د. سيّار الجميل
ليست محنة الموصل اليوم هي الأولى في تاريخها ، فقد مرّت بالموصل عدّة محن وكوارث ونكبات بشعة، واليوم يعانى اهلها الحقيقيون وحدهم من أحقاد الأغراب الطارئين المجانين المتوّحشين البدائيين الذين لا يعرفون إلا قتل التاريخ الحضاري ، وسحق عظامه ، وهدم صروحه .. لقد بقيت الموصل صامدة تجابه الطغاة والأعداء وكلّ الكارهين الممتدّين في دواخلها وكلّ الغزاة القادمين إليها ، وكانت تستجيب للتحدّيات القاسية لتستعيد عافيتها نفسها بنفسها .
إن محنتها اليوم بشعة جدا ، ولا يمكن تخيّلها وتصوّرها مع فرض تعتيم إعلامي كامل ، وتضليل لا أخلاقي كامل .. وسكوت مقصود من قبل حكومة بغداد المركزيّة المتنصّلة عن مسؤوليتها من هذه الكارثة التاريخيّة ، وكأن الموصل ليست مدينة عراقيّة . إن العراقي الحقيقي لا يميز بين أجزاء وطنه وحضارته أبدا وهما يتعرّضان اليوم لأشرس هجمة بدائيّة وجنونيّة !
أما أهل الأهواء وما أكثرهم ، فقد تفتّحت قريحتهم لأن يبالغوا في التشفّي والارتياح ، إذ تجتاحهم حمى وهستيريا مفرحة ، ليصدروا أقذع الشتائم والقدح والسباب والتشفّي ضدّ الموصل وأهلها الذين اتّهموا بجريمة سماحهم للمتوّحشين الضالين بأن يدخلوا المدينة ويسيطروا عليها ، ويقيموا وليمتهم ليمتدّوا منها نحو وسط العراق .. ووصولهم أطراف بغداد .. والمؤلم أن الهستيريا التي تعمّ أغلب العراقيين اليوم مطلقة شاملة للجميع ، وكأنّ كلّ أهل الموصل قد اشتركوا في هذه الجريمة النكراء مع الغزاة المتوحّشين ، بل اتهموا بمساعدتهم في مهمّتهم .. وتزداد الهجمة الاجتماعيّة والسياسيّة ، خصوصا بعد كلّ ما يحدث في المدينة بالذات من فظائع لا يمكن تخيّلها أبدا .. أقول : ليس كلّ العراقيين بملائكة وحواريين حتّى يصبح أبناء الموصل من الشياطين المتهتّكين . لقد أصيب المجتمع العراقي بالأمراض المزمنة القاتلة منذ زمن طويل فلقد نكبت المدن من أطرافها بالصراع ضدّ التمدّن والإبداع .. وأصابها التوحّش والغلو والرثاثة في كلّ المجالات .
إن العقل العراقي يقف مشدوها لما أصاب البلاد ، ويتحمّل المسؤوليّة الحكّام والشعب معا ، فالحكّام لاهون بمناصبهم ومصالحهم وتفاهاتهم ، أما المجتمع فهو باق كعادته تتلاعب به الأهواء العاطفيّة وموروث الكراهيّة التي عبرّت عنها مؤدلجات حزبيّة ، وشوفينية قوميّة ، وعواطف دينيّة ، وسفاحات طائفيّة لدى شعب منقسم على نفسه ، لا كلمة موحدة تجمعه ، ولا مواطنة عراقية توحده ، ولا أخلاقيات عليا تمثله .. ولم يشعر العراقي يوما بأنّ ما يصيب عضوا منه سيصيبه عاجلا أم آجلا .. لم تعد السياسة تعمل لمنفعة وطنيّة ، بل تشتغل لمصالح ذاتيّة وفئويّة وجهويّة وعشائريّة وطائفيّة وشخصيّة ..
