صالح الياس
بغداد 25-12-2013
في مدينة الموصل، ثمة من يحكي لهجة موصلية قح مع عائلته وما ان يغادر منزله حتى يقلب موجة لسانه الى اخرى اقرب الى اللهجة القروية، فلماذا يفعلون ذلك يا ترى؟
هذا التساؤل احد الهواجس التي تراود الموصليين ممن باتوا يستشعرون خطرا يهدد خصوصيتهم بسبب التغييرات السريعة، السياسية والديموغرافية والاجتماعية والثقافية، عقب تغيير النظام السياسي العراقي منذ 2003.
ويدور خلف الابواب جدل عن هذه التحولات وتأثيرها على هوية المدينة، في ظل هجرة مستمرة من الريف جراء الجفاف والتصحر والظرف الامني في بعض المناطق خاصة قضاء تلعفر ذي الاغلبية التركمانية، والنتيجة ان عدد سكان الموصل ارتفع من 900 الف نسمة تقريبا الى اكثر من مليون ونصف المليون حسب اخر احصائية رسمية (2009). ويزيد الطين بلة نزوح أعداد كبيرة من المسيحيين الموصليين عن المدينة.
بين جدران غرفته المكسوة بلوحات خطتها يداه بمهارة عالية، يستقبل الخطاط العراقي الشهير يوسف ذنون (80 عاما) في منزله بالموصل مثقفين من شتى التخصصات ، ومنهم المهتمون باللهجة "المصلاوية" ؛ اذ انه احد المتبحرين فيها.
وجوابا على تساؤلات الباحث سعود الجليلي، يوضح ذنون ان جذور "المصلاوية" تعود الى قبيلة بني تميم العربية التي استوطنت العراق منذ القدم وسادت لهجتها مدنه ، إلا ان الموصل وحدها التي مازالت متمسكة بها.
غير بعيد من هنا ، كان الضيق باديا على الشاب حمزة الفخري وهو يشكو حال المدينة لبعض زملائه في ثانوية المتميزين بلكنة موصلية رنانة : "كأننا غرباء فيها ؛ حيثما ولينا وجوهنا هناك قرويون، سائق التكسي والبقال والشرطي ...، لسنا ضدهم ولا نكن لهم اية عداوة او كره انهم اهلنا، لكنهم يسيطرون على كل شيء".
يضيف بانفعال: انا اتحدث بلسانهم مادمت خارج البيت لأنني اشعر أن (المصلاوي) صار مستضعفا في عقر داره ، وكثيرون يفعلون مثلي خجلا ودرءا للانتقادات.
هنا تقدم احد الزملاء فقال: صحيح ما تقول البعض يرى ان هذه اللهجة مفرطة في "الميوعة" بالتالي هي تناسب النساء اكثر من الرجال، ويعتقدون اننا نتحدث بها للتعالى على الغير والتميز عنهم او للانتقاص من لهجتهم، سمعت هذا من اصدقاء لي، يوضح .
هذه السجالات "الباردة" ليست حكرا على هؤلاء الشباب انما يتردد صداها بقوة في مجالس المثقفين ايضا، فسعود الجليلي يقر بوجود حساسية بين القرويين الوافدين وأبناء المدينة وهي جلية على اللسان قبل اي شيء ثانٍ ، لذا هو يسأل الخطاط يوسف ذنون عن احتمال اندثار "المصلاوية" بعد كذا عقد من الزمان؟
بابتسامة محفوفة بهدوء تام يجيب ذنون: انها اقرب اللهجات الى اللغة العربية الفصحى، قالها من قبل الشاعر العراقي المعروف وعالم اللغة مصطفى جمال الدين (توفي سنة 1995) ، كما انها تمتلك مقومات اللغة حتى ان هنالك محاولات بسيطة لوضع قواعدها.
بالنتيجة هي لهجة حية لا خوف عليها ابدا من الاندثار، يكمل.
