الدكتور حكمت الحلو
مثلما تُميِّز بصمات الاصابع او بصمات الصوت إنساناً عن آخر، فإن لكل إنسان بصمة سلوكية يتميز بها عن الآخرين، وحتى في التوائم المتشابهة أو المتطابقة فقد أثبتت الدراسات النفسية والسلوكية تفرد كل انسان بسلوك خاص به لا يمكن أن تجد له نظيراً أو شبيهاً عند إنسان آخر في أيِّ مكان من العالم ؛ ومن خلال تجربتي الخاصة في ميدان السلوك فقد رصدت الكثير من غرائب السلوك عند بعض الافراد ممن التقيت بهم او صادفتهم او تعاملت معهم ، وأُدون هنا شذرات منها كنماذج لهذا النمط الغريب او الشاذ من السلوك :
ياسر شاب من اهل الكوت زاملني في القسم الداخلي المخصص لطلبة الدراسات العليا بالجادرية ببغداد ، وارتبطت معه بوشيجة وصداقة متينة منذ الايام الاولى لتعارفنا ، وكانت غرفته قبالة غرفتي تماماً ، لاحظته اكثر من مرة عند الصباح وقبل ان يقفل باب غرفته ، القيام بحركات اثارت انتباهي وشكوكي فقبل ان يضع المفتاح في الباب كان يجمع اصابع كفه الايمن ثم ينقر على جبينه مرتين او ثلاث ، ويتمتم بكلمات لم اتبينها ، ينتقل بعدها الى جيب قميصه فيتحسسه ، لينزل بعد ذلك الى جيبي بنطلونه فيدس فيهما كفيه ويخرجهما بسرعة ، ثم يضع المفتاح في الباب ويقفله ؛ وتكررت هذه الحالة امامي اكثر من مرة ، وفي جلسة ليلية كنا نتسامر فيها سألته مداعباً : يبدو انك قد استنصرت يا ياسر ؟ فأجابني وقد صدمه السؤال : كيف ؟ ألا تعلم بأني مسلم؟ فقلت له: لكني رأيتك اكثر من مرة وانت تؤدي صلاة المسيحيين قبل إغلاقك باب غرفتك كل صباح ، فضحك ضحكة طويلة وقال : لقد تمكنت مني هذه العادة السيئة ولم أعد قادراً على الفكاك منها ، فمنذ شهرين ذهبت الى مختبر الكلية وكنت قد زرعت نوعاً من البكتيريا يتوجب علي الكشف عنها في الساعة التاسعة من صباح ذلك اليوم وتسجيل نتائج التجربة ، لكنني وعند باب المختبر اكتشفت انني قد نسيت المفتاح في غرفتي واستغرقت عملية ذهابي وعودتي لجلب المفتاح اكثر من ساعتين مما تسبب في فساد التجربة وفشلها ، كل ذلك بسبب عدم تأكدي من ان مفتاح المختبر كان معي ؛ لذلك فإني تعودت كل صباح وانا أغادر غرفتي أن أنقر على جبيني وأخاطب نفسي ( إنتبه ياسر وتأكد ) ثم أذهب الى جيب القميص لأتأكد من من وجود الهوية ، ثم انتقل الى جيبي البنطلون للتأكد من وجود مفتاح المختبر ووجود الفلوس ، عندها اقوم باقفال الباب.
وارتبطت هذه القضية لديّ بقضايا اخرى كثيرة مماثلة منها ما رواه لي المرحوم (ابو زكي) صاحب المقهى الصغير الواقع قبالة اوروزدي باك القديم في الدواسة إذ قال : تفاجئت أن ملاعق الشاي الصفراء كانت تتناقص عندي بشكل غريب ، حتى نبهني احد الزبائن ذات يوم بأن الشخص الذي خرج للتو قد دس الملعقة في جيبه وخرج ، وهذا الشخص أعرفه ، رجل ميسور الحال، ومن عائلة معروفة كان يأتي اكثر من مرة في اليوم ليأخذ قدح شاي ثم يخرج دون أن يبدي أي سلوك مريب، ورغم شكي فيما سمعت فلقد إنتبهت للأمر وقررت مراقبته ، وفيما كنت مشغولا بعملي حانت مني التفاتة فوجدت هذا الرجل يدس الملعقة في جيبه بطريقة توحي بأنه سارق محترف ، فبادرته على الفورأن أخرِج الملعقة من جيبك وبسرعة ، وما ان أخرجها حتى صرخت في وجهه : إياك أن تأتي الى هنا بعد الآن ، والحق أنه كان بحالة مزرية والعرق يتصبب منه ولا يستطيع الوقوف ، ثم جاءني بعد ساعة وبيده كيس ورقي بداخله الملاعق النحاسية الصفراء التي كان قد سرقها مني في اوقات سابقة ، ثم هوى علي تقبيلا واعتذاراً ، راجياً مني أن استره فإن ما يقوم به ليس بإرادته بل يجد نفسه منساقاً الى هذا الفعل رغم انه لا يستفيد من هذه الملاعق شيئاً ، ثم وعدني بالتوبة، فنصحته بتغيير مكانه الى مقهىً آخر علّه يستطيع ترك هذه العادة المشينة .
