ـ قصة قصيرة.....أحزان جُحّا
ـ أنور عبد العزيز
أنا جحا.. تعرفونني.. كنت ضحكة الناس وفرح الدنيا وترف الحضارة.. أبهجت وملأت القلوب مسّرات ولم أخسر شيئاً.. ضيعتم حتى نسبي وتركتموني أسما نكرة في التاريخ.. مرة عراقي أو عربي أو تركي أو فارسي وروسي.. أوصلتموني حتى للهند والصين.. ومادمتم قد وزعتموني على أرجاء الدنيا فسأقول لكم: إنني جحا العربي وأنا الخواجة ملاّ نصر الدين التركي.. أنا آغا نصر الدين الفارسي وجوحي في إيران أنا جحا أرمينيا وأنا جحا البلغاري.. جحا الكردي.. أنا جحا الروسي من قازان بلد تولستوي.. كان يحبني ويحييني ويبش في وجهي رغم كبريائه ووقاره.. أنا من قال عني غوركي: أنت قصّة أليمة تكشفها ضحكات جريح.. كان تشيخوف يستوقفني وهو على دراجته المعطوبة صاعداً في دروب الثلج والبرد والطين ليزور مريضة يائسة خمد أملها وما بقي لها غير وعد وانتظار لزيارته حتى يتوقف.. يحييني بطيبة تشيخوف وألفته ويهمس لي: ما أسمعه ويصلني من طرائفك ومواقفك يؤكد لي أنك واحد منا – معشر الأدباء والفنانين – سلبته العامة مواهبه لتحيله بأكاذيبها ومبالغاتها ومخيلتها المريضة (لقراقوز) ليس غير...ـ
وهكذا هي أحكامهم سريعة فارغة في كل زمان ومكان.. أنا جحا البغدادي ربيب زهو بغداد وأبهتها.. أنا ابن الموصل والبصرة والكوفة.. أنا جحا كل موطن ومكان في خراسان وأصفهان وتبريز.. تجدني في دروب وطرقات سمرقند وبخارى ونيسابور في مرابع جبال طوروس وأسطنبول وديار بكر وفي ( سعرت ) طاب لي العيش بصحبة الختانين واستأنست بثرثرات الحلاقين حتى قال الناس : جحا احب الحلاقين لثرثراتهم وقد رأى فيها متنفساً لصمته الازلي العميق تجاه ما يشهده من غرائب الاحوال وجنون العقلاء .. أنا واحد وأنا كل هؤلاء.. ما غبت عن الصين.. أنا جحا الصيني عاصرت بوذا وسمعت عن كونقوشيوس ومن هناك كانت تصلني أخبار أخي البغدادي والفارسي والتركي والكردي ومن كل جحا.. وأنا في الهند كنت عدواً للمهراجات وألاعيبهم الدنيئة وظلمهم وسخرياتهم تجاه عبيدهم وخدمهم.. ما غاب وجهي في فاس ومكناس وغرناطة وأشبيلية.. كنت لهم الضاحك والمضحك.. أنا بائع النوادر الذهبية لمن لم يروا ذهباً ولم ترن قطعة نقود في جيوبهم الممسوحة.. أدمعت عيونهم ضحكات رنانة من القلوب.. كلماتي الضاحكة أشرقت بها كل وجوه البيض والسود والسمر حتى الزرق.. حتى عند قبائل الفايكونغ الهمجية المتوحشة التي تحضّرت وصارت بلداً يسمونه (السويد).. حتى هؤلاء نبع فيهم جحا مسالم وديع دعاهم لنبذ روح الشر والكراهية والتقاتل.. لم يخف ولم يخشَ رماحهم وسيوفهم المسمومة وخشونتهم القاهرة المدمرة، فأخبر عنهم وبمخفيات القول والتنبيه والكشف ما فضح سيرتهم العدوانية.. حدث مثل ذلك مع الهنود الحمر في أمريكا وفي أفريقيا لم تخل أية غابة مظلمة وبخصوصية قبائل الزولو وأشباهها من جحا يسرح مع العراة ويكشف عريهم المادي والروحي وشروخ أمخاخهم التي خلقت لهم وأوهمتهم بألف إله متمثل بهيئة طير جارح أو ضفدع أو تمساح أو شجرة معمرة أو كوكبة من نجوم أو نهر غاضب أو جبل عاصف بالريح والثلوج أو كهف مسحور حتى بلغت عبادتهم للرمز الأنثوي.. كل هذه الآلهة وغيرها كثير حتى للأفاعي والنمل والبوم وروح الجد الكبير وقرون الأيائل والنار والخنازير والخفاش.. رسموا رموزها حفراً وتلويناً في أعماق الكهوف، احتفلوا لها برقصات وحشية صاخبة جنونية تتحرك وتلتمع ظلالها من خلل النيران والدخان وبأقنعة اختلطت فيها واضطربت وتاهت نظراتهم لمعاني الوجود بأسرارها الخفية المخبوءة، ومع قرون الثيران إذ رأوا فيها رموزاً لقوة قاهرة ضعفوا أمامها ولم يجدوا غير عنف الرقص وحركات الجنون تقرّباً من أرواحها ودفعاً لشرورها وسحرها وأذاها...ـ
حتى شيوخ العمر منهم ومع كل تجاربهم مع الحياة ومخاضاتها شكلوا أساساً راسخاً لممارسة هذه الطقوس السحرية التي لم تترك وتخلّف لهم غير الفقر والجوع والأمراض والهزائم أمام المعتدين والطامعين في ثرواتهم التي يجهلون وجودها وقيمتها ككنوز من هدايا الأرض والطبيعة وهم مشغولون وعبر قناعات سقيمة أن إهمالهم لطوطم خنزير معبود أو روح أفعى غاضبة عليهم هو سبب ما لحق بهم من كوارث أمام المستعمرين الغزاة من البيض، وأن أمراضهم لا شفاء لها ولا علاج إلا في ضجيج الرقص والأدخنة ومع أقنعة الوجه السحرية والأدخنة السوداء الخانقة لطرد الأرواح الشريرة ليس من أكواخهم المتهرئة بل ومن كل الغابة وما فيها لنفس من بشر وماء وطير وحيوان وشجرة..ـ
جحا الغابات هذا أو جحا الأفريقي كان واعياً وحذراً في نقداته وكشفه لضحالة عقولهم، فهو ما كان أبداً يلجأ لكشف عراء سذاجتهم، فيلتجئ لإشارات تفهمها القلة النادرة.. كان يكتفي بهذا خشية من بطش رماحهم الدموية وحفلات النيران الراقصة التي يشوون بها معارضيهم ممن تجرأوا على الطعن والسخرية بقناعات معتقداتهم وطقوسهم الأسطورية السحرية.. هم كانوا البلهاء المخدوعين.. ما كنت لهم باصرة تنأى بهم عن المرئيات الظاهرة الخادعة، وما استطاعت بصيرتهم أن تنفذ عمقاً لدوافع مستورة, فضباب الرؤية والرؤيا أعمى أعينهم فلم يروا شيئاً وما كسبوا من كل حياتهم غير عناد قناعات مضحكة قد يرفضها حتى الأطفال، ولكنها تواصلت عندهم قدراً مميتاً، لذا كم كان سهلاً على الغزاة من الأجانب تدميرهم وسحق ومحو تاريخهم وحتى من ذكريات عالمهم ووجودهم الأسطوري.ـ
