتمعية ، تعادلها الان قضية اكتشاف علاج للسرطان، او اكتشافات عظيمة أخرى، فقد استوقفته مشكلة التنقيط في الحروف العربية ، وكانت الكتابة في وقته بدون حركات إِعرابية، انما كانت نقطا، توضع فوق الحرف كفتحة وتحته ككسرة وبجانبه كضمة. وكانت هذه النقط مما يربك النص ، وتزدحم فيه نقاط الحروف مع نقاط الاعجام . فوضع الحركات الإِعرابية الحديثة ، واستوقفه مشكلة ضبط الايقاع والوزن في الشعر ، فكان يدلي نفسه في بئر عميق ويدمدم ويصيح ليميز بين النغمات ، الى ان وضع الاوزان والتفعيلات وفق ميزان قياسي سليم لا يقبل الخطأ ، لازلنا نتناقله ونتدراسة.ـ
لكن القصة الاهم في حياته ، والتي ذكرتني به وانا اشرح لفكرة بنك الفقراء ، هي : أنه وقف على عطارٍ ( بقال ) ، ورأى جارية صغيرة ارسلتها سيدتها لتشتري حوائج لها ، ووقع لها مع العطار (اللص) إِشكال حسابي، هي تدعي أن العطار غشها في الحساب ، والعطار يدعي خلاف ذلك ، فانصرف بعدها الى المسجد ، وهو يفكر كيف يعمل برنامجا حسابيا ، يحمي البائع والمشتري من الغبن بصورة حسابية تلقائية لاتقبل الخطأ (برنامج)، ودخل المسجد وهو يفكر، و أخذ يذرعه جيئة وذهابا، فكان أن ارتطم راسه بسارية المسجد ( التي لم يرها ) لشدة اجتهاده في التفكير ، فمات رحمه الله من أثر ذلك الارتطام القوي ( كما يذكر هذا المؤرخون ) . اسوق هذا المثل وذاك لاؤكد مرة أخرى ، ضرورة التفكير والتفكير فقط في هذه المرحلة ، لانه سينشط الفكر الى المحاولة ومن ثم التنفيذ، سيما وأن المشكلة مستفحلة، والعورة ( الفقر) أكبر من أن نغطيها، بنظريات و أو تفسيرات أو دعوات الى المساعدة والعطف.ـ
في بعض المجتمعات الاوربية، معالجات حياتية واقتصادية مبرمجة ومدروسة، أطلقت عليها أنا في كتاباتي حول الموضوع عنوان (هندسة الفقر) ، وهي كيف تستطيع أن تُحجّم الفقر ، أو توقفه عند حد معين ، أو تقضمه شيئا فشيئا ، أو تقلبه كطاقة ايضا . وتعتبر مملكة السويد الرائدة في هذا الاجراء، رغم أن السويد الان من الدول ذات الاقتصاد الثابت والصامد والقوي، لكنها قبل عقود قليلة فقط، كانت دولة فقيرة بكل معنى الفقر، وفقيرة الى درجة الاملاق ، ويذكر أن مليون سويدي هاجروا في الاربعينيات الى امريكا للبحث عن عمل ، في وقت كانت السويد كلها عبارة عن ثلاثة ملايين نسمة ، يقتلهم الفقر والجوع وتتكدس العوائل الكثيرة في مسكن متواضع ضيق عبارة عن سقائف ، أو حظائر ماشية ، بدون حمامات او مرافق ، يأكل بهم القمل ، ( كما يقولون هم ، بالمناسبة فهم يتحدثون عن هذا بكل فخر ووضوح ، ويُذكّرون الزائرين والمهاجرين دوما بتاريخهم هذا ، ولهم في ذلك متاحف يحتفظون ببعض المظاهر القديمة من حياتهم السالفة) ، لذلك فهم اليوم أكثر اصرارا، على أن يبعدوا عنهم شبح تلك الفترة، لذلك فهم يصدرون نشرات اقتصادية دورية، عن اتجاهات الاقتصاد والتحولات بعد عقد او عقدين ، تقول انه في سنة 2050 ، سيكون لدينا شحة في هذا المجال ، والآن مع ما هم من ترف نسبي ورفاه ورؤوس اموال ضخمة ، لهم احتفاليات خاصة ، يلبسون فيها الملابس المرقعة والاحذية الممزقة ، ويزورون اماكن معينة في الريف تذكرهم بتلك الفترة ويستلذون بها ايضا و مع العلم ان تكاليف الاقامة في تلك الاماكن باهضة ايضا ، لانها اصبحت سياحية.ـ
