استلاب منظومة القيم من مجتمعاتنا
الأستاذ الدكتور سيار كوكب الجميل
خمسون سنة مرّت، وقد زرعت في مجتمعاتنا كلّ المشكلات، فاكتسحتنا الغرائب والمصائب من دون ان يتملّكنا احساس بالمخاطر .. خمسون سنة مرّت ونحن نفتقد يوما بعد آخر الاطمئنان وراحة البال والتعايش مع الاخرين ، وروعة التسامح وحسن التعامل والالفة والبسمة والدفء الاجتماعي والنزاهة والاستقامة وكل الجماليات .. خمسون سنة والهجرة من الريف الى المدن اماتت حقولنا ، واجدبت مزارعنا ، وامحلت ارضنا ، وافنت حواضرنا، وقتلت المهن والصنائع والحرف ونشرت في مدننا العريقة ثقافات هجينة.. خمسون سنة مرّت والحكومات هزيلة منشغلة باكاذيب ودعايات ، وبمصالح السلطات ، او صراعات التحزبات ، او مفاسد فردّية للمسؤولين مع ضياع المال العام .. والنخب السياسيّة والمثقفّة تردّد الشعارات وتبثّ المؤدلّجات ، مع حرب الاذاعات والتجاوز على حقوق الانسان في كل المجالات .. خمسون سنة والرعب يجتاح المواطنين الملاحقين من قبل المخابرات والجواسيس والمرتزقة ، وممارسة القمع والتعذيب والابعاد والتهميش والنفي القسري .. خمسون سنة ومجتمعاتنا تنزف ابناءها بتهجير العقول وتشريد الملايين ليكونوا مهاجرين او منفيين او ملاحقين حتى في ارض الشتات.. خمسون سنة والاحزاب السياسية مع ميليشياتها تمارس كل التهتكات وتستورد كل المهجّنات التي لا تستقيم ابدا وحياتنا وتفكيرنا .. خمسون سنة مع تطبيقات غبيّة لأفكار ونظريّات مستوردة لا تصلح ابدا لاقتصادنا وحياتنا ومجتمعاتنا، مع تفشّي مصطلحات غير واقعيّة مثل "القفزات النوعية" عند بعضهم، و" حرق المراحل" عند اخرين.. خمسون سنة وزعامات بلهاء تسلطّت بلا ايّة شرعيّات ، وحكمت بلا تفكير باحتياجات الناس ومن دون اية ضرورات تبيح المحظورات.. خمسون سنة ونحن منشغلون بالحروب البدائيّة وصناعة ابطال من الورق! خمسون سنة والتناقضات تستشري ، حتّى غدت مجتمعاتنا مشوّهة بتأثير البدائيّات وقهرها للحواضر تحت مانشيتات ومسميات .. خمسون سنة والوعي يتراخى ، والاوهام تستشرى، والكراهية تشتّد ، والاحقاد تتفاقم من جرّاء امراض جديدة كالطائفية المقيتة وصراع الذهنيات وتمايز المستويات وصراع الطبقات وتنازع العقليات .. خمسون سنة من نشر الاكاذيب والتلفيقات وتوزيع الاتهامات من قبل اعلاميّات واذاعات وفضائيات وصحف صفراء وانشائية الخطابات .. خمسون سنة والحياة تتراجع في اهم البيئات التاريخيّة ، لتغدو كسيحة ومتشظّية ومتلظيّة ومتسخة، بتفاقم حجم النعرات والموبقات في امهات المدن والعواصم، بانتشار العشوائيات والحارات المقفلات التي تسودها شريعة الغاب .. خمسون سنة والاشقياء يتزايدون ويتسيّدون في انظمة حكم ، حتى وجدنا ان منظومات مجتمع كاملة يسيرها المستبدون والمتنفذون والطفيليون والعابثون كي يلحق بهم المتعصبون والمتخلفون والبدائيون .. خمسون سنة تنوعت خلالها العصابات والجماعات والميليشيات باسم الحزب الواحد ، او الاخ القائد، او الزعيم الرائد ، او السيد المجاهد ، او امير الجماعة ، او الولي الفقيه .. الخ .. خمسون سنة والمدارس والجامعات تتهافت عن مستوياتها العليا ، كي تصبح زرائب او مداجن لأجيال لم تعد تستويها المعرفة ابدا .. خمسون سنة فشّلت خلالها الادوات، وضعفت المؤسّسات، واستشرى الفساد، وعمّت الرذائل، وغدا التفكير السائد للواقع الاقتناع بما آل اليه الحال ، وكأنه من طبائع الاشياء !ـ
