الدكتور المهندس فاضل علي القاضلي
قائد سلام عالمي بارز
Outstanding International Peace Leader
بقلم:غانم العـنّـاز
قائد سلام عالمي بارز
Outstanding International Peace Leader
بقلم:غانم العـنّـاز
الدكتور فاضل علي القاضلي
الصورة بعدسة غانم العنّاز- كاليفورنيا 2011
ولد الدكتور فاضل علي القاضلي في محلة المشاهدة في الموصل في عام 1935 والتحق ببعثة النفط في عام 1954 ليحصل على البكالوريوس في الهنسة المدنية من جامعة لفربول البريطانية في عام 1959 ثم ليحصل بعد ذلك على الماجستير في سنة 1969 لينال بعدها مباشرة شهادة الدكتوراه في عام 1972 من جامعة بيركلي الامريكية الشهيرة.
عمل بعد تخرجه في مصفى الدورة ومن ثم مع شركة تراب بارودي في مشاريع الطرق قبل ان يترك العراق الى بريطانيا حيث ساهم في اعداد تصاميم توسيع منشآت معالجة مياه مجاري مدينة لندن. اما في الولايات المتحدة فقد عمل في مشاريع عديدة كشبكة مترو الانفاق والقطارات السريعة المعقدة حول خليج سان فرانسيسكو الشهير ليشارك بعد ذلك في اعداد التصاميم والاشراف على انشاء عدد من السدود المهمة بالاضافة الى المساهمة في اعداد التصاميم لشبكة خطوط الانابيب اللازمة لنقل مياهها والاشراف على تنفيذها الى غير ذلك من المشاريع الكبيرة.
اما في مجال التدريس فقد عمل كاستاذ في جامعة رود ايلاند الامريكية قبل ان يلتحق بعد ذلك كاستاذ في جامعة ساكرامنتو عاصمة ولاية كاليفورنيا ليستمر في عمله فيها حتى تقاعده في عام 2003.
انخرط الدكتور فاضل خلال الاربعين سنة الماضية في منظمات السلام وعمل من خلالها على شجب الحروب والغزو الامريكي للعراق وبقاء القوات الامريكية فيه واظهار ونشر الجرائم البشعة التي قامت بها لينال ثلاث جوائز سلام تقديراً لجهوده هي:
1- حركة مارتن لوثر كنغ الابن للدفاع عن الحقوق المدنية
شهادة قائد سلام عالمي بارز
يعد الزعيم الامريكي من اصول افريقية والقس والناشط السياسي الانساني مارتن لوثر كنغ الابن من اهم المطالبين بانهاء التمييز العنصري في الولايات المتحدة الامريكية. حاز على جائزة نوبل للسلام في سنة 1964 عن دعوته لمبادئ اللاعنف. كان من الخطباء المفوهين حيث كان لخطابه الشهير (لديّ حلم) الذي القاه في جمع يقدر بحوالي ربع مليون متظاهر في العاصمة واشنطن في عام 1963 الصدى الكبير لانهاء التمييز العنصري الذي قال فيه (لدي حلم أن أرى اولادي الاربعة يعيشون في يوم من الايام في وطن لا يكون الحكم فيه على الناس عن طريق ألوان بشرتهم بل عن طريق اخلاقهم).
شارك الدكتور فاضل في هذه الحركة بقوة ليدعى الى المؤتمر السنوي الخامس لمارتن لوثر كنغ الابن المقام في 21 كانون الثاني 2008 ليكرم بمنحه شهادة (قائد سلام عالمي بارز) التي ندرج ترجمتها ادناه
الصورة بعدسة غانم العنّاز- كاليفورنيا 2011
ولد الدكتور فاضل علي القاضلي في محلة المشاهدة في الموصل في عام 1935 والتحق ببعثة النفط في عام 1954 ليحصل على البكالوريوس في الهنسة المدنية من جامعة لفربول البريطانية في عام 1959 ثم ليحصل بعد ذلك على الماجستير في سنة 1969 لينال بعدها مباشرة شهادة الدكتوراه في عام 1972 من جامعة بيركلي الامريكية الشهيرة.
عمل بعد تخرجه في مصفى الدورة ومن ثم مع شركة تراب بارودي في مشاريع الطرق قبل ان يترك العراق الى بريطانيا حيث ساهم في اعداد تصاميم توسيع منشآت معالجة مياه مجاري مدينة لندن. اما في الولايات المتحدة فقد عمل في مشاريع عديدة كشبكة مترو الانفاق والقطارات السريعة المعقدة حول خليج سان فرانسيسكو الشهير ليشارك بعد ذلك في اعداد التصاميم والاشراف على انشاء عدد من السدود المهمة بالاضافة الى المساهمة في اعداد التصاميم لشبكة خطوط الانابيب اللازمة لنقل مياهها والاشراف على تنفيذها الى غير ذلك من المشاريع الكبيرة.
اما في مجال التدريس فقد عمل كاستاذ في جامعة رود ايلاند الامريكية قبل ان يلتحق بعد ذلك كاستاذ في جامعة ساكرامنتو عاصمة ولاية كاليفورنيا ليستمر في عمله فيها حتى تقاعده في عام 2003.
انخرط الدكتور فاضل خلال الاربعين سنة الماضية في منظمات السلام وعمل من خلالها على شجب الحروب والغزو الامريكي للعراق وبقاء القوات الامريكية فيه واظهار ونشر الجرائم البشعة التي قامت بها لينال ثلاث جوائز سلام تقديراً لجهوده هي:
1- حركة مارتن لوثر كنغ الابن للدفاع عن الحقوق المدنية
شهادة قائد سلام عالمي بارز
يعد الزعيم الامريكي من اصول افريقية والقس والناشط السياسي الانساني مارتن لوثر كنغ الابن من اهم المطالبين بانهاء التمييز العنصري في الولايات المتحدة الامريكية. حاز على جائزة نوبل للسلام في سنة 1964 عن دعوته لمبادئ اللاعنف. كان من الخطباء المفوهين حيث كان لخطابه الشهير (لديّ حلم) الذي القاه في جمع يقدر بحوالي ربع مليون متظاهر في العاصمة واشنطن في عام 1963 الصدى الكبير لانهاء التمييز العنصري الذي قال فيه (لدي حلم أن أرى اولادي الاربعة يعيشون في يوم من الايام في وطن لا يكون الحكم فيه على الناس عن طريق ألوان بشرتهم بل عن طريق اخلاقهم).
