حقيبة ذكريات
يونس بحري : اسطورة الارض !ـ
أ.د. سيّار الجميل
نص المحاضرة الشفوية التي القاها المؤرخ الاستاذ الدكتور سيّار الجميل في نادي السلام بمدينة تورنتو في كندا مساء يوم السبت 30 ابريل / نيسان 2011 ، ضمن ليلة عراقية خاصة حضرها اكثر من 260 ضيفا من كندا والولايات المتحدة ..ـ
سيداتي سادتي
ايها الاصدقاء الاعزاء من ابناء جاليتنا العراقية الكريمة ..ـ
ارحب بكم اجمل ترحيب في هذه الامسية التي اتمنى ان تكون جميلة ضمن هذه الليلة العراقية التي اتمنى ان تكون اجمل .. دعوني هنا اشكر السيدة الفاضلة المثقفة العراقية اميرة بيت شموئيل على تقديمها هذا ، والتي قدمت لكم تفاصيل عني انا اليوم لم اعد اتذكرها ، فشكرا جزيلا لها من القلب .. واشكر راعي هذا الحفل الكبير الاخ علاء يوسف وشريكه الاخ آرا ماركوس وأيضا عريف الحفل الاخ سالم يوسف على جهودهم الكبيرة في ترتيب هذه الليلة العراقية الرائعة التي جمعت كل الاصدقاء العراقيين وشكرا لما تجّشم عناء السفر من الولايات المتحدة ليسمعني ويشارك في هذه الليلة .. انني اعتز جدا بجالياتنا العراقية في قارة اميركا الشمالية ودور ابنائها في مختلف مجالات الحياة وهم يعيشون بلا اية فوارق او تمايزات .. ان العراقيين جميعا اصدقائي ما داموا عراقيين يعتزون بعراقيتهم ، مع خصب ذاكرتهم وخصوصية ثقافتهم .. انهم عندي جميعا سواء ، اذ لا فرق عندي بين دين ودين ، ولا بين طائفة وطائفة ، ولا بين قومية واخرى .. انكم جميعا اصدقائي سواء جئتم في الاصل من بغداد او من الموصل او من البصرة او من كركوك وغيرها من المدن .. سواء من كردستان او من شرق العراق او غربه .. من شماله او جنوبه .. ليس عندي ما يميزكم الا عراقيتكم ، ولا هوية وانتماء لنا جميعا الا العراق !ـ
الموصل أم الربيعين : اسطورة الارض
وانا اشارككم بهذه " المحاضرة " التي تقع في اطار تاريخنا وتراثنا العراقي الحديث ، وهي التي اسميتها بـ " اسطورة الارض ام الربيعين " .. وكنت قد نويت ان احكي لكم عن موضوع آخر تمثله شخصية نسوية عراقية برزت وتفاعلت مع العالم قبل قرابة مائتي سنة ممثلة بأسطورة المثقفة الموصلية ماريا تريزا الاسمر التي كان لها دور نهضوي في لبنان واوروبا ، ولكنني لم ازل اجمع المزيد من المعلومات عنها ، فكان ان اخترت الحديث عن شخصية اسطورة الارض .. وقد ابقيت " الموضوع " سرا لم اعلنه ، مفاجأة للجميع ، اذ كان الاصدقاء يسألونني عن موضوع المحاضرة ، فأسّرهم دعوها مفاجأة لكم ! اسطورة الارض تحدثت عن نفسها طويلا ، وكتب عنها الكثير ، ولكن تناوب الكتابة عنها البعض ممن اخذ عن البعض الاخر الغث والسمين .. الصواب والخطأ من دون اي تمحيص ، ولا اي نقد ، او تفكيك ، او تحليل .. اسطورة الارض ، قصة عجيبة لإنسان عراقي غريب الاطوار ، كنت قد كتبت عنه فصلة في كتابي " زعماء ومثقفون : ذكريات شاهد الرؤية " ونشرتها منذ اكثر من عشر سنوات .. ولقد اكتشفت معلومات ومذكرات وتسجيلات في السنوات المنصرمة تلقي الضوء على حقائق تاريخية جديدة .. ولا اعتقد ان العراق سيبخل عن العالم بإنجاب اناس خارقين ، اذ كان قد انجب نخبا ذكية على امتداد التاريخ ، ويخالفني احد الاصدقاء في هذا الرأي اذ يرى عكس ما ارى ، اذ يرى في العراقيين كل التوحش والفجاجة والمركبات الصعبة اذ انه يخلط بين تصرفات الرعاع وبين ابداعات النخب الذكية التي تكاد تختفي اليوم من بلاد وادي الرافدين جراء هذا الزمن الصعب التي يجتازه العراقيون .ـ
لماذا اسطورة الارض ؟
يروي صاحب اسطورة الارض ، انه قد أسس 16 اذاعة ، وأتقنّ 17 لغة .. وحمل 15 جنسية .. وتزوج 90 امرأة زواجا شرعيا .. وأكثر من 200 زواجا مدنيا .. انجب 365 ذكرا ، ولا يعلم عدد الاناث .. كان عنده اكثر من 1000 حفيد .. قابل معظم رؤساء العالم ، وله معهم صداقات .. حكم عليه بالإعدام اربع مرات .. وقد ولد في اول القرن العشرين ، وفي الشهر الاول منه ! وسواء صدق في ما قاله او صدق في عشر معشار ما قاله ، أسأل : الا يعتبر هذا الانسان اعجوبة من الاعاجيب ؟ وهل انجب العرب كمثله في القرن العشرين ؟ السنا في حاجة ماسة للتعرّف عليه معرفة دقيقة .. ونقف لا لنشيد به فقط ، بل لندقق في سيرته وفصول حياته ؟ وما القدرات التي امتلكها حتى يغدو اسطورة الارض .. ؟ واي ارض ؟ انها ارض العراق .. وأسألكم ايها الاصدقاء : هل عرفتموه ؟ هل سمعتم بمثل هذا الانسان الذي لو كان قد ظهر في مكان آخر غير العراق ، لأحتفي به ودرسه الناس ، وصنعت عنه الروايات والافلام السينمائية ..ـ
انه المسمى : يونس بحري .. اسطورة الارض ، وهو الذي تباينت الناس في تقييمها له ، فثمة من وصفه بأقذع التهم ، وثمة من انصفه ومنحه الحق المشروع لحريته التي مارسها سياسيا وثقافيا واعلاميا واجتماعيا .. لقد نال من اتهامات النظم السياسية والحزبية الكثير من التهم ، ووصف من قبل البعض بصفات العظمة الخارقة في حين وصف من قبل آخرين بالدعارة والتجسس وانعدام الاخلاق .. اما قضية زيجاته ، فيبدو انه قد سبق الرحالة ابن بطوطة في هذا الجانب .. اذ تفوّق على الجميع في عدد الزوجات . سأله احد الصحفيين ويونس بحري في نهايات عمره : كيف تزوجت هذا العدد الكبير من النسوة ، وانت مسلما ، والاسلام لا يبيح الا اربع زوجات ؟ اجابه : انا لم اتبع الا الشرع ، ولم انكح الا كما جاء في القرآن : " امساك بمعروف وتسريح باحسان " !ـ
رجل لكل الاعمال
دعونا نتعرف على انسان موصلي عراقي ساح في ارجاء الدنيا مرات عدة .. وفي كل مكان يبقى زمنا ، يعاشر اهله ويخالطهم ويتعلم منهم ثقافتهم ولغتهم ويغادرهم .. سريع الاقناع ، له جاذبية وسحر ، سريع البديهة ، حاضر النكتة ، جهوري الصوت ، طويل القامة، أشقر وعيونه زرقاء، يتعلم اللغات بسرعة فائقة ، بل ويجيد اللهجات العربية .. يتقن التقليد والتمثيل ببراعة .. ما ان يلتقي بإنسان حتى يكسبه من الدقائق الخمس الاولى .. لا يهمه نقد الاخرين او شتائمهم له ، ولا يهمه مدح الاخرين وتبجيلاتهم عنه .. الحياة عنده لحظة زمنية لا فرق فيها بين كبير وصغير ..ـ
وعاش على فلسفته هذه حياته كلها .. لا يستقر في مكان واحد ، ولا يثبت مع عائلته حتى لأيام .. له القدرة الخارقة للاتصال بالملوك والزعماء والوصول الى صناع القرار .. اذ ما ان يقابل احدهم حتى يرتاح اليه من الوهلة الاولى فيكسبه .. عمل مستشارا لرؤساء وملوك ومحررا ورئيس تحرير اصدر عدة صحف ، وبائع كتب متجول ، وموزع صحف ، وكاتبا ومؤلفا ، اذ قام بتأليف اكثر من عشرين كتابا وطبع كل كتبه .. عمل مذيعا ومدير اذاعة ومعلقا ورياضيا وسباحا ورحالة .. لقب بالسائح العراقي منذ بواكير شبابه وبعد رجوعه من رحلته الاولى حول العالم .. كان مغامرا وله القدرة على التخفي وتمثيله ادوار غيره ، اشتغل اماما في جامع يؤم المصلين وفي الليل ضابط ايقاع ( دنبكجي ) في ملهى ، كما عمل في النهار مفتيا شرعيا وفي الليل راقصا في كابريه .. اشتغل حمالا في محطة قطار ، ومأمور بدالة ، وموزع بريد ، ومنظف شوارع ، وماسح احذية .. اشتغل في السيرك ، وكان طباخا ماهرا ففتح " كشك بحري " ، ثم مطعما قصده كبار القوم .. وعدّ يونس بحري الحياة مجرد تمثيلية يؤدي كل انسان دوره فيها .. لا يفكر في الماضي ولا يهمه المستقبل انما يعيش لحظته التاريخية فقط .. كان بمقدوره ان يجمع الملايين ويمتلك العقارات ويكتنز الذهب والفضة ، ولكنه مات لوحده على احد الارصفة من ارض العراق وفي شارع السعدون ببغداد وهو جائع ، فقامت امانة عاصمة بغداد بدفنه في مقبرة الغزالي في آذار / مارس عام 1979 . هذه شخصية يندر تكرارها ، بل هي غريبة الاطوار حقا بكل ما حفلت به من التناقضات والشواهد والاثارة للجدل .ـ
يونس بحري : بواكير التكوين