وفي المكتبة المركزية للجامعة عَلَت الاصوات ذات يوم وضجّت، فلقد ضُبِطت عاملة تنظيف تعمل في المكتبة بالسرقة فقد كانت تسرق يومياً كتابين او أكثر تدسها تحت ملابسها بطريقة ما، وهي أميّة لا تقرأ ولا تكتب ولا تعرف عناوين الكتب التي تسرقها، وحينما داهموا دارها وجدوا أكداساً من هذه الكتب ، وعندما سؤلت عن سر سرقتها لهذه الكتب أجابت جواباً خائباً ومضحكاً: أنا لا آخذ الا الكتب السوداء المذهبة فهي تناديني وبالحاح تعالي وخذيني يا زهوة الى بيتك.
ولي صديق ذا هيبة ووقار، وأريحية عالية ، وثقافة مرموقة ، كان يفاجئنا نحن أصدقاؤه بالوقوف عندما نكون ملتئمين في جلسة ما فيضع كفه فوق أنفه ، ثم ينزل الى شاربه فيعمل على تمسيده مرتين أو ثلاث ، لينتقل بعد ذلك الى ربطة عنقه متفقداً إحكامها على ياقته ، ومن ثم النزول الى حزام بنطلونه فيرخيه ويدس كفه داخل البنطلون ويعمل ( دورة) سريعة على قميصه قبل أن يعيد ربط حزامه، ويختم هذه الحركات بإخراج منديل ورقي يمرره على حذاءه ليعيد اليه نظافته ولمعانه، وهذه الحركات كلها لا تأخذ منه سوى لحظات يجلس بعدها مسترخياً كمن قد حقق فعل شئ خطير، ثم يدخل في الحديث بشكل سلس وطبيعي وكأنه لم يفعل شيئاً، وما يلبث ان يفاجئنا بتكرار فعلته هذه بعد وقت قصير ، وكثيراً ما كان يسمع تعليقاتنا على فجاجة وغرابة ما يفعله فيجيب بأنه يعرف ذلك تماما ويتمنى لو انه يستطيع التخلص من هذا السلوك المقيت، لكن سوء قدر هذا الانسان الطيب ان الموت داهمه قبل ان يحقق بغيته في ذلك .
اما طه فقد كان ملك ( الدومينة) في منطقتنا بحق، وهو صاحب ( التقفيلات ) الخطيرة لاسيما ب (الدوشيش) وكان ابو ياسين يمتلك قدرة ان يقرأ ما بيد خصومه من (اللواعيب)، وقبل أن يبدأ بالتقاط قطع الدومينة ، كان يضع سيجارة (الجمهوري) التي ما تلبث ان تلتصق بشفته السفلى، وكنا نراقبه وهو يلعب فإذا اختلج شاربه ، واهتزت عضلات ما تحت الجفنين وارتجفت، وبدأ يتعرق أنفه ، فهذا يعني ان ( التقفيلة) آتية لا محال ، وما هي الا لحظات حتى ينجز ما توقعناه بنجاح وبفرح غامر لتبدأ بعدها سخريته واستهزاؤه وتعليقاته السمجة لمنافسيه ، أما إذا كان الحظ الغادر – كما يقول هو - ضده ويخسر فإنه يغادر المقهى على الفور كسيراً ذليلاً وقد لا يعود الى المقهى الا بعد ايام إحساساً منه بالخيبة والخذلان .
وأتذكر من ايام الدراسة الجامعية أن أحد أساتذتنا (مازال حيا يرزق) أطلقنا عليه اسم ( الكبابجي) فقد كان يأتي بحركات غريبة اثناء المحاضرة ، ويستخدم يديه بشكل غريب لاصلة له بصلب المحاضرة ، وهذه الحركات كانت تتكرر في كل محاضرة وبنفس الترتيب ، ففي البداية يضم أصابع كفيه ، ثم يرفع يداً ويخفض أُخرى فنقول : بدأت عملية (فرم اللحم) على الطريقة السورية بالساطور ، بعدها يقوم بحركات تشبه من يعجن او يدعك شيئاً وكأنه يقوم (بتهيئة اللحم) ، أما الخطوة التالية فإنه يقوم بتحريك اصابعه فتحاً وضماً وبشكل سريع ( تشييش اللحم) أما الخطوة الاخيرة فإنه يستخدم كفيه وكأنه (يهف) وهي مرحلة (الشي) ؛ وفي إحدى رحلاتنا الترفيهية خارج نطاق الدراسة قام أحد الطلبة بتمثيل هذه الحركات وكان هذا الاستاذ حاضراً فسألنا مستغرباً : هل هناك حقاً استاذ في قسمنا يقوم بمثل هذه الحركات ؟ ففاجئناه بأنك الاستاذ المقصود فانفجر ضاحكاً وهو يضرب كفاً بكف ، واستمر يضحك طيلة الرحلة حتى اوصلناه الى داره .
أما لو عدت الى طرائف الادباء والشعراء والفنانين وعاداتهم فهي كثيرة جداً ومسلية وان كنت من المهتمين بهذا الشأن فلعلك تجمع كتاباً ضخماً يمكن تضمينه
هذه العادات الغريبة والطريفة سواءٌ في حياتهم اليومية العادية أو خلال تجلياتهم الابداعية ، ولله في خلقه شؤون .
للعودة إلى الصفحة الرئيسة