أنا جحا أبن كل العصور.. غيري كثيرون.. وكلنا واحد.. هو هو ما نفعله ونقوله ونتندر به ونتحسسه بسهولة ونحن نرى ونتأمل الوعي القاصر لبني البشر وبلاهتهم، لذا انتقموا منا ووصمونا بما فيهم هم من بلاهة وسطحية وسذاجة وخلو العقول من المعاني الصالحة لعيشهم وحياتهم وكانوا هم النشاز على هذه الأرض بغفلتهم المقصودة وليست المصطنعة عن الصدق والعدل والمحبة وخير البشر...ـ
مرتّ عليّ عصور.. نخرني ونخلني الدود وأحالني لتراب هش.. ضاع حتى قبري في تيه المقابر وأعاصير الزمان.. ورغم حالة الصمت والذهول والعماء لهذا التراب، فقد تحسست روحي أن أزماناً تتابعت بعدي صارت تسمي من كان مثلي بالمبدع.. أأكون مبدعاً وما كانوا يرون فيما أفعله أو أقوله غير بلاهات قد تضحك الآخرين، لكنها لا تعني أي شيء عندهم.. ما كان يسليني ويفرحني أن حفنة من الصعاليك ومن منبوذي الأرض ومن التائهين الحائرين بدنياهم.. تلك الحفنة فقط هي من استمع إليَّ أو من كان ينتظر متلهفاً تعليقاً مني لحادث غير مفهوم حصل جهراً في قلب السوق وفي نهار واضح مُضيء.. هم من التقطوا وفهموا مرموزات كلماتي.. هم فقط كانوا سلواي ولو تركت وحيداً مع غير هؤلاء لاختنقت روحي وتفجر مني العقل والقلب من غضب طالما هدر في روحي لتجاهل الآخرين لي وخوار مدركاتهم من فهم ما أقوله أو من حركات أتعمّد فعلها ولا تصل أسبابها لعقولهم الممسوحة التي ما فهمتها غير إضحاك ومقالب ساخرة.. ما أنعش روحي ما نقله لي صوت التراب أن أزمنة ممتدّة بعدي صارت تبجّل المشخصّاتي والحكواتي وفنون التمثيل والضحّاكين والساخرين حتى من بكائيات الحياة.. ومن سحر التلاعب وترقيص الألفاظ والكلمات مع مخفيات دلالاتها.. ومن ألعاب خيال الظلّ لمحمد بن دانيال الطبيب الموصلي (وباباته) بغرابة حكاياتها وشهيّة السامعين والناظرين لمشاهدتها.. أنا جحّا ألم أكن واحدا من هؤلاء ممتعاً اهل زمني بما قلته او فعلته وكشفته وفضحت به المستبدين والمتكبرين والمغرورين وما كان يتصرف به البلهاء والسذّج من قول وفعل.. وبقيت صدى شاهداً قارعاً فاضحاً لألاعيب زمني التي أراها تتطاول وتمتد لتشوّه أزمنتكم أيضاً.. أعلمني التراب وما بقي من هواء حمل كلماتي لعصور: أن أمثالي قد زجّ بهم المؤرخون في كتب كبيرة ثخينة.. ألم يجدوا في كتبهم فسحة لإنصافي؟ فإذا حرمني زمني من كلمة ثناء من عاقل أو مجنون, فإن لفظة أو عبارة (المبدع جحا أو جحا المبدع) وكما صرتم تصفون بها وبكثرة كل الأدباء والفنانين ومحترفي الكتابة, فإن هذه الصفة رغم مجهوليتها عند أهل زمني فإنها ستغنيني وتنسيني كل الألاعيب وغدر زماني وهي وإن كانت ستجيء متأخرة ومع حرماني من معرفة ناس بلدي بها, فهي على الأقل ستطفئ بعض حنقي عليهم لإهمالهم لي وتعاملهم معي كمسخرة..ـ
مرات اراجع نفسي فأصل الى نتيجة لا أدري جدواها بأن كل ما أصابني هو جهلي للقراءة والكتابة وأن غيابها كان هو اللعنة التي لازمت عمري وحياتي.. لم أعرف القراءة وما فككت الخطوط.. وعندما عاتبت أبي على إهماله لتعليمي أجاب: كنت صبيّاً مدللاً مريضاً ومهزولاً.. خشيت عليك من حرائق عصيّ الفلقات في الكتاتيب.. ما أقنعتني حجّة أبي.. كنت أتمنى أن يشرق في عقلي وروحي ضوء القراءة رغم لهب العصيّ المزعومة والتي ربمّا بالغ بها أبي فحرمني من فرح القراءة والكتابة ومغاليق الكلام.. حرمني من لذّة قراءة التاريخ وأخبار الموتى من الغابرين في عصور الماضين البعيدة.. ويقول العارفون أن أمماً سبقتنا في هذا المكان وأمكنة أخرى منهم الأكديون والسومريون والبابليون والآشوريون حفروا بالمسامير كتابات أشعارهم وقصصهم وتاريخهم وكان فيها ما يذكرونه عن شخصيات شبيهة بحالي وطريقة عيشي وتفكيري وسلوكياتي.. هم يذكرون لي ذلك, ولولا الحرص العقيم من أبي على سلامتي لكان عقلي قد انتعش وهزجت روحي لمرأى الكلمة والورق والأقلام.. ويضيف كتبة التواريخ أن عشق الكتابة وحفر ونقش الكلمات ما تحدّد بموطن واحد وشعب واحد, فإن فراعنة مصر نقشوا حروفهم وكلماتهم الهيروغليفية على ورق البردي.. وتلك المسماريات المحفورة على فخاريّات القصور الملكية والمعابد القديمة ومكتبات الحجر في العراق القديم ومع هيروغليفيات البرديات هي ما أوصل وكشف لنا دنيا أولئك الغابرين وكل أخبارهم, وإن ما ورد في بعضها عن أشباه لي يؤكد ضرورة وجود أمثالنا لخلق التوازن العادل من مضطربات هذه الحياة وبشجاعة قولة الحق وكشف المعمّيات الأنانية المستورة وفضح السيئين ولو بمرموز الكلام أو المجاهرة الصادمة بالصدق وفضح الحيل والأكاذيب وحالات الوقار المكذوبة وهي تخفي حقيقة العقم العقلي والروحي لهذا أو ذاك من المدّعين ولكل دعيّ مجاهر بما ليس فيه من خصال يتوهمها وهو في واقعه ليس أكثر من أفّاق لئيم يستر نوازعه بعسل الكلام المغشوش... أنا جحّا وبكل أسماء الأوطان التي نسبتموني إليها وقد نزعتم عني هويّتي.. أقول لكم: أنا عراقي, عربي, فارسي, تركي, كردي, أرمني, بلغاري, روسي, صيني, لاتيني, أفريقي.. أنا كل هؤلاء مادامت البشرية قد