شارك الدكتور فاضل في هذه الحركة بقوة ليدعى الى المؤتمر السنوي الخامس لمارتن لوثر كنغ الابن المقام في 21 كانون الثاني 2008 ليكرم بمنحه شهادة (قائد سلام عالمي بارز) التي ندرج ترجمتها ادناه
الذكرى السنوية الخامسة
مارتن لوثر كنغ الابن
شهادة تقدير
21 كانون الثاني 2008
قائد سلام عالمي بارز
الدكتور فاضل القاضلي
مارتن لوثر كنغ الابن
شهادة تقدير
21 كانون الثاني 2008
قائد سلام عالمي بارز
الدكتور فاضل القاضلي
2- الجمعية العمومية لولاية كاليفونيا
California State Assembly
شهادة قائد سلام عالمي بارز
لقد استطاع الدكتور فاضل من خلال منظمات السلام ومن خلال الاجتماعات والمؤتمرات ان يدافع بصورة فعالة عن القضايا التي تهم العراق وفلسطين بصورة رئيسية والوطن العربي بشكل عام. كما انه كان من المشاركين الرئيسيين في مسيرات السلام العديدة الداعية لشجب الحروب وبخاصة الغزو الامريكي للعراق في عام 2003 ثم ليستمرباصرار على التنديد ببقاء القوات الامريكية الطويل والمشاركة في اظهار وفضح الجرائم البشعة التي كانت تقوم بها
California State Assembly
شهادة قائد سلام عالمي بارز
لقد استطاع الدكتور فاضل من خلال منظمات السلام ومن خلال الاجتماعات والمؤتمرات ان يدافع بصورة فعالة عن القضايا التي تهم العراق وفلسطين بصورة رئيسية والوطن العربي بشكل عام. كما انه كان من المشاركين الرئيسيين في مسيرات السلام العديدة الداعية لشجب الحروب وبخاصة الغزو الامريكي للعراق في عام 2003 ثم ليستمرباصرار على التنديد ببقاء القوات الامريكية الطويل والمشاركة في اظهار وفضح الجرائم البشعة التي كانت تقوم بها
لقد كان لصلابة واستمرار مناداته ووقوفه ومن معه باصرار مع الحق ورفض الحرب والعدوان وبالاخص خطبته المعروفة من شرفة الجمعية العمومية لولاية كاليفورنيا صدىً واسعاً في الصحافة والاوساط الاجتماعية نتج عنه قيام الجمعية العمومية لولاية كاليفرنيا، التي عانى من مضايقات سلطاتها الامرين بالامس، بالاعتراف به كمناضل وقائد سلام يستحق التكريم فقررت منحته شهادة (قائد سلام عالمي بارز) في 21 كانون الثاني 2008 والتي ندرج ترجمتها ادناه:
الجمعية العمومية لولاية كاليفونيا
شهادة تقدير
مقدمة
للدكتور فاضل القاضلي
مارتن لوثر كنغ الابن
شهادة قائد سلام عالمي بارز
21 كانون الثاني 2008
شهادة تقدير
مقدمة
للدكتور فاضل القاضلي
مارتن لوثر كنغ الابن
شهادة قائد سلام عالمي بارز
21 كانون الثاني 2008
3- مؤسسة تعليم السلام
Teach Peace Foundation
شهادة معلم سلام
Peace Teacher
تشمل اهداف هذه المنظمة المشاركة في الكتب والفعاليات والدروس والافكار التي تمكن المعلمين والآباء والامهات والطلاب من نشر القيم والمبادئ والطرق التي تشجع على فض النزاعات بالطرق السلمية واحترام حقوق الانسان والديمقراطية والتسامح والتفاهم العقلاني بين الحضارات.
لقد استطاع الدكتور فاضل عن طريق محاضراته وعمله الدؤوب مع مؤسسة تعليم السلام في ولاية كاليفورنيا ان يتدرج ضمن كوادرها ليصبح احد اعضاء مجلس ادارتها الدائميين وليساعد على نشر مبادئها بصورة فعالة ليستحق التكريم من قبلها بمنحته شهادة (معلم سلام) في 21 ايلول 2009 والتي ندرج ترجمتها ادناه :
Teach Peace Foundation
شهادة معلم سلام
Peace Teacher
تشمل اهداف هذه المنظمة المشاركة في الكتب والفعاليات والدروس والافكار التي تمكن المعلمين والآباء والامهات والطلاب من نشر القيم والمبادئ والطرق التي تشجع على فض النزاعات بالطرق السلمية واحترام حقوق الانسان والديمقراطية والتسامح والتفاهم العقلاني بين الحضارات.
لقد استطاع الدكتور فاضل عن طريق محاضراته وعمله الدؤوب مع مؤسسة تعليم السلام في ولاية كاليفورنيا ان يتدرج ضمن كوادرها ليصبح احد اعضاء مجلس ادارتها الدائميين وليساعد على نشر مبادئها بصورة فعالة ليستحق التكريم من قبلها بمنحته شهادة (معلم سلام) في 21 ايلول 2009 والتي ندرج ترجمتها ادناه :
معلم سلام
منحت هذه الشهادة
لفاضل القاضلي
تعترف مؤسسة تعليم السلام بعملك المدهش لجلب السلام لشعبي العراق والولايات المتحدة الامريكية. ان دروسك عن ايجاد حلول للسلام قد الهمت طلابك من كافة الاجيال. ان تلاميذك قد دُفعوا لذرف الدموع عندما سمعوا عن اسرتك في العراق وعن البديل السلمي الذي انقذ جنوداً، يقاتلون في حروب ليست ضرورية، من الموت. لقد اوضحتَ كيف يمكن لشخص واحد ان يتغلب على الدعاية المتزايدة للحروب والتي اصبحت كناتج ثانوي للحكومات. ان الحقيقة مطلوبة لاجل اولادنا وبلادنا. شكراً لاستمرارك على قول الحق وايضاح كيف يمكن للحب ان يدحر البغضاء.