ما اريد الاشارة اليه في حالتهم ، أنهم يهندسون الفقر إن وجد في بعض مجتمعاتهم ، وذلك بتحري أيّة فكرة رائدة تختصر المصروف او تختصر الوظائف الحياتية ، ويسعون الى ذلك ، ويشجعون اي فكرة تصب في هذا الاتجاه ، كما أنهم متدربون بشكل جيد على أي ازمة طارئة تمر بمجتمعاتهم ، مثال ذلك ، لو فرضنا ان النفط انقطع بين ليلة وضحاها عن كل السويد ، فان جميع فراد الشعب سوف يذهبون الى اعمالهم في اليوم الثاني سيرا على الاقدام او على البغال او بالدراجات الهوائية ، دون ان تستطيع ملاحظة اي تغيير يطرأ على سير العمل . وهذا ليس مبعثه ، وعي الشعب فقط ( وان كان الوعي حاضرا بشكل كامل ) الا أن البرامج الاجتماعية والتعليمية في البلد ، كلها تصب في هذا الاتجاه . كما أن لهم بدائل كثيرة لأيِّ شيء. ومن ابرز ما يستوقفك في السويد ، أنه البلد الوحيد في العالم ، الذي ليس له نفايات من اي نوع ، كلها بالنهاية تعود في دورة معالجاتية الى الطبيعة . ولهم لذلك معامل ضخمة . وتعتبر النفايات ثروة بما تؤول اليه في النهاية من معالجات.ـ
هندسة الفقر هذه وجدتها بصورة قريبة لدى الموصليين ايضا ، وبخاصة الاخوة المسيحيين في الموصل . وكان اليهود المقيمون في الموصل قبل التهجير ، هم من يٌعرف بها (لذلك فلا زال البعض من الموصلين يقولون عن الحريص ، والذي يرفض الإقراض او المساعدة ، يهودي)، وأخذها عنهم المسيحيون ، ومن ثم كل ابناء الموصل الحاضرة . لذلك فان ما يٌطلق على سبيل الدعابة او الجد ، من أن الموصلي بخيل ، كانت صورته حسن التدبير والتخطيط ، والاكتفاء الذاتي ، و وتجميل الفقر بما يناسبه من سعة حيلة وحسن التدبير، وتوظيف جيد ورشيد لكل الطاقات المتاحة في سبيل بلوغ الكفاف وعدم الاحتياج. وتوزيع النقود والاموال المتاحة (والتي هي شحيحة بالتأكيد ) على كل الحاجيات ، وليس اقتصارها على الاكل والشرب.ـ
وهنا لا مانع في أن اورد مثالا لذلك ، مع التأكيد على ان هذا الترشيد فضيلة وحسن تصرف ، ولا يقدح ابدا في اي انسان ، بل العكس هو الصحيح ، هو أن يتسول ويمد يده لغيره بدون اضطرار ، ولا يقدح في مجتمع أن يعالج الفقر بالفكرة الرائدة والمتاحة ابدأ .ـ
القميص الرجالي لدى جارتي المسيحية ، كان يلبسه الاب ، فاذا رَثَّ و بٌلي ، قامت ربة البيت بقلبه على الوجه الثاني ليلبسه الابن مع ياقة مقلوبة ايضا، ليبدو حديثا ، فاذا أبلاه الولد أيضا، ذهب ليكون بعضا من ملابس تحتاتية تستخدم في العمل وهكذا. لكن مع اصرار على أن يبدو هذا القميص كل مرة، بزي جديد وهيئة جديدة لا يلاحظها أحد الا حالة جديدة، وتطاله يد ربة بيت خياطة ماهرة، وايضا ذواقة . وهكذا تتجدد الحياة بدون ان نخصص المزيد من الاموال لحاجات بالامكان تحويرها وإعادة انتاجها.ـ
