انا.. والمنقل.. والحصان
كرم الاعرجي
تواترت عطساته فجراً قبل ان يرسل عجالة اقدامه للعمل، فتح (الصنبور) الذي يغطيه كلس الزمن وبهدوء المنتظر نزول خيط الماء أخذ بكفيه ما تجمع، ثم غسل وجهه وهو مستمر بعطساته التي ارجفت جسده،اللعنة على هذه الحساسية التي ترافقه منذ ان حدد شغله ببيع العتيق، أكمل وضوءه الذي يرافقه التشهد، والتسبيح والتهليل، فرش سجادته المرشوشة بأطياف يسبح فيها ايمان العائلة، ركعة، ركعتان ومضى يفتش في سجدته عن دعاء يقربه، اوغل في البكاء وهو يبحث ببحة مخنوقة، واكتفى بدموعه مسلماً على ملائكته الجالسين على منكبيه، يستغفرون له، سمعت (أمه) الباهرة بجمالها المؤمن طرقاً على الباب، نادته بصوت فيه من الرقة ما يفوق حسن الاصوات، هذا (سموري) ينتظرك يا بني، لماذا لا تنصحه بالصلاة يثيبك الله أجراً..؟، ابتسم لطينتها هذا لانها لا تدرك ابعاد شخصيته وما يخالجه من اسرار تحفل بالخطايا والذنوب، لا تعرف مرايا افعاله في البيع والشراء، ادرك ان قفزة الطيبة عند والدته جعلها تفكر بأن يختار صحبته.
فتح الباب متوكلاً على الرحمن.. (وسموري) منشغلاً بترتيب (عدة) العمل ولازالت ابتسامته يبللها الدعاء، حياهُ، واخذ يساعده في احضار ما يتطلب لحماية الحصان من زحمة الشوارع وخوفه من هوس بعض سائقي السيارات.
اعطني (التطبيقة) و(والسمر) إسقه الماء ثم أدخل في فمه (القاطرمة) وضع على جوانب عينيه بهدوء (الباشلق) ثم صل (الكلدانية) نحو الحلق وانا سأربطه بالعربة كي نتوكل ان لم نخدمه يتمرد علينا فهو مفتاح رزقنا.
انطلقا يجوبان شوارع المدينة بكل ما فيها من احياء وهما يصيحان (عتيق للبيع) كلما يتعب احدهما يصيح الاخر (عتيق للبيع) وفي غفلة من أمرهما غاب (عماد) في التأمل لما يدور في مخيلته من محبة الايمان. وهو يردد ما سمعه من راي في الحياة التي الفها عن جاك بريفير كما يقولون (كلنا سيموت، انا، والملك والحصان) غاب في تأمل هذه المتناقضات مبتدئاً بالانا التي جرحته منذ تركه عالم الدراسة بسبب عوز والده، هذا الشرخ الذي ألمّ بحياته صار نقطة فيها من الوميض الخائف ما يشغله..
لم تكن آراءه مختلفة عن باقي البشر، فالوعي الانساني قادر على الاكتشاف، قالها وكلّه أمل في تصنيف دوره في الحياة (انا) بائع عتيق خاسر مع النفس، وحامل لأسية فيها من المذاق المتعب ماهو حلال، ارهاق وقلق توجس من شيء او لا شيء.
معضلة خانقة في انتظار الموت، لكنني ادرك ان خلقي عجيب، تسكنني العبادة من اجل الخلاص، حتى الملك لو خسر العدل وربح العالم فانه سيموت، لكنه ان ربح العدل وتجلى على البسطاء ستكون له علامة الايمان وهذا تفصل فيه القيامة، سكن برهة محدقاً على عضلات بارزة من أطرافه الاربع، حتى هذا الحصان المسكين الذي يجرنا والعربة سيموت منتظراً محكمة تفضي نحو ما يجهله.. نعم، هي هكذا، الكل سيموت حكمة مطلقة، فضاءات محكمة بأدوار تفتعل التكييف تحت عنوان المسار المجهول، حتى صديقي المحتال واللبق في اقناع الاخرين من اجل ان يربح، سينتهي بفعل خلخلة عقله دون تصحيح، لكزه (بالدزكين) الجلدي الصقيل، لقد وصلنا (المثنى) مشيراً الى بيت العجوز التي وعدتهم بعزل المواد المستعملة، فرَّ منه الغياب لحظتها وابتسم، لننزل ونطرق بابها، وبعد عدة طرقات على الباب القديم المطرز بمثلثات مسطحة تتوسطها ازهار حديدية بارزة من جهتيه بالوانها غير المنتظمة، كل شيء تقليدي يدمر البصر، كان صوتها متعباً وناعماً أذابته حمى الزمن كما بابها الموصود بالصدأ، فتحت (بالسقاطة) الموصولة بكرة (البرنج) و(عماد) ينظر بنفاذ صبر نحو صاحبه المتلفع بالمكر والخداع، ضحك عماد واخذ يهز رأسه الخجول، خرجت العجوز وفي يدها شمعدان قديم مصنوع من النحاس، مشيرة بأصبعها المجعد هذا الشمعدان اغلى من كل الاشياء التي جمعتها لكم، انه تراث هذا البيت، ولكنني اردت ان اغير كل شيء بجديد، قد يفيدكم وتربحون رزقاً جيداً منه، بادرها (عماد) بالشكر وما تحمله من طيبه واحساس تجاههم وطلب ان يشاهد (الاغراض) الاخرى التي وعدتهم بها، دخلا وعبر الممر الذي يفصل الحديقة نحو الداخل رأى صديقه (منقلاً) نحاسيا تسكنه الدلال العربية المنقوشة بطريقة هندسية ظاهرة، اغراه كثيراً، و(عماد) يتوجس من تصرفاته الخاطئة يراقبه حيث يحل في فناء المنزل، اللمعان النحاسي يشده نحو التفكير بسرقته، متحدثاً