د. سيّار الجميل
مؤرخ عراقي
غادرنا دون رجعة ، اثر اغتيال غادر اثيم ، الصديق العزيز ابن الموصل الحدباء الاعلامي العراقي المتميز الاستاذ واثق الغضنفري ، اذ استشهد مقتولا بالرصاص قرب جامعة الموصل عصر يوم 27 آذار / مارس 2014 ، ليلحق بقافلة الراحلين العراقيين الابرار الذين سبقوه الى دار الخلود . لقد قتل غيلة وغدرا من دون أي ذنب اقترفه ، ولا أي جرم قام به سوى تميزّه كمثقف وكاتب اعلامي هادئ صبور حليم متواضع ، خدم مدينته وبلاده على مدى سنوات وهو يعّرف بتراث اهله العراقيين ومجتمعهم وقيمهم وشيمهم ، وقد نشر العديد من المقالات في الصحف .. وكان ملتصقا ببيئته ومدينته ام الربيعين ، يتنّقل بين ازقتها ، ويعّرف العالم ببيوتاتها وتواريخها ومعمارها واهلها القدماء ، اذ كان يقّدم برامجه الوثائقية والتسجيلية والميدانية من كل من قناتي الموصلية وسما الموصل . ولقد اجاد كثيرا في نقل الصورة التعبيرية عن التراث اذ كنت ولم ازل اعده من الاعلاميين العراقيين القلائل الذين امتازوا بالتصاقهم بمحلياتهم وبيئاتهم ، فكان مثقفا عضويا له قوة ارتباطه بمجتمعه الذي نجح في توصيف جوانب حية من اصالته وقوة ابداعاته ومواريثه الخصبة .
يقول الاخ لقمان الشيخ في مقال له بعنوان " قناة الموصلية الفضائية كادت أن تكون الضحية ..!! " : " وبرامج أتابعها واسعد بها عن تاريخ وذكريات يسجلها ويقدمها السيد واثق ممدوح الغضنفري الذي يتطرق إلى أحداث وعادات يمثلها المجتمع الموصلي , بلهجة مدينتنا الذي هي طابع خاص بنا.. وكان ألمي وأسفي على فقدان كادر شاب , كان يصعد بنجاح وتفوق في طريقة عرضه ولقاءه مع جمهور الموصل الذي أحبه واعتز بتفوقه , هو الشاب ( مازن البغدادي ) الذي اغتالته يد آثمة , لا سبب آو ذنب ارتكبه , سوى عداء الإرهاب لكل مظهر وعمل يغاير سلوكه لتقدم و نجاح أي شكل " !
واثق ممدوح الغضنفري ولد بالموصل عام 1962 ، وهو سليل اسرة موصلية قديمة معروفة ، ويقول المؤرخ ازهر العبيدي في موسوعته عن عوائل الموصل قائلا عن اسرة الغضنفري : " الغضنفري : نسبة إلى لقب " غضنفر " الذي أطلقه العثمانيون على أحد أجدادهم لشجاعته . ويقال انّه من ألقاب جدّهم مالك الأشتر النخعي الذي يرجعون في أصلهم إليه . عرف أبناء هذه الأسرة بشغلهم المناصب الإدارية المهمة منهم إبراهيم كمال احمد الوزير في العهد الملكي واللواء ياسين حسن نائب قائد القوات العراقية في حرب فلسطين 1948 .. " وغيرهم من الرجال المعروفين .
لقد نشأ الفقيد في مدينة الموصل ودرس في مدارسها الابتدائية والثانوية ، وحصل على غرار اترابه في جامعة الموصل على شهادة الباكالوريوس في الادب الإنكليزي عام 1983م ، ولم يكتف بها ، بل ثابر لاحقا ، وحصل على شهادة الباكالوريوس في القانون عام 2000م. وعانى واثق على غرار ابناء جيله من السنوات العجاف ، أي سنوات الحروب والحصار ، وقد عرف بين اصدقائه بأمانته ، وصراحته ، وطيب روحه ، وسرعة بديهيته ، وحسن معشره ، وخفة ظله .. وقد عرف في السنوات الاخيرة بتقديمه برامجه التلفزيونية الناجحة التي نالت اعجاب الناس ، اذ خصصها في التعريف بتراث الموصل وتقديمه لها باللهجة الموصلية المحببة التي تمتاز يخصوصيتها ، وقد نجح في ايصال رسالته باسلوب سهل المذاق وببساطة الالقاء ، وسحر المحتوى .. فضلا عن امانته في نقل النصوص ، اذ كان يؤدي الامانات الى اهلها ، فان اخذ من كتاب يذكر صاحبه ، وان ساعده مؤلف او مؤرخ او اديب او أي مثقف .. فهو لا ينسى ذكره ابدا على عكس غيره من الاعلاميين الذين يستنسخون موادا وينسبونها الى انفسهم وهم يلقونها على الناس !