تمزّقت ألماً وعذاباً حياتياً أبدياً وفي كل العصور.. وبدت كل واحدة تبحث عن منقذها.. جحّاها وقد صار ضرورة تسلية وأمان بعد أن أنهك الجميع الحزن وحضرت الدموع ما في العيون والقلوب.. أنا مضحك الحفاة والعراة ممن عرّتهم الحياة من أدنى القدرات لمطاولة الحياة وممن ذابت في عيونهم وعلى وجوههم شبح ابتسامة شحيحة.. زرعت لهم الابتسامات وجفّفت وأقفلت منابع الدموع في أعينهم المحمرّة من بكاء زمنٍ طويل.. تاريخهم صار سخاماً وموتاً وقتلاً وبشاعات وبكاءاً وأنيناً وكان زمني ورداً وكركرات ضحك رغم منغصّات كانت تحدث هنا وهناك, وما ضجرت من تلفيقات التاريخ مما فعلته وأضحكت به أقسى الوجوه عبوساً وحتى مما كنت اختلقه من مواقف وحكايات لإدامة سعادات البشر.. وأنتم الآن بحاجة لأكثر من جحّا في زمنكم الرديء.. ومن الدم والموت والحروب والحصارات.. زمنكم هذا صار زمناً للدم والدموع.. ولما عجزتم عن العثور على جحّا شبيه ومترجم لحالة زمنكم, لجأتم لخلق بديله (الكاريكاتير) والمسرح الضاحك وشخصية (المهرّج).. ما كان فيكم من رغب وتطوّع لإسعاد الناس فخلقتم البديل التمثيلي الذي لن يغني عن جحّا الأصل وضجيج الأسواق ومحافل الأنس والرؤوس والقلوب التي ما كنت أتركها تبيت مهمومة ولو لليلة واحدة حتى امسحها بدمع الضحك طارداً منها دموع الحزن.. لست أنانياً وأنا أُحبّ الجميع ولكنكم أبناء وطني الجميل إن اردتموني وحسبتموني عراقياً، جمعتم بفجائعكم كل دمع العالم وافتقدتموني بعد أن أحسستم أن جذور الحزن قد رسخت فيكم, وأن الألم والوجع الأبدي صار هو الأقوى وتيرة يومية أليمة في حياتكم المجروحة بالحروب والوجع والقتل والموت والحفاء في عري الرعب الوحشي.. انتم تبحثون عني وأنا سعيد بهذا الوفاء رغم أن قسوة ظروفكم الشائكة هي التي دعتكم لذلك .. أضحكت أسلافكم وأفرحتهم .. سخروا مني وانتهكوا سيرتي وسمعتي.. صوّروني صعلوكاً ومهرّجاً أبله غير متوازن وبلا عقل.. حتى أنتم صرتم رؤوساً مداسة وقد أوغلوا في كرامتكم واستهتروا بجوع صغاركم.. أنتم أيضاً لم تقولوا لهم: لا ورغم بؤسكم وفقركم طاب لكم أن تتشبّهوا بهم عبدتم سلطة المال وصرتم أذلّة لسطوة كل الطغاة.. كباراً وصغاراً طوالاً وقصاراً وبلا أوزان من كل مجانين الاستبداد والقمع وموت المروءة ومع أدنى الأحاسيس بكرامات الناس.. لم تحملتم ذلك؟ لم قبلتم؟ ورغم ثقل التراب فأنا حزين آسٍ لمواجعكم.. أنتم عطر روحي وأزهار دمي, ولكنكم كأسلافكم أسأتم لي بسخرياتكم الملغومة بلغتكم المعاصرة.. أهديتم لي لعنات وسياط سخريتكم كطبول جوفاء تردد صدى مقولات الأزمان الكاذبة.. استللت الحزن من أرواحكم وملأتها قهقهات.. كنتم فئراناً مرعوبة مع من أحال حياتكم لأحزان مرّة والذي لاحق أيام وسنيّ حياتكم بالموت والخنق والانطفاء حتى لشبح أو رفيف ابتسامة لكم ولأطفالكم.. ظلت إهاناتكم تترى وحتى حماري الأليف الجميل لم يسلم من سخرياتكم وإهاناتكم السخيفة الباهتة المكذوبة عبر (الكاريكاتير) و (مسارح) الإضحاك من القراقوزات والدمى وأنرت قلوبكم من ظلمة ثقيلة, وكنت أحضر لتسليتكم والتخفيف عنكم كلما تجددت همومكم لسبب وآخر وكان هاجس إحساسي بكآبة وبؤس أيامكم هو ما يدعوني لأن أسارع في الحضور وأنا أدرك مدى حاجتكم إليّ لتغيير وجوهكم العابسة لوجوه مستبشرة بعد كلمتين أو أكثر مما أرويه لكم..ـ
اقفز بين العصور.. أجيئكم حزيناً مما حلّ بكم ولا أفلح في تخفيف سخريتي من أوضاعكم التي تضحك حتى المجانين وتحرّك الأموات بفضول متعلق لتسمع أخباركم عساها أن تدرك ولو القليل مما حلّ بكم من نازلات وقهر الزمان.. تغيّرت الأدوار...قلوبكم التي كنت قد ملأتها بالمسرّات وما وفيتم لي.. جعلتموني في أغلب تواريخكم أضحوكة الدنيا.. جاء دوري سأملأ يوميات حياتكم قيحاً.. أنا اكره الحقد والانتقام والشماتة, لكن ما فعلتموه معي قد احرق روحي وسوّد تاريخي الذي لم يكن غير تاريخ براءتي ومحبّتي للإنسان وعطفي عليه ومحاولة إخراجه مما هو فيه من نكد وعبوس.. ويهمس صوت عميق من تراب قبري: أنتم أهل هذه الأزمان الأخيرة.. أهل (الانترنيت) و (القرية الواحدة الملمومة).. جاء فيكم ومنكم وهم ندرة- من أنصفني كإنسان سويّ ما كان يهمّه من كل ما قاله أو فعله غير تشخيص الغلط والتنبيه للحذر منه ولكي لا يقع أبناء الخطيئة والخطأ مرات ومرات في جيفة السيئات, ولأكشف أيضاً ترهات رأيهم أن الإنسان لابُدَّ وأن يستفيد من تجارب أخطائه وألا يلدغ مرتين, وأنا لم أجد مع كل عمري ومن دنيا وأعمار الآخرين بشراً قد استفاد من أخطائه ولم يكرّرها مرّة ثانية, الذي سمعته أن ناساً قد كرّروا أخطاءهم ليس مرتين فقط بل بعشرات المرات, مئات وهم أبداً الملدوغون من أشرار البشر, مع ذلك تظل قناعتهم راسخة بالقولين الحكيمين وفائدتهما, ولكنهم يسارعون بعد كل تجربة وحتى بعد زمن قصير لتكرار الخطأ وربّما ببشاعة أكبر وهذا من طبع النقص وضعف التفكير الواعي عند بني البشر..ـ
آخر ما سمعته أنني قد دخلت لمرويات صحفكم والفضائيات والإنترنيت كحكيم وليس كثرثار.. أيّة مزحة هذه عندما ستتعرّف أجيالكم على ملامح جديدة لي لم يألفوها لي من قبل, وأن هويتي عندكم صارت تحمل لي اسم: جحّا الحكيم..