ومن رحم هذا الجدل والتوجس وربما الصراع "البارد" بين الريف والمدينة، يبرز الاعلامي الموصلي واثق الغضنفري الذي سطع نجمه في الموصل خلال فترة قياسية.
هذا الرجل بدأ قبل خمس سنين بتقديم اول برنامج تلفزيوني باللهجة العامية لاهل الموصل عبر احدى الفضائيات المحلية، وهو اليوم من اكثر البرامج متابعة.
ويعلل الغضنفري سبب "مجازفته" في خوض تجربة اعلامية فريدة من ناحية اسلوب التقديم ، بخوفه من الانحسار الواضح للسان المدينة الاصيل ، نتيجة انتشار اللهجات الوافدة التي صارت اليوم صاحبة الغلبة.
انهى الغضنفري اتصالا ورده من رجل يستفسر عن موضوع الحلقة المقبلة، ثم واصل ما بداه: في بداية البرنامج وجهت لي انتقادات كثيرة لان البعض لم يفهموا اغلب ما اقول ، لكن اليوم اجد تفاعلا كبيرا واهتماما واسعا خاصة من لدن الموصليين هنا وفي البلدان الاخرى.
نعم، فيما كان جليسو الخطاط يوسف ذنون يتبادلون اطراف الحديث عرجوا على ذكر برنامج (عالموصل دنحكي) بارتياح ورضى كبيرين، وهنا تحول الحديث الى الاستاذ اكرم خطاب عمر وهو عميد متقاعد في الجيش، فاخذ يعدد مميزات "المصلاوية" قائلا: لهجتنا سماعية اي ليست لها قاعدة محددة ، مثلا معروف عنها قلب الراء الى غين ولكن في مواضع محددة، مثلا نقول (قمغ) ولا نقول (بدغ) بل بدر، وهكذا.
الجهاز الصوتي لدينا متكامل بفضل لهجتنا التي توظف كل ادوات النطق وهذا يسهل علينا تعلم اللهجات الاخرى ، بينما يصعب جدا ان يتقن الاخرون التحدث بلساننا لان هذا امر يحسم في فترة الطفولة، الكلام ما زال لعمر.
ويرى عمر ان اللهجة تشكل الان هوية المجتمع الموصلي الى جانب العادات والتقاليد والمطبخ الموصلي، ولا يجد اي مبرر للخوف عليها اذ يفسر عزوف بعض ابناء المدينة عن التكلم بلهجتهم لان الاخرين لا يفهموها ، بالتالي هم يخاطبونهم بما يفهمون مجاملة لا خجلا.
"دائما الموصل تحوي الاخرين وتصهرهم ولا تخاف على لهجتها وهويتها"، يختم بثقة لا شك فيها.
تملل سعود الجليلي بعد ما زُرق بجرعة معنوية ، وبيّن انه في الجانب الاخر يوجد كثير من الوافدين يحاولون بدورهم التحدث بلسان الحضريين ليؤكدوا انتمائهم للمدينة وهذا ينطبق اساسا على المثقفين والمتعلمين وغيرهم.
ويلفت ايضا الى ان النساء افضل من يحافظ على "المصلاوية" طالما انهن يتكفلن بتعليمها للاطفال جيلا بعد جيل.
تجمد الشاب حمزة الفخري امام التلفاز ومن حوله عائلته يتابعون احدى حلقات برنامج (عالموصل دنحكي)، علا صوت المقدم واحمر وجهه وهو يخاطب الموصليين: لغتكم هويتكم لا تخجلوا منها (...) .
ختم الغضنفري حلقته تلك بمثل شعبي قديم كالمعتاد، هذه المرة كان مثلا لطالما رددته جدته الراحلة، قلد لكنتها بتمكن: (وكلنا عدكم جينا ولو البقال قغيب كان اشتغيتو حقه زبيب).
ملاحظة: المقال مرسل من قبل الكاتب، ومنشور في موقع نقاش الألماني باللغة الالمانية و الانكليزية :
http://www.niqash.org/articles/?id=3248&lang=ar
***
عودة الى الصفحة الرئيسة