ليس غريبا ابدا ان تفتقد ابرز اغلب مجتمعاتنا العربية ومجتمعات اخرى تشاركنا هذا الماراثون ، منظومة قيم واساليب حياة ومفاهيم وسلوكيات واخلاقيّات، في ظلّ هكذا اوضاع كارثيّة . هكذا ، لم يستطع احد انتقادها او يتجرّأ على تعرّيتها مع غيبوبة علماء قانون واجتماع وانثربولوجية وتاريخ واقتصاد وتربويات وصناعة سياسات .. او حتى اسداء نصيحة للزعماء المستبدين ، فندر الحكماء واصحاب الرأي والحل والعقد واهل الخبرات ، ولم تنبثق اية افكار تصدر عن فلاسفة ومنظرّين حقيقيين، ولم يتمّ اي اصلاح للأخطاء من قبل نقّاد ومصلحين واقعييّن، ولم يتشكّل اي مشروع عقلاني له شرعة حياة، او منهاج مستقبل .. نحن اليوم على مفترق طرق صعب في تاريخنا الاني ، وفي أمسّ الحاجة للوعي بما عليه واقع الاحوال، والاقتناع بأن كلّ ما يحدث من متغيرّات لابدّ ان تغدو سيرورته ضمن مبادئ جديدة لصنع واقع جديد، وهذا لا يصنعه الا انسان يمتلك فكرا جديدا.ـ
ان الضرورة ماسّة الى ذهنيات ذكية وقّادة غير مركبة تعي حجم المسؤوليات .. وايضا الى تشكيل اخلاقيات لتعايش قيمي، وبناء تربية متمدّنة وعقليّة مستنيرة، ونفسيّة نظيفة، بعيدا عن كلّ آفات التعصّب والاحاديّة والانغلاق والعنف.. وبحاجة ايضا الى منظومة قيم حقيقيّة ، تعمل على استنباطها وتشريعها نخب فكريّة ذكيّة وسياسيّة جديدة ورجال قانون وتربية وتعليم لمراحل انتقاليّة قبل سنّ دساتير فاشلة او اجراء مهازل انتخابية مضحكة باسم " الديمقراطية " ! ان الانسان اليوم من الجيل الجديد سيبقى متهمّا في واقعه، ولا يمكن ان نخدعه كما خدع من سبقه منذ خمسين سنة، ليس بتزويده بما يريد من الاحتياجات والمال والشعارات والكلام الفضفاض فقط ، وننسى كيف ننتشله من واقعه بتغيير تفكيره واقناعه بالبدائل الحقيقيّة في اساليب التمدّن والحداثة المعاصرة .. عليه ان يدرك بأن مجتمعاته كانت مستتبة ومنتظمة ونظيفة حتى انقلبت انقلابات مريعة نحو الاسوأ وضاعت في متاهات تفتك بها امراض التاريخ واكاذيب الدخلاء ، وخطب الزعماء ، وفتاوى الطائفيين والمتعصّبين ، وبلادة الساسة والمتحزّبين الفاسدين ، او تفاهة بعض الفنّانين والراقصين.. عليه ان يدرك بأنّ الحياة لابدّ ان تتمّدن بالضرورة ، بابتعاد الانسان عن التوحّش والضراوة والتعصّب والقتل وممارسة العنف والطائفيّة والفساد وسوء المعاملة .. ليكن الانسان ثائرا او متمّردا ومؤمنا بما يريد ولكن شريطة ان يلتزم بأخلاقيّات منظومته الاجتماعية وقيمها المتمدّنة. اتمنّى على مجتمعاتنا السبيل الى ذلك ؟ ودوما اقول : انتظروا ما سيحدث في مجتمعاتنا في الثلاثين سنة القادمة .. فلا تصفقّوا كثيرا ، فالمهزلة لم تنته بعد !ـ
__________________________________________
نشرت في البيان الاماراتية ، 2 تموز / يوليو 2013
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
وتنشر ايضا على صفحة سيار الجميل في الفيسبوك
نشرت في بيت الموصل في 4-7-2013
للعودة إلى الصفحة الرئيسة
لأضافة التعقيبات او لقراءتها، يرجى الضرب على كلمة
Comments
على يسار السطر التالي