محاولة في الخروج من المأزق المضني
د. سيّار الجَميل / تونس
ان مسألة النخب العراقيّة المثقّفة بقدر ما لها من خصوصيّات يمكن للدارسين الجادّين والباحثين الحقيقيين من فهمها بشكل موسّع ، اذ تجمعها مرجعيّات مشتركة، وتدور في فضاءات تاريخيّة موحدّة ، ووطنيّة مشتركة، وتربطها اساليب منسجمة في التفكير واللغة وفهم العصر، الا انّ لها همومها ومعاناتها الراهنة ، وانّ قلقها على المصير كبير جدا ، وخشيتها من المستقبل الغامض .. وهي التي عاشت ثقل كلّ الاحداث والمتغيرّات الصعبة في الثلاثين سنة المنصرمة بكل آلامها ومآسيها ..
وهي التّي عاشت طوال القرن العشرين ، تاريخاً يكاد يكون موحدّاً اكثر بسبب تبلورها في الصراع التاريخيّ ضدّ المشروعات الدخيلة والطارئة والاستعمارية والهجينة ، وما تأثّرت به من الثقافات والحركات والمؤدلجات .. وما جنته على نفسها من خلال صدمتها مع العالم ابّان الحرب الباردة وانقسماتها على امتداد عقود طويلة من التاريخ الحديث انقسامات ايديولوجيّة وسياسيّة ، ولكنها كانت تسكت عن عوامل داخلية تخفيها لتعبر عنها في اشكال معاصرة ، مقارنة بمسألة النخب المثقفّة في بلدان اخرى التي كانت منافساتها واضحة ومباشرة ، وربما عانت من تحدّيات مختلفة اكثر إبّان التاريخ الحديث ، ولكنها استفادت كثيراً من الغرب ، وخصوصا تأثرهّا بالتقاليد السياسيّة والدستوريّة ، وكانت قد وصلت الى ذروة قوّتها ابان الخمسينيات من القرن العشرين.
إن هذا لا ينفي عن النخب المثقفّة والسياسيّة العراقية ( وهي من اصعب النخب مقارنة بالنخب العربيّة الاخرى ) ، كونها تحمل اليوم اكثر من "هويّة " ، وان الانقسام الفكري والسياسيّ الذي تعيشه اليوم هو نتاج ما جرى في النصف الثاني من القرن العشرين ، اذ لابدّ من دراسته تاريخيّاً ، وتحليله موضوعيّاً ، ومعالجته حيادياً ، بل وتفكيكه نقدياً على ضوء العلاقات التّي حكمت طبيعة تكوين النخب المثقفّة العراقية التّي امتدّت على مساحة جغرافيّة متّصلة ، ونهلت من مرجعيّة تراثيّة ولغويّة وفكريّة عربية تكاد تكون موحّدة اولا ، ومنسجمة بشراكة العربية الام مع ثقافات اخرى كردية او تركمانية او سريانية .. الخ ثانيا ، ولكن حاولت جميعها ان تعبّر عن روح عراقية مشتركة ، وان تندمج قليلا او كثيرا باسم " الثقافة العراقية" التي كانت قد تبلورت شخصّيتها خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كما توضّح تواريخ ادبياتها ، او اندماجها وطنيّا في القرن العشرين ، وخصوصا بعد التأسيس الوطني عام 1921 ، ولكن ثمّة عوامل تاريخيّة صعبة عاشتها في الثلاثين سنة الاخيرة ، اي منذ العام 1979 ، جعلتها عرضة للانقسام في الهويّة الفكريّة والسياسيّة ، ولكن ليس في الانتماء الثقافي والاجتماعي الذي حدث بعد التأسيس عام 1921 .