ولد يونس بن صالح اغا الجبوري في الموصل عام 1900 - كما يقول - ، او في عام 1903 ـ - كما اشيع عنه - ، او في العام 1897ـ - كما ذكر المؤرخ الدكتور محمد صديق الجليلي - الذي يكبره بسنة واحدة ، اي في السنة التي مات فيها السيد جمال الدين الافغاني الذي كان يعد اسطورة شرقية هو الاخر في القرن التاسع عشر ! كان ابو يونس يوزباشي في الجيش العثماني ينقل البريد بين العاصمة استانبول وولاية الموصل ، وكان له اخوته . نشأ وترعرع يونس في الموصل التي عشقها وأحبها .. ويقال انه كان صبيا ذكيا وشقيا لا يمكن السيطرة عليه ابدا منذ نعومة اظفاره من خلال حركته ومقالبه وذكائه .. كان قارئا نهما وكان مقلدا بارعا وباستطاعته ترديد فقرة كاملة دون نقصان وهو يسمعها لأول مرة ! درس في مدارس الموصل ، وتخرج في ثانويتها المركزية الشهيرة ، وكان يعمل في العطل موزعا لجريدة الموصل .. على العهد العثماني ، كما وعمل موزعا للطعام على الجياع من قبل الموسرين ابان ايام المجاعة الكبرى التي اجتاحت الموصل في الحرب العالمية الاولى .. وتعلم الكردية والتركمانية بحكم تنقلاته مع اخيه الموظف في عدة اقضية ومناطق عراقية .ـ
رحلة اولى حول العالم
غادر الموصل الى بغداد عام 1921 لينخرط في دار المعلمين ، ولكنه طرد منها بعد مرور شهرين او ثلاثة لمجادلته مدير الدار .. فطرد ووجد نفسه في الشارع ، فكان ان حظي له بوظيفة كتابية في وزارة المالية حتى العام 1923 ، ومثلما لم تسعه مدينته الموصل ، لم يعد العراق يسعه ، فغادر العراق عام 1923 الى استانبول وانخرط فيها لدراسة العلوم البحرية ، ولكن الظروف الصعبة التي عاشتها تركيا العثمانية بعد الحرب الاولى ومخاض تركيا في حرب الاستقلال جعلته يرجع ثانية الى العراق ، ولكنه قرر ان يغادر في نهاية عام 1923 في رحلة حول العالم .. فشدّ الرحال لوحده دون ان يحمل معه اي نقود – كما يقول - ، وكان في كل بلد يقيم فيه ، يتعّرف على اسراره ويتعلم ثقافته ولغة اهله .. انطلق نحو ايران ، وعاش فيها ردحا من الزمن ، وتزوج اولى زوجاته شهرزاد الايرانية ثم ودعها مرتحلا نحو تركمانستان ، وبقي في عاصمتها عشق آباد ومنها الى افغانستان والهند وصولا الى الشرق الاقصى والملايو واندونيسيا التي اعجبته ثم مر بالصين واليابان .. كان لوحده ، فمن يتزوجهن في المدن التي يقيم فيها ، يسرحهن بمعروف ويمضي الى غايته المجهولة .. وكما قيل عنه لم ترافقه الا حقيبة كانت تحتوي على ادوات حلاقة وفرشاة اسنان وقنينة عرق وجواز سفر .. ثم ساح وانتقل الى العالم الجديد بما في ذلك الولايات المتحدة وكندا ، واكتشف العالم لأول مرة ، ثم عبر الاطلنطي ووصل اوروبا ، فانتقل من بريطانيا الى بلجيكا وهولندا وفرنسا والمانيا ، ويبدو ان علاقته قد توثقت بألمانيا منذ رحلته الاولى ..ثم عاد عن طريق سويسرا وايطاليا واليونان الى تركيا ومنها الى سوريا ولبنان وفلسطين ووصل مصر التي وثق علاقاته بادبائها ومثقفيها وكتب في صحافتها .. ثم عاد الى العراق .ـ
السائح العراقي
عاد الى العراق باسم ( السائح العراقي ) عام 1925 ، وكان قد طبع اول كتاب له عام 1924 ولا نعرف اين طبعه ولم يلبث الا قليلا ، الا وكانت سمعته قد سبقته الى اماكن عدة ، غادر الى الكويت ومنها الى السعودية حيث اخترق الاحساء ونجد والحجاز وعسير والربع الخالي لوحده وانتصر انتصارا مدهشا ، والمعروف ان العشرات والمئات من الرحالة والمسافرين قد تاهوا او اختفوا في عبورهم للربع الخالي ، اذ تبتلعهم الرمال المتحركة ، لكن بحري استجاب للتحدي وانتصر عليه .. كان مغامرا لا يمكن تخيل حجم مغامراته حتى وصل اليمن والتقى الامام يحي بن حميد الدين زعيم اليمن فاكرم وفادته ولكنه انقلب ضده لما انتقده يونس بحري على موقفه من الوحدة العربية التي طلب الامام يحي ان ينضم اليها في حالة جعلها على المذهب الزيدي !! .. ومن هناك عبر البحر الاحمر نحو افريقيا واخترق ارتيريا والحبشة والسودان الشرقي ومن ثم السودان الغربي وعبر الصحراء الكبرى مشيا على الاقدام لوحده ، وصل بعد 48 يوما الى جبال الاطلس ، ووجد نفسه في المغرب ، فزار فاس ومكناس و مراكش وكازابلانكا والرباط وطنجة ، ومن هناك عبر الى اوروبا نحو اسبانيا ووصل فرنسا والمانيا وبلجيكا وابحر الى انكلترا ، وهناك يدخل مسابقة لقطع القنال الانكليزي في بحر المانش سباحة مع سباحين دوليين وهو غير مدرب ابدا ، فيفوز عليهم جميعا ، ويمنح لقب ( بحري ) ، ويحوز على جائزة المانيا ، ثم عاد الى بولونيا ودول اوربية عدة .. ثم رجع الى العراق ولكن لا ندري عن اي طريق ، اذ لدينا معلومة تقول انه كان في سنغافورة عام 1927 .. وكان اسمه قد شاع في العالم ، وكتبت الصحف في دول عدة عن مغامراته الجغرافية .. رجع باسم يونس بحري مثقفا بلغات ومعلومات واسعة . لتكتب الصحافة العراقية عنه ، ثم غادر العراق مرة اخرى عام 1929 وبعد ان نشر مقالات انتقد فيها ساطع الحصري انتقادا مريرا وشتمه لسوء تصرفه في مؤسسة المعارف العراقية ، ويبدو لي ان يونس بحري كان مدفوعا من قبل بعض المثقفين العراقيين ضد ساطع الحصري ، وسياساته التربوية والتعليمية ، اذ لم يكن بحري برجل ضليع في التربية والتعليم ! رحل يونس بحري ، وبيده هذه المرة " دليل العراق الرسمي" ، وقد اصدرته الحكومة العراقية باللغتين العربية والانكليزية ، وفيه صفحة كاملة عن يونس بحري السائح العراقي ، ويدور في العالم ايضا ، ويلتقي في تلك السنة جولي الهولندية التي كانت باقية على علاقة غرامية معه لأكثر من عشر سنوات تبادلا فيها رسائل الحب والعشق والغرام بالألمانية حتى تزوجا لاحقا عام 1939.. عندما وصل بحري الى المانيا .. - كما سنعالج ذلك لاحقا - .ـ
من السعودية الى البحرين نحو الشرق الاقصى عبر كراتشي
يلتقي يونس بحري بمؤسس المملكة العربية السعودية الملك عبد العزيز آل السعود الذي كان معجبا به رفقة صديقه الكويتي الاديب عبد العزيز الرشيد ليكلفهما بنشر الدعوة الى الحج في جزر الهند الشرقية ، فغادرا معا الى جنوب شرق آسيا ، وانطلقا الى الشرق الاقصى ، ويبدو ان يونس بحري انطلق في مهمته عبر البحري ، اذ عثرنا على نص كتبه يوسف صلاح الدين يقول فيه : " يقول يوسف صلاح الدين في مقال له عن يونس بحري : " أثناء كتابتي هذا المقال أعلمني الباحث الأستاذ بشار الحادي مشكورا بأن يونس زار البحرين في يوم الأربعاء 9 يوليو 1930 وأول من قابل عند وصوله هو السيد سلمان كمال الذي أخذه الى السيد يوسف بن عبدالرحمن فخرو بالمحرق وفي يوم الجمعة بعد الغداء اجتمع يونس بحري مع سلمان كمال، يوسف فخرو، قاسم الشيراوي في عمارة علي بن عبدالله العبيدلي واثناء المناقشات في بعض الأمور السياسية عن حزب الوفد والدستوريين غضب أحمد فخرو لأنه فضل في العلم مكرم عبيد على مصطفى النحاس. عزم سلمان كمال يونس بحري، أحمد بن حسن ابراهيم، محمد عبدالله جمعة واخرين على الغداء وعزم يوسف بن أحمد كانو يونس بحري وآخرين على العشاء وفي اليوم التالي احتفل المنتدى الاسلامي بيونس وحضر الاحتفال كثير من الوجهاء وشكلت لجنة في المحرق برئاسة أحمد فخرو للاحتفال بيونس في مجلس المغفور له بإذن الله الشيخ عبدالله بن عيسى آل خليفة. غادر يونس البحرين يوم الثلاثاء 22 يوليو 1930 الى كراتشي في طريقه الى اندونيسيا لإصدار صحيفة مع الشيخ عبدالعزيز الرشيد وودعه في فرضة المنامة كل من سلمان كمال، يوسف بن أحمد كانو، جاسم وعلي ابنا محمد كانو، علي ابراهيم الكليب، عبدالرحمن الزياني، محمد الباكر، أحمد بن حسن ابراهيم. ولكني لم أسمع من جدي او أي شخص آخر عن هذه الزيارة ولم يذكرها يونس في مذكراته " .ـ
المشّرد المذهل