21 ايلول 2009
هذا ولا زال فاضل مستمرا في نشر رسالته للسلام والدعوة للاخذ بالقيم والمبادئ التي تشجع على فض النزاعات بالطرق السلمية وشجب الحروب والعدوان في العالم بالرغم من بلوغه الثامنة والسبعون من العمر. لذلك لا يسعني الا ان اشعر بالفخر والاعتزاز بصديق عمري المناضل العنيد في سبيل الحرية والسلام والدفاع عن العراق الحبيب الى قلبه وادعو من الله ان يمد في عمره ويمتعه بصحة جيدة ليستمر في العمل من اجل الخير للبشرية جمعاء.
الجذور العميقة
لنعود الان الى الماضي السعيد حيث بدأت صداقتنا انا وفاضل منذ الطفولة في مدرسة الحدباء الابتدائية في أوائل أربعينيات القرن الماضي والتي لم تنقطع الى يومنا هذا بالرغم من كافة الظروف الصعبة وهجرتنا وعملنا في مناطق عديدة من العالم. إنها صداقة ذات جذور عميقة استمرت ولم تفتر ابدا حيث لم نكن لنفترق الا لنلتقي في هذا البلد او ذاك وتبقى الإتصالات خلال الفراق مستمرة عبر الهاتف والرسائل.
لم يكن لمديرية المعارف (التربية) في ذلك الزمان ابنية مدرسية حديثة خاصة بها بل كانت في كثير من الاحيان تستأجر بعض الدور السكنية لاستخدامها كمدارس.
فكانت بناية مدرسة الحدباء الابتدائية احدى تلك الدور ذات الفناء الواسع المحاط بالعديد من الغرف التي استخدمت ست منها كصفوف والاخرى للادارة. تقع تلك المدرسة في اقصى الجهة الغربية من المدينة بجوار دور عائلة السيد توحي الذين اشتهروا (بعزامة المخبث) ويفصلها عن شارع ابن الاثير- باب سنجار والمتوسطة الغربية (الاعدادية الآن) ارض خلاء تعرف بارض الوطا (الواطئة) التي كانت تستخدم من قبل المدرسة كساحة للرياضة وفي موسم الحصاد كارض للبيادر حيث كنا في صغرنا نركب على الجرجر الذي انقرض لتحل محله ماكنة الدرّاسة الحديثة.
كانت الصافرة الصباحية تدعونا للاصطفاف امام صفوفنا ومد ايدينا الى الامام ليقوم معلم كل صف بتفقد نظافة ايادينا وقصر اظافرنا ليقوم بعد ذلك مراقب الصف بقلب طاقة قميص كل منا ليتفقدها المعلم ويتأكد من نظافتها.
كان مدير المدرسة في ذلك الزمان المرحوم جلال افندي المفتي المعروف بسدارته الفيصلية وخيزرانه المرعبة للاطفال والتي لا تكاد تفارق يمينه. فقد كانت جاهزة للمتغيبين والكسالى والذين لم يحضروا واجباتهم وغير ذلك ويا ويل لمن يخالف الاوامر او يشاكس. لقد كان رحمه الله قصير القامة نسبيا , كبير الكرش حاد المزاج. فقد كان ينفعل اذا كان ذنب الطالب المسكين كبيراً حيث ان العقوبة لا تتوقف عند الضرب بالخيزران بل يصاحب ذلك سيل من التوبيخ والتقريع الذي لا يخلو من عبارته الشهيرة التي يوجهها الى الطالب بين الحين والآخر , (دب ابن الدب).
وكان اهلنا يعتبرون العقاب من الامور المفيدة التي تعلمنا النظام اضافة الى الجد والاجتهاد وهم لم يأخذوا النعت بالدب على محمل الجد لعلمهم باخلاص المدير بتعليم ابنائهم. على كل حال لربما كان لأهلنا الحق بعدم الاعتراض على اساليب التعليم الصارمة نوعاً ما بعدما شاهدناه من التسيب والاهمال وقلة الاحترام للمعلم في الكثير من مدارسنا في العقود اللاحقة.
لقد كان معظم الطلاب من العوائل الساكنة حول واطراف المدرسة لتصل الى بداية محلة الحمام المنقوشة التي تضم دورنا ودور جيراننا عائلة حديد وتمتد الى محلة خزرج والشيخ فتحي والعقيدات من الجهات الاخرى.
لقد ضمت المدرسة خلال فترة دراستنا في الاربعينيات من القرن الماضي نخبة من الاصدقاء والزملاء الذين اذكر منهم اخي العميد الطبيب يحيى العناز مدير الامور الطبية للقاعدة البحرية في البصرة وصديقي العزيز العميد الركن ناصر عزيز حديد واخاه الدكتور في الهندسة المدنية حسون حديد والدكتور احمد سعيد حديد والمهندس مظفر صالح غزال نائب محافظ نينوى ومدير شرطة المرورالعام احمد عبد الجبار كشمولة وكل من اللواء الركن نعمة الله واخاه مدير الشرطة العام عبد المحسن ولدي خليل خضير الاسود مختار محلة المشاهدة والمربي محمود حامد الطائي اضافة الى الدكتور فاضل القاضلي واخوانه العميد الطبيب عبد المحسن واالاستاذ احمد مدير متحف التاريخ الطبيعي في الموصل والمهندس فيصل والمهندس عبدالمالك وأقدم إعتذاري للذين لا تسعفني الذاكرة لذكرهم.
لقد كان فاضل منذ الصغرذكي ذو عقل متفتح مولع بغرائب الاشياء التي تثير الدهشة بين اصدقائه الاطفال اضافة الى عدم خوفه من كثير من الامور التي قد تثير الذعر فينا. فقد كنا نقضي الفرص بين الدروس باللعب والحديث واذا بفاضل خلال احدى تلك الفرص يخرج من جيب سرواله كيساً صغيراً من القماش. لم اعر لذلك اهتماما او لما يحتويه الكيس الا بعد ان قام بفتحه ليخرج ما فيه واذا بحيّةٍ صغيرة تطل برأسها. فأصابنا الخوف ونحن في سن العاشرة او الحادية عشرة وابتعدنا عنه. فما كان من فاضل الا ان قابلنا بابتسامته الماكرة لبيان شجاعته ليخرج الحية التي يبلغ طولها حوالي 15 سم ويدعها تتلوى بين اصابعه الصغيرة ويدعونا لعدم الخوف والإقتراب لمشاهدتها دون جدوى.