ينطبق هذا ايضا على التفكير ، في حلاقة الرأس بالكامل (صفر) لأغلب الكهول والرجال الكبار والاطفال ، لغايات كثيرة، لعل اهمها الاقتصاد والنظافة ، عدا الانشغال كل فترة قريبة بتخصيص مبلغ لهذا، واذا كان هناك مبلغ مخصص، فبالامكان تخصيصه، لقضايا اخرى ( حتى لو كانت ترفيهية او كمالية ) لذلك لا اتذكر انا شخصيا متسولا في الموصل كان مسيحيا ، لان نوعا من التواطؤ بينهم كان لانتشال أي مدقع او عاجز ، وعبر تكليفه بعمل ما يتناسب مع عجزه وطاقته.ـ
طبيعي لا يُفهم من كلامي ، دعوة الناس الى لبس القديم ولاحلاقة الرأس توفيرا للمال ، المجتمع الان مترف نوعا ما ، ويستطيع شراء الجديد والحديث وعمل تقليعات جديدة في الرأس ، بقدر ماكان اشارة يُهم منها نوع التدبير.ـ
هناك الان الحاجة الى افكار مبتكرة ،تمتص زخم الفقر وسطوته ، وكذلك لكل المشكلات الحياتية المستعصية والمزمنة ، منها على سبيل المثال ، الحاجة الى ايجاد عناوين حرفية لاشغال جديدة، وامتصاص البطالة بها، ووتوسيع دائرة الخيارات لمحدودي الكفاءة والمهارة في العمل خارج الحرف المعروفة.ـ
وينسحب التفكر ايضا على المحاولة العنيدة والمصرة (ويجب أن تكون كذلك) في إيجاد حل جذري وشامل لمشكلة الطاقة الكهربائية مثلا ، ومشكلة الفلتان الامني ، والحماية الذاتية للمجتمعات في ظل الغياب الواضح للدولة والسياسيين . ولا اتصور ان يختلف معي أحد و في أن نقص الطاقة وغياب الامن ، اكبر مغذيين للفقر بطريقة أو بأخرى.ـ
اجدادنا في الموصل واجهوا ظروفا أكثر قتامة من هذه الظروف، وشحة في المواد الغذائية اكثر من هذا، مع انعدام وسائل الحفظ والتبريد والتجميد . لكن الفكرة والتثاقف بها ، ومحاولة التصرف ، كانت رائدهم الى ايجاد بدائل ، نراها الان في عصر الكهرباء والتكنلوجيا ، بدائل مناسبة جدا . ابتداء من عمارة البيوت التي قامت لتناسب حجم الوظائف الحياتية المطلوبة ، فكان السرداب للنوم في القيلولة وارضيه المرمر الابيض البارد الذي يمتص رطوبة الارض ، وكانت بعض الاماكن لخزن المواد الغذائية . وكان ايضا (الكبس والتعليب والتجفيف والسلق للمواد الغذائية كل حسب ما يقتضيه من حالة لكي يحافظ على قيمته ونكهته)، وقد افاض الاخوة الباحثون المواصلة في هذا ، وللاستاذ ازهر العبيدي مقالة مفصلة في هذا:ـ
أحد التجار من بيت الخفاف في باب السراي ، كان يأتيه زبائنه من القرى خارج الموصل ، وكان يوصيهم احيانا بجلب خروف كبير له ، ومعه 5 كيلوات جبن ابيض ، ولكن الذي لفت انتباه هذا القروي ، أن هذا التاجر قال عن الخروف ( سيُعَبِّرُنا الشِتِي كلُّو ) سيكفينا هذا الشتاء كله . فصاح الاعرابي ، ولكن هذا الخروف نحن نلتهمه في عشاء واحد . كيف يكفيك ، الا اذا كنت ستبقيه الى اخر ايام الشتاء فيلتهم دفعة واحدة ..ـ