يكتب الصحفي المخضرم سمير عطا الله في جريدة " الشرق الاوسط " اللندنية عن يونس بحري قائلا بعد ان يصفه بـ " المشرد المذهل " وهو عنوان مقالته عنه : " كتب الكثير المتفرق عن يونس بحري ولم تكتب سيرة كاملة لهذا المشرد المذهل. وها أنا اقرأ الآن بحثا فياضا عنه في كتاب الدكتور عبد الرحمن الشبيلي «تاريخ الاعلام في الجزيرة العربية». وفي هذا البحث نرى يونس في الحجاز يريد عبور الربع الخالي. إلا انه قام برحلة بلغ فيها صنعاء وقابل الإمام يحيى ثم اتجه من اليمن بحرا الى سنغافورة. وجاء ذكر هذا الرجل الصاخب في مذكرات الرجل البالغ الجدية الدكتور عبد الرحمن بدوي الذي التقاه في باريس العام 1946. وكان بحري قد هرب من ألمانيا بعد هزيمة النازيين. وذكر الدكتور بدوي ان يونس اصدر العام 1947 جريدة «العرب» لشن الهجمات اللاذعة على بعض الشخصيات السياسية العربية قصد الابتزاز والاسترزاق. وأصدر بحري عددا كبيرا من الكتب، معظمها دعائي، وبعضها رصين. التقيت يونس بحري العام 1964 أو 1965 في ردهة فندق كارلتون في الكويت، التي كانت ملتقى الصحافيين، وقد قضى أيامه الأخيرة فيها ثم سافر الى العراق ومات فقيرا. وكان قد بدأ حياته العملية في الكويت ايضا عندما زارها العام 1930 وقيلت فيه قصيدة تكريمية من 64 بيتاً مطلعها:ـ
سرى يقطع الدنيا ويذرع أرضها ........ تقاذفه وديانها ووعورها
في جنوب شرق آسيا
وصل بحري والرشيد اندونيسيا ، واصدرا عام 1931 جريدة ( العراقي والكويتي ) .. ثم رجعا بعد اشهر اثر اصدارهما جريدة ( الحق والاسلام ) أيضا .. اذ كان عبد العزيز الرشيد قد سبق يونس بحري في العودة الى الكويت .. لقد بقي يونس بحري لوحده ولم يعد عنده اية نقود ، فلعب دور المفتي في مجتمع جزر الهند الشرقية في اندونيسيا ، خصوصا وانه كان بمثابة داعية للحج ، ويصدر صحيفة يدعو فيها الى الحق والاسلام .. جاءه في واحد من الايام شيخ طاعن في السن قبيح المنظر يطلب عقد قرانه على فتاة في ريعان الشباب ، وكانت جميلة جدا تسحر الالباب ، فما كان من المفتي يونس بحري الا ان صرف ذلك الطاعن في السن ، اذ حرم عليه زيجته منها ، فلقد اعجبته تلك الفتاة ، فعقد هو نفسه عليها واصبحت زوجته بعض الوقت .. وثمة قصة اخرى له عندما انتقل من اندونيسيا الى سيام ( : تايلاند اليوم ) ، يقال انه اصبح بوذيا ، بل ومثل دور رجل دين بوذي بالبسته الصفراء في احتفالية انتهى فيها بمضاجعة اجمل فتاة سيامية ضمن طقوس دينية بوذية .. وخرج من مخدعها قائلا : الان عرفت كيف انتشرت الديانة البوذية !ـ
ولدينا قصة طريفة تروى عنه ، اذ تفتق عقل يونس بحري عن حيلة انطلت على الناس ، اذ كان يعاني من الجوع والعوز .. وكان برفقته احد اصدقائه اللبنانيين ، وقد وصفه بـ " العكروت " اذ كانت هناك جزيرة مسيجة ويحرم الاقتراب منها كونها مليئة بالتماسيح ، فما من انسان او حيوان يقترب منها حتى تبتلعه التماسيح ، فاحتال يونس بحري على الناس ، اذ تحدّى الجميع واعلن انه سيخترق الجزيرة ، وان من يشاهده عليه دفع خمس روبيات ، فجمع مع صاحبه بحدود 300 روبية ، واستعد لمنازلة التماسيح ، وكان صديقه اللبناني يجمع النقود وهو بين تشجيع الناس الذين اجتمعوا لمشاهدة هذا الرجل البحري الذي سيصرع التماسيح .. بدا يونس بحري لابسا الشورت ، وهو يذهب ويأتي راكضا ويقول لهم لابد من الاحماء والاستعداد .. ركض بعيدا مرسلا صاحبه الى مركز للشرطة مبلغا عن مجنون عراقي يريد الانتحار ، فهرع الشرطة ليقبضوا على المجنون العراقي ، وهو يصيح بالعكروت : يالله اشلع بالمدخولات ، حتى لا تراك الشرطة ! قضى ساعات في الشرطة ، وخرج ليقاسم العكروت رزقهما .. وانا اتساءل : اذا كان يونس يسّمي صاحبه اللبناني بعكروت ، فماذا نسمّي يونس بحري العراقي ؟ انه مجموعة عكاريت !ـ
يعود بحري الى العراق مع نهاية 1931 ، ويصدر جريدة العقاب عام 1933 مع بداية عهد الملك غازي ، ويستخدم صحيفته لشتم اقطاب السياسة العراقية ، فتغلقها الحكومة بسبب مسحتها الشوفينية ، فيقوم بإصدار جريدة " الميثاق " عام 1934 بعد ان يزور عدة دول في الشرق الاوسط مثل الاردن وسوريا ولبنان .. ومنذ تلك اللحظة ، يسجل يونس بحري تأسيسه لأسلوب الردح السياسي العربي الذي يعد هو امامه ومكتشفه عربيا ، بل وطوره ليس كتابيا حسب ، بل اذاعيا كما سنرى ..ليأتي من بعده احمد سعيد في اذاعة صوت العرب .. وغيره حتى اليوم في الراديوات والتلفزيونات العربية !ـ
مع الملك غازي الاول
يعّزز علاقته مع الملك غازي ببغداد ، والذي وجد فيه انسانا يؤدي من خلاله اغراضه السياسية ، وخصوصا بعد ان نّصب يونس بحري اول مذيع في الاذاعة العراقية عام 1936 ، وهو اول من نطق على موجات الاثير : هنا بغداد اذاعة المملكة العراقية .. بصوته الجهوري الذي كانت نبراته مثيرة ومؤثرة .. اصبح يتردد على غازي ، وخصوصا بعد ان اهديت للاخير اذاعة خاصة به من المانيا ، فكان يونس بحري يأخذ حريته بالتعبير عما يريده غازي ، وخصوصا ما اثاره بصدد الكويت .. ويدّعي يونس بحري انه كان مهندس انقلاب بكر صدقي عام 1936 ، وهو اول انقلاب عسكري عربي على السلطة ، وقد سجّل اسراره في بعض ما نشره عنه .. ولكن يونس يعزز خلال تلك المرحلة علاقته بالسفير الالماني غروبا في بغداد باعتبار يونس المانيا يحمل جواز سفر الماني ، كما ويذكر بحري ان القنصل البريطاني بالموصل كان يستدعيه لينبهه الى تجاوزات غازي في اذاعته ضد البريطانيين وسياستهم ، ولا ادري لماذا يستدعيه القنصل مونك ميسن في الموصل ، ولا يستدعيه السفير البريطاني في بغداد .. ؟؟ المهم ، ان يونس بحري يدّعي ايضا ان لديه عدة اسرار حول مصرع الملك غازي الاول عام 1939! وفي الليلة التي قتل غازي فيها ، كتب يونس بحري بيانا ونشره في جريدته " الميثاق " ، وبدأ يوزعه في بغداد فجرا وهو على دراجته النارية ، متهما فيها الانكليز وعملائهم الامير عبد الاله ونوري السعيد بقتل الملك ، بل ويدّعي يونس انه كان وراء تحريك مظاهرة الثانوية المركزية في الموصل ضد القنصلية البريطانية قرب المحطة ، وانه هو الذي قتل مونك ميسن .. ولكن لم يثبت لدي ابدا من خلال الاطلاع على تقارير وافادات وكتابات الصحف وخصوصا جريدة البلاغ الموصلية ان يونس بحري قد اشترك في احداث الموصل ، اذ كان في بغداد .. ولكنه كان فعالا ، بحيث صدر امر القاء القبض عليه رسميا ، فهرع الى السفارة الالمانية يحتمي بالسفير غروبا الذي قام بوضع خطة لتسفيره خفية عام 1939 الى المانيا قبل اندلاع الحرب الثانية .. وذلك من خلال التمويه ، اذ جعله عضوا ضمن اعضاء وفد صحفي وصل بغداد على متن طائرة خاصة حشر بحري نفسه فيها ضمن اعضاء الوفد.. فوصل برلين ..ـ
السبّاح العالمي بين زوجتين موصلية وهولندية
وكان ان اشترك في مسابقة لقطع مضيق جبل طارق في اسبانيا ، واحرز النصر على 36 دولة سباحة .. أغمي عليه قبل الوصول الى طنجة ب 3/2 كيلو متر ، ولكن منح الجائزة الاولى ومقدارها 18 الف فرنك فرنسي ، اي 140 جنيه استرليني . وكانت موهبته وملكاته الرياضية قد ظهرت منذ شبابه المبكر ، اذ روي انه كان سباحا منذ ان كان في الموصل ، فلقد قطع نهر دجلة طولا من الموصل الى حمام العليل 23 كم في ساعتين و28 دقيقة ، وقطع المسافة 24 كم جريا سريعا في ساعة و 45 دقيقة !ـ
