حكاية كتبتها في تشرين الثاني من عام 2010م،ـ
واثرت ان انشرها اليوم مهداة الى قراء بيت الموصل
بقلم: غانم الـعـنّـاز
لقد كانت زيارة الأندلس من امنياتى منذ سمعت عنها ونحن في المدرسة الأبتدائية. وقد زاد اشتياقي لها عبر السنين لكثرة ما قرأت عنها وعن الحضارة الأسلامية الرائعة هناك والتى كانت من أهم الروافد التي ساهمت في النهضة الأوربية الحديثة.ـ
ولم تسنح لي الفرصة لزياتها الا في العام 2009 بعد ان جاوزت السبعين من عمري. لذلك فقد كانت زيارتي لها ممتعة بقدر ما كانت مدهشة حقا لطول اشتياقي للأندلس ومعرفتي بأدبائها وشعرائها وعلمائها وفلاسفتها إضافة الى فنونها كفن العمارة الذي لا زال يدهش السياح من جميع أنحاء المعمورة حتى يومنا هذا.ـ
ما أن وصلت إلى سطحها ونظرت إلى ما حولها من الطرقات إلا وتخيلت ذلك المؤذن يرفع صوته بالأذان ورأيت جموع المصلين يملأون تلك الطرقات التي حولها سعيا لأداء الصلاة. إنتابني عندها شعور جميل هز كياني وكأنني أنا ذلك المؤذن وتلك الجموع حقيقة لا خيال ورحت في شبه غيبوبة عن من حولي من عشرات السياح وضجيجهم المعتاد. بقيت على سطحها ما شاء الله لي أن ابقى أفحص آجرها وزخارفها ومتانة بنيانها قبل أن أنزل لأودعها كما يودع الأخ أختا عزيزة عليه.ـ
وعندما وصلنا إلى قرطبة وجدت نفسي مسرعا في اتجاه جامعها الذي يعتبر تحفة معمارية تأخذ بالأبصار. دخلته لأجد نفسي مذهولا كأنني في غابة من الأعمدة التي تخيلتها كأشجار النخيل والتي يقال بأن عددها كان ما يقارب 1293 عمودا تحمل فوقها أقاسا خيلت إلي كأمواج البحر الصاخب.ـ
ــــــــ أضحى التنائي بديلا من تدانينا و ناب عن طيب لقيانا تجافينـــا
ــــــــ إنّ الزمان الذي ما زال أنساً بقربهمُ قد عاد يبكينـا
ــــــــ غيظ العدا من تساقينا الهوى فدعوا بأن نغصّ فقال الدهر آمينـا
ــــــــ بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفّت مآقينا
وتخيلته يروي لي قصة الخليفة وأظنه المعتمد بن عباد الذي كان شاعرا كذلك والذي كان ابن زيدون قد مدحه وكان ذا حظوة عنده لتجري بينهما مطارحات شعرية كثيرة. يقول كان المعتمد في نزهة مع حاشيته فرأى ما نسجته الريح على سطح الماء فارتجل ما شطر بيته المشهور:ـ
ـــــــــــــــــــــــــ نسج الريح على الماء زرد
وطلب من حاشيته ان يكملوا الشطر الثاني فلم يأتوا بشئ يستحق الذكر وإذا بأحدى الجواري تكمله بقولها:ـ
ـ ــــــــــــــــــــــــــــــــ أيُّ درع لقتالٍ لو جمد
وبقيت أصغي اليه مستمراً بأحاديثه عن حلقات العلم التي كانت تقام أمام عينيه ويحظرها كبار العلماء والفلاسفة والأدباء عبر القرون وعن العصر الذهبي لقرطبة ووقصورها وحدائقها الغناء ونهرها الخالد لينهي حديثه بأسى وحزن عن إنحطاطها وأخيراً عن سقوطها. وكان قد حان وقت الرحيل فدعوت له بالخير وكان الوداع حاراً وخيل لي بأن عيون شيخي كانت كعيوني مغرورقات بالدموع.ـ
ذهبت بعدها الى الوادي الكبير نهر قرطبة الذي خلدته قصائد الشعراء والذي لا زال يعرف بذلك الأسم الى يومنا هذا فيدعونه اليوم (كوادي الكبير)ويكتبونها كلمة واحدة. وقفت على جسره أجول بنظري في واديه وضفافه فخيل لي أني أرى ابن زيدون في نزهة مفترشاً الزهور مع أصحابه يصدح بقصيدته (قرطبة الغراء) والتي منها هذه الأبيات:ـ
ــــــــــــــــــــــــــــ سقى الغيث أطلال الأحبة بالحمى
ــــــــــــــــــــــــــــ وحاك عليها ثوب وشيٍ منمنما
ـــــــــــــــــــــــــــــوأطلعَ فيها للأزاهيرِ أنجماً
ـــــــــــــــــــــــــــــفكم رفلت فيها الخرائد كالـدمى
ـــــــــــــــــــــــــــ إذ العيشُ غضٌّ والزمان غـــلامُ
وعدت أصغي من جديد لأسمع ذلك الجمع يصدح بغناءٍعذبٍ إرق من الصبا مردداً ذاك الموشح الجميل الذي منه:ـ
ـــــــــــــــــــــــــــــ يا غصن نقا مكللّلا بالذهـبِ
ــــــــــــــــــــــــــــــ أفديك من الردى بأمي وأبي
ــــــــــــــــــــــــــــــ إن كنتُ قد أسأتُ في هواكم أدبـي
ــــــــــــــــــــــــــــــ فالعصمةُ لا تكون إلا لنبــي
وما أن انتهى ذلك الغناء العذب حتى خيل لي أني أسمع أحدهم يدعو الساقي ويشتكي الظمأ ليبدأ إثر ذلك الجمع بالغناء من جديد بذلك الموشح البديع:ـ
ـ أيها الساقي إليك المشتكى قد دعوناك وإن لم تسمعِ
ـ ونديمٍ همتُ في غرّتهِ
ـ وبشرب الـراح من راحتهِ
ـ كلما استيقظ من سكرتهِ
ـ جذب الزق إليهِ واتّكا وسقاني أربعاً في أربعِ
ـ ما لعيني عشيت بالنظــــرِ
ـ أنكرت بعدك ضؤء القمــرِ
ـ وإذا ما شئت فاسمع خبري
ـــــــ غشيت عيناي من طول البكا وبكى بعضي على بعضي معي
وفي لحظة من اللحظات خلال ذلك الغناء خيل إلي أن زرياب ذلك العبقري الذي أطرب بغداد بعوده وغنائه كان بينهم منكبا يعزف على عوده الجديد الذي أضاف إليه وتراً سادساً.ـ
أفقت بعد ذلك من حلمي الجميل لأودع ذلك الجمع الطروب لأتجول في طرقات قرطبة العتيقة قبل أن أودعها وقلبي مفعم بالفخر والحزن في آن واحد مردداً موشح لسان الدين الخطيب الجميل الذي يقول فيه:ـ
ـ جادك الغيث إذا الغيث هما يا زمان الوصل في الأندلـسِ
ـ لم يكن وصلكَ ألا حلما في الكرى أو خلسة المختلسِ
إلى آخر ذلك الموشح الجميل والطويل.ـ
غانم الـعـنّـاز: ثشرين الثاني 2010
ملاحظة: المقال منشور على مدونة الأستاذ غانم العنازبتاريخ: 26 كانون الثاني 2013
Saturday, 26 January 2013