قال له : لا ، ولكن سنذبحه ونقطعه ونُمَلِّحُهُ ونَكْبِسُهُ في جِرَار ، ثم نخرج قطعةً قطعةً منه يوميا ، وهكذا يطوي بنا الشتاء و والجبن كذلك.ـ
اخلص من هذا الى انه كان هناك توظيف للسلعة وتوظيف للمكان وتوظيف ايضا للحياة ، وحساب حكيم للمفاجاءات وتغيرات الاحوال فلا نحيا يوما و ونموت فصلا..ـ
وهذا سيعيننا على الصمود في الحياة ، ولا حاجة لاذكر بأن الموصل صمدت سنوات في وجه حصار نادر شاه ، واخذت تجتر ما ادخرته فساعدتها عقلية الاهالي على امتصاص هذا الحصار . وأكرر مرة أخرى أن هذا ينسحب على كل المشكلات الحياتية المستعصية ، والتي هي مغذيات للفقر ايضا ، لان وجود أي مشكلة حياتية تعيق المجتمعات عن التقدم الى أمام . وهنا تحضرني بقوة ، مشكلة التسيب الامني في العراق ، مع ما يعنية من فقدان ارواح واموال وخوف استثمار وتعطيل تنمية اقتصادية واضح . ويحضرني كيف اخترع سكان جزيرة اوكيناوا اليابانية ، فنون القتال الاعزل ( الجودو والكراتيه ) لَمَّا مٌنع عنهم حمل السلاح منعا باتا ، بكل اشكاله حتى السكاكين ، وكانت عصابات الساموراي المسلحة تُغير عليهم كل وقت وتقتل بهم ، فقاموا بابتكار اساليب القتال هذه ، لكي يدافعوا عن انفسهم ، وهي وسائل طوروها لتكون قاتلة وفعالة ، او على اقل الفروض ، هي اسلحة ذاتية بشكل من الاشكال .ـ
هناك روافد ومسببات كثيرة للفقر . كما أن هناك اكثر من لجام يُلجم به الفقر . واوله هو العلم بمعنى الوعي وليس بمعنى التعلم . الوعي سلاح فعال ضد الفقر ، يتسلح به افراد المجتمع ، ليقيهم شبح الفقر ، والعلم يتخذ اشكالا رفيعة اعلاها الاختراع والابتكار واقامة مجتمع اقتصادي قوي ، واشكالا اخرى متدينة ، هي اضعف الايمان ، ويستطيع الفرد اتيانها بمجرد التفكير .ـ
فعندما يٌجرح طفل او يتعرض لحادثة نتيجة اهمال ما في البيت ، فان حادثته او عَوَقَهُ اذا تم ، سيتطلب مستشفى واجور طبابة ورعاية ، وكلها امتصاص لاموال كانت مخصصة او يفترض ان تخصص لحاجات أخرى .ـ
والعامل الذي لايجتهد في اتخاذ ادوات الوقاية والسلامة ، يتعرض لحادث او عَوَقٍ سيعطله اولا ، ومن ثم يمتص ما لديه من مال لاجل التطبب . وهكذا بقية الحوادث . ناهيك عن الوعي المجتمعي ، بضرورة الاخلاص والنزاهة والعدل ، التي تساهم في تقليص المديات التي ينداح بها الفقر . الافكار والمقترحات والمقاربات في هذا كثيرة ومتشعبة ، وكلها بحجة الى من يصيرها ويناقشها ويستخلص منه الفائدة .ـ