كان يونس قد تزوج بامرأة موصلية اسمها مديحة ، وانجبت منه ثلاثة ، هم لؤي ومنى وسعدي قبل مغادرته الى برلين .. ولقد لوحقت اسرته في الموصل ، وبدأ التحقيق مع زوجته وامها عن يونس بحري .. مما دعا بزوجته مديحة اللحاق به تبحث عنه بعد ان تركت اولادها في الموصل عند جدتهم أم مريم ، وهي أمهّا التي اعتنت بهم ، وكبروا في رعايتها ، وكانت ام مريم خياطة في السرجخانة بالموصل ، تشتغل وتعيلهم ، وقد انعكس ذلك في تمردهم لاحقا على كل من ابيهم وأمهم ، وخصوصا الاب الذي لم يجدوا فيه اي عطف وحنان .. وقد استقرت الام مديحة منفصلة عن زوجها في باريس ، ويقال انها عاشت في فرنسا بعد افتتاحها صالون حلاقة ، ولا يعرف مصيرها وماذا حلّ الدهر بها .. اما يونس بحري ، فكان ان التقى عشيقته القديمة جولي الهولندية ، وتزوجا وبقيا فترة من الزمن .. ثم افترقا نهائيا . لقد قلت عن زواجه هذا في الذي نشرته عنه قبل سنين : " ان المعلومات التاريخية عن علاقة جولي بيونس بحري وزواجهما رسميا يوم 29/12/ 1939، تشير الى انه لم يستمر طويلا ، اذ بقيت العلاقة الزوجية بين الاثنين متذبذبة ومتقطعة، وكانت جولي تتمني ان تعيش حياتها مع من احبت، ولكن يونس بحري انشغل بتأسيس اذاعته ببرلين وكانت طموحاته اكبر من عشقه، وانه لم يُنجب ولداً من جولي، ولم يعيشا معاً بصورة هادئة مستقرة مع استعداد زوجته جولي لذلك . ولعل في المراسلات الكثيرة المتبادلة بينهما توضح أسرار تلك العلاقة بصورة أفضل " . واسم جولي الكامل هو جولي فان دير فين عاشت بين 1903- 1997 ، وغدت فنانة تشكيلية شهيرة وهي من اسرة ثرية وعالية المستوى .. وكان اول لقاء لها مع يونس بحري يوم 29 فبراير / شباط 1929 في مدينة نيس الفرنسية ( كتابي : زعماء ومثقفون ). جاء في مقابلة معه ان له ولد اسمه وحيد الجبوري وكان لواء ركن في الجيش العراقي ، وله د. محمد بحري رئيس تحرير مجلة افريك بالفرنسية في روما ، وله ولد آخر اسمه علي الجبوري وكان سفيرا لاندونيسيا في الباكستان ، وله ولد آخر اسمه رعد بحري وكان قبطان في البحر .. وله غيرهم مما لا يعد ولا يحصى من الابناء والبنات - على حد قوله - . ويذكر ولده الفنان د. سعدي في احدى المقابلات التي اجريت معه انه يبحث عن اخوة له في هذا العالم .ـ
اذاعة هنا برلين : حي العرب
تندلع الحرب العالمية الثانية ، وكان غروبا قد وصل الى مركز حساس في الخارجية الالمانية ، فيؤسس المكتب العربي في برلين ، واذاعة القسم العربي في برلين ، وتوكل المهمة الى يونس بحري لإدارة تلك الاذاعة ، ومعه طاقم عربي من المساعدين ( مترجم ومحرر اخبار وفنيين .. ) ويبدأ زمن جديد في حياة يونس بحري الذي يقول بأنه مؤسس اول اذاعة عربية في اوروبا قبل البي بي سي البريطانية التي انطلقت بعد عدة اشهر من اذاعته .. واشتهر بحري بندائه ( هنا برلين .. حي العرب ) على غرار التحية النازية " هايل هتلر " ، فبدأ يفعل من خلال اذاعته الافاعيل في رؤوس الشباب وعقولهم ، ويخترق دواخلهم ويثير عواطفهم القومية الساخنة ، فاستمع اليه القاصي والداني في البلاد العربية ، بل وكان سببا في اشعال احداث مهمة لاحقا في مصر ولبنان وسوريا والعراق وبلدان المغرب العربي .. اقترح على هتلر ان تبدأ الاذاعة بآيات من القرآن الكريم لجذب العرب اليها ، وكان يشتم الملوك والرؤساء العر ب شتائم مقذعة ، ولم يسلم من فمه أحد وخصوصا اولئك الذين كانوا يتعاملون مع الانكليز والفرنسيين .. وكانت لديه فصول من العلاقات القوية مع النازيين الالمان .. بل ويقال انه كان يدخل على غوبلز من دون استئذان ، ووصل الى هتلر ، ووثق علاقاته مع الضباط الكبار ومع اعضاء الرايخ الالماني .. وزار بحري الدوتشي موسليني الذي اعجب به جدا .. فضلا عن دوره في استقدام العرب الهاربين او المتعاطفين مع المانيا ومع المكتب العربي ، ومع الشخصيات التي هرعت الى المانيا مثل رشيد عالي الكيلاني والحاج امين الحسيني وغيرهما ، ويكتب جملة اسرار عن تصرفات العرب مع الالمان ومع انفسهم ، خصوصا وان هتلر اعتبروه منقذا ، وانه سيربح الحرب .. ويشيد يونس بحري برشيد عالي الذي يعرفه من العراق ، ويقول بأنه وصل برلين دون ان اعرف ، لأن امين الحسيني كتم على خبر وصوله كيلا يستقطب الاهتمام بدلا منه ، واستضافه في قصره الذي منحه هتلر للمفتي الذي حجز الكيلاني فيه كيلا يكون للرجل صولة وجولة !! وبعد عشرين يوما عرف بحري بوصول الكيلاني المانيا .. وينفي يونس بحري حركة 1941 عن الكيلاني الذي جاء بطريق الخطأ ليتزعم الحركة التي قادها الضباط العقداء الاربعة ( المربع الذهبي ) الذين كان المفتي يحركهم ، فكان ان نال الكيلاني الاذى ، وقد عرف يونس عن وصول الكيلاني بطريق الصدفة ، فذهب اليه فوجده يبكي في قصر المفتي .. فاسرع يذيع خبره باعتباره منقذ الامة العربية والرئيس الشرعي لحكومة العراق فقلب الخبر الدنيا .. وفي برلين يكون نجم يونس بحري يتلألأ في السماء ، اذ اطبقت سمعته الافاق ، وكان كل من جمال عبد الناصر وانور السادات وزملائهما يصغون الى تعليقاته الساخنة وهم طلبة في الكلية الحربية .. وقد تعلموا منه الكثير بشهادة انور السادات في مذكراته " البحث عن الذات " . وتفيدنا بعض الاخبار المنشورة عن يونس بحري انه كان ملاحقا من قبل مديرية التحقيقات الجنائية في العراق منذ زمن طويل ، وكانت الحكومة العراقية ترصد كل حركاته وعلاقاته واقواله ومنشوراته ، خصوصا وان اغلبها كان يصب في انتقاد السياسة العراقية والساسة العراقيين انتقادا لاذعا ومشوها ، بل وان بعض التقارير الخارجية ذكرت بأن هذه الرجل كان يسيئ للعراق في الخارج اساءات كبيرة ، فلابد من وضع حد له ولتحركاته وعلاقاته مع رؤساء الدول .ـ
يونس بحري في باريس
وضعت الحرب اوزارها مع انهزام الالمان وانتحار هتلر وعشيقته ايفا براون التي يعرفها يونس بحري حق المعرفة . انهزم يونس من الميدان نحو فرنسا ، وكان ينام في النهار مع المشردين ، ويمشي في الليل للتمويه على نفسه ، ويدّعي انه كان يعرف شارل ديغول .. مضى متخفيا نحو مدن ريفيرا فرنسا الجنوبية عبر مدن ليل ونيس ومرسيليا وبجواز سفر لا يوجد عليه اسم يونس بحري ، وهناك عمل ماسحا للأحذية وعامل تنظيف ومأمور بدالة حتى قيّظ له جماعة يعرفهم من العرب ليخرجوا من فرنسا نحو تونس وليبيا .. وقد نفذ من هنا وهناك ولم يكتشفه احد ، ولكن تمزيقه لورقة من اوراقه في داخل تواليت عرضّه للمسائلة والتحقيق ، فاكتشف امره واعتقل وقدم للمحاكمة وحكم بالإعدام .. ويقال انه ساعة التنفيذ مّثل دور شخص مجنون ، فخلص من تلك العقوبة .. واتهمه احد اصدقائه العرب انه طلب من اصدقائه الاتصال بأي سفارة عراقية او اي سفارة بريطانية ، مما يعني انه كان عميلا للإنكليز ، كما يتهم ! المهم انه رجع الى فرنسا واستقر بباريس ، وأصدر جريدة العرب .وثمة معلومات تفيد ان يونس بحري كان بحاجة الى جواز سفر عراقي ـ فكتب عريضة باسمه الى السيد جميل المدفعي يشكوه تجاهل الحكومة العراقية طلبه لمنحه جواز سفر عراقي ، وهو لم يزل من الرعايا العراقيين ، وان يشمله بعطفه من خلال سياسة " عفا الله عما سلف " ، ولكن النقمة كانت شديدة ضده لما كان يكيله من شتائم وسباب ضد اركان الحكم الملكي واشادته بالكيلاني والعقداء الاربعة والسبعاوي ، فتجاهل طلبه ، ثم قدم يونس بحري طلبه الاخر الى السيد محمد الصدر ، ولم يمنح ايضا أي جواز في البداية ، ولكن الملك فيصل الثاني اسقط كل التهم عنه ، فمنح جوازا عراقيا ومنحه حق العودة الى وطنه من دون اية مساءلة !ـ
كان يونس بحري يؤمن بالقومية العربية ، بعد ان كان قد تأثر بالبلاشفة في بداياته ، وبقي معجبا بالفكر النازي وكان حتى في شيخوخته يدافع عن هتلر ، ويصفه بالوطنية وان هتلر كان يحب العرب ويحترم تاريخهم وحضارتهم .. وان كل ما قيل عنه واتهم به حسب رأي يونس بحري هو كذب وبهتان الصق ذلك به الحلفاء .. ومن الطبيعي ان يدافع يونس بحري عن هتلر الذي منحه الكثير من المكانة والنفوذ وجعل صوته يجول ويصول في الاثير ليسمعه كل العرب .. وكثيرا ما ساعد يونس بحري العدد الكبير من اللاجئين العرب ، واغلبهم من الشخصيات المعروفة سواء من لبنان او مصر او سوريا او العراق ، وخصوصا اولئك الذين كانوا ضد الحلفاء .. ويكتب عنهم وعن شخصياتهم ويحلل سايكلوجياتهم .ـ