نثيث ترابي هذا الذي عايشته لعصور وخنقني لدهور.. صرت احبه وهو ينقل لي بعذوبة مرّات ما يردده من مروياتي ووقائع أفعالي ليس بصحبة حماري هذه المرّة بل في لآلئ من مواقع ثقافية تسمّونها (الكترونية) جاء فيها من أخبار ألف جحّا من اصحابي وبامتياز لي صفحات تضيء أعين قارئيها ولهفتهم, وما تنتهي صفحة أو أقل إلا وأنا المح على وجوه أصحابها من المتصفحين –كما تسمّونهم- متعة وفرحة اللقاء بجّحا وأخباره وبلغات كثيرة ثريّة حيّة ما كنّا سمعنا بها في زمننا ومع محبّة رسّامين وملوّنين عاشقين لفنّهم وهم يقرّبون وجه جحّا ومروياته وأفاعيله وأخبار مسماره وحماره, ومن عقول ذكيّة نشيطة جاءت بجحّا من عصره لتقدمه وتنقله لهذا الحاضر أليفاً بوجوده الحميم في قلوب الناس ومن كاتب حكايتي هذه.. أنصفني وفعل ما غفلت أو سهت عنه بعمد شهرزاد الراوية المتكبرّة ربيبة القصور والمجون والترف.. لو كنت من السفهاء والشطّار والعيّارين والطبّالين والمصفقين والمشعوذين ومن أهل السحر والضلال والمكائد لاحتفت شهرزاد الراوية والروائية بذكراي ولكانت قد خصّصت لي ولو ليلة واحدة من لياليها الألفية الممدودة في بهو مليكها الأبله البليد الكسول ومع كل غروره وسطوته ودمويته، لسحبتني لحكاياها، أنا لست من هؤلاء، وقد أكون شبيهاً لمن كان قبلي أو جاء بعدي بقرون وصار أيضاً حكاية وإن اختلف الرواة: الفارس الحزين دون كيشوت وحصانه الأعجف وتابعه سانشو بانزا وحماره وكان الراوي العليم هذه المرّة هو سرفانتس.. فأنا وأصحابي من كل جحّا نشعر بألفة ويغمرنا حنين لأخبار ذلك الفارس بنبله وشهامته رغم سذاجته وهو يقاتل حتى طواحين الهواء بسيفه الصدئ المثلوم دفاعاً عن الحزانى والمغلوبين على هذه الأرض وتحقيق العدالة التي ما وجدت لها موطناً وناساً منذ أيام الخليفة الأولى وحتى الآن.. محبتي لشعوب الأرض التي تباهت باسمي وبكل اللغات وأنني واحد ممّن خففّوا عن الإنسانية بعض أهوالها ومواجعها.. وعذراً لما يكون قد فهت به دون وعي أو إدراك أو انتباهه فأنا جحّا وما استطعت طيلة حياتي أن أغيّر من طريقة تفكيري وسيرتي وأفعالي وأقول واعتقد ولست واهماً أن كل الناس كذلك إذ خابت مساعيهم وحتى لمن شاخ منهم لتغيير طباعهم وعاداتهم رغم قناعاتهم بعدم صحتها ونزقها وفوضاها في كثير من الأحوال.. وحبّاً لكاتب قصتي وعذراً فقد تورّط أو ورّطتهُ أنا وهو يسعى لتجميع وتنظيم كرات خيوطي المتشابكة وما غزلته من أقوالي وأفعالي الخارجة والمتمرّدة على أي نظام وقانون وعقلانية كما يراها الآخرون وكما لا أراها أنا جحّا إلا أنها منظومة كاملة متآلفة متجانسة عاقلة ذكيّة.. وهذا الرأي ليس مني ولا يصدر إلا عن الآخرين.. وهذا الرأي لا ينحصر بي فقط بل هو عيب إنساني ظّل راسخاً ولم يتغيّر وألف عمر وزمن لم يقنع رأساً بغير ذلك.. أنا محظوظ بأن كاتب قصّتي وأحزاني لم يكتف أو يتوقف عند حكاية (مسمار جحّا) و (حمار جحّا) وهو قد تجاوزها لمرويات أخرى مقتنعاً ومؤكداً براءة كل أفعالي وعفويتها وإنسانيتي.. ومع أنني مبتهج أن الحكايتين قد تسرّبتا وانتشرتا وضمتهما كل لغات الأرض.. الحكايتان وكما يروي لي تراب قبري صارتا متعة للكبار وقهقهة عالية للصغار.. أية نهاية مسلية طافحة بالبشر والأمل أن أسم جحّا صار ضحكاً وعافية للنفوس وليس أضحوكة.. سعيد بما حصل ويحصل لي باستعادة سيرتي وبهذا الانتشار والثراء الباذخ.. ولكن نقطة سوداء بالحزن تظل تنخر في روحي عندما أستعيد وجع الذكرى بأن كل الناس في زمني ما صدّقت كلمة مما قلته.. فقط كانوا يضحكون ببلاهة وصدقوا كل ما نهق به حماري..ـ
للعودة إلى الصفحة الرئيسة
ـ أنور عبد العزيز
أنا جحا.. تعرفونني.. كنت ضحكة الناس وفرح الدنيا وترف الحضارة.. أبهجت وملأت القلوب مسّرات ولم أخسر شيئاً.. ضيعتم حتى نسبي وتركتموني أسما نكرة في التاريخ.. مرة عراقي أو عربي أو تركي أو فارسي وروسي.. أوصلتموني حتى للهند والصين.. ومادمتم قد وزعتموني على أرجاء الدنيا فسأقول لكم: إنني جحا العربي وأنا الخواجة ملاّ نصر الدين التركي.. أنا آغا نصر الدين الفارسي وجوحي في إيران أنا جحا أرمينيا وأنا جحا البلغاري.. جحا الكردي.. أنا جحا الروسي من قازان بلد تولستوي.. كان يحبني ويحييني ويبش في وجهي رغم كبريائه ووقاره.. أنا من قال عني غوركي: أنت قصّة أليمة تكشفها ضحكات جريح.. كان تشيخوف يستوقفني وهو على دراجته المعطوبة صاعداً في دروب الثلج والبرد والطين ليزور مريضة يائسة خمد أملها وما بقي لها غير وعد وانتظار لزيارته حتى يتوقف.. يحييني بطيبة تشيخوف وألفته ويهمس لي: ما أسمعه ويصلني من طرائفك ومواقفك يؤكد لي أنك واحد منا – معشر الأدباء والفنانين – سلبته العامة مواهبه لتحيله بأكاذيبها ومبالغاتها ومخيلتها المريضة (لقراقوز) ليس غير...ـ