انهينا انا وفاضل الابتدائية لنلتحق بالمتوسطة الغربية (الاعدادية الآن) الواقعة في باب سنجار وكانت قد انشئت حديثا وتفصلها عن المدينة ارض الوطا التي كانت اقرب الدور اليها تلك الواقعة على تل كناس.
انهينا الدراسة المتوسطة في صيف 1952 لنلتحق بالاعدادية المركزية (الشرقية الآن) في وسط المدينة. وبالرغم من درجاتنا العالية فقد نسبنا انا وفاضل الى شعبة الصف الرابع (ز) التي عادة ما ينسب اليها ذوو الدرجات الواطئة او ما كنا نسميها شعبة الكسالى! ومع ان ذلك كان مثبطا لهممنا الا اننا حصلنا على درجات عالية اهلتنا للالتحاق معا بالصف الخامس الشعبة (أ)، شعبة المجتهدين.
لقد كانت شعبة الخامس (أ) لعام 1954 تشمل عدداً من خيرة الطلبة الذين اذكر منهم المهندسين صباح الدملوجي واحمد عزيز شهاب وعبد المطلب العريبي وفاضل القاضلي والدكتورعلي عزيز علي والأطباء صديق حسين الخشاب ومطاع الدليمي مع اعتذاري للاخوة الذين لا تسعفني الذاكرة لتذكرهم.
اما المعلمون الذين كان لهم تأثير يذكر بيننا فكان منهم على سبيل المثال لا الحصر مدرس البلاغة المرحوم ايوب صبري بقامته الطويلة وكرشه الممتلئ وسدارته الفيصلية الشهيرة. فقد كان لديه دفتر خاص يحتوي على محاضراته التي تشمل مبادئ البلاغة ومحاسن وعيوب الشعر بالاضافة الى التعرف على فحول شعراء العصر الجاهلي وعصر صدر الاسلام والخلفاء الراشدين والعصرين الاموي العباسي. فقد كان يملي علينا محاضراته من دفتره العتيق وهو يذرع الصف ذهابه وايابا. ويقال بأن دفتره هذا معمر لم يتغير عبر سنين طويلة. وكان يصر على حفظ الامثلة الشعرية التي يمليها علينا عن محاسن وعيوب الشعر واغراضه من وصف ومدح وهجاء ورثاء وحماسة وفخر وغزل وغيرها ولا يقبل اي مثل آخر منا وان كان صحيحا. ومن الطريف ان الامتحان الشفهي الفصلي للمحفوظات الشعرية كان يحضره كل من المرحوم ايوب صبري ومعلم اللغة العربية الاخر الاصغر منه سنا الشاعر ووزير الثقافة والارشاد السابق المرحوم شاذل طاقة. ويقال بانه كثيرا ما كان يدب بينهما الخلاف في تقييم الدرجات.
رحم الله هذين المدرسين وبقية مدرسينا الاخيار الذين تربينا على ايديهم في كافة مراحلنا الدراسية الذين زرعوا فينا الخصال الحميدة ومكارم الاخلاق اضافة العلوم والآداب لتتخرج على ايديهم اجيالا يفتخر بها.
بعثة النفط
جلسنا لأداء الامتحان الوزاري للبكلوريا في صيف 1954 حيث حصل معظم طلاب شعبتنا على درجات عالية اهلت اربعة منهم للحصول على مقاعد في بعثة النفط وهم فاضل القاضلي لدراسة الهندسة المدنية ، صباح الدملوجي لدراسة الهندسة الميكانيكية، احمد عزيز شهاب لدراسة الهندسة الكهربائية بالاضافة لي لدراسة الهندسة المدنية.
لقد كان القبول بالبعثة بالنسبة لي ولمعظم الطلبة الأخرين من خارج بغداد ونحن في سن السابعة او الثامنة عشرة امر امتزج فيه الفرح مع شئ من الرهبة حيث انني لم ارى بغداد من قبل الا مرة واحدة وانا في سن الرابعة عشرة وكان السفر اليها مع الاهل فكيف سيكون السفر الى لندن وحيداً؟ وقد كان الوضع بالنسبة لفاضل اكثر رهبة حيث انه لم يسافر الى بغداد من قبل مطلقا فكيف سيكون العيش في لندن, مدينة الضباب كما كانوا يسمونها, والتي كنا نسمع عنها العجائب من معالمها الشهيرة والدمار الذي لحق بها خلال الحرب وشحة المواد الغذائية وتوزيعها بالبطاقة التموينية وغيرها من الامور التي اختلطت فيها الحقائق مع كثير من الخيال؟
وقد كانت روايات شحة المواد الغذائية وتوزيعها بالبطاقة التموينية خلال سنين الحرب العالمية الثانية وما تلاها من سنين اخرى لغاية 1952 من اكثر الامور التي اثرت فينا وفي اهلنا لذلك فقد قاموا بتزويدنا بكمية لا بأس بها من النواشف كالقسب (التمر الجفف) والتين المجفف والزبيب والجوز واللوز ولا بأس بشئ من الكعك (الكليجة). اما احد الاصدقاء من بغداد فقد زودوه اهله بعلب اللحم والجبن والسمك اضافة الى بطانية حيث انه استعملها في ليلته الاولى في الفندق في لندن حيث انه لم يجرأ أو لم يخطر على باله كشف غطاء المنام المكوي الفاخر ليرى ما تحته من بطانيات صوفية ناعمة وشراشف بيضاء ناصعة اعدت له للاندساس بين طياتها الدافئة فبات ليلته فوق غطاء المنام مرتجفاً ملتحفاً ببطانيته العزيزة!
لقد كان من حسن الحظ ان نسافر انا وفاضل سوية في اواخر صيف 1954 على طائرة الخطوط الجوية الفرنسية الى بيروت لقضاء ليلة هناك حيث ان مدى الطائرات في ذلك الزمان كان محدوداً.
اخذونا من مطار بيروت الى الفندق الذي سنقضي ليلتنا فيه فوجدنا فيه العجائب من غرف النوم الفاخرة والعامرة بمختلف انواع الاثاث والحمامات الغربية الناصعة والمناشف المتنوعة التي لم نر مثلها من قبل الا في الافلام السينمائية حيث لم يكن التلفزيون قد وصل العراق في ذلك الوقت.