كان في بداية الامر يتسكع في شوارع باريس ، فاشتغل عدة اشغال حتى يعيش بعد ان كان يكتب بقلم من ذهب ايام هتلر .. ومن اطرف ما سجله لنا – في رواية مشكوك في امرها - ان الملك الصبي فيصل الثاني كان قادما الى باريس برفقة خاله عبد الاله ونوري السعيد .. وقد جاءوا ليؤدوا صلاة الجمعة في جامع باريس الذي افتتح حديثا وبمساهمة عراقية .. فسمعوا خطيبا مفوها بلحيته الحمراء وعمامته البيضاء وجبته السوداء وهو يخطب خطبة عصماء وبلهجة تقرب من لهجة اهل المغرب ، فاعجبا به ثم أمّ الجميع في الصلاة ، وبعدها زحف اليهم للسلام ، فقال له نوري باشا السعيد : شيخنا الجليل اين تعلمت هذا الكلام العظيم ؟ فأجابه امامهم : تعلمته في مدينة الموصل ! فاندهشوا وقالوا له ما علاقتك بالموصل ؟ فنزع لحيته ورفع عمامته وقال لهم : انا يونس بحري ، فاسقط بيدهم واكرموه بعد ان كان قد لعب بخلقتهم ايام هتلر بشتائمه المقذعة .. واوصلهم الى الباب مودّعا ، وقال لهم : هناك في نهاية الشارع ملهى رائع يقدم برنامجا شرقيا مدهشا في الليل ، فلا يفوتكم .. وفي الليل كان الثلاثة يجلسون في الصدارة وبدء البرنامج ، فاذا بيونس بحري يعمل " دنبكجي " في الفرقة الموسيقية ! ولقد وردت هذه الرواية بشكل آخر في مكان آخر ، ذلك انه عمل اماما وخطيبا مزيفا في جامع باريس عند تأسيسه ، وقد فوجئ الملك فيصل الاول بأن من كان يخطب خطبة مفوهة على المنبر كان يونس بحري بلحية مستعارة ، وفي الليل كان يعمل ضابط ايقاع في احدى الملاهي !ـ
بين بيروت والقاهرة
ينتقل يونس بحري الى بيروت في الخمسينيات ، وكان اسمه ذائع الصيت ، فيحتفى به ويوثق البعض علاقته به .. ويقيم في بيروت زمنا ، وكان صديقه الصحفي الكبير جبران تويني ( ابو غسان ) صاحب صحيفة " النهار " صديقه المفضّل قد زوّجه بالسيدة سميرة ايوب التي بقي معها عدة سنوات ، وكانت من سيدات المجتمع المخملي اللبناني ، وهي اطول زيجة له .. سئل مرة : من التي احببتها من بين زوجاتك حبا حقيقيا ؟ قال : ليس هناك اية واحدة ، بل ان علاقة وثيقة جمعتني مع سميرة التي بقينا معا لسنوات طوال ! ومن بيروت التي يتخذها قاعدة ومستقرا له يذهب الى القاهرة والى سوريا والى الاردن .. وزار مصر بطلب من القيادة المصرية الجديدة ، واحتفى به الرئيس جمال عبد الناصر وانور السادات وتثبت الاوراق التي تركها لنا يونس بحري لاحقا انه كان على علاقة مع الشباب المصريين منذ ايام برلين ابان الحرب العالمية الثانية ، وخصوصا علاقته بأنور السادات الذي اتهم بعلاقاته منذ شبابه بالألمان ..ـ
لما وصلت اخبار يونس بحري في مصر الى العراق ولقاءاته بالقادة المصريين ، خشي الهاشميون في العراق والاردن ، وبالأخص نوري السعيد ان يكون ليونس بحري دوره الاعلامي في مصر ضد كل من نظامي الحكم في العراق والاردن ، فوجد كل من عبد الاله في العراق والملك عبد الله في الاردن ان يرسلا بطلبه ، وان يصفحا عنه ان اعتذر لهما .. فما كان منه الا ان يعتذر ، فيصفحا عن كل ما ارتكبه بحقهما ، وما كاله ضدهما من شتائم مقذعة ..ـ
وفي مصر ، تعّرف من خلال صديقه الفنان موصلي الاصل نجيب الريحاني بالراقصة جمالات ، فشبكها حبا وهياما .. ومن خلالها ايضا تعّرف على الفنانة المطربة هدى سلطان معرفة عميقة وهام بها وهامت به وقد اهداها خاتما نادرا من الماس .. وقد حدثني الدكتور عبد الرحمن بدوي الذي التقيته عام 1982 في باريس وكنت برفقة اثنين من الاصدقاء التوانسة نجيب سلامه والميهي بدوي ، ان الدكتور بدوي كان يعرف يونس بحري منذ ايام باريس ، وانه التقى به في القاهرة ابان الخمسينيات ، وكانت اغنية المطربة المصرية هدى سلطان المشهورة ( من بحري ونحبوه ) كانت بحق يونس بحري الذي " شبك جمالات وشبكها " !وكان صديقه الشاعر فتحي قورة قد كتب كلمات تلك الاغنية الشهيرة التي تقول : من بحرى وبنحبوه .. على القمه بنستنوه .. شبك جمالات وشبكنى .. وازاى نقدروا ننسوه .. من بحرى وبنحبوه ايوه ايوه .. سلمت عليه باليد .. والعين بصت للعين خطه ومن غير مواعيد .. زادو العشاق اتنين .. شغلتنى عنيه من نظرتها .. ويا خوفى عليه من حلوتها .. ليروح منى ويخدوه .. والفكر في حبه يتوه .. الخ الاغنية . ولا ادري مدى مصداقية هذه " المعلومة " وهل ارتبطت الاغنية بيونس بحري ام لا !؟ فكلمة " بحري " شائعة في مصر كاتجاه جغرافي مقابل الوجه القبلي ( بكسر القاف وتسكين الباء ) ، وربما كانت الاغنية بحقه التي غنتها المرحومة هدى سلطان عام 1956 اثناء وجود يونس بحري في مصر 1955- 1956 ، متمنيا ان كانت هناك معلومات تؤكد الخبر ام تنفيه ! .ـ
ولقد نجح نوري السعيد – كما يبدو – من سحب يونس بحري من ترسانة الرئيس جمال عبد الناصر وشبكته الاعلامية ، فوصل يونس بحري الى العراق واحتفي به ، كما اتفق معه ان يكون مسؤولا في الرد على اذاعة صوت العرب من القاهرة .. وان ليس في العراق غير صوت يونس بحري واسلوبه كي يلقن عبد الناصر دروسا لا ينساها .. فوافق يونس .. دون ان يعلم ان القدر له ولكل النظام الملكي في العراق بالمرصاد .ـ
" سبعة اشهر في سجون قاسم "
حطّت الطائرة به في مطار بغداد يوم 13 تموز / يوليو 1958 ، وكان باستطاعته التخفي في اليوم التالي يوم 14 تموز عندما اطاح ضباط من الجيش بالنظام الملكي في العراق ، ولكن بعد ساعات قبض على صديقه اللبناني صلحي الطرابلسي الذي اعلم الجهات المسؤولة عن مكانه ، فاعتقل يونس بحري وكان ثاني المعتقلين بعد سعيد قزاز وزير الداخلية في الموقف العام ..ـ
بقي في السجن رقم واحد سبعة اشهر كاملة رفقة اركان النظام الملكي من رؤساء وزارات ووزراء وكبار القوم مثل غازي الداغستاني واحمد مختار بابان وتوفيق السويدي وفاضل الجمالي وبهجت العطية وبرهان الدين باش اعيان وغيرهم .. ويحكي قصتهم في كتاب صغير قرأته منذ عام 1977 في مكتبة مدرسة الدراسات الشرقية والافريقية بجامعة لندن ويصف عاداتهم واساليب تفكيرهم وما كانوا يتلقونه من الاهانات والشتائم .. وارتعاب بعضهم ويخص سعيد قزاز بأفضل الصفات كونه شجاعا ، واعلن عن تحمل مسؤوليته .. كما وكان يونس بحري يسليهم ويقضي حوائجهم ويؤمهم في الصلاة ويشغلهم بحكاياته وقصصه ومغامراته .. يحكي لهم عن زيجاته وعن علاقاته الغرامية والسياسية .. ومشهورة تلك القصة التي نادى المنادي عن ابي لؤي ، وسكت توفيق السويدي خوفا واجاب يونس بحري ، فكلاهما يكنى بابي لؤي ، فذهب يونس الى الخارج ليتسلم ظرفا فيه مائة دينار وسكائر ومأكولات مرسلة الى توفيق السويدي ابو لؤي .. فأخذها يونس بحري ، وتمتع بها وباع منها .. ولما علم توفيق السويدي بعد ذلك بأيام استشاط غيضا ، ولكنه لم يستطع ان يفعل شيئا ! ان هذا " الكتيب " الذي اعيد نشره مؤخرا ، لا يحمل العنوان نفسه ، ولقد نسخ مضمونه كاملا بقلم مؤلفه ، واعيد نشره باسم آخر - كما علمت - ! والكتيب يصف حالة السجن المركزي ببغداد عقب انقلاب 14 تموز / يوليو 1958 ، ويصف رجال العهد الملكي بأسلوب ادبي وصحفي ساخر وكيف كانت تصرفات رجالات الحكم على العهد الملكي وقد انتقلوا في لحظة تاريخية معينة من احوال العز والهيبة والمكانة العليا في المجتمع والدولة الى شخوص اذلاء في سجن انعدمت فيه ابسط وسائل الحياة الكريمة !ـ
