صالح الياس
يؤم محطة قطار الموصل مسافرون عرب وأجانب من كل حدب وصوب، يستقلون القطار السياحي في رحلات شبه يومية تنطلق من بغداد إلى برلين مرورا بالموصل فعشرات المدن الأخرى.
ويقيم في فندق المحطة بين الفينة والفينة شخصيات رسمية رفيعة المستوى، كما يتحول خلال احتفالات الربيع والمهرجانات (كمهرجان ابي تمام الشعري) إلى ملتقى لفنانين وأدباء عرب من أمثال المطربة اللبنانية الشهيرة صباح والشاعر السوري الكبير نزار قباني والمطرب المصري محمد رشدي ... كان هذا قبل ما يزيد عن اربعة عقود خلت.
اما اليوم، آلت المحطة خربة تصفر فيها الريح بدل القاطرات، فالبناية خاوية على عروشها مذ أصابها انفجار شاحنة مفخخة بأضرار بالغة عام 2009، بينما توقفت رحلات السفر قبل الحادث بأربع سنوات نتيجة إهمال وزارة النقل العراقية لها، والمحصلة لا اثر للحياة فيها سوى نباح تتفضل به كلاب سائبة اتخذت البناية التراثية مأوى لها بلا منازع.
هناك، بعيدا عن الأنظار، في حجيرة تجاور معمل الصيانة حيث تجثو قاطرات وعربات هرمة، يقضي احمد جاسم (68 عاما) جل نهاره مستعينا على الملل بقدح شاي داكن، متأملا دخان سيجارته الذي يذكره بأول سحابة بيضاء تصاعدت من قطاره البخاري قبل 43 عاما، لتؤرخ عيد ميلاده المهني كأقدم سائق قطار في الموصل وربما في العراق كله.
مشاهد الدمار والإهمال لم تستثنِ شيئا، فأغلب القطارات تسير كبطة متمايلة على سكة يتيمة يتعدى عمرها سبعة عقود، ويقتصر عملها على نقل البضائع، بينما لم تعد تصلح عربات المسافرين سوى قـن للدجاج، اما رصيف الانتظار فانه يغص بذرق الطيور والاتربة بعد ان خلا من حقائب المنتظرين وأمتعتهم.
في ظل هذه المأساة وخيبة الأمل لا يجد السائق الأقدم وزملاؤه المضارعون له شيئا يواسون به أنفسهم خيرا من 3 قاطرات ألمانية صنعتها شركة قاطرات المانية صنعتها شركة Henschel عام 1983، هي الأحسن حالا، وما زال لهم أن يتباهوا بها أمام الزائرين، ويتمنوا لو أقدمت وزارة النقل على استيراد اخريات حديثات، بعدما كسبت ثقتهم بقوتها وخفة حركتها ومطاولتها.
آمال موظفي السكك والأهالي عامة انتعشت اثر أعلان حكومة نينوى عزمها استئناف عمل قطار المسافرين بين مدينة الموصل وبلدات قريبة منها، وقطعت وعدا بأن تتحمل كلفة تأهيل عربات النقل والمستلزمات الضرورية الاخرى.
وفي اول خطوة على الطريق، وضعت الحكومة بالاشتراك مع دائرة سكك الحديد خطة أولية لتسيير رحلات يومية بين موصل – ربيعة (108 كم)، وموصل-قيارة (60 كم)، بانتظار موافقة وزارة النقل للمباشرة بالتنفيذ، لكن يبدو ان تدهور الوضع الأمني من جديد لن يسمح بذلك حاليا.
التحرك الأهم يتمثل في تخصيص الحكومة المحلية 9 مليار دينار عراقي لإعادة بناء المحطة ومرافقها، مع الأخذ بعين الاعتبار الحفاظ على التصميم القديم لما له من بعد تراثي ووقع حسن في نفوس أبناء المدينة.
الى ان ينفذ المشروع، نعزي انفسنا فيما حل بمحطة القطار، بحكايات دونها المهتمون بتاريخ الموصل، الى جانب ما تحفظه لنا ذاكرة الجيل الشاهد على عصرها الذهبي، ولعل ابرزهم السائق المخضرم احمد جسام الذي حدثني ذات يوم في حجيرته تلك، قائلا:
في سبعينات القرن الماضي، كنت وزملائي جالسين بغرفة مخصصة لنا، عندما جاءنا احد موظفي فندق المحطة ليبلغنا ان نكف عن اطلاق صافرات القاطرات؛ وهو ما نفعله حسب مقتضيات العمل، ولما سألناه عن السبب، اجاب: الست صباح (الملقبة بالشحرورة) تريد ان تنام، فقد جاءت الى الموصل لتغني في احتفالات عيد الربيع.
المقال منشور في مجلة (انا العراق) الألمانية الورقية التي تصدر بثلاث لغات – عربي ، إنكليزي ، الماني
للعودة إلى الصفحة الرئيسة.