عرفت الفقيد منذ سنين ، وكان دائم الصلة بي تلفونيا ، فعرفت فيه الوفاء والاخلاص والتواضع وكل الطيبة .. وقد حدثني في المرة الاخيرة قبل قرابة اسبوعين وكان يكلمني تلفونيا بصحبة الاخ الاستاذ محمد الجليلي ، وطلب مني تزويده ببعض المعلومات التاريخية عن الموصل ابان القرن الثامن عشر على عهد انتصارها العظيم على جيوش نادرشاه الغازية اثر الحصار التاريخي الذي فرضته عام 1743 ، وطلب تزويده بصور وبعض الخرائط القديمة للموصل على وجه السرعة كي يبدأ تصوير برنامج من حلقات تحت اسم " رجال الشمس " يستعيد من خلاله ذكرى الايام الخالدة للموصل في انتصارها على اجتياح جيوش نادرشاه العراق ، وكان ذلك البرنامج حلم واثق منذ زمن طويل .. فأرسلتها له ، ولقد طلبت منه امانة ، وبشكل شخصي ، ان يحترس ، واوصيته ان يأخذ حذره من الاثمين .. فأجابني – رحمه الله - " لنا الله ... " قلت له : حرسك الله ، فشكرني وكانت اخر كلماته لي انه سيعمل على احياء روح البطولة في استعادته ذكرى انتصار الموصل ضد نادرشاه ، وحثّني على اعادة اصدار طبعات اخرى من كتابي عن ذلك الحصار الرهيب والذي كنت قد نشرته قبل خمس وعشرين سنة !
علينا ان نتساءل : لماذا قتلوا واثق الغضنفري اذن ؟ ومن كان وراء تصفيته ؟ ومن ذا الذي له مصلحة ليس في القضاء عليه حسب ، بل في استئصال كلّ مثقف جاد ، او اعلامي متميز ؟ ولماذا لحق واثق بقافلة الراحلين من رجال الشمس ؟ ربما يقول البعض ، بأن حاله حال الاخرين من الضحايا العراقيين الذين قضوا وتمت تصفيتهم منذ اكثر من عشر سنوات .. وربما يخاف البعض عن اعلان موقفه خشية الحالة المأزومة التي يمر بها العراق . ولكن اغتيال واثق ما هو الا هدف قصد الى تحقيقه اولئك الذين ارادوا كتم صوته الى الابد ومن اجل اغتيال الحلم الذي يحمله واثق .. لا شيء آخر ، فهم يدركون ادراكا حقيقيا ، ان تأثير استعادة ذكرى رجال الشمس وتداعياته سيكون كبيرا على كل العراقيين .. لقد رحل واثق قبل اوانه ، وقبل ان يحقق حلمه ، ولا ادري ان كان قد بدأ بتسجيل اية حلقة من حلقات " رجال الشمس " ! ؟ اكثر من عشر سنوات والعراق يخسر خيرة ابنائه ورجاله ونسوته من دون أي علاج .. اكثر من عشر سنوات ، ومشروع القتل والتهجير والاقصاء والاغتيالات والقمع يجري تحت مسمع ومشهد حكومة عاجزة ، والبعض يتهمها بالضلوع او السكوت على ما يجري ..
ان قتل واثق بمثل هذه الطريقة ضمن الطرق المتعددة المستخدمة في قتل العراقيين وراءها اسباب ربما سياسية ، لم يشعر بها الفقيد ، او طائفية لم يعر أي اهتمام لها ، وربما جهوية وتاريخية ، فلقد ازداد خصوم اهل الموصل هذه الايام نظرا للدور البطولي الذي وقفته الموصل ضد الغزاة على امتداد زمن طويل . ولقد عانى اهل الموصل كثيرا منذ الايام الاولى بعد الاحتلال الامريكي ، وما زالوا يعانون من فقدان الامن ومن هيمنة العصابات ومن سوء تعامل افراد الجيش مع الناس في الشوارع والاسواق وعلى الجسور وعند البوابات وفي المحال والمحلات وفي الاحياء وكل المؤسسات .. وتعيش كل من المدينة واطرافها في كل المحافظة حالة يرثى لها من الاهتراءات وكل الانقسامات .. ولم تلح في الافق اية بوادر استقرار . ولا أي تقدم على مستوى الخدمات . ولقد عاشت الموصل على امتداد التاريخ الاسلامي ، وهي لا تعرف أي معنى للطائفية ، ولكنها اقحمت في مجاله اثر عام 2003 من دون مبرر .
وأخيرا ، عتبنا كبير جدا على وسائل الاعلام العراقية المختلفة والتي لم تهتم ابدا بالمصرع المأساوي للشهيد واثق مقارنة باهتمامها بغيره .. وكأنه ليس زميلا اعلاميا عراقيا فقده العراق بعد ان كان قد خدمه بكل حرص وامانة واخلاص ، ودفع حياته ثمنا لحرية شعبه ورقي ابنائه ما هذا التصّرف ؟ ما هذه الازدواجية ؟ وهل هو مجرد اهمال ، ام انه تجاهل عن قصد ؟ اننا اذ نؤبن الصديق الشهيد واثق الغضنفري ورحيله عنا ظلما وعدوانا .. فإننا نعلن عن تنديدنا الصارخ بقتل هذا الرجل وقتل كل ابناء العراق ، ونطالب بالتحقيق في قتله والوصول الى القتلة لمعرفة من يكونوا ومن يستتر من ورائهم للقضاء ليس على الغضنفري ، بل لإسكات صوته ، ومحوه بإغلاق الابواب على رجال الشمس .. ولكن صوته سوف لن يموت ابدا ، وسيحمل الراية غيره من رجال الشمس الذين ستلدهم ام الربيعين آجلا ام عاجلا .. رحم الله الفقيد الشهيد ، واعان عائلته الكريمة واولاده الصغار ، واسكنه فسيح جنانه وانا لله وانا اليه راجعون .
نشرت في جريدة المدى البغدادية ، العدد 3045 ، يوم الاثنين 31 آذار/ مارس 2014
http://www.almadapaper.net/ar/ViewPrintedIssue.aspx?PageID=8635&IssueID=437
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيّار الجميل
www.sayyaraljamil.com
وايضا على صفحتيه الفيس بوك وتويتر
*
الصفحة الرئيسة