لا يمكن أبداً إسقاط حالات معقدّة عاشتها ظروف المنطقة الواسعة على العراق ، والعراق يعدّ جغرافيا قلبها الكبير ، فهو الواقع بين بلاد الشام وتركيّا وايران ثم الجزيرة العربيّة ومنطقة الخليج العربي ابّان النصف الاول من القرن العشرين .. ان دراسة وبحث أولويّات أساسيّة وركائز تاريخيّة لذلك التكوين ، كان افضل بكثير مما جرى في النصف الثاني منه .. فما يحدث اليوم مثلاً وخلال مرحلة هذا الجيل الأخير من انسلاخات سياسيّة ، ومسوخات فكريّة ، وانقسامات اجتماعيّة ، وصراعات طائفية ، وتخندقات قبلية كان له تأثيره لا محالة على نسيج المجتمع العراقي الذي تعايش طويلا ضمن آليات واعراف التآخي والانسجام حتّى في ظروف الاستعمار القاسية منذ عقود خلت من السنين الى ما آلت اليه الحال لاحقا .
إن العزفَ على حالة التشرذم والتقوّقع من منطلقات طائفيّة ، او تقاليد أصوليّة ، أو نزوعات شوفينية عرقية ، او موروثات قبليّة ، أو انتهاكات ثقافيّة لغوية .. كانت كلها تعد من المحرمات لدى الاوائل ، ولكنها غدت اليوم واقعا يؤمن به اغلب ابناء النخب ، وقد اضرّ ذلك لا محالة بتقدّم هذه الكتلة الجغرافية في العالم ، ما خلا استثناءات نادرة كانت تبدو نشازا .
لا يمكن للنخب العراقية السياسيّة والمثقفّة أن تنسلخ أبدا عن مقومّاتها وقيمها المتنوّعة ( الايجابية وليس السلبية ، وان حدث العكس ، وقد حدث ففي ذلك كلّ المأساة الصعبة ) التي نجحت على امتداد تاريخ طويل في بناء علاقات وروابط ومواثيق واعمال ومنتجات واتجاهات وتيارات بينها وبين أطراف أخرى ، وفي مقدّمتها علاقات الآصرة الواحدة بين ابناء المدن على امتداد جغرافية العراق ، او بين ابناء القوميّات المتنوّعة في العراق ، اذ شارك البعض من المبدعين العراقيين (غير العرب) بإبداعاتهم العربيّة والتصاق تلك الابداعات المعبرة عن روح العراق وشيم اهله .. ثم هناك محاولات التئام بين العشائر وهدم البنية القبلية والعشائرية التي ناضلت نخب العراق المثقفّة والسياسيّة لكبح جماحها من اجل الاندماج الوطني .. والاخطر هو عدم تأجيج النزعة الطائفيّة ، اذ لا اعتقد ان مثقفا عراقيا جادا وحقيقيا وحداثيا ومستنيرا يؤمن بمثل هذا الوباء ومقارنة مدى عفونته في العراق بين الامس واليوم ، نجد اليوم انحدار مجاميع من نخب عراقية تدّعي انها مثقفة او متخصصة الى الخنادق والمستنقعات الطائفية الآسنة بأساليب مباشرة وغير مباشرة ، وهي تظهر بإسقاطات ما تحمله من امراض على الاخرين الذين يخالفونها في الترويج لطائفة معينة وتسقيط ابناء الطائفة الاخرى .. ان مجرّد نقد البعض للأوضاع السياسية تجعلهم يتهمونه بالطائفيّة . وان مجرّد التغنّي الذي يمارسه البعض بما لدى طائفته يعد انحيازا طائفيا اليوم . ان المثقّف الحقيقي هو الخارج من طوق التاريخ وبيئاته الملوّثة وينتمي لوطن اسمه العراق بديلا عن اية طائفيّة ، فالحداثة لا تؤمن بالأوهام والاساطير ومخلفّات الفتن التاريخية ولا بالتقاليد القديمة البالية .