وهكذا هي أحكامهم سريعة فارغة في كل زمان ومكان.. أنا جحا البغدادي ربيب زهو بغداد وأبهتها.. أنا ابن الموصل والبصرة والكوفة.. أنا جحا كل موطن ومكان في خراسان وأصفهان وتبريز.. تجدني في دروب وطرقات سمرقند وبخارى ونيسابور في مرابع جبال طوروس وأسطنبول وديار بكر وفي ( سعرت ) طاب لي العيش بصحبة الختانين واستأنست بثرثرات الحلاقين حتى قال الناس : جحا احب الحلاقين لثرثراتهم وقد رأى فيها متنفساً لصمته الازلي العميق تجاه ما يشهده من غرائب الاحوال وجنون العقلاء .. أنا واحد وأنا كل هؤلاء.. ما غبت عن الصين.. أنا جحا الصيني عاصرت بوذا وسمعت عن كونقوشيوس ومن هناك كانت تصلني أخبار أخي البغدادي والفارسي والتركي والكردي ومن كل جحا.. وأنا في الهند كنت عدواً للمهراجات وألاعيبهم الدنيئة وظلمهم وسخرياتهم تجاه عبيدهم وخدمهم.. ما غاب وجهي في فاس ومكناس وغرناطة وأشبيلية.. كنت لهم الضاحك والمضحك.. أنا بائع النوادر الذهبية لمن لم يروا ذهباً ولم ترن قطعة نقود في جيوبهم الممسوحة.. أدمعت عيونهم ضحكات رنانة من القلوب.. كلماتي الضاحكة أشرقت بها كل وجوه البيض والسود والسمر حتى الزرق.. حتى عند قبائل الفايكونغ الهمجية المتوحشة التي تحضّرت وصارت بلداً يسمونه (السويد).. حتى هؤلاء نبع فيهم جحا مسالم وديع دعاهم لنبذ روح الشر والكراهية والتقاتل.. لم يخف ولم يخشَ رماحهم وسيوفهم المسمومة وخشونتهم القاهرة المدمرة، فأخبر عنهم وبمخفيات القول والتنبيه والكشف ما فضح سيرتهم العدوانية.. حدث مثل ذلك مع الهنود الحمر في أمريكا وفي أفريقيا لم تخل أية غابة مظلمة وبخصوصية قبائل الزولو وأشباهها من جحا يسرح مع العراة ويكشف عريهم المادي والروحي وشروخ أمخاخهم التي خلقت لهم وأوهمتهم بألف إله متمثل بهيئة طير جارح أو ضفدع أو تمساح أو شجرة معمرة أو كوكبة من نجوم أو نهر غاضب أو جبل عاصف بالريح والثلوج أو كهف مسحور حتى بلغت عبادتهم للرمز الأنثوي.. كل هذه الآلهة وغيرها كثير حتى للأفاعي والنمل والبوم وروح الجد الكبير وقرون الأيائل والنار والخنازير والخفاش.. رسموا رموزها حفراً وتلويناً في أعماق الكهوف، احتفلوا لها برقصات وحشية صاخبة جنونية تتحرك وتلتمع ظلالها من خلل النيران والدخان وبأقنعة اختلطت فيها واضطربت وتاهت نظراتهم لمعاني الوجود بأسرارها الخفية المخبوءة، ومع قرون الثيران إذ رأوا فيها رموزاً لقوة قاهرة ضعفوا أمامها ولم يجدوا غير عنف الرقص وحركات الجنون تقرّباً من أرواحها ودفعاً لشرورها وسحرها وأذاها...ـ
حتى شيوخ العمر منهم ومع كل تجاربهم مع الحياة ومخاضاتها شكلوا أساساً راسخاً لممارسة هذه الطقوس السحرية التي لم تترك وتخلّف لهم غير الفقر والجوع والأمراض والهزائم أمام المعتدين والطامعين في ثرواتهم التي يجهلون وجودها وقيمتها ككنوز من هدايا الأرض والطبيعة وهم مشغولون وعبر قناعات سقيمة أن إهمالهم لطوطم خنزير معبود أو روح أفعى غاضبة عليهم هو سبب ما لحق بهم من كوارث أمام المستعمرين الغزاة من البيض، وأن أمراضهم لا شفاء لها ولا علاج إلا في ضجيج الرقص والأدخنة ومع أقنعة الوجه السحرية والأدخنة السوداء الخانقة لطرد الأرواح الشريرة ليس من أكواخهم المتهرئة بل ومن كل الغابة وما فيها لنفس من بشر وماء وطير وحيوان وشجرة..ـ
جحا الغابات هذا أو جحا الأفريقي كان واعياً وحذراً في نقداته وكشفه لضحالة عقولهم، فهو ما كان أبداً يلجأ لكشف عراء سذاجتهم، فيلتجئ لإشارات تفهمها القلة النادرة.. كان يكتفي بهذا خشية من بطش رماحهم الدموية وحفلات النيران الراقصة التي يشوون بها معارضيهم ممن تجرأوا على الطعن والسخرية بقناعات معتقداتهم وطقوسهم الأسطورية السحرية.. هم كانوا البلهاء المخدوعين.. ما كنت لهم باصرة تنأى بهم عن المرئيات الظاهرة الخادعة، وما استطاعت بصيرتهم أن تنفذ عمقاً لدوافع مستورة, فضباب الرؤية والرؤيا أعمى أعينهم فلم يروا شيئاً وما كسبوا من كل حياتهم غير عناد قناعات مضحكة قد يرفضها حتى الأطفال، ولكنها تواصلت عندهم قدراً مميتاً، لذا كم كان سهلاً على الغزاة من الأجانب تدميرهم وسحق ومحو تاريخهم وحتى من ذكريات عالمهم ووجودهم الأسطوري.ـ
أنا جحا أبن كل العصور.. غيري كثيرون.. وكلنا واحد.. هو هو ما نفعله ونقوله ونتندر به ونتحسسه بسهولة ونحن نرى ونتأمل الوعي القاصر لبني البشر وبلاهتهم، لذا انتقموا منا ووصمونا بما فيهم هم من بلاهة وسطحية وسذاجة وخلو العقول من المعاني الصالحة لعيشهم وحياتهم وكانوا هم النشاز على هذه الأرض بغفلتهم المقصودة وليست المصطنعة عن الصدق والعدل والمحبة وخير البشر...ـ