هنا علينا فقط ان نحاول بالفكرة والتأمل . يوما ما سنصل الى حلول . ثم علينا بمراجعة بعض الامور التي سلبتنا اياها المدنية الحديثة ، واتكالنا المستمر على ما يجود به الغير علينا ، ولعل مشكلة الكهرباء ، هذه اكبر دليل . ومن هنا سادعو دعوة مجنونة ( ولكم ان تسموها كذلك ) ، في شهر رمضان ، وحيث نتعبد بالفكرة ، أن يستضيف احد المساجد في رمضان طاقم اساتذة كلية الهندسة فرع الكهرباء . في جامعة الموصل ، يستضيفهم في درس في احد المساجد ، لكي يشرحوا فقط كيف يمكن ان نصنع طاقة كهربائية و او كيف يمكن لفكرة ما او مقترح ما أن ينجح . استدعوهم فقط ليتحدثوا كيف تعمل الكهرباء . فقط ليتحدثوا باي شيء عن الكهرباء ، ويقينا ستنزل عليكم ملائكة الرحمة في ذلك الدرس لانكم حاولتم وحاولتم فقط . وهكذا في كل مناحي الحياة .ـ
الفقر يا اخواني يأخذ اشكالا كثيرة في المجتمعات ، وما لم تكن المجتمعات محصنة بما لدى افرادها من وعي وارادة ، لن تستطيع أن تكافحه . وما لم تتضافر الجهود البشرية كلها ، لاتشكل طاقة أبدا .ـ
انا غير معجب بنمط الحياة في اوربا ، ولكني معجب من اصرارهم على استثمار العلم واستمطارٌ بما يُغاث به المجتمع . وبالعلوم التي تمنح الحصانة والوعي لهم . لو قيض لبلد مثل المانيا اليوم ( لاسامح الله ) أن يسقط عليه نيزك كبير ويدمره . ويشغل هذا الامر كل جيشهم والشرطة والدفاع المدني ، لرأيت المتطوعين من كل ابناء الشعب جاءوا زرافات ووحدانا الى مراكز الانقاذ ، يؤدون الواجب كأنهم مدربون عليه . فلا بد اذن من انزال الاخرين ليساهموا بالفكرة .ـ
الموضوع طويل ومتشعب كما قلت . وكانت كلماتي دعوة للفكرة ، ومن الفكرة سنجد انفسنا في غيرة وحَمِيَّةٍ لنواصل .ـ
وبمناسبة الحديث عن العلم والوعي ، لابد من التبرع والتصدق واخراج الزكاة او جمعها ، لانشاء مراكز بحثية ، ومؤسسات تعليمية منضبطة وجادة ، واذا لم يتيسر لها مال ، فلا مانع من ان يقوم الخبراء المتقاعدون وذوو الاختصاص العلمي ، من الذين يجدون فسحة من الوقت والتعاون وتسييل المعرفة والمشورة والخبرة بين الناس ، أن يقوموا بما يمليه الواجب . وذلك اضعف الايمان ، واقل ضريبة نؤديها للحياة التي جعلنا الله فيها خلائف . ولم نكن كذلك.ـ
بقي أن نقول ، أن الموصل مجتمع مثالي لظهور الافكار والتقليعات الجديدة في كل مناحي الحياة ، لان له ترسبات حضارية كثيرة ، وايضا لانه مجتمع اكتوى في القرون القديمة من الازمات وعالجها وامتص زخمها ، وانتصر عليها.ـ
على الانسان أن يصنع ، والطبيعة هي من يوفر المادة الخام..ـ
رمضان كريم عليكم وعلينا ، والى درس قادم في موضوع رمضاني آخر.ـ
----------------------------------------------------------------------------------------------
اضافة من هيئة التحرير: دعما لمقال الاستاذ أسامة غاندي ، قمنا باضافة افلام عن بنك الفقراء في بلدان مختلفة - كشاهد على قوة الفكرة عندما يتم تنفيذها باصرار وتصميم بعد دراسة وبحث واقعي و جاد.ـ
لمشاهدة الافلام
----------------------------------------------------------------------------------------------
للعودة إلى الصفحة الرئيسة
لأضافة التعقيبات أو لفراءتها، يرجى الضرب على الكلمة التالية
Comments
على يسار السطر التالي