واجد مستغربا اليوم ان مدّعي العلمنة والحداثة والتقدميّة والماركسيّة والقوميّة العربيّة والناصريّة والبعثيّة ينخرطون في الدفاع عن " الطائفية " المقيتة والاحزاب السياسية الطائفية بشكل بشع ، وكأنّ واحدهم يقول ان انتماءاتي السياسيّة والايديولوجيّة السابقة كانت كاذبة ومنافقة ، وانها كانت مجرّد هروب من المشاعر " المظلوميّة " او النزوعات " الاستبداديّة " التي تربى عليها ! ولم يكتف هؤلاء بالدفاع عن محلياتهم وثقافتهم البيئية ، بل يذهبون بعيدا في الدفاع عن نظام طائفي لدى جار اقليمي او نظام سلفي لدى جار اقليمي اخر ! والهدف غير وطني ولا حداثي بالتأكيد وهو يمزق بأجندته وحدة العراق الوطنية .
ان ما تعيشه النخب العراقية (المثقفّة) اليوم سواء في الداخل ام الخارج ، من حالة قلقة وهموم حقيقية ، وهي ترى ما حلّ بالواقع العراقي من انقسامات مريعة ، ومن سلطويّات شرسة ، ومن قوى طفيليّة ، ومن جماعات متطرّفة ، ومن جهالة واسعة ، ومن اغترابات داخلية ، ومن مآس اجتماعيّة ، ومن ضحالات فكرية ، ومن افتقارات تربويّة ، ومن تشوهات اكاديمية ومن هجرات عقول كبيرة ، ومن تصدّعات جسيمة ، ومن تشرذمات طائفية ، ومن فوضى اعلاميّة ، ومن اخفاقات معرفية ، ومن تجزئة العراق وتمزيق نسيجه التاريخي .. يجعلها في حالة قلقة جدا على ما سيؤول اليه حال المنظومة العراقية بعد ثلاثين سنة !
لابدّ أن تستفيد النخب العراقيّة المثقفّة كثيرا من اعمق التجارب واخصبها كتلك التي صنعها الآباء والأجداد من خلال تجاربهم الحرّة ، وشفافيتهم الفكرية ، وتعايشاتهم الاجتماعية ، وعلاقاتهم الادبية ، وروابطهم الجغرافية ، ومعرفتهم التاريخية من تجارب الاخرين في العالم من اجل مستقبل الاجيال القادمة ، وان تترّبى الجماهير على حقائق من نوع آخر ! ذلك لأنّ العراق غدا مصدرا منذ العام 2003 بشعاراته واجندته من خلال اعلامياته وسياساته الى مجتمعات اخرى ، بل وان بياناته واجندته بدأت تبشر بدعاويها المكرسة لروح الانقسام مما خلق ذلك ردود فعل صعبة جدا ، ونحن ندرك ان العواطف الاجتماعية تشتعل عندما يخبو العقل الجمعي .
وعليه ، فانّ فهماً جديداً ، وتربية عليا ، ورؤية مستقبليّة لابدّ أن تتّرسخ لدى الأجيال العراقية القادمة في بلورة طبيعة منفتحة ومن نوع جديد في تعاملها مع العالم وخصوصا من اجل بناء مصالح مشتركة عليا لها في الثقافة والاقتصاد والسياسات الجديدة ، ولا يمكن ان يمر ذلك الا من خلال مشروع وطني جديد يبنى في مرحلة انتقالية جديدة وطي صفحة ما جرى حتى الان بعد الاحتلال عام 2003 .
ينبغي الاخذ بالاشتراطات التالية للخلاص من وباء الطائفية وعفونة تداعياته ، منها :
اولا : محو اي ذكر للطائفة والطائفية وحذف كل ما موجود من تمايزات هذا على ذاك من كل المناهج الدراسية في المدارس والجامعات العراقية .. والاقتصار على تعريفها تاريخيا وابراز نقد حالاتها المعاصرة وتبيان خطورتها على مجتمعاتنا في المستقبل .
ثانيا : معالجة ما تضمنه الدستور العراقي من عبارات الشحن الطائفي ، فالدستور هو القانون الاساسي لكل العراقيين بمختلف تنوعاتهم ، وليس حصرا على فئة واحدة ، او طائفة معينة .. ولكن شريطة ان يوضح الدستور : احترام كل طرف للطرف الاخر في كل مجال من مجالات العراق .