طلبنا عشاء فقيل لنا انزلوا الى الطابق الفلاني الذي فيه المطعم. وصلنا المطعم وما ان دخلناه الا لنجده شئ اقرب الى الخيال في السعة والابهة والاكثر من ذلك وجود فرقة موسيقية في احد الاركان تعزف الحانها الشجية لينزل الطعام ليس فقط هنيئاً مريئاً بل راقصاً شجياً.
اجلسونا على احدى الموائد التي تحتوي على انواع الملاعق والشوكات والسكاكين اضافة الى الاقداح وانواع الخبز. فتفاءلنا خيراً بعشاء دسم ولذيذ يفتح الشهية ويليق بابهة المكان. وهنا كانت المفاجأة فبعد قليل من الانتظار وضعوا امام كل منا صحناً من الشوربة فانتظرنا قليلاً لوصول بقية الطعام وعندما لم يأتوا لنا بشئ آخرقلت مع نفسي يا للهول أهذا عشاءنا بعد كل ما رأينا من تلك الرفاهية؟ انا اعلم ان اهلنا قد حذرونا من شحة الطعام في اوربا لكننا لا زلنا في بيروت ويظهر بان العشاء هنا مقصور على الشوربة فكيف سيكون الحال في بريطانيا التي لا زالت تعاني من شحة المواد الغذائية؟ توكلنا على الله وبدأنا بشرب الشوربة مع اكل الخبز لسد الجوع. وهنا كانت المفاجأة الثانية حيث جاءني النادل بسرواله الاسود الانيق وقميصه الابيض الناصع وربطة عنقه السوداء على شكل عقدة وابتسامته المشفقة المطمئنة، والذي قدر ما نحن فيه من السذاجة وعدم المعرفة بالاصول (الأتيكيت)، ليهمس في اذني ان هناك لحمة وكبة وخضار وفاكهة واشياء اخرى عددها. فتعجبت عندها وسألته ما دام هناك كل تلك الاطعمة لماذا قدم لنا الشوربة فقط ولم يقدم معها بعضا من تلك الأطعمة؟ وطلبت منه اخذ صحن الشوربة وبقية ما فيه وتقديم ما لذ وطاب من الاطعمة الشهية التي ذكرها. لقد فهمنا عند ذلك بان انواع الأطعمة تقدم الواحدة تلو الاخرى وكانت هذه المفاجأة الاولى والدرس الأول الذي تعلمناه وما اكثر المفاجآت والدروس الاخرى التي تعلمناها فيما بعد خلال فترة دراستنا في بريطانيا وما سمعناه عن الكثير من امثال ذلك من الطرائف من بقية زملائنا الطلاب.
وصلنا لندن لنقضي فيها اياماً قليلة قبل ان نفترق انا وفاضل بعدها لأول مرة للحصول على الشهادة البريطانية العامة التي حصلنا عليها في سنة 1956. التحق فاضل بعدها بجامعة ليفربول والتحقت انا بجامعة شفيلد لنحصل على شهادة البكالوريوس في الهندسة المدنية سنة 1959 . لقد كنا خلال الخمس سنوات من دراستنا في بريطانيا على اتصال دائم تتخلله لقاءات بين الحين والآخر.
ومن الطريف انني والغالبية العظمى من طلاب ذلك الزمان لم نستطع الاتصال باهلنا بتاتاً خلال سنوات الدراسة الخمس لعدم توفر الهواتف في دورنا في العراق او في معظم اماكن سكننا في بريطانيا اضافة الى غلاء ثمن المكالمات لنرى طلبتنا اليوم وبايديهم الهواتف النقالة وهم يكلمون اهلهم في اخر الدنيا متى شاؤوا لا بل يشاهدوهم على شاشات الحاسوب وبابخس الاثمان.
رجعنا بعد تخرجنا الى العراق في خريف 1959 لنلتقي من جديد في كلية الضباط الاحتياط في ربيع 1960 لنتخرج برتبة ملازم ثاني احتياط في 14 تموز 1960. وهنا يحالفنا الحظ مرة اخرى ليلتم الشمل من جديد حيث نسبنا للعمل في مديرية الاشغال العسكرية العامة في مقرها بوزارة الدفاع اولا ثم نقلنا الى الكلية العسكرية في الرستمية كمدرسين حيث كان فاضل يدرس اللغة الانكليزية والفيزياء وكنت انا ادرس الرياضيات للصفوف المستجدة والمتوسطة والمنتهية لنرى طلبتنا بعد سنين يحملون رتبهم العالية في الجيش العراقي بفخر واعتزاز.
صداقة عمرها سبعون سنة
انتهت امتحانات الكلية العسكرية في تموز 1961 وبعد حفلة التخرج التحقت انا بشركة نفط العراق في كركوك والتحق فاضل بمصفى الدورة في بغداد لنفترق من جديد. والبرغم من ان ذلك الفراق اخذنا الى بلاد بعضها كما يقال في آخر الدنيا الا اننا بقينا على اتصال مستمر تتخلله بعض اللقاءات التي تعيد لنا ذكريات جميلة لصداقة عمر طويلة قاربت السبعة عقود ولا زالت مستمرة وقوية حتى الآن قلت فيها قصيدتي المهداة لفاضل بعنوان (صديق العمر) والتي منها الابيات التالية :
صديقُ العمر حيّانـا وصاغ الـودَّ ألـوانـا
بصوتٍ هادئٍ عـذب ٍ فأجرى الشوقَ ألحانا
**********
وعدنا نذكـرُ الماضي ومـا صـار وما كانا
ويوم كـنّـا صـبـيـانـا وكان الأهـل جيـرانا
نطوفُ الحيَ تِجوالا زُرافـاتٍ ووحـدانــا
**********
وعاد يذكر الحاضر ويحكي بعض شكوانا
يـقـول عـادني هــمٌّ وقد اصبحتُ حـيرانـا
بلادي أصبحت قـفراً وزاد الظلمُ طغـيانـا
فقد أضحى كما يبدو عـزيـز القوم قد هانا
وأمسى الحرّ مأسوراً يـباتُ الـليل سهـرانا
فكيف الصبر يا خِلّي وقد أمسـيـنا نسيانـا
**********
فـقلت يا أخي مهـلاً ففجر الفـتح قد حانـا
سيهوي كلّ طاغوتٍ ويشقـى كلّ من خـانا
لـتعـلـو رايـة الـعـدلِ ويزهـو الحقُ جـذلانا
**********
الى اخر تلك القصيدة الطويلة التي يمكن الاطلاع عليها في مدونتي:
ghanim-anaz.blogspot.co.uk
واتفورد - ضواحي لندن
تشرين ثاني 2013
للعودة إلى الصفحة الرئيسة
الجذور العميقة
لنعود الان الى الماضي السعيد حيث بدأت صداقتنا انا وفاضل منذ الطفولة في مدرسة الحدباء الابتدائية في أوائل أربعينيات القرن الماضي والتي لم تنقطع الى يومنا هذا بالرغم من كافة الظروف الصعبة وهجرتنا وعملنا في مناطق عديدة من العالم. إنها صداقة ذات جذور عميقة استمرت ولم تفتر ابدا حيث لم نكن لنفترق الا لنلتقي في هذا البلد او ذاك وتبقى الإتصالات خلال الفراق مستمرة عبر الهاتف والرسائل.
