كرم الاعرجي
.. سردق لا يغطي سوى مساحة أشبار فوق بقعة خضراء على الارض ولا يتسع لقامةِ فرد في جلوسه/ يعيش بجواره في العراء عند ساحل التلال قرب مدينة الملك (أسر حدون) رجل (مجذوب) ينتظر حبيبة بحجم فراشة ليسكنا تحت ظلها/ يحتمي بنافورة النور حيث الاشعاع البلوري المستقيم متصل بقبة السماء ليدور حول خيمته ذات الالوان المنسوجة من خرق منها المربع والمثلث.. الدائرة والمستطيل إنها أشكال قد درست ماهيتها عبر دراستي الابتدائية لها علاقة في شكل واحد يجمع بين النجوم هو المثلث.. الذي يمتلك السطوة والتأثير على النفس البشرية مما يؤمن به الفلكيون والمنجمون/ بغضب يغلفه الفرح راح يطوف بأحلامه منزعجا يهيم في فلاة المكان.. تارة يركض واخرى بكسل ينهكه يحاول تبرير ما يجري.. يصمت طويلاً كطالب علم يستنار به، يصرخ كما جندي عاد منتصراً يحمل سيف عمورية.. ثم يحاول التسلق عبر هذا الدهليز الضوئي العالق ببصيرته إلا أنه يفشل في الصعود.. يسقط بلا تماسك لينظر حشود الطيور المتجهة نحوه والمتشكلة كما السهام الحربية فيمد يده الخاسرة مع التعب اليومي في جعبته المزركشة بالالوان الصارخة ليخرج (حفنة) من القمح ينثرها كزخة مطر هو مركزها فيدور.. إلا أن الطيور إنخفضت اكثر في النزول حتى وضع يديه على راسه مغمضا عينيه بوسن وخفت في داخله الخوف ومضى يرش بقايا القمح على سرير المكان/ اما الطيور فرسمت طريقها للعلاقة معه بود وطمأنينة.. متأملة هذا الكائن السري الذي يطعمهم مما في جعبته/ المنظر هادئ وجميل في البرية.. أخذ يدندن بألفاظ لانفهمها نحن البشر وكأنه يحاور عالما آخر.. إنه (الاستسلام والتسليم) ربما أحس نفسه ممثلا يقف على مسرح إغريقي يتفنن بالنغم والالقاء.. أو كفيلسوف يلقي تعاليمه المستقاة من كتب مقدسة على رعايا ينصتون حد انقطاع الانفاس.. شفتاه تترنم بلغة المزمار.. اما الادعية فتتشابه وايقاع الحزن عند أيوب.. إبتسامة عريضة مستبشرة ملات ملامحه ابتهاج مد يده نحوي ونفث.. عصفت بي رائحة زكية لم أتذكر بأني قد شممتها من قبل يبدو انها خالصة المنبع.. احسست، بجسدي كما ريشة تلاعبها الانسام، اسبح بفناء دهشتي.. بين عيوني فرح مستتر قررت إخفاءه عن الناس.. الحياة احداثها مفتوحة..
عبرت الشارع المؤدي الى (سوق هرج) حيث الباعة وانغام الضجيج بغير طلب تلبيه إذاعتنا.. فأفترضت فيما إذا توحدت هذه الاصوات ماذا سينتج من مصدرها. هل ستكون قنبلة الموسم الذي ننتظره بعد صوت أم كلثوم؟ ام تتفرقع وتسقط الكثير من هؤلاء العامة الذين هم جزء منها فتقتلهم برغم الجوع؟ وماذا؟ وإلى آخره من الاسئلة وبقيت أبحث عن صوت واحد لا يحس بألم هذا الجريان البشري المذهول من كل جهاته.. لذا إخترت وجهة اخرى حيث (المسابح الملونة) بما فيها من سمات وخصائص، فأجبرت نفسي على إقتناء واحدة قد نحتها اهل الخبرة من حبات الزيتون اليابسة عددها تجاوز المئة بحبة.. وباشرت كمنهمك يبحث عن الاسرار.. كانت الدورة الاولى مبهمة لانني لا اعرف بماذا سأبدأ حاورت نفسي مرارا فكان التطابق بين ما هو داخلي وما هو خارجي ان أبدا بالبسملة ومن ثم قراءة فاتحة الكتاب فاستمرت هذه الحالة ليس هروبا او يأسا من الواقع الذي احسه ولكن تجربتي هذه من اجل تطهير الروح من دنس ما آلت اليه نفسي على مدى سني حياتي.. وكلي ايمان مطلق لابد لي ان ارجع هذه الروح طاهرة كما وهبني اياها الله.. حينا تقهرني النفس واقهرها.. ادركت اخيرا اني من الاوابين الذين يطمحون في صيد منال المغفرة.. الجدوى واللا جدوى هما على محك تدولبه الخلجات. وكل الافعال السيئة خاسرة امامي لانها غير مجدية والفعل الاخر حافلا بالتبصر إنه جدوى كنت خائفا من عدمية المطلق..