كان يونس بحري قد عقد صداقة مع الحارس العريف رسن على باب السجن ، واقنعه ان يدبر انقلابا ضد النظام الجمهوري على غرار ما فعله العريف باتسيتا ، فصدق رسن وذهب ليحكي ما قاله له يونس بحري .. فوصل الخبر الى كل من الزعيم قاسم والعقيد عارف ، فاستدعاه الاخير الى مكتبه في وزارة الداخلية ، فما ان دخل يونس غرفة وزير الداخلية حتى بدأ ينظر الى المكتب وقد امتقع وجهه ، فخاطبه عبد السلام : لماذا تنظر للمكتب هكذا ؟ اجابه : هذا المكتب صنع منذ عهد رشيد عالي الكيلاني وكلّ من جلس عليه اما مات او نفى او طرد .. فقام عبد السلام فجأة من مكانه جزعا واجلس يونس وجلس معه وطلب منه ان يحدثه عن وزراء الداخلية السابقين ونسي الموضوع الذي استقدمه من اجله .. فبدأ يونس يلعب بالرجل بعد ان خبر عقليته حتى جاء رسول الى عبد السلام من اجل الاجتماع مع الزعيم .. ولما قام هش بالعصا ملاطفا يونس قائلا له : يا يونس كفى تحّرض ضدنا الجنود ! وفي محكمة المهداوي ، يحدثنا يونس انه التقى المهداوي فذكره الاخير انهما كانا يزقان معا عرق هب هب ايام الصعلكة .. وفي المحكمة نودي على يونس شاهدا على غازي الداغستاني بقضية التدخل في سوريا والتآمر عليها ، فقال يونس ما يعرفه وكان شجاعا ، ولكن من اطرف ما تبودل من كلام بينه وبين المهداوي ان الاخير سأله : لماذا تشتم جمال عبد الناصر ؟ اجابه : انني اشتم الجميع ، فكل من يعطيني فلوس ويطلب مني القيام بالمهمة فأقوم بها احسن قيام ! قال له : هل انت الحطيئة ؟ اجابه : حطيئة القرن العشرين ! لقد كان يونس بحري هو اول من اطلق صفة " الزعيم الاوحد " على عبد الكريم قاسم ، وهو اول من اطلق شعار " ماكو زعيم الا كريم " ! مما اثار بهجة الزعيم قاسم كثيرا .. وتلقفت جماهير العراق الصفة والشعار كي يتداولها الساسة والاعلاميون في الصحف والراديو والتلفزيون .. وترفع الجماهير ذلك الشعار في المظاهرات والمسيرات عبر شوارع كل العراق .. وكان ذلك ردا على الرئيس جمال عبد الناصر من قبل يونس بحري .ـ
كشك بحري
يخرج يونس بحري من السجن وهو يودع اصحاب المعالي الوزراء القدماء ويتركهم يتحسرون على ايامه معهم .. خرج بكفالة صديقه اللبناني صلحي الطرابلسي ، ولكن الى الاقامة الجبرية في فندق كراند الكائن في شارع ابو نؤاس .. من اشد المواقف التي احزنته حقا ما رواه على لسانه ان ضابط الشرطة استدعاه الى التحقيق في تقرير وصل الشرطة ، يصف صاحبه يونس بحري بأشنع الصفات ، الا وهي العمالة والتجسس لصالح الاجنبي وبالأخص للإنكليز ايام الحرب .. ويلوم السلطات انها افرجت عنه ، في حين كان عليها ان تعدمه .. يقول ، سلمني ضابط التحقيق التقرير لأقرأه بنفسي ، ولكن ليس الذي احزنني ذلك المضمون ابدا ، بل ان الذي احزنني ان الذي كتب التقرير هو احد ابنائي واسمه سعد ، وكان واحدا من الشيوعيين وقد انتمى الى المقاومة الشعبية ! فقلت لضابط التحقيق : اذا كان ولدي هذا قد ولد عام 1939 ، فكيف شهد انني كنت عميلا وجاسوسا ؟ ! فأرجعوه الى اقامته الجبرية في الفندق الذي كان نزلاؤه من ذوي الاقامة الجبرية ايضا وهم كبار رؤساء القبائل والعشائر في العراق .. لم يكن لديه فلسا واحدا ، فكانوا يدفعون له اجرة الاقامة ويأكل معهم على موائدهم العامرة صباحا وغداء وعشاء ما لذ وطاب .. ثم اقترح عليهم بعد ان عاشرهم منذ اللحظة الاولى ان يطبخ لهم الاكلات العالمية ، فكان يجمع منهم النقود لشراء اللحوم والخضار فينفق جزءا ويحتفظ لنفسه بالأجزاء الاخرى .. اغتاظ منه احد الشيوخ لأنه رآه يأكل بيده اليسرى فزمجر عليه . يقول : فتعلمت كيف هي اصول المشايخ العرب في آداب المائدة .. اطلق سراحه ، فراح يتسكع في شوارع بغداد ، حتى ابتاع من امانة العاصمة كشكا صغيرا اسماه " كشك بحري " لبيع البيف بارغر والهوت دوغ في الكرادة مقابل نادي العلوية ، فاقبل الناس عليه ، فكان ان سبقت تجربته ابو يونان في كشكه هو الاخر بسنين .. ثم انتقل يونس ليشارك في فتح مطعم يقدم مختلف المأكولات العالمية التي كان يجيد طهوها مثل الاكلات الهندية والصينية والكورية واليابانية والطواجين المغربية والاستيكات الاميركية والاكلات الايطالية والالمانية .. فاصبح قبلة للشخصيات البغدادية ، ومنهم الزعيم عبد الكريم قاسم ، وكان يقاضيه على الفلس الواحد .. ثم افتتح مطعم بوران .. وكانت يشتاق للسفر ولبيروت بالذات ، فتوسط وقبل الزعيم وساطته ، وذهب اليه يشكره بحضور المهداوي والشاعر محمد مهدي الجواهري وقاسم الطائي ، وسمح له بجواز سفر ومائة دينار شهريا يصرفها له عن طريق السفارة العراقية ببيروت شريطة الا يشتم الزعيم .. اي بمعنى شراء صوته .. فوافق يونس بحري .. وما ان حلقت به الطائرة حتى بدأ يغرّد كعادته وعلى سجيته اعذب الالحان ضد الزعيم واركان حكمه !ـ
" أغاريد ربيع "
في بيروت ، كتب في صحف عدة وقام بتأليف كتابه عن نظام الحكم في العراق وعن سبعة اشهر في سجون قاسم عام 1961 ، ومنعت كتبه من دخول العراق .. ولا نعرف هل قطعت المساعدة المادية ( 100 دينار ) ام لا لأن عبد الكريم كان يخشى ان يلحق يونس بحري بأحمد سعيد في اذاعة على غرار اذاعة صوت العرب ! وبدا للجميع ان يونس بحري كان ناقما على قاسم نقمة شديدة ، اذ بقي يونس بحري يمثل نزعة قومية عروبية ويقف بالضد من سياسة عبد الكريم قاسم .. علما بأن الرجل لم يكن يبقى على مبدأ سياسي ثابت ، ولكن يبدو ان نزعته بقيت قومية في اعماقه .. فما ان يحدث انقلاب 14 رمضان / 8 شباط فبراير 1963 من قبل البعثيين ضد حكم الزعيم عبد الكريم قاسم ، ويؤتى بالعقيد عبد السلام عارف ليكون رئيسا للجمهورية العراقية ويمنح رتبة مشير بعد اعدام قاسم ، حتى يؤلف يونس بحري كتابا كبيرا في ايام معدودة بعنوان : أغاريد ربيع : ثورة 14 رمضان المباركة يكيل المديح للرئيس الجديد عبد السلام عارف ، ويقدم على صوره وصور الانقلابيين ازهى التعليقات .. ويأتي الى العراق ، ولكن وجد ان بضاعته لم يعد لها اي مجال لا مع البعثيين ولا مع العارفيين بعد 18 تشرين .. وعاد الى بيروت وكان قد تجاوز الخامسة والستين من العمر ..ـ
يذهب الى الكويت ليعمل هناك .. ثم يذهب الى الامارات ليغدو مستشارا ويعتمده الشيخ زايد آل نهيان الذي اسس دولة جديدة ، فاصدر يونس بحري جريدة ابو ظبي بالإنكليزية .. عاد الى الكويت ، ومن ثم رجع الى بيروت وتزوج آخر زوجاته شهريار السورية .. يعود الى العراق لوحده ولا يملك شيئا من حطام الدنيا ، ولم يجد بيتا يستقبله ، ولا عائلة تحتضنه .. عاد في السبعينيات الى الموصل ، وعاش ضيفا على احد اقربائه السيد نزار محمد زكي الجبوري.. ثم عاد الى بغداد ليطبع بعض ذكرياته بكتاب عليه صورته مع هتلر كي يبيعه من اجل ان يعيش ، ولكن الحياة كانت قد تغيرت ، ولم يعد الناس يعرفون من يكون هذا العجوز الثرثار ، ويقال انه زار كلية الاداب بجامعة الموصل بعد ان طبع كتابه الاخير ، واهدى بعض النسخ منه الى بعض المسؤولين ، طالبا ان يلقي محاضرات على الطلبة عن تجربته التاريخية ، ولكنه لم يجد فيها من يسمع الى طلبه فرجع حاسرا خائبا ..ـ
كان لم يزل قوي الذاكرة ، وطويل اللسان وسريع النكتة .. وتوضح التسجيلات التي قام بها معه الاستاذ حسن خير الدين العمري وبمعية الدكتور محمد صديق الجليلي رحمهما الله ، كم كان يونس بحري قوي الملاحظة وسريع البديهة وحاضر النكتة .. ولكن كعادته كان يمزج الجد بالهزل .. ولكن ثمة امور وتساؤلات لم يجب عليها .. حاول نظام حكم احمد حسن البكر ان يستميله - على حد قوله – لتوظيفه اعلاميا ، لكنه أبى ورفض قائلا : لم أعد اشتغل بالسياسة التي اوصلتني الى ما انا عليه ! ( لقد نشرت بعض تلك التسجيلات من قبل الاخ الاستاذ معن عبد القادر آل زكر يا بعد ان افرغها على الورق، فحفظها للتاريخ في كتاب ، نشرت فصوله في جريدة الزمان اللندنية ).ـ
مات يونس بحري على قارعة الطريق في شارع السعدون ببغداد في آذار / مارس عام 1979 ، ودفنته امانة العاصمة ، فرحل الرجل من دون ان يعرفه أحد ، واختفت عن الحياة اسطورة الارض .ـ
مؤلفاته :ـ
أسرار 2/مايس/1941، أو الحرب العراقية الإنكليزية. (بغداد 1968) وكتاب تاريخ السودان. (القاهرة 1937) ، وكتاب تونس. (بيروت 1955) ، وكتاب ثورة 14 رمضان المبارك. (بيروت 1963) ، وكتاب الجامعة الإسلامية. (باريس 1948) ، وكتاب الجزائر. (بيروت 1956) ، وكتاب الحرب مع إسرائيل وحلفائها. (بيروت 1956) ، وكتاب دماء في المغرب العربي. (بيروت 1955) ، وكتاب سبعة أشهر في سجون بغداد. (بيروت 1960) ، وكتاب صوت الشباب في سبيل فلسطين الدامية والبلاد العربية المضامة. (1933) ، وكتاب العراق اليوم. (بيروت 1936) ، وكتاب العرب في أفريقيا. (بيروت) ، وكتاب العرب في المهجر. (بيروت 1964) ، وكتاب ليالي باريس. (باريس 1965) ، وكتاب ليبيا. (بيروت 1956) ، وكتاب محاكمة المهداوي. (بيروت 1961) ، وكتاب المغرب. (بيروت 1956) ، وكتاب موريتانيا الإسلامية. (بيروت 1961) ، وكتاب هنا برلين : حيّ العرب. (1 – 8 بيروت 1956) ، وكتاب هنا بغداد. (بغداد 1938) ، وكتاب وحدة أم اتّحاد ؟ 3 سنوات تخلق أقداراً جديدة : سورية – العراق – اليمن – الجزائر – الجمهورية العربية المتحدة. (بيروت 1963)