لم يكن لمديرية المعارف (التربية) في ذلك الزمان ابنية مدرسية حديثة خاصة بها بل كانت في كثير من الاحيان تستأجر بعض الدور السكنية لاستخدامها كمدارس.
فكانت بناية مدرسة الحدباء الابتدائية احدى تلك الدور ذات الفناء الواسع المحاط بالعديد من الغرف التي استخدمت ست منها كصفوف والاخرى للادارة. تقع تلك المدرسة في اقصى الجهة الغربية من المدينة بجوار دور عائلة السيد توحي الذين اشتهروا (بعزامة المخبث) ويفصلها عن شارع ابن الاثير- باب سنجار والمتوسطة الغربية (الاعدادية الآن) ارض خلاء تعرف بارض الوطا (الواطئة) التي كانت تستخدم من قبل المدرسة كساحة للرياضة وفي موسم الحصاد كارض للبيادر حيث كنا في صغرنا نركب على الجرجر الذي انقرض لتحل محله ماكنة الدرّاسة الحديثة.
كانت الصافرة الصباحية تدعونا للاصطفاف امام صفوفنا ومد ايدينا الى الامام ليقوم معلم كل صف بتفقد نظافة ايادينا وقصر اظافرنا ليقوم بعد ذلك مراقب الصف بقلب طاقة قميص كل منا ليتفقدها المعلم ويتأكد من نظافتها.
كان مدير المدرسة في ذلك الزمان المرحوم جلال افندي المفتي المعروف بسدارته الفيصلية وخيزرانه المرعبة للاطفال والتي لا تكاد تفارق يمينه. فقد كانت جاهزة للمتغيبين والكسالى والذين لم يحضروا واجباتهم وغير ذلك ويا ويل لمن يخالف الاوامر او يشاكس. لقد كان رحمه الله قصير القامة نسبيا , كبير الكرش حاد المزاج. فقد كان ينفعل اذا كان ذنب الطالب المسكين كبيراً حيث ان العقوبة لا تتوقف عند الضرب بالخيزران بل يصاحب ذلك سيل من التوبيخ والتقريع الذي لا يخلو من عبارته الشهيرة التي يوجهها الى الطالب بين الحين والآخر , (دب ابن الدب).
وكان اهلنا يعتبرون العقاب من الامور المفيدة التي تعلمنا النظام اضافة الى الجد والاجتهاد وهم لم يأخذوا النعت بالدب على محمل الجد لعلمهم باخلاص المدير بتعليم ابنائهم. على كل حال لربما كان لأهلنا الحق بعدم الاعتراض على اساليب التعليم الصارمة نوعاً ما بعدما شاهدناه من التسيب والاهمال وقلة الاحترام للمعلم في الكثير من مدارسنا في العقود اللاحقة.
لقد كان معظم الطلاب من العوائل الساكنة حول واطراف المدرسة لتصل الى بداية محلة الحمام المنقوشة التي تضم دورنا ودور جيراننا عائلة حديد وتمتد الى محلة خزرج والشيخ فتحي والعقيدات من الجهات الاخرى.
لقد ضمت المدرسة خلال فترة دراستنا في الاربعينيات من القرن الماضي نخبة من الاصدقاء والزملاء الذين اذكر منهم اخي العميد الطبيب يحيى العناز مدير الامور الطبية للقاعدة البحرية في البصرة وصديقي العزيز العميد الركن ناصر عزيز حديد واخاه الدكتور في الهندسة المدنية حسون حديد والدكتور احمد سعيد حديد والمهندس مظفر صالح غزال نائب محافظ نينوى ومدير شرطة المرورالعام احمد عبد الجبار كشمولة وكل من اللواء الركن نعمة الله واخاه مدير الشرطة العام عبد المحسن ولدي خليل خضير الاسود مختار محلة المشاهدة والمربي محمود حامد الطائي اضافة الى الدكتور فاضل القاضلي واخوانه العميد الطبيب عبد المحسن واالاستاذ احمد مدير متحف التاريخ الطبيعي في الموصل والمهندس فيصل والمهندس عبدالمالك وأقدم إعتذاري للذين لا تسعفني الذاكرة لذكرهم.
لقد كان فاضل منذ الصغرذكي ذو عقل متفتح مولع بغرائب الاشياء التي تثير الدهشة بين اصدقائه الاطفال اضافة الى عدم خوفه من كثير من الامور التي قد تثير الذعر فينا. فقد كنا نقضي الفرص بين الدروس باللعب والحديث واذا بفاضل خلال احدى تلك الفرص يخرج من جيب سرواله كيساً صغيراً من القماش. لم اعر لذلك اهتماما او لما يحتويه الكيس الا بعد ان قام بفتحه ليخرج ما فيه واذا بحيّةٍ صغيرة تطل برأسها. فأصابنا الخوف ونحن في سن العاشرة او الحادية عشرة وابتعدنا عنه. فما كان من فاضل الا ان قابلنا بابتسامته الماكرة لبيان شجاعته ليخرج الحية التي يبلغ طولها حوالي 15 سم ويدعها تتلوى بين اصابعه الصغيرة ويدعونا لعدم الخوف والإقتراب لمشاهدتها دون جدوى.
انهينا انا وفاضل الابتدائية لنلتحق بالمتوسطة الغربية (الاعدادية الآن) الواقعة في باب سنجار وكانت قد انشئت حديثا وتفصلها عن المدينة ارض الوطا التي كانت اقرب الدور اليها تلك الواقعة على تل كناس.