مرتّ عليّ عصور.. نخرني ونخلني الدود وأحالني لتراب هش.. ضاع حتى قبري في تيه المقابر وأعاصير الزمان.. ورغم حالة الصمت والذهول والعماء لهذا التراب، فقد تحسست روحي أن أزماناً تتابعت بعدي صارت تسمي من كان مثلي بالمبدع.. أأكون مبدعاً وما كانوا يرون فيما أفعله أو أقوله غير بلاهات قد تضحك الآخرين، لكنها لا تعني أي شيء عندهم.. ما كان يسليني ويفرحني أن حفنة من الصعاليك ومن منبوذي الأرض ومن التائهين الحائرين بدنياهم.. تلك الحفنة فقط هي من استمع إليَّ أو من كان ينتظر متلهفاً تعليقاً مني لحادث غير مفهوم حصل جهراً في قلب السوق وفي نهار واضح مُضيء.. هم من التقطوا وفهموا مرموزات كلماتي.. هم فقط كانوا سلواي ولو تركت وحيداً مع غير هؤلاء لاختنقت روحي وتفجر مني العقل والقلب من غضب طالما هدر في روحي لتجاهل الآخرين لي وخوار مدركاتهم من فهم ما أقوله أو من حركات أتعمّد فعلها ولا تصل أسبابها لعقولهم الممسوحة التي ما فهمتها غير إضحاك ومقالب ساخرة.. ما أنعش روحي ما نقله لي صوت التراب أن أزمنة ممتدّة بعدي صارت تبجّل المشخصّاتي والحكواتي وفنون التمثيل والضحّاكين والساخرين حتى من بكائيات الحياة.. ومن سحر التلاعب وترقيص الألفاظ والكلمات مع مخفيات دلالاتها.. ومن ألعاب خيال الظلّ لمحمد بن دانيال الطبيب الموصلي (وباباته) بغرابة حكاياتها وشهيّة السامعين والناظرين لمشاهدتها.. أنا جحّا ألم أكن واحدا من هؤلاء ممتعاً اهل زمني بما قلته او فعلته وكشفته وفضحت به المستبدين والمتكبرين والمغرورين وما كان يتصرف به البلهاء والسذّج من قول وفعل.. وبقيت صدى شاهداً قارعاً فاضحاً لألاعيب زمني التي أراها تتطاول وتمتد لتشوّه أزمنتكم أيضاً.. أعلمني التراب وما بقي من هواء حمل كلماتي لعصور: أن أمثالي قد زجّ بهم المؤرخون في كتب كبيرة ثخينة.. ألم يجدوا في كتبهم فسحة لإنصافي؟ فإذا حرمني زمني من كلمة ثناء من عاقل أو مجنون, فإن لفظة أو عبارة (المبدع جحا أو جحا المبدع) وكما صرتم تصفون بها وبكثرة كل الأدباء والفنانين ومحترفي الكتابة, فإن هذه الصفة رغم مجهوليتها عند أهل زمني فإنها ستغنيني وتنسيني كل الألاعيب وغدر زماني وهي وإن كانت ستجيء متأخرة ومع حرماني من معرفة ناس بلدي بها, فهي على الأقل ستطفئ بعض حنقي عليهم لإهمالهم لي وتعاملهم معي كمسخرة..ـ
مرات اراجع نفسي فأصل الى نتيجة لا أدري جدواها بأن كل ما أصابني هو جهلي للقراءة والكتابة وأن غيابها كان هو اللعنة التي لازمت عمري وحياتي.. لم أعرف القراءة وما فككت الخطوط.. وعندما عاتبت أبي على إهماله لتعليمي أجاب: كنت صبيّاً مدللاً مريضاً ومهزولاً.. خشيت عليك من حرائق عصيّ الفلقات في الكتاتيب.. ما أقنعتني حجّة أبي.. كنت أتمنى أن يشرق في عقلي وروحي ضوء القراءة رغم لهب العصيّ المزعومة والتي ربمّا بالغ بها أبي فحرمني من فرح القراءة والكتابة ومغاليق الكلام.. حرمني من لذّة قراءة التاريخ وأخبار الموتى من الغابرين في عصور الماضين البعيدة.. ويقول العارفون أن أمماً سبقتنا في هذا المكان وأمكنة أخرى منهم الأكديون والسومريون والبابليون والآشوريون حفروا بالمسامير كتابات أشعارهم وقصصهم وتاريخهم وكان فيها ما يذكرونه عن شخصيات شبيهة بحالي وطريقة عيشي وتفكيري وسلوكياتي.. هم يذكرون لي ذلك, ولولا الحرص العقيم من أبي على سلامتي لكان عقلي قد انتعش وهزجت روحي لمرأى الكلمة والورق والأقلام.. ويضيف كتبة التواريخ أن عشق الكتابة وحفر ونقش الكلمات ما تحدّد بموطن واحد وشعب واحد, فإن فراعنة مصر نقشوا حروفهم وكلماتهم الهيروغليفية على ورق البردي.. وتلك المسماريات المحفورة على فخاريّات القصور الملكية والمعابد القديمة ومكتبات الحجر في العراق القديم ومع هيروغليفيات البرديات هي ما أوصل وكشف لنا دنيا أولئك الغابرين وكل أخبارهم, وإن ما ورد في بعضها عن أشباه لي يؤكد ضرورة وجود أمثالنا لخلق التوازن العادل من مضطربات هذه الحياة وبشجاعة قولة الحق وكشف المعمّيات الأنانية المستورة وفضح السيئين ولو بمرموز الكلام أو المجاهرة الصادمة بالصدق وفضح الحيل والأكاذيب وحالات الوقار المكذوبة وهي تخفي حقيقة العقم العقلي والروحي لهذا أو ذاك من المدّعين ولكل دعيّ مجاهر بما ليس فيه من خصال يتوهمها وهو في واقعه ليس أكثر من أفّاق لئيم يستر نوازعه بعسل الكلام المغشوش... أنا جحّا وبكل أسماء الأوطان التي نسبتموني إليها وقد نزعتم عني هويّتي.. أقول لكم: أنا عراقي, عربي, فارسي, تركي, كردي, أرمني, بلغاري, روسي, صيني, لاتيني, أفريقي.. أنا كل هؤلاء مادامت البشرية قد تمزّقت ألماً وعذاباً حياتياً أبدياً وفي كل العصور.. وبدت كل واحدة تبحث عن منقذها.. جحّاها وقد صار ضرورة تسلية وأمان بعد أن أنهك الجميع الحزن وحضرت الدموع ما في العيون والقلوب.. أنا مضحك الحفاة والعراة ممن عرّتهم الحياة من أدنى القدرات لمطاولة الحياة وممن ذابت في عيونهم وعلى وجوههم شبح ابتسامة شحيحة.. زرعت لهم الابتسامات