تحليل اسطورة عراقي حر
مواهب لاعب على كل الحبال
سواء قبلنا اسطورة الارض ام رفضناها ، فهي جزء من حياتنا وتكويننا العراقي المعاصر .. وقد غدت جزءا لا يتجزأ من تاريخنا المعاصر .. سواء قبلنا ايجابيات الرجل ام رفضنا سلبياته ، فليس من حقنا ان نغمط حقه ابدا تاريخيا ، اذ كانت ظاهرته هي الاستثناء ، وكان فلتة لا تتكرر ثانية .. وسأعرض لكم بعد قليل بعض الصور التاريخية عنه كما سمعتم قبل قليل اغنية ( من بحري وانحبوه ) للفنانة الراحلة هدى سلطان التي كان يونس على علاقة او صداقة معها ، ومع الراقصة جمالات .. انني اعتقد ان اسطورة كهذه ما كان هكذا حالها من الاهمال بعد رحيلها لو برزت وظهرت في اي مجتمع آخر .. كنا سنجد انها ستتحّول الى افلام سينمائية والى دراسات وبحوث معمقة وتجمع موجوداتها في متحف .. والى حقل تجارب كي تتعلم الاجيال منها الكثير .. فضلا عن كل هذا وذاك ، ومهما قيل عن يونس بحري ، ومهما كتب عنه حتى الان ، فان علينا ان نكون منصفين بحق كل العمالقة الذين انجبهم العراق في التاريخ الحديث مهما كان دينهم او معتقدهم السياسي .. وسواء كان سكيرا ام عاشقا ام مزواجا ام متلافا ام داعرا ام كاذبا ام اجيرا .. فهو المسؤول عن سيرته التي وجدناه فيها ايضا مغامرا وسائحا ورياضيا وسباحا دوليا ومحررا ومذيعا وفنانا ومؤلف كتب واديبا وممثلا وطبالا وطباخا ماهرا .. الخ ومن اهم خصاله انه لم يميز بين العراقيين على اساس دين او مذهب او عرق او لون او مكان .. كان عراقي الهوية وعروبي الانتماء .اما سياسيا ، فقد لعب على حبال الجميع بمهارة عالية وكان من امهر الراحلين .. ثم رحل !ـ
اللعب مع الكبار والصغار
ان هذه " الاسطورة " الموصلية التي انجبها العراق ، لم تحمل شهادات عليا ولم تدرس في معاهد عليا .. بل تمتعت بخصال ومواهب وملكات وقدرات .. لم نعرف عشر معشارها عند آخرين ممن يتنطعون ويستعرضون عضلاتهم الواهية باسم الناس .. كما ان يونس بحري بالذات لم يجد ، بالرغم من كل ما كتب عنه ، أي اناس يطبلون له ويزمرون .. كما ان الرجل ، كان الوحيد المسؤول عن تاريخه الشخصي بكل ما حفل به ، فقد كان يقول دوما " انا العراقي الوحيد الذي عاش حريته كاملة .. " ، اذ تمتع بحرية شخصية مطلقة ، وكانت له حرياته الفكرية والسياسية والاعلامية ليقول ما شاء له ان يقول .. واعتقد ان اهم خصلة تميز بها جاذبيته وسحر اللقاء معه ، اذ نجح في فرض شخصيته على ملوك وامراء ورؤساء وزعماء في مناطق مختلفة من العالم ، حتى جعله البعض مستشارا له : عبد العزيز آل السعود والامير فيصل آل السعود والامير عبد الله السالم الصباح والامام يحي حميد الدين والملك غازي الاول والملك فاروق والملك محمد الخامس والملك عبد الله بن الحسين والملك ادريس السنوسي ( الذي لا نعرف بالضبط متى جعله مستشارا له ) والمهاتما غاندي ورشيد عالي الكيلاني وادولف هتلر والدوتشي موسليني والجنرال ديغول والمارشال بيتان والمارشال باوليو الايطالي وامبراطور الحبشة وملك النيبال وملك تايلاند وسلاطين الملايو ومنهم الامير شكر عبد الرحمن وملك بورنيو السلطان محمد امين القادري ثم سلاطين زنجبار ومنهم حرب بن برغش وحرب بن تيمور الذي قابله في لندن وسلطان مسقط سعيد بن تيمور والد السلطان قابوس الذي يقول عنه انه كان زميلا له في دار المعلمين ببغداد والامير عبد الاله ونوري باشا السعيد وامام اليمن يحيى والرئيس جمال عبد الناصر والزعيم عبد الكريم قاسم والرئيس عبد السلام عارف وانور السادات والشيخ زايد بن سلطان آل نهيان وغيرهم . ويبدو لنا من خلال عدة قراءات في ادبيات ومصورات عراقية وعربية ان الرجل لم يكن مدعيا تلك العلاقات مع الزعماء والملوك والشيوخ والرؤساء والمسؤولين ، بل كانت هناك حقائق تاريخية تثبتها الوثائق المصورة .. وبدا ان الاجهزة العراقية السرية كانت تراقب حركاته واتصالاته سواء في العهد الملكي ( وخصوصا على ايام نوري باشا السعيد ) ، ام على العهد الجمهوري ( وخصوصا على عهد الزعيم عبد الكريم قاسم ) ، وثمة تقارير من سفارات عراقية في الخارج ، كانت ترسل الى المسؤولين العراقيين تخبرهم بأدواره السياسية ، وخصوصا ابان الحرب العالمية الثانية وحتى العام 1958 ، في بلدان عدة .. ومن ثم اثر خروجه من العراق بموافقة عبد الكريم قاسم ، وحتى العام 1963 . وبالرغم من تأليفه كتاب عن انقلاب 14 رمضان / 8 شباط / فبراير 1963 ، وكيله المديح للرئيس عبد السلام عارف والبعثيين ، الا ان اوراقه بدأت بالذبول .. ولما عاد الى العراق عند نهاية السبعينيات لم يعد له أي وزن بين المسؤولين البعثيين العراقيين الذين جاءوا للسلطة عام 1968 . وبالرغم من قوله ان البعثيين طلبوا منه تولّي أي منصب اعلامي ، ولكن الحقيقة ، انهم كانوا يكرهونه لمعرفتهم ان قوته الابداعية قد رحلت ، وان جيلا جديدا قد ظهر ، ولم يسمع باسمه .. نعم ، انه في شيخوخته ، لم يلق أي ترحيب من اوساط العراقيين كلهم ، باستثناء بعض الاصدقاء القدماء والمعجبين به في مدينته الموصل .. وبقي يردد : لي عدة صنائع والبخت ضائع ! وبقي في مدينته الموصل التي تركها شابا يافعا .. وغدا اسما كبيرا في العالم ، ثم عاد اليها ، فلم يجد من يذكره الا القليل من الناس .. وفي بغداد التي كان يزورها بين حين وآخر ، لفظ انفاسه الاخيرة وحيدا ليدفن فيها ، بعد حياة حافلة بكل البدائل والوقائع والاحداث .ـ
كازانوفا الشرق : صعلوك من وزن ثقيل
خصاله وسايكلوجيته
لم يتندم على شيء في حياته ابدا ، وكان باستطاعته ان يكون مليارديرا ، ولم يفعل .. كان مبذرا من الطراز الاول وكان يعتبر نفسه اكبر من كل الناصحين . سئل مرة : يقال ان يمنح الانسان ساعة لربه وساعة لقلبه . فما رأيك ؟ اجاب : انني لا اؤمن بذلك . انا أؤمن بأن الانسان عليه ان يعمل لساعات حتى ينجز عمله على اكمل وجه ، ثم يتفرغ لنفسه ليتمتع ! ويكاد يجمع كل من عرفه حق المعرفة من اصدقاء له عراقيين ولبنانيين ومصريين وفلسطينيين وغيرهم ان يونس بحري كان جديا في عمله ، يشغل نفسه الساعات الطوال من اجل اكماله على افضل وجه .. وانه كان صاحب مزاج عالي .. صحيح انه كان سكيرا ، ولكنه لم يشاهد يوما انه قد غاب عن الوعي او خربط !ـ
كان يعشق النساء عشقا لا حدود له ، مستغلا امكاناته السايكلوجية وقابلياته في جذبهن اليه ! كان مزواجا ، وقد تزوج بالعشرات من النساء ، وقال : كنت اتزوج بنسوة من الاغنياء حتى لا يطالبنني بنفقة بعد ان انفصل عنهن ! عاشر حسناوات برلين بشكل خاص ، ويتحدث عن رقم 400 من النسوة الالمانيات بارعات الجمال اللواتي كّن سيدات مجتمع برلين ، وهو يعرفهن كلهن حق المعرفة ، واغلبهن كانت ازواجهن في جبهات القتال ابان الحرب ، وكنّ يكتبن اسماءهن وعناوينهن وارقام تلفوناتهن بقلمه الحبر الذهبي في دفتر عناوينه .. واعذروني ان لا اقدم تفاصيل علاقاته الخاصة معهن امامكم الان ! يروي عبدالسلام العجيلي بعضا من حكاياته قائلا : " إن يونس بحري تزوج ثمانين مرة، وأبناؤه وبناته منتشرون في مشارق الأرض ومغاربها ولا سبيل لإحصائهم، لكن عددهم يتجاوز المئة قطعا، لقد أمضى هذا الرجل حياة مثيرة وحافلة تشبه الأسطورة حتى إنه تفوق فيها زواجا وتجوالا على الرحالة العربي ابن بطوطة، ففي كل بلد زاره له فيه زوجة ورهط من البنين والبنات، وأول زوجاته 'شيرين' وهي عراقية تركية الأصل، وآخرهن 'شهرزاد السورية الاصل" · وثمة معلومة وردت في ذكريات عبد السلام العجيلي وودت تصويبها .. قال في كتابه "حفنة من الذكريات" و في أوائل الخمسينات التقيت في باريس بالآنسة هناء، وهي فتاة عراقية كانت تعمل مذيعة في القسم العربي في إذاعة باريس، وعندما سألتني عن أخباري في باريس، رويت لها بعض الطرائف التي حصلت وأنا في صحبة يونس بحري الذي كان يقيم آنذاك في باريس، ويصدر فيها مجلة "العرب"، وبمجرد ما جاء ذكر يونس بحري على لساني رأيتها تخرج من هدوئها المعتاد وتقول: هذا إنسان فاجر لا تليق بك صحبته، لا أنت منه ولا هو منك، أي شيء يجمع بينك وبين هذا الصعلوك الأفاق حتى ترافقه، أو حتى تبادله الحديث؟ ويقول د· عبدالسلام: وفي أحد الأيام التقيت بزميل يونس بحري، فأخبرني أن هناء هي أم لؤي يونس بحري بمعنى أنها واحدة من زوجاته وإحدى طليقاته، لذلك نعتته بالفاجر والصعلوك والأفاق، ويقينا إني ما نفيت يوما هذه الصفات عن يونس بحري، ولا كان هو نفسه ينفي عن نفسه تلك الصفات " . للتصويب ، فان زوجة يونس بحري الاولى اسمها مديحة وهي من الموصل ، ولا يعرف انها كانت مذيعة في باريس ، وربما كانت هناء المذيعة زوجة اخرى ليونس بحري !ـ