شرعت بالتبضع من سوق الخضر لانها غير مسجلة في بطاقتي التموينية ولانها ارخص ما يباع على حد علمي.. إنفجرت ضحكا عجوز قرب بيتنا لسقوط الطماطم التي تناثرت معها اصابعي القلقة عند الباب.. لقد اصابت لانها لم ترنِ يوما باني قد تبضعت.. فهمت تساعدني على سرعة من طيبتها.. كان محقا سقراط عندما شرب السم.. ولاني احب القوانين كسياج لنفسي ارغب في عودتي مبرأ وبحذر منتظم الى بدايتي..
صراع لا ينجيني من (غمزات التفكر) في كتبي المدللة والتي ما زال الغبار يكفن بعضها اجوب بناظري متفحصا ما تيسر منها.. تدهسني فكرة الفناء فأسوق غرائزي نحو الحلول لاغتيال ما يحرفني من تراكيبها.. مقرونون بغرائز لها ماهيتها المحجوبة عنا دون برازخ.. من يتدبر معي محنتي..؟ راحت اناملي تقلب الصفحات من رواية لا تنجلى احداثها إلا بالتأمل.. رافقت هذا الشعور ابتسامة خفيفة تسكنها تمتمة تمرق منها الحروف كنظام (الزايرجة) التي تفضح المستقبل بمعادل تخفيه التسلية (لطاليس الفأس والينبوع) فجأة تخلل قراءتي هذا النص الفاحص والدقيق في تركيبه اللغوي (من ظن ان الالهية تمتزج بالبشرية او البشرية تمتزج بالالهية فقد كفر) كلها فلسفات غنية ببلواها المعرفية..
بعد عقدين قفز من ذاكرتي ذلك الرجل الذي يبدو خرافيا في عصر التمدن.. قررت الذهاب الى (باب شمش) وقفت على اطلال السور الذي يفصل المملكة عن النهر.. النهر الذي غير مسراه (الحر بن يوسف الاموي).. كان بالامكان فصله الى شطرين لينقذ القبائل الحديثة المبثوثة على طرفيه من العطش وجفاف الطبيعة.. إن آنية الحدث فيه مصلحية بحيث لم يفكر بما سيأتي من مراره، أمعنت النظر بآفاق مملكتنا وتساءلت.. اين الملك الذي عصر بكفيه كل الجهات؟ اين المملكة بما فيها من رعايا وكنوز.. تلاشى كل شيء في بؤبؤي البعيد..
إنحدرت بأوجاعي نحو افتراض وجوده خلف التلال قرب خيمته الموشاة بالالوان الناقصة.. يبدو ان الكثير من امثالي يجلسون على السور.. قلت في نفسي ما الذي يشدهم للتأمل في هذا المكان.. لفت انتباهي منظر الغروب.. الشمس تهبط بهدوء.. وعندما تصل الربع الاخير تهدأ النفوس، وينهضون مفترقين الى محال سكناهم.. جبت شرايين الفدافد الموزعة بسبب الحدث الطبيعي باحثا عن دليل يثير إهتمام تأملاتي خارج سكون الانا.. فلم ار سوى ذلك الشعاع الفضي على هيئة براق وكأنه مهيأ من المراقي لخدمة لحظة ما.. أخذت الظلمة تفتض بكارة النهار.. أرسلت بصري بكل ابعاده نحو الوميض الضوئي المتحرك في جسد المكان.. سكنات موحشة تقود أقدامي الى سرية هذا المشهد.. خالجني شعور يشد حواسي بأن أتجلد لما سألاقيه من دهشة مرعبة وبثقة عمياء أتوجس خوف السقوط في ابيار الظلمة لان بصري منشغل بهذا الجسد النوراني../ خلعت الغفلة المسافة بيننا.. كدت أختلط.. لولا تماسكي.. بقيت ورائي الاطلال القديمة وسيتبعها الحاضر.. سلالة اثر.. يشدها اليقين من اعناقها.. ثمة تشابه فرضته الحكمة.. رمقني بنظرة حزت في نفسي.. حاولت التعبير عن اسفي.. لكنه إغتنم اللحظة عندما إنفتحت كوة في الشعاع ومضى متسلقا قامة النور الممتدة من السماء بجسده الذي تلاشى شيئاً فشيئاً.. تاركا خيمته لقبائل النمل..
ملاحظة: (هذه القصة نشرت قبل عقدين في جريدة الحدباء أيام زمان)
للعودة إلى الصفحة الرئيسة