انهينا الدراسة المتوسطة في صيف 1952 لنلتحق بالاعدادية المركزية (الشرقية الآن) في وسط المدينة. وبالرغم من درجاتنا العالية فقد نسبنا انا وفاضل الى شعبة الصف الرابع (ز) التي عادة ما ينسب اليها ذوو الدرجات الواطئة او ما كنا نسميها شعبة الكسالى! ومع ان ذلك كان مثبطا لهممنا الا اننا حصلنا على درجات عالية اهلتنا للالتحاق معا بالصف الخامس الشعبة (أ)، شعبة المجتهدين.
لقد كانت شعبة الخامس (أ) لعام 1954 تشمل عدداً من خيرة الطلبة الذين اذكر منهم المهندسين صباح الدملوجي واحمد عزيز شهاب وعبد المطلب العريبي وفاضل القاضلي والدكتورعلي عزيز علي والأطباء صديق حسين الخشاب ومطاع الدليمي مع اعتذاري للاخوة الذين لا تسعفني الذاكرة لتذكرهم.
اما المعلمون الذين كان لهم تأثير يذكر بيننا فكان منهم على سبيل المثال لا الحصر مدرس البلاغة المرحوم ايوب صبري بقامته الطويلة وكرشه الممتلئ وسدارته الفيصلية الشهيرة. فقد كان لديه دفتر خاص يحتوي على محاضراته التي تشمل مبادئ البلاغة ومحاسن وعيوب الشعر بالاضافة الى التعرف على فحول شعراء العصر الجاهلي وعصر صدر الاسلام والخلفاء الراشدين والعصرين الاموي العباسي. فقد كان يملي علينا محاضراته من دفتره العتيق وهو يذرع الصف ذهابه وايابا. ويقال بأن دفتره هذا معمر لم يتغير عبر سنين طويلة. وكان يصر على حفظ الامثلة الشعرية التي يمليها علينا عن محاسن وعيوب الشعر واغراضه من وصف ومدح وهجاء ورثاء وحماسة وفخر وغزل وغيرها ولا يقبل اي مثل آخر منا وان كان صحيحا. ومن الطريف ان الامتحان الشفهي الفصلي للمحفوظات الشعرية كان يحضره كل من المرحوم ايوب صبري ومعلم اللغة العربية الاخر الاصغر منه سنا الشاعر ووزير الثقافة والارشاد السابق المرحوم شاذل طاقة. ويقال بانه كثيرا ما كان يدب بينهما الخلاف في تقييم الدرجات.
رحم الله هذين المدرسين وبقية مدرسينا الاخيار الذين تربينا على ايديهم في كافة مراحلنا الدراسية الذين زرعوا فينا الخصال الحميدة ومكارم الاخلاق اضافة العلوم والآداب لتتخرج على ايديهم اجيالا يفتخر بها.
بعثة النفط
جلسنا لأداء الامتحان الوزاري للبكلوريا في صيف 1954 حيث حصل معظم طلاب شعبتنا على درجات عالية اهلت اربعة منهم للحصول على مقاعد في بعثة النفط وهم فاضل القاضلي لدراسة الهندسة المدنية ، صباح الدملوجي لدراسة الهندسة الميكانيكية، احمد عزيز شهاب لدراسة الهندسة الكهربائية بالاضافة لي لدراسة الهندسة المدنية.
لقد كان القبول بالبعثة بالنسبة لي ولمعظم الطلبة الأخرين من خارج بغداد ونحن في سن السابعة او الثامنة عشرة امر امتزج فيه الفرح مع شئ من الرهبة حيث انني لم ارى بغداد من قبل الا مرة واحدة وانا في سن الرابعة عشرة وكان السفر اليها مع الاهل فكيف سيكون السفر الى لندن وحيداً؟ وقد كان الوضع بالنسبة لفاضل اكثر رهبة حيث انه لم يسافر الى بغداد من قبل مطلقا فكيف سيكون العيش في لندن, مدينة الضباب كما كانوا يسمونها, والتي كنا نسمع عنها العجائب من معالمها الشهيرة والدمار الذي لحق بها خلال الحرب وشحة المواد الغذائية وتوزيعها بالبطاقة التموينية وغيرها من الامور التي اختلطت فيها الحقائق مع كثير من الخيال؟
وقد كانت روايات شحة المواد الغذائية وتوزيعها بالبطاقة التموينية خلال سنين الحرب العالمية الثانية وما تلاها من سنين اخرى لغاية 1952 من اكثر الامور التي اثرت فينا وفي اهلنا لذلك فقد قاموا بتزويدنا بكمية لا بأس بها من النواشف كالقسب (التمر الجفف) والتين المجفف والزبيب والجوز واللوز ولا بأس بشئ من الكعك (الكليجة). اما احد الاصدقاء من بغداد فقد زودوه اهله بعلب اللحم والجبن والسمك اضافة الى بطانية حيث انه استعملها في ليلته الاولى في الفندق في لندن حيث انه لم يجرأ أو لم يخطر على باله كشف غطاء المنام المكوي الفاخر ليرى ما تحته من بطانيات صوفية ناعمة وشراشف بيضاء ناصعة اعدت له للاندساس بين طياتها الدافئة فبات ليلته فوق غطاء المنام مرتجفاً ملتحفاً ببطانيته العزيزة!
لقد كان من حسن الحظ ان نسافر انا وفاضل سوية في اواخر صيف 1954 على طائرة الخطوط الجوية الفرنسية الى بيروت لقضاء ليلة هناك حيث ان مدى الطائرات في ذلك الزمان كان محدوداً.
اخذونا من مطار بيروت الى الفندق الذي سنقضي ليلتنا فيه فوجدنا فيه العجائب من غرف النوم الفاخرة والعامرة بمختلف انواع الاثاث والحمامات الغربية الناصعة والمناشف المتنوعة التي لم نر مثلها من قبل الا في الافلام السينمائية حيث لم يكن التلفزيون قد وصل العراق في ذلك الوقت.
طلبنا عشاء فقيل لنا انزلوا الى الطابق الفلاني الذي فيه المطعم. وصلنا المطعم وما ان دخلناه الا لنجده شئ اقرب الى الخيال في السعة والابهة والاكثر من ذلك وجود فرقة موسيقية في احد الاركان تعزف الحانها الشجية لينزل الطعام ليس فقط هنيئاً مريئاً بل راقصاً شجياً.