وجفّفت وأقفلت منابع الدموع في أعينهم المحمرّة من بكاء زمنٍ طويل.. تاريخهم صار سخاماً وموتاً وقتلاً وبشاعات وبكاءاً وأنيناً وكان زمني ورداً وكركرات ضحك رغم منغصّات كانت تحدث هنا وهناك, وما ضجرت من تلفيقات التاريخ مما فعلته وأضحكت به أقسى الوجوه عبوساً وحتى مما كنت اختلقه من مواقف وحكايات لإدامة سعادات البشر.. وأنتم الآن بحاجة لأكثر من جحّا في زمنكم الرديء.. ومن الدم والموت والحروب والحصارات.. زمنكم هذا صار زمناً للدم والدموع.. ولما عجزتم عن العثور على جحّا شبيه ومترجم لحالة زمنكم, لجأتم لخلق بديله (الكاريكاتير) والمسرح الضاحك وشخصية (المهرّج).. ما كان فيكم من رغب وتطوّع لإسعاد الناس فخلقتم البديل التمثيلي الذي لن يغني عن جحّا الأصل وضجيج الأسواق ومحافل الأنس والرؤوس والقلوب التي ما كنت أتركها تبيت مهمومة ولو لليلة واحدة حتى امسحها بدمع الضحك طارداً منها دموع الحزن.. لست أنانياً وأنا أُحبّ الجميع ولكنكم أبناء وطني الجميل إن اردتموني وحسبتموني عراقياً، جمعتم بفجائعكم كل دمع العالم وافتقدتموني بعد أن أحسستم أن جذور الحزن قد رسخت فيكم, وأن الألم والوجع الأبدي صار هو الأقوى وتيرة يومية أليمة في حياتكم المجروحة بالحروب والوجع والقتل والموت والحفاء في عري الرعب الوحشي.. انتم تبحثون عني وأنا سعيد بهذا الوفاء رغم أن قسوة ظروفكم الشائكة هي التي دعتكم لذلك .. أضحكت أسلافكم وأفرحتهم .. سخروا مني وانتهكوا سيرتي وسمعتي.. صوّروني صعلوكاً ومهرّجاً أبله غير متوازن وبلا عقل.. حتى أنتم صرتم رؤوساً مداسة وقد أوغلوا في كرامتكم واستهتروا بجوع صغاركم.. أنتم أيضاً لم تقولوا لهم: لا ورغم بؤسكم وفقركم طاب لكم أن تتشبّهوا بهم عبدتم سلطة المال وصرتم أذلّة لسطوة كل الطغاة.. كباراً وصغاراً طوالاً وقصاراً وبلا أوزان من كل مجانين الاستبداد والقمع وموت المروءة ومع أدنى الأحاسيس بكرامات الناس.. لم تحملتم ذلك؟ لم قبلتم؟ ورغم ثقل التراب فأنا حزين آسٍ لمواجعكم.. أنتم عطر روحي وأزهار دمي, ولكنكم كأسلافكم أسأتم لي بسخرياتكم الملغومة بلغتكم المعاصرة.. أهديتم لي لعنات وسياط سخريتكم كطبول جوفاء تردد صدى مقولات الأزمان الكاذبة.. استللت الحزن من أرواحكم وملأتها قهقهات.. كنتم فئراناً مرعوبة مع من أحال حياتكم لأحزان مرّة والذي لاحق أيام وسنيّ حياتكم بالموت والخنق والانطفاء حتى لشبح أو رفيف ابتسامة لكم ولأطفالكم.. ظلت إهاناتكم تترى وحتى حماري الأليف الجميل لم يسلم من سخرياتكم وإهاناتكم السخيفة الباهتة المكذوبة عبر (الكاريكاتير) و (مسارح) الإضحاك من القراقوزات والدمى وأنرت قلوبكم من ظلمة ثقيلة, وكنت أحضر لتسليتكم والتخفيف عنكم كلما تجددت همومكم لسبب وآخر وكان هاجس إحساسي بكآبة وبؤس أيامكم هو ما يدعوني لأن أسارع في الحضور وأنا أدرك مدى حاجتكم إليّ لتغيير وجوهكم العابسة لوجوه مستبشرة بعد كلمتين أو أكثر مما أرويه لكم..ـ
اقفز بين العصور.. أجيئكم حزيناً مما حلّ بكم ولا أفلح في تخفيف سخريتي من أوضاعكم التي تضحك حتى المجانين وتحرّك الأموات بفضول متعلق لتسمع أخباركم عساها أن تدرك ولو القليل مما حلّ بكم من نازلات وقهر الزمان.. تغيّرت الأدوار...قلوبكم التي كنت قد ملأتها بالمسرّات وما وفيتم لي.. جعلتموني في أغلب تواريخكم أضحوكة الدنيا.. جاء دوري سأملأ يوميات حياتكم قيحاً.. أنا اكره الحقد والانتقام والشماتة, لكن ما فعلتموه معي قد احرق روحي وسوّد تاريخي الذي لم يكن غير تاريخ براءتي ومحبّتي للإنسان وعطفي عليه ومحاولة إخراجه مما هو فيه من نكد وعبوس.. ويهمس صوت عميق من تراب قبري: أنتم أهل هذه الأزمان الأخيرة.. أهل (الانترنيت) و (القرية الواحدة الملمومة).. جاء فيكم ومنكم وهم ندرة- من أنصفني كإنسان سويّ ما كان يهمّه من كل ما قاله أو فعله غير تشخيص الغلط والتنبيه للحذر منه ولكي لا يقع أبناء الخطيئة والخطأ مرات ومرات في جيفة السيئات, ولأكشف أيضاً ترهات رأيهم أن الإنسان لابُدَّ وأن يستفيد من تجارب أخطائه وألا يلدغ مرتين, وأنا لم أجد مع كل عمري ومن دنيا وأعمار الآخرين بشراً قد استفاد من أخطائه ولم يكرّرها مرّة ثانية, الذي سمعته أن ناساً قد كرّروا أخطاءهم ليس مرتين فقط بل بعشرات المرات, مئات وهم أبداً الملدوغون من أشرار البشر, مع ذلك تظل قناعتهم راسخة بالقولين الحكيمين وفائدتهما, ولكنهم يسارعون بعد كل تجربة وحتى بعد زمن قصير لتكرار الخطأ وربّما ببشاعة أكبر وهذا من طبع النقص وضعف التفكير الواعي عند بني البشر..ـ
آخر ما سمعته أنني قد دخلت لمرويات صحفكم والفضائيات والإنترنيت كحكيم وليس كثرثار.. أيّة مزحة هذه عندما ستتعرّف أجيالكم على ملامح جديدة لي لم يألفوها لي من قبل, وأن هويتي عندكم صارت تحمل لي اسم: جحّا الحكيم..