وانقسمت كلّ مدينة عراقيّة إلى قسمين أو أكثر ، قسم يمثله أهلها الأصلاء ببقايا قيمهم واخلاقياتهم ، وقسم مضاد لهم يمثلّه الطارئون عليها ، والكارهون لها، وما نراه اليوم هو نتيجة احتدام الصراع الاجتماعي بين الطرفين الذي أذكاه كلّ حكام العراق في نصف قرن ، وقد اتّخذ اليوم شكل الدين ولبوس الطائفة ، فماتت القيم ليغدو حتى التافهون يطلقون أبشع الكلام وأقذره ضدّ الجميع بلا أخلاق ولا أعراف .. لم يعد الناس في العراق مواطنين يشعرون بوجود خطوط حمر ، والعراقيون الحضريون لا سلطة لهم في صد غلو الأشقياء والمعتوهين والمجانين والمرضى النفسيين .. لم يعد هناك أهل غيرة وشهامة ، ولا أصحاب ذمة ، ولا جماعات ضمير للقول ما لهم وما عليهم .. ولم نجد مسؤولا حكوميّا واحدا يهتزّ لواقعة أو يكترث لجريمة أو يهتم لنكبة ، أما المجتمع ، فقد اختلط المتمدّنون بالطارئين من المشعوذين والمتخلفّين والحاقدين والكذّابين والكارهين للتمدن والرفعة والأخلاق .
لقد ذهبت الأخلاق مع أهلها منذ زمن بعيد ، فمن أنتم بشاتمين ؟ هل تشتمون الأبرياء العزّل من المتمدنّين ؟ هل باستطاعة الناس العزّل محاربة الغزاة المتوحشّين في هذه الدنيا ؟ ما مهمّة الدولة ؟ وما وظيفة جيشها الوطني ؟ وما قوّة الشرطة والأمن الداخلي ؟ لا تغيّبوا المسؤوليّة عن الجيش المنهزم .. واسألوا أنفسكم : ماذا فعل الجيش وقوّات الامن الوطني منذ عشر سنوات أمام الإرهاب الذي أكل الناس أكلا في بغداد وحدها ؟ من هو المسؤول الأوّل عن استقرار البلاد وأمنها ؟ ما صفته ووظيفته وطبيعة مسؤوليته ؟ لماذا لم تفعل الحكومة شيئا وقد علمت بأنّ هجوما كاسحا يخترق الأرض العراقيّة نحو الموصل ؟ فكيف يكون التواطؤ إذن ؟ لماذا لم يكن هناك أيّ طوق عسكري حول غربي المدينة ؟ غيبّتم المسؤولية التاريخيّة والرسميّة عن الجيش ، لتلقوا بها على مجتمع المدينة الذي عانى الناس فيه من عبث العابثين وفوضى الإرهابيين ومعاملة فصائله وأفراده للناس أسوأ معاملة ؟ بقيتم منشغلين بالانتخابات العامّة والكراسي وتوزيع المناصب وتركتم أمن البلاد أمام أشرس هجمة عرفها التاريخ على العراق .. لا تلقوا بالتهم على الأبرياء بشكل مطلق قبل أن يتحمّل كلّ عراقي مسؤوليته التاريخيّة عمّا حدث ..
واعلموا أيها الشتّامون بأنّ أهل الموصل القدماء بكلّ تنوّعاتهم وأطيافهم قد أصبحوا قلّة اليوم في مجتمع أصبح غريبا عنهم وعن لغتهم وعن ثقافتهم وعن خصوصيتهم .. لقد ضاع نهائيا ذلك المجتمع الموصلي الرائع الذي برز فيه من الأفذاذ : وزراء وقضاة وأدباء وصحافيون ومبدعون وفنّانون ومطربون وعلماء ومربّون وأطباء ومؤرّخون وأكاديميون وإداريون ومهندسون وقادة لامعون وعلماء دين متسامحون ومهنيون .. لقد غاب أولئك جميعا في خضّم هجين الفوضى الاجتماعيّة التي عانينا منها لأكثر من خمسين سنة مضت ! ولا يمكن ان أغادر هذه النقطة قبل ان أنتقد نقدا ساخطا كلّ القوى السياسيّة والعشائرّية والدينيّة السنيّة العراقيّة التي تعاونت وتحالفت مع الغرباء المجانين المتوحشّين ، وتأتي اليوم لتعضّ أصابع الندم على ما فعلت ، فلا تنفع اليوم أيّة بيانات ، ولا أيّة تراجعات ، ولا أيّة اعتذارات .. فليس لكم القدرة على إرجاع أهل الموصل الأصلاء من المسيحيين إلى بيوتهم بضياع ممتلكاتهم ، ولا يمكنكم إرجاع الموصليين الشاردين المهاجرين أو المسحوقين نفسيّا وصحيّا وماليّا في بيوتهم وقد ضاعت منهم أحلامهم وانهجمت صروح معالم مدينتهم العريقة ، ولم يجدوا حتى القوت والمأوى . لقد انقلبت الموصل بغيرها ، ولم تعد تجد أهلها بعد هجمة الأغراب عليها والاستحواذ على ممتلكات الناس واستئصالهم من وجودهم وهويتهم .. ان الأغراب في العراق سيمتصون كلّ العراق ويسحقون أهله وحضارته ، فمتى انتم تنتبهون ؟