اجلسونا على احدى الموائد التي تحتوي على انواع الملاعق والشوكات والسكاكين اضافة الى الاقداح وانواع الخبز. فتفاءلنا خيراً بعشاء دسم ولذيذ يفتح الشهية ويليق بابهة المكان. وهنا كانت المفاجأة فبعد قليل من الانتظار وضعوا امام كل منا صحناً من الشوربة فانتظرنا قليلاً لوصول بقية الطعام وعندما لم يأتوا لنا بشئ آخرقلت مع نفسي يا للهول أهذا عشاءنا بعد كل ما رأينا من تلك الرفاهية؟ انا اعلم ان اهلنا قد حذرونا من شحة الطعام في اوربا لكننا لا زلنا في بيروت ويظهر بان العشاء هنا مقصور على الشوربة فكيف سيكون الحال في بريطانيا التي لا زالت تعاني من شحة المواد الغذائية؟ توكلنا على الله وبدأنا بشرب الشوربة مع اكل الخبز لسد الجوع. وهنا كانت المفاجأة الثانية حيث جاءني النادل بسرواله الاسود الانيق وقميصه الابيض الناصع وربطة عنقه السوداء على شكل عقدة وابتسامته المشفقة المطمئنة، والذي قدر ما نحن فيه من السذاجة وعدم المعرفة بالاصول (الأتيكيت)، ليهمس في اذني ان هناك لحمة وكبة وخضار وفاكهة واشياء اخرى عددها. فتعجبت عندها وسألته ما دام هناك كل تلك الاطعمة لماذا قدم لنا الشوربة فقط ولم يقدم معها بعضا من تلك الأطعمة؟ وطلبت منه اخذ صحن الشوربة وبقية ما فيه وتقديم ما لذ وطاب من الاطعمة الشهية التي ذكرها. لقد فهمنا عند ذلك بان انواع الأطعمة تقدم الواحدة تلو الاخرى وكانت هذه المفاجأة الاولى والدرس الأول الذي تعلمناه وما اكثر المفاجآت والدروس الاخرى التي تعلمناها فيما بعد خلال فترة دراستنا في بريطانيا وما سمعناه عن الكثير من امثال ذلك من الطرائف من بقية زملائنا الطلاب.
وصلنا لندن لنقضي فيها اياماً قليلة قبل ان نفترق انا وفاضل بعدها لأول مرة للحصول على الشهادة البريطانية العامة التي حصلنا عليها في سنة 1956. التحق فاضل بعدها بجامعة ليفربول والتحقت انا بجامعة شفيلد لنحصل على شهادة البكالوريوس في الهندسة المدنية سنة 1959 . لقد كنا خلال الخمس سنوات من دراستنا في بريطانيا على اتصال دائم تتخلله لقاءات بين الحين والآخر.
ومن الطريف انني والغالبية العظمى من طلاب ذلك الزمان لم نستطع الاتصال باهلنا بتاتاً خلال سنوات الدراسة الخمس لعدم توفر الهواتف في دورنا في العراق او في معظم اماكن سكننا في بريطانيا اضافة الى غلاء ثمن المكالمات لنرى طلبتنا اليوم وبايديهم الهواتف النقالة وهم يكلمون اهلهم في اخر الدنيا متى شاؤوا لا بل يشاهدوهم على شاشات الحاسوب وبابخس الاثمان.
رجعنا بعد تخرجنا الى العراق في خريف 1959 لنلتقي من جديد في كلية الضباط الاحتياط في ربيع 1960 لنتخرج برتبة ملازم ثاني احتياط في 14 تموز 1960. وهنا يحالفنا الحظ مرة اخرى ليلتم الشمل من جديد حيث نسبنا للعمل في مديرية الاشغال العسكرية العامة في مقرها بوزارة الدفاع اولا ثم نقلنا الى الكلية العسكرية في الرستمية كمدرسين حيث كان فاضل يدرس اللغة الانكليزية والفيزياء وكنت انا ادرس الرياضيات للصفوف المستجدة والمتوسطة والمنتهية لنرى طلبتنا بعد سنين يحملون رتبهم العالية في الجيش العراقي بفخر واعتزاز.
صداقة عمرها سبعون سنة
انتهت امتحانات الكلية العسكرية في تموز 1961 وبعد حفلة التخرج التحقت انا بشركة نفط العراق في كركوك والتحق فاضل بمصفى الدورة في بغداد لنفترق من جديد. والبرغم من ان ذلك الفراق اخذنا الى بلاد بعضها كما يقال في آخر الدنيا الا اننا بقينا على اتصال مستمر تتخلله بعض اللقاءات التي تعيد لنا ذكريات جميلة لصداقة عمر طويلة قاربت السبعة عقود ولا زالت مستمرة وقوية حتى الآن قلت فيها قصيدتي المهداة لفاضل بعنوان (صديق العمر) والتي منها الابيات التالية :
صديقُ العمر حيّانـا وصاغ الـودَّ ألـوانـا
بصوتٍ هادئٍ عـذب ٍ فأجرى الشوقَ ألحانا
**********
وعدنا نذكـرُ الماضي ومـا صـار وما كانا
ويوم كـنّـا صـبـيـانـا وكان الأهـل جيـرانا
نطوفُ الحيَ تِجوالا زُرافـاتٍ ووحـدانــا
**********
وعاد يذكر الحاضر ويحكي بعض شكوانا
يـقـول عـادني هــمٌّ وقد اصبحتُ حـيرانـا
بلادي أصبحت قـفراً وزاد الظلمُ طغـيانـا
فقد أضحى كما يبدو عـزيـز القوم قد هانا
وأمسى الحرّ مأسوراً يـباتُ الـليل سهـرانا
فكيف الصبر يا خِلّي وقد أمسـيـنا نسيانـا
**********
فـقلت يا أخي مهـلاً ففجر الفـتح قد حانـا
سيهوي كلّ طاغوتٍ ويشقـى كلّ من خـانا
لـتعـلـو رايـة الـعـدلِ ويزهـو الحقُ جـذلانا
**********
الى اخر تلك القصيدة الطويلة التي يمكن الاطلاع عليها في مدونتي:
ghanim-anaz.blogspot.co.uk
واتفورد - ضواحي لندن
تشرين ثاني 2013
للعودة إلى الصفحة الرئيسة