ثالثا : تحريم اي تمجيد او تأجيج او اشاعة اي فكر طائفي في المجتمع ، وجعله اداة سياسية ضد المجتمع نفسه ، وتجريم اي حزب طائفي يسعى الى تقسيم المجتمع فكرا وعملا ، وتشجيع احترام كل طرف عراقي للطرف الاخر او الاطراف الاخرى من دون اظهار اي تمايز او اشهار اي مفاضلة بين كل الفرقاء .
رابعا : استخدام خطاب واحد في رفض المثقف العراقي للطائفية بلا مزاوجة او اية ثنائية ولا اية دوغمائية ولا اية مشاتمة ولا اية توصيفات جارحة ولا اية تأجيج لمواقف او احداث تاريخية مضت واستخدامها اليوم اسلحة بائسة لتمزيق المجتمع .
خامسا : زرع الوعي الجديد بالعراق الحقيقي لا المزيف ، واشاعة روح المحبة لا البغضاء ، والمرونة لا التعصب ، والانسجام لا الاقصاء ، وابعاد رجال الدين ( من معممين وغير معممين ) عن ممارسة اية ادوار سياسية او اعلامية او حتى ثقافية .. من اجل تنظيف الثقافة العراقية مما اصابها على ايدي هؤلاء الطغاة الجدد ، وابعاد هؤلاء من كلا الطرفين عن المرافق التشريعية والتنفيذية والاعلامية في الدولة إبعادا تاما .
إنني أتأمل – ان جرت اصلاحات وتغييرات جذرية في العراق - ولادة نخب عراقية متنوعة وجديدة مع الجيل القادم الأول 2009-2039م والجيلين اللذين سيعقباه على امتداد القرن الحادي والعشرين ، وهما الجيل القادم الأوسط 2039-2069م والجيل القادم الأخير 2069- 2099م . واعتقد اعتقادا راسخا – وربما كنت مخطئا – إن تكوينات هذه الأجيال ومنطلقاتها وركائزها وكلّ منتجاتها ستختلف اختلافا جذريا عن الأجيال التي تعرفّنا عليها في القرن العشرين. ان اهم ما يمكن احداثه في ظل تنوعاتها ربط هويتها بالروح العراقية ولا شيئ آخر .. وان خلاصها لا يتم الا بالتسوية العراقية بين التنوعات ضمن بنود مشروع العراق الجديد .. وان يحدث الانسجام في التفكير المدني ، وابعاد اية هيمنة سلطوية لهذه الطائفة او تلك .. وتأسيس الصراحة على انقاض الانتهازية والتفكير المزدوج والممارسات الباطنية .. وعليه ، فانها ستكون لها أوضاعها ، ويتبلور لها تفكيرها ، وستراعي فيها مصالحها على نحو مختلف جدا ، كما احلم !
هنا نتساءل : هل ستختفي نخب وجماعات قديمة ومتأخّرة من المشهد على حساب ولادة جماعات وأطياف متنّوعة من النشطاء المحدثين في الفكر والرأي والسياسة فضلا عن ولادة كتّاب ومفكّرين ومختصّين متمدّنين من نوع جديد .. يحاولون أن يحسموا عدّة امور عجزت عن تحقيقها نخب وجماعات في القرن العشرين ، وعلى حساب ما ولد من جماعات ساخطة ، وعصابات متطرفة ، واحزاب ماضوية ، وسلطويات بائسة اودت بحياتنا المتمدنة والجميلة . فمتى سيختفي هؤلاء على حساب تلك النخب المستنيرة ؟
نشرت في صحيفة المدى البغدادية ، يوم الاثنين 24 آذار / مارس 2014 .
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
وتنشر كذلك على صفحات د. سيار الجميل في الفيس بوك وتويتر
*
للعودة إلى الصفحة الرئيسة