نثيث ترابي هذا الذي عايشته لعصور وخنقني لدهور.. صرت احبه وهو ينقل لي بعذوبة مرّات ما يردده من مروياتي ووقائع أفعالي ليس بصحبة حماري هذه المرّة بل في لآلئ من مواقع ثقافية تسمّونها (الكترونية) جاء فيها من أخبار ألف جحّا من اصحابي وبامتياز لي صفحات تضيء أعين قارئيها ولهفتهم, وما تنتهي صفحة أو أقل إلا وأنا المح على وجوه أصحابها من المتصفحين –كما تسمّونهم- متعة وفرحة اللقاء بجّحا وأخباره وبلغات كثيرة ثريّة حيّة ما كنّا سمعنا بها في زمننا ومع محبّة رسّامين وملوّنين عاشقين لفنّهم وهم يقرّبون وجه جحّا ومروياته وأفاعيله وأخبار مسماره وحماره, ومن عقول ذكيّة نشيطة جاءت بجحّا من عصره لتقدمه وتنقله لهذا الحاضر أليفاً بوجوده الحميم في قلوب الناس ومن كاتب حكايتي هذه.. أنصفني وفعل ما غفلت أو سهت عنه بعمد شهرزاد الراوية المتكبرّة ربيبة القصور والمجون والترف.. لو كنت من السفهاء والشطّار والعيّارين والطبّالين والمصفقين والمشعوذين ومن أهل السحر والضلال والمكائد لاحتفت شهرزاد الراوية والروائية بذكراي ولكانت قد خصّصت لي ولو ليلة واحدة من لياليها الألفية الممدودة في بهو مليكها الأبله البليد الكسول ومع كل غروره وسطوته ودمويته، لسحبتني لحكاياها، أنا لست من هؤلاء، وقد أكون شبيهاً لمن كان قبلي أو جاء بعدي بقرون وصار أيضاً حكاية وإن اختلف الرواة: الفارس الحزين دون كيشوت وحصانه الأعجف وتابعه سانشو بانزا وحماره وكان الراوي العليم هذه المرّة هو سرفانتس.. فأنا وأصحابي من كل جحّا نشعر بألفة ويغمرنا حنين لأخبار ذلك الفارس بنبله وشهامته رغم سذاجته وهو يقاتل حتى طواحين الهواء بسيفه الصدئ المثلوم دفاعاً عن الحزانى والمغلوبين على هذه الأرض وتحقيق العدالة التي ما وجدت لها موطناً وناساً منذ أيام الخليفة الأولى وحتى الآن.. محبتي لشعوب الأرض التي تباهت باسمي وبكل اللغات وأنني واحد ممّن خففّوا عن الإنسانية بعض أهوالها ومواجعها.. وعذراً لما يكون قد فهت به دون وعي أو إدراك أو انتباهه فأنا جحّا وما استطعت طيلة حياتي أن أغيّر من طريقة تفكيري وسيرتي وأفعالي وأقول واعتقد ولست واهماً أن كل الناس كذلك إذ خابت مساعيهم وحتى لمن شاخ منهم لتغيير طباعهم وعاداتهم رغم قناعاتهم بعدم صحتها ونزقها وفوضاها في كثير من الأحوال.. وحبّاً لكاتب قصتي وعذراً فقد تورّط أو ورّطتهُ أنا وهو يسعى لتجميع وتنظيم كرات خيوطي المتشابكة وما غزلته من أقوالي وأفعالي الخارجة والمتمرّدة على أي نظام وقانون وعقلانية كما يراها الآخرون وكما لا أراها أنا جحّا إلا أنها منظومة كاملة متآلفة متجانسة عاقلة ذكيّة.. وهذا الرأي ليس مني ولا يصدر إلا عن الآخرين.. وهذا الرأي لا ينحصر بي فقط بل هو عيب إنساني ظّل راسخاً ولم يتغيّر وألف عمر وزمن لم يقنع رأساً بغير ذلك.. أنا محظوظ بأن كاتب قصّتي وأحزاني لم يكتف أو يتوقف عند حكاية (مسمار جحّا) و (حمار جحّا) وهو قد تجاوزها لمرويات أخرى مقتنعاً ومؤكداً براءة كل أفعالي وعفويتها وإنسانيتي.. ومع أنني مبتهج أن الحكايتين قد تسرّبتا وانتشرتا وضمتهما كل لغات الأرض.. الحكايتان وكما يروي لي تراب قبري صارتا متعة للكبار وقهقهة عالية للصغار.. أية نهاية مسلية طافحة بالبشر والأمل أن أسم جحّا صار ضحكاً وعافية للنفوس وليس أضحوكة.. سعيد بما حصل ويحصل لي باستعادة سيرتي وبهذا الانتشار والثراء الباذخ.. ولكن نقطة سوداء بالحزن تظل تنخر في روحي عندما أستعيد وجع الذكرى بأن كل الناس في زمني ما صدّقت كلمة مما قلته.. فقط كانوا يضحكون ببلاهة وصدقوا كل ما نهق به حماري..ـ
للعودة إلى الصفحة الرئيسة