إنني أخجل من هذه اللحظة الزمنية النكراء أمام المستقبل وأجياله القادمة .. ابحثوا عن أسباب الحدث المباشرة وغير المباشرة ، وهو نتيجة من نتائج السياسات الرعناء التي مارستها الحكومة الحاليّة خصوصا ، وكلّ الحكومات اللعينة التي حكمت العراق منذ خمسين سنة وحتى هذه اللحظة المأساويّة عموما . انه الزمن الممتد من تلك اللّحظة المشؤومة عندما ساد الرعاع والجهلة حكم العراق وشجّعوا كلّ الرعاع بنشر ثقافتهم الرثّة .. لا تتباكوا على بعثرة المسيحيين العراقيين وكلّ الأطياف الاجتماعيّة الباقية من انتيكات الزمن الجميل ، فقد خلصوا بجلودهم ، وسيعاني كلّ الشرفاء من اهوال قادمة .. وكم نادينا وكتبنا ونشرنا ان تعتنوا بالمجتمع العراقي الواحد الموّحد وتأخذوا عنايتكم بكل أطيافه المتنوعة ، وخصوصا تربوياته وبناء اخلاقياته ولكن دون جدوى ..
أهل الموصل كما هم أهل بغداد وأهل كلّ مدينة أخرى .. فيهم الصالح والطالح .. فيهم الرائع والخاشع ، وفيهم الصادق والكاذب .. فلا تخلطوا الأوراق كي لا تضيع الحقيقة ! ودعوني أسأل 35 نائبا جديدا انتخبهم أهل الموصل ،أين هم الآن ؟ لماذا هربوا ؟ وهل سمعنا تنديدا واحدا من احدهم بما يحصل في مدينتهم المقهورة ؟ لا تفرحوا بما أصاب الموصل ، فما هو حاصل اليوم هنا سيحصل غدا هناك من بقاع العراق ، فالصراع الاجتماعي مستمر بثوب قومي مرة ، وبثوب طبقي مرة ، وبثوب طائفي مرات ، فهو صراع مستمر بين التخلّف والتمدّن .. وإذا كان الناس يذرفون دموعهم لما حصل ، فسوف يبكون غدا دما لما سيحصل .. لقد تغيّرت مجتمعات مدن العراق كلّها وأهلوها بغير الناس مذ افتقد مجتمع العراق توازنه بذوبان قيمه الحضرية وموت ثقافته الوطنية وضياع أخلاقيات أهله المتسامحة ، وسادت فيه قيم التوّحش والتخلّف والرثاثة والبلادة والتراجع مع ما توالى من حكومات بليدة ، وتربويات هشة ، ونزوعات الغلو والتطرف .. واستشراء الكراهية بين العراقيين إلى حدّ التشفّي ليس عند العامة حسب، بل وصل إلى شرائح الخاصّة من المسؤولين والأدباء والمثقّفين والموظّفين والفنّانين والكتّاب والإعلاميين ..
لقد وصلت الكراهية بين العراقيين إلى حدّ البربريّة في التعامل مع المطلقات ، وتداول التلفيقات والتضليلات ، وبثّ الأحقاد والبغضاء .. وكأنّ المجتمع العراقي كان بانتظار هذا المخاض الصعب ليعبّر عمّا في دواخل نفسه من أحقاد وضغائن .. ولقد بان معدن العراقيين الحقيقي في المسكوت عنه لما كان عليه في الماضي وما أصابه من ملوّثات في الحاضر جرّاء انسحاق القيم الحضريّة ، وهجمة الثقافات الهمجيّة والتوّحشية التي وردت إلى أبرز المواطن الحضريّة العراقيّة .. ولن تقوم للعراق قائمة بمثل هذا الهجين المضطرب من الموحشات الرعويّة .
للحديث بقية
________________________________________
نشرت في جريدة المدى البغدادية ، يوم الاثنين 4 آب / اغسطس 2014
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
**
عودة الى الصفحة الرئيسية