سندباد بحري متعدد الصنائع
تمتع الرجل بأسلوب بسيط وممتنع في الكتابة .. وكان في حديثه يستشهد دوما بأقوال ومأثورات ونصوص وآيات واشعار واسماء لما كان يحفظه على ظهر قلبه جراء ثقافته التكوينية الاولى .. وبالرغم من كل ما اتبعه من ميكافيلية وديماغوجية ومناورات ، وما مارسه من اطلاق شتائم مقذعة واساليب ردح قميئة وعبارات جارحة في العمق .. وما اتبعه من سياسات منافقة واكاذيب وتلفيقات .. الا انه بقي يحب وطنه ويعشق مدينته .. كان يحب رفع العلم العراقي ، وكان يكره المحتل الاجنبي .. وكان يقول ما يعتقد به بلا زيف او نفاق ، وبلا اية مواربات او لف او دوران .. كان بسيطا في حياته ومتواضعا في معاملاته ويتأثر بالمواقف الصعبة .. كان يتعامل مع الاخرين على اساس المصلحة المشتركة ، لا على اي اساس آخر ، فهو لم يكن انانيا ولم يكن معقدا نفسيا ولم يحمل اية احقاد ضد من يشتمهم مثلا . وعليه ، فهو يصلح لأن يكون سياسيا ماهرا ومحنكا ، واعلاميا متوهجا ومتمكنا .. واعتقد ان ما ورثه من جيل المثقفين الاوائل في الموصل ومن مواريثه الاولى نزعته العروبية الساخنة .. اذ بقي ملتصقا بها التصاقا كبيرا ..ـ
لقد وصفته في كتابي " زعماء ومثقفون : ذاكرة مؤرخ " انه : صاحب شخصية نادرة مثل يونس بحري ما كان له الطبع ولا الرغبة في ان يقضي وقته مع عائلته، فهو صاحب نفسية قلقة مهاجرة وسايكلوجية غير مستقرة لا تهجع ابدا .. انه انسان لا يريد ان يهجع في مكان واحد، ولا يتعامل مع شريكة واحدة في حياته المضطربة ولم يألف ان يبقى رب عائلة.. بل ولم يكن يصلح زوجا عاديا.. فهو انسان غير عادي ! نعم ، انه انسان استثناء بسايكلوجيته وتصرفاته .. وحدة ذكائه وقابلياته وادبه وكتاباته ، فهو قادر على ان يكون شخصية قيادية له كاريزما ساحرة في لحظة تاريخية معينة ، وتنقلب تلك الشخصية الى نقيضها تماما .. ليكون شخصية تافهة وتابعة وموالية .. او تجد فيه شخصية محتالة مواربة نفعية تعرف كيف تلعب لعبتها بالأخرين .. لا تعرف الا مصلحتها ولا تعرف الا كيف تأكل على هذه المائدة او تلك !! او تجدها شخصية براغماتية الان وتجدها رومانسية حالمة بعد قليل .. او تجدها شخصية واقعية لها مصداقيتها ، وفجأة تجد امامك شخصية لها خوارقها التي قد لا يصدق بعضها ابدا ! ان مثل هذه الشخصية تتمتع بأحاسيس نادرة الوجود ، فهي تعرف نفسها تمام المعرفة ، وتنظر الى الاخرين جميعا من دونها ، ولكن من منظار خفي .. فهي تلعب مع الجميع ، ولكنها تجيد فن اللعب بهم جميعا من دون ان يلعب بها احد .. وهب لا تستقر في مكان واحد .. ولا تتعامل مع عنصر واحد .. ولا تتحرك في زمن واحد .. ان حراكها يمضي حيثما تريد ، وتتعامل مع من تريد .. لا تلوم نفسها ، ولا تعتب على الاخرين .. لقد تكونت في بيئة الموصل ام الربيعين ، متنوعة الثقافات والالوان الاجتماعية ، وتثقفت على نحو قوي في جيل انجب نخبة من ابرز المثقفين والساسة والادباء والصحافيين والمدراء والقضاة والعلماء والوزراء والمؤرخين والفنانين المبدعين والاساتذة والضباط العراقيين على امتداد القرن العشرين .. واكتسبت دربتها من تعاملها مع تجارب لا تحصى ..ـ
وأخيرا : دعوة لاستكشاف اسراره
اقول ، بالرغم من كل ما كتب عن الرجل ، فان سيرة يونس بحري بحاجة ماسة للكثير من الدراسة والتحقيق والفحص والتدقيق .. والتأكد من المعلومات الغريبة التي وردت في سيرته ، اذ اكتشفت ان ثمة اكاذيب نسجت من حوله ، علما بأن هناك حقائق لا نهاية لها ، كان هو نفسه قد نسيها بعد ان تعاقبت عليه العهود والاعوام بكل مفارقاتها .. وان هناك جملة اسرار لم يكشف عنها حتى اليوم ، وخصوصا في الاماكن والبيئات والبلدان التي عاش فيها سواء في شرق العالم ام في غربه .. وان ما نعرفه عن اسطورة الارض ، اقل بكثير مما حصل في حياته .. ولا يمكن لأي باحث او مؤرخ او محقق ان يكتفي بما للرجل وما عليه .. ان مؤلفاته تعد مصادر اساسية لسيرته ، كما ان البحث العلمي يقتضي دراسة ما يتوفر من وثائق اجنبية عنه في الدوائر الالمانية والبريطانية والفرنسية .. دعوني اقول : ان هكذا شخصية استثنائية بكل ما لها وما عليها ، لو وجدت في أي مجتمع آخر غير العراق ، لمنحت الكثير من الاهتمام والدرس والاعجاب ، ولكن هناك اسباب ودوافع وعوامل وتداعيات جعلته منسيا ومغبونا ومكروها ، بل وتجاهله كل من الدولة والمجتمع العراقيين .. وهي اسباب معروفة لكل من يشعر بأن حيفا قد لحقه من ابناء جلدته العراقيين ، ذلك ان عددا من المتميزين العراقيين اساتذة ومثقفين وادباء عراقيين انتهت حياتهم نهايات صعبة ، بل وانهم مذ رحلوا عن الدنيا في ازمان مختلفة وحتى اليوم لم يجدوا من يذكرهم او يهتم بهم وبأعمالهم مهما كانت طبيعة تلك الاعمال .. ان عوامل سايكلوجية واجتماعية عراقية تقف وراء ذلك قبل ان تكون سياسية وايديولوجية .. عوامل تتصل بمنابت الناس وانتماءاتهم واروماتهم واديانهم وانحداراتهم وبيئاتهم العراقية .. فترفع اسماء الى الذرى ، ويعتم على اسماء اخرى من دون حق .. ويا للأسف الشديد .ـ
دعوني اعرض عليكم الان بعض الصور النادرة والتاريخية لأسطورة الارض . اشكركم جدا على حسن اصغائكم ، وان يتاح المجال ثانية لأتكلم عن اسطورة عراقية اخرى .. وتصبحون على خير .ـ
ـ ( شاهد الآن : الصور النادرة والتاريخية لأسطورة الارض )ـ
ملاحظات على النص
اود القول من باب الامانة ان عددا من الكتاب والمؤلفين والمهتمين قد اعتنى بتاريخ يونس بحري وسيرته المثقلة بالاحداث والوقائع والمواقف والصور والتسجيلات والمقابلات .. ولابد لي ان اذكر في مقدمتهم كل من الاساتذة : د. محمد صديق الجليلي حسن خير الدين العمري ومعن عبد القادر آل زكريا وسمير عبد الله الصائغ ونزار محمد زكي الجبوري ، وولده الفنان د. سعدي يونس بحري ، ومحمد سعيد الطريحي ، وعبد السلام العجيلي ، وعبد الرحمن الشبيلي ، ووديع فلسطين ، وسمير عطا الله ، ويوسف صلاح الدين ، وقاسم الخطاط ، وعمر الطالب ، وطلال معروف نجم ، وخالد العاني ( اعاد نشر كتاب يونس بحري " سبعة اشهر في سجن .. " تحت عنوان آخر : مذكرات الرحالة يونس بحرى فى سجن ابو غريب مع رجال العهد الملكي في العراق بعد مجزرة قصر الرحاب 1958 ) ، وياسين الحسيني ، وجمال زويد وغيرهم كثير من الكتاب العراقيين والعرب .. كما تداول العديد من المواقع الالكترونية المزيد من النقولات عن اخبار يونس بحري وطرائفه وحياته المثيرة ..ـ
تنشر خصيصا ضمن سلسلة كتاب سيار الجميل ( حقيبة ذكريات ) ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
-------------------------------------
نشرت في بيت الموصل في 28-7-2013
عودة الى الصفحة الرئيسة