طه الديري ....نحّات في الذاكرة وعلى الفولاذ
بقلم : اسامة غاندي
إستوقفتني، ترجمة استاذي الدكتور أحمد الحسو للراحل سمير الجلبي . ونعي الدكتور سيّار الجميل للراحل العزيز صديق بكر أغوان،كما تستوقفني بين الحين والاخر استذكارات زميلنا اللامع صبحي صبري في التعريف والتذكير بالراحلين أولا بأول ،اليهم جميعا الرحمة والمغفرة والمجد، ومع الحوقلة اردد ابدا حينما أسمع نعيا ما، ما قاله الشاعر .
في كل يوم لنا ميت نشيعه ................... نُحيي بمصرعه آثار موتانا .
وأعزي نفسي في الوقت نفسه بقول الشاعر :
ليس كل من مات فاستراح بميتٍ ........... إنما الميت ميت الاحياء .
المشترك بين هذين الراحلين وغيرهم ممن نترجم لهم،أنهم مكثوا طويلا وراء الكواليس ،دون أن ينتبه اليهم المجتمع متمثلا في هيئاته الكبيرة المتنفذة . ومن هنا كان وجه الاشادة بجهود الاستاذين المذكورين في التعريف بهؤلاء وكل من (( سلتتهم )) الذاكرة أو كادت .) بالمناسبة كلمة سلت،كلمة عربية تستخدم في (لهجة الموصليين بمعني الضياع .
ومن هنا كان توجهي العام ونزوعي الدائم في أن ابحث في زوايا المجتمع عن فلتات زمنية بقدر او بآخر،وأُؤرخ لهم،ولا يغريني كثيرا أن اؤرخ لرجل او شخصية ازدحم المؤرخون حول تاريخه،ولا أقف كثيرا حول من أُّرِّخَ له،هل عاش في قصر ام في كوخ صغير, لاني متيقن أنهما الى حفرة صغيرة غير مؤثثة صائرون، لكني اتوقف أكثر من مرة حول البصمة التي يتركها الراحل على صفحات الحياة . كما لا تأخذني محبة شخص ولا بغضه في أن اقول ما اعرف ( اعدلوا هو اقرب للتقوى )، وهكذا رجائي بمن يؤرخ أن يبحث عن اللؤلؤ في القاع ،ربما كان هذا اللؤلؤ سببا دعا الاخرين الى العمل ووفر لهم الفرصة،كما يدفع من هم وراء الكواليس الآخرين الى الابداع . ولربما تواجد في الصورة أكثر من فاعل ودافع ومحفز،ولكن الاعتبارات الاجتماعية والسياسية ذهبت الى من هو في الميدان فقط . واغفلت من هو في الموضوع والمعمعة كما يقولون .
الصدفة وبعض التوفيقات تدفع البعض الى الواجهة لكن لا يكون هو المقصود والمعني،أو لا يكون هو المجدي فعلا . بهذا تكثر الوجوه،ولكن لا تكثر الفاعلية .
يُقال أن ابا جعفر المنصور سكن الموصل فترة وعمل فيها ( حمالا )،وأنه تزوج بامرأة من الازد،وانجب منها ولده جعفر الذي يُكنى به،وقبل زواجه منها سكن في سرداب صغير هو وأحد المجاذيب،تقاسم السرداب لفترة مع هذا المجذوب مع ما في السرداب من بؤس وجدران عارية،وكان في تلك الفترة متخفيا وملاحقا من قبل بني أمية بعد القاء القبض على أخيه ابراهيم بن محمد بن علي وقتله ،ثم ترك الموصل بعد حين وترك فيها زوجته وطفله الرضيع،وانقطعت السبل بينه وبين أمرأته،الا حينما كشف صدفة عن ابنه ( وكان يومها خليفة )،ولم يعلن المنصور وقتها ولا ابنه جعفر،عن هذه القرابة،لان ابا جعفر المنصور،اراد أن يهيء المجتمع البلاطي الملكي لاستقبال هذا الفتى،كولد للخليفة مع ما قد يثيره هذا الاكتشاف من تزاحم الامراء وخوفهم من المنافسة،وأمره بالعودة الى الموصل وإبلاغ أمه أنه قد عرف من يكون الاب،ومن ثم العودة الى بغداد لكي يقدمه للبلاط،لكن ابا يعقوب كاتب الديوان،توجس خيفة من هذا الغلام،ولم يعرف انه أبن الخليفة،وخشي على مكانته،فبعث له من يقتله وهو في طريقه الى الموصل،وبعد ان اكتشف المنصور أمر قتل ابنه،استقدم جماعة من اهل الموصل ممن يعرفون أمه،وكان من بينهم هذا ( المجذوب ) فدار حوار بين المنصور وبين المجذوب،تفاخر به المنصور على المجذوب فقال له المجذوب :
كنا مجنونين نعيش سوية في سرداب،نتبادل الخواطر والافكار المجنونة،بل كنا نتعاطي الجنون نفسه،لكن ادركك الحظ فاصبحت خليفة وخذلني فظللت على جنوني . ضحك منه المنصور كثيرا .( هذه الرواية وردت زبدتها في تاريخ دمشق لابن عساكر )،أما رواية المجذوب فوردت في كتاب قرأته غير موثق .
لذلك نقول أن هناك رجالا يدثرون الحياة ويصنعونها بشكل او بآخر في الموصل،ويكتبون تاريخ المدينة ويعطون الصورة الاخيرة،ليحتكرها بعض ( الاقوياء ) وبعض الذين يستطيعون أن يعبروا عن أنفسهم بشكل جيد . هؤلاء يهيئون الحدث لكي يبدو المشهد الاخير منسجما ومصادرا وحكرا على ( النخبة ) . ويعبرون عن تناقضات الحياة بشيء جمالي،كما يرسم الفنان لوحة البؤس بالالوان الحالمة المترفة ,
المجتمع حينما يكون ظالما،ويعتمد اعتبارات مصلحية وجاهية سيؤرخ لنزوته لا للحقيقة . وسيتعمد الاجحاف والتزييف . وسيعتمد صور جاهوية،يُضّيع جهد المبدعين ويزيف التاريخ،ويبني على الخطأ كذلك . وهكذا ينتج عن هكذا مجتمعات اعتبارات،تختصر كل أعمال ( الضعيف \ الفقير \ المسكين ) مثلا،بالمغامرة والجنون واوصاف أخرى،وتختصر كل تفاهات ( القوي \ الغني \ المغتصب ) ومزاجيته بانها اعمال الاصلاح والاحسان والصدقة والفكرة الاخاذة .
هذه المقدمة المملة والثقيلة،أزجيها بين يدي كل اولئك النجباء الذي تبعث بهم مدينة الموصل بعد ان تستمطر غيثهم،ومنهم على وجه الخصوص رجل صديق أحببت أن اؤرخ له بانصاف،لا لشخصه ولكن لانتاجه وما قدمه،وما يمكن ان يكون خط بداية جيد لمن يقرأون الاثر التفاعلي المتراكم لاي مدينة .
طه الديري . صائغ وفنان ونحات،وبمجرد أن تدلف الى سوق الصاغة،تسمع حديثا ما،لابد أن يرد اسم طه الديري فيه ولو على سبيل النافلة لا الفرض، واذا اردت ان تنتقل من سوق الصياغ الى المنطقة الصناعية لعمل ماكنة ما،أو طلب قطع غيار لماكنة مختصة بانتاج الذهب وتفرعاته،فإن صاحب أي ورشة في المنطقة الصناعية سيتفهم جديتك وفهمك بالصنعة اذا ذكرت له كلمة السر المهنية،وهي احدى ثلاث جمل يقع فيها اسم طه فيها مرفوعا ومنصوبا ومجرورا . قال طه \ رأيت طه \ مررت بطه ... سمعت كثيرا عن اناس ينحتون في الخشب والجبس والحجر،مضاهاة او ابتكارا،لكن لم اسمع عن انسان ينحت في الفولاذ والحديد الصلد ،لا لترف ولكن ليلبي حاجة تجارية واقتصادية لصنف معين من الصناعيين . تستلزم صناعته تقديم الجمال مع المادة . أنه صنف الصاغة،في مدينة تتعدد مشاربها وموروثاتها وتحب ان تخلد رموزها وايقوناتها في نفيس المعدن وهو الذهب،فمن يزيديٍّ يحب ان يرى شعائره منقوشة على مصوغات ذهبية،ومن مسيحيٍّ يحب أن يرى صورة العذراء وهي تحتضن وليدها محفورا في عقد صغير لا تتجاوز مساحة المتاح منه ال 3 ملم،ومن مسلم يحب ان يدرج صورة الفاتحة على مستطيل بعرض 1 سم وطول 2 سم على اكثر تقدير ، مع مراعاة خفة الوزن وقصر المساحة ما امكن،الامر الذي يلقي على صانع ( القالب ) عبء الاختصار الشديد مع الاحتفاظ بوضوح وجمالية الصورة .
ولان المتوفر من القوالب ( اجنبي الصنع ) وقديم،ولا يحتوي الا على اشكال كطائر او نجمة او هلال،ولان صعوبة الحصول على آخر استيرادا او ايجادا،قبل مرور فترة طيلة جدا . كل هذا فتق ذهن هذا الفنان على ضرورة الاحلال محل الاجنبي المفقود والعزيز،مع ضرورة ان يستوعب الموروث والرموز،وان يستغني عن المعدات والمكائن الثقيلة التي تنتجه،والمتوفرة للاجنبي ولا تتوفر له . مهمة ثقيلة وصعبة،والاصعب منها استحضار الجمال والفن،لانه الوحيد الذي يقنع مجتمعا لا يطرب للمحلي ولا يعبأ به ولا يشجع عليه،واذا احتاجه فانه يبتزه بشكل او بآخر،فكان طه الديري،القادم من عائلة تمتهن الصياغة،وتتحرى الفن والجمال والذائقة في حياتها وفي اهتماماتها وفي نشاطها الحياتي الاخر،فكان ابوه المرحوم أمين الديري،أول من ادخل شكل الاقراط الخفيفة الصغيرة المتيسرة اقتصاديا والمتاحة للجميع والتي عرفت نسبة اليه ب (( الديريات )) المشهورة لدى ارباب الصنعة ولدى النساء .
نزح جده من منطقة دير الزور السورية وكان له نسب ومصاهرة مع بعض عوائل الموصل واستوطنها .
لذلك رأيت الاعجاز الفني والجمالي والحرفي في الاقلام الفولاذية النحيفة التي ينقش على قمتها طه الديري لوحاته الفنية على مساحة صغيرة جدا لا تتجاوز 3 ملم،ويرسمها معكوسة،ثم يحفرها معكوسة،لتطبع نقشتها على اسطح المصوغات بشكل صحيح . ثم ترى الاعجاز بشكله الاكثر سخونة حينما تجده لا يطبع ولا يرسم على مثال, وانما يرسم على ضوء حاجة الزبون ورغبته, وما يوحيه اليه مزاجه . وماذا يقترح .
مع الفن ومع الجمال ومع الروح الوثابة في توفير بديل وطني للمنتج الاجنبي . كان عليه ايضا ان يلاحق رزقه الذي ارتهن على نحو ما في سباقه مع الزمن ليلاحق الموديلات والنماذج ويخترعها ويسوقها،في سوق لا يحركه كثيرا الجمال لاجل الجمال مثلما يحركه المال لاجل المال والجمال . ومن هنا تعمق في الرسم والنحت والبحث عما يتعلق بهذه الصنعة،وربما قادته رجلاه الى دروب عميقة نتيجة لمتابعاته المستمرة في النقش والطرات ،وانواع المعادن وتشكيلات بعض المعادن الى ان انتهى ( من باب الفضول ) ووجد نفسه يتفحص الاثار والمسكوكات،ووجد اهتماما وطلبا عالميا،على الدينار الاسلامي المضروب زمن عبد الملك بن مروان سنة 77 هجرية، وهذا الدينار الذهبي نادر الوجود،ويوجد منه في كل متاحف العالم فقط ثلاث قطع أصلية،واذا توخينا التدقيق سنقول ان قطعة واحدة منه متوفرة فقط في متحف فرنسي، وتكفي اشارة من اي مكان على وجوده لتجتمع كل عصابات التهريب والاشخاص المهووسين بجمع الانتيكات على اقتنائه بمبالغ خيالية حسب طلب الحائز . ومن باب تحدي النفس والثقة الزائدة بالنفس،اعتكف طه الديري في صومعته ليجرب حظه في تقليد الدينار الاصلي . وكان على وجه الدينار اية قرانية مكتوبة بالخط الكوفي القديم،وصورة عبد الملك على ظهره،كما ان تصوير الدينار كان منشورا في كل المطبوعات التي تهتم بالآثار، وخرج طه الديري من صومعته ودينار عبد الملك معلق يتدلى من بنطلونه مع حلقة المفاتيح،على شكل مدالية للعرض فقط . لكن بعض المهربين ممن سال لعابهم كما لم يسل دجله قبلها،على هذه الصفقة . وتلاقفوا هذه المدالية ,مدعين انهم سيحتفظون بها كلوحة فنية فقط . ولكن الرجل لم يكن يدرك ان طلبات المداليات المتكررة المطلوبة منه على غرار دينار عبد الملك بدأت تتكاثر،وتهرب الى دول الجوار على اساس انها دينار أصلي،الى الحد الذي جعل صائغا تركيا في استنبول يستغرب يوما من الايام،حينما عُرض عليه شراء 15 قطعة من دينار عبد الملك في يوم واحد . وأن في سوريا وحدها تجمعت 412 قطعة لدينار عبد الملك . بمعنى اصبح دينار عبد الملك دراهم . هذه القصة رغم تعقيداتها تشير بوضوح الى مدى تمكن هذا الشخص من الصنعة . وهو ما جلب عليه كثيرا من الاحراج والضيق الامني والابتزاز،حينما يعتذر عن تنفيذ طلبية معقدة ومشبوهة، وكان عليه ان يكون (( مخترعا )) تحت الطلب لكل ما يُطلب من مكائن واشكال ولوحات وبدائل محلية لاجهزة اجنبية يتعذر ايجادها في العراق خاصة في فترة الحصار . واليه يُنسب الفضل في ايجاد مكائن لعمل الاساور،ونقشها معمليا وبطريقة سريعة،اي انتاجا تجاريا وكميا،بدل الانتاج اليدوي القديم .
كانت المعضلة الحقيقة في حياة طه الديري . هي انه تواجد على خط المصلحة الشخصية والاقتصادية للبعض،وضرب جيوب البعض بهذه الموهبة دون أن يقصد . فتحولت معركته مع البعض الى معركة شخصية بحتة، استحضروا كل ما يستحضره العاجز من اتهامات شخصية بسند او بلا سند .
في فترة السبيعينيات . طرح البنك المركزي العراقي (( سبائك ذهبية )) للتداول التجاري،دعما للصاغة وباسعار رسمية مخفضة . ضمن توجه تجاري كانت تختطه الدولة آنذاك . والزمت جميع الصاغة المنتجين باخضاع كل المنتوج الى لجنة حكومية في بغداد تقرر عياره وتقوم بختمه ووسمه على اصل المنتج بعلامة محفورة تبين عياره بالرقم،وتطبع رقم لعيار 18 او 21 او 22 وهكذا .
قبل هذا التاريخ لم يكن هناك رقابة على بيع المصوغات الذهبية،ولا عيار صحيح،الا ما يقوله البائع فقط،وكان غالبية سكنة الريف المستهلكين للذهب،يعتمدون في تحري الدقة والامان والذمة،في بعض وجوه معروفة باخلاصها وصدقها وذمتها،أما الباقون فكانوا يبيعون المصوغات حسب ما تمليه عليهم ذمتهم وامانتهم وتحريهم للحل والحرمة،ولان المستهلك كان يشتري الذهب للحيازة الدائمة فلا يفكر ببيعها الا بعد مرور سنوات كثيرة،وحين الحاجة . وكذلك فان الايصالات التي تعطى للمشتري سرعان ما تتلف او تضيع . وبهذا قامت السلطات تتلقى شكاوى من المواطنين وخاصة ابناء الريف بان المصوغات مغشوشة بالكامل او مغشوشة جزئيا،او أن عيارها متلاعب به الى حد لا اخلاقي .
وقام بعض اليزيدية من سكنة سنجار وبعشيقة وبعض القرى المسيحية في باطنايا وتلسقف،الذين كانوا يشترون ( ليرات الفضة والذهب ) ويشكونها في طاقيات نسائية توضع على الرأس . قاموا يعرضونها في سوق الصاغة للبيع ,مصادفة،أما لان اصحابها قد توفوا او للاستغناء عنها بعدما اقلعت شاباتهم عن ارتداء هذا الزي التقليدي . ليفاجأوا بانها عبارة عن قطع نحاس . في وقتها سُدت القضية واُسكتت الافواه التي يسكتها المال تماما،ولكن البعض اراد ان يتحرر من سطوة الختم الحكومي والفحص المختبري للذهب،اراد ان يعود ليمارس نفس الغش والتلاعب،وتفتقت اذهانهم الى حيلة،تزوير الختم الحكومي نفسه،وهي مهمة صعبة،لان الختم الحكومي مصنوع من قبل شركة خاصة في سويسرا،البلد الذي يصنع الساعات وبعض دقائقها بحجم الشعرة .
فلم يبق الا طه الديري من يستطيع او يتواجد لمثل هذه المهمة،طبيعي كان الرفض القاطع لهذا الطلب من قبله،اولا لاستحالته،وثانيا لانها قضية كبيرة جدا تتعلق بالاقتصاد الوطني . لكن هذا الخبر لفت انتباه رجل مخابراتي حكومي محترف وقرر أن يستثمر فيه وظيفيا ما امكن الاستثمار . كان فكر هذا الرجل الذي يرى جموع المهربين الاكراد يشترون الذهب من الموصل بكميات كبيرة،والموسوم بوسم الحكومة،ويهربونه الى تركيا،أو يضربون به الاقتصاد المحلي والوطني لمدينة الموصل . فرأى هذا الضابط ان يجر هؤلاء المهربين الى فخ كبير،وهو أن يزودهم بطريقة أو باخرى بذهب مغشوش ولكنه موسوم بوسم الحكومة ( الذي يقرؤه المهربون بوضوح )،واستدعي طه الديري،الى لجنة أمنية،لكي يحقق لهم رجاء تقليد الختم الحكومي . ليفاجيء هذه اللجنة باستنساخ ختم شبيه الى حد بعيد بختم الحكومة ( السويسري )،ووصلت الى تركيا عبر المهربين فعلا،اول دفعة من الذهب الموسوم تقدر ب 40 كيلو . باختصار دخل طه الديري بطرحه نماذج محلية اربكت المهربين لوقت طويل وجعلتهم يتعاملون باشياء مرئية لكنها وهمية ليس لها قيمة فعلية،الا انها كانت ترضي غرور المهربين بالتهريب .
في باريس التي زرتها العام الفائت،وجدت اكشاك صغيرة متناثرة حول برج ايفل تبيع الهدايا والمداليات الصغيرة المجسمة لكل ما في فرنسا من معالم اثرية وعمرانية واثار قديمة،مداليات يقتنيها السواح للذكرى والذاكرة،وبدروها وزارة السياحة الفرنسية تدعم هذا التوجه لانه يسوق فكرة تاريخية ثقافية عن فرنسا وعن اثارها وعن تاريخها . وانا شتري مدالية زجاجية لبرج ايفل،هناك تذكرت طه الديري،وتذكرت كيف انه طرح كل الاسطوانات السومرية والبابلية والاشورية واللوحات الاثرية التي يسنتسخها بعمل يدوي وباحجام صغيرة،ليطرحها في السوق . مسلات حمورابي صغيرة،تماثيل صغيرة،اختام اشورية وبابلية صغيرة . وكان يجيد اخراجها،بحيث يختار نوعا من الاحجار تلائم الحفر وتلائم المنظر وايضا توحي للمشاهد بنوع من القدم . حيث كان يحرص عند عمل الاسطوانات من الحصى،أن يجلب الحصى من قاع نهر دجلة،من تلك الكتل التي تظل مغمورة بالماء طيلة السنة،لا ادري ربما لفلسفة صناعية ومعالجاتية هو يرتئيها .
طرح التاريخ الاشوري كله للتداول الشعبي،وهذا من شانه أن يسيل لنا التاريخ . وكان ينفق على المعلومة واكتسابها من ماله الخاص ويقتطع من دخله لينفق على رحلة بحثية،يقضيها وراء خبير في فن ما،ويحوي الكتب اللازمة لذلك .
اجتمع الفن والجمال والحرفية في طه محمد أمين الديري المولود سنة 1949 في الموصل،واثارت سيرته واعماله جدلا كبيرا،فَسَّرَهَا كلٌ وفق ما تخيله، لكنه في رأيي حالة نادرة لن تتكرر،وخسارتها انها لم تترك بديلا ولا اثرا عبر تلاميذ او مريدين . لا انظر الى طع الديري كأنسان مجرد،ولا الى عمله،ولكن أنظر اليه على أنه استلهامات الزمان والمكان،في مدينة تملك فعلا عبقرية المكان المتصالح مع الزمان،وما نشهده الان من فوضى وعبث هو لان الزمان متخاصم الان مع المكان التي تأبى الا ان تنتصر .
لا استطيع استيلاد طه الديري آخر،الا أن تتوفر تلك الظروف التي وفرته .
في الاوقات الكثيرة التي قضاها يتفرس في النقوش والصور والوجوه واللوحات التي ينفذها حفرا على قالب فولاذي ( وتختار القوالب من الفولاذ لمقاومة الضغط )،لكثرة وقوفه عند الحفر على الوجوه،تولدت لديه حالة استعلام غريبة في اصل الاشياء والتشكيل البايولوجي للوجوه والاشكال والاجسام،وراح يبحث عنها ويسأل كثيرا . وقادته ايضا الى اسئلة فلسفية عميقة في اصل الوجود وطريقة تكوين العوالم البشرية،وطرح فكرة كبيرة،كانت في حقيقتها تساؤلا كبيرا،ليس هذا محلها،وانما محلها مقالة مستقلة ان سمح لي الوقت وساعد الظرف على شرحها بالتفصيل وهي تستحق الاثارة فعلا،
عاش طه الديري وحيدا لم يقترن، وعاش عالمه الخاص الذي لم يكن بعيدا عن التفسيرات المختلفة، وازدادت هذه التكهنات حوله لانه كان جميلا جدا،ولم يذو جماله ونضارته حتى عمر متقدم،كما كان يزيده بهجة ونضارة باختيار افضل الملابس والموديلات والتقليعات،حتى في السنوات الاخيرة التي سبقت رحيله . لهذا فهو يمتلك موهبة المقارنة بين الاشكال ويتفرس بها،كما زاد ايلامه أن يدخل الابداع ومعه كل مؤهلات الفرادة،لينفش في فولاذ صلد وفي مجتمع بعضه اصلد من فولاذ،ووجوه عليها قترة .
أجمل ما في طه الديري ( وهذا ما وجدته من نزعة في المجتمعات العملية المتقدمة ) أنه لم يقف على برج عال ليعلن فقط امتيازاته ومهاراته،سكت طويلا وكان الذي يتكلم فيه اعماله ومايطرحه من انتاج، طرح الفكرة والنظرية،مجسدة على ارض الواقع، لذلك تراه الان وهو في ثراه مجسدا عبر المكائن والالات المبثوثة في حوانيت الناس،تستمطر منها لقمة العيش .
عاش زمنا كان فيه جادا جدا بينما الزمن كان عابثا جدا ومؤلما جدا . لكنه عاش بالقياسات التي يريدها ويستذوقها . بنوع من البسطة واليسر والتألق كانت على قدر ما يحتمل الممكن . كما كان متدثرا كرجل وحيد عازب ببعض الهوايات والاهتمامات الفنية والموسيقية . بمعنى كانت حياته مملوءة بما يفيد .
كان يقول الحياة لا يبنيها الادعياء ,بقدر ما يبنيها صاحب التجربة والرجل الهمام الشجاع المحترف المتصرف والذي يحقق رسالة الله في خلقه .
رحل طه الديري في رمضان الماضي وحيدا ,دون ان يشعر به أحد .
ومن مصادفات القدر ربما من توافقاته،أنه توفي في البيت الذي سكنه قبل عقود طويلة الراحل يونس بحري،ومنه ابحر يونس بحري،وفيه ابحر طه الديري .
استوقفني كثيرا خبر نعيه . فسلام عليه في الخالدين ...........
**
عودة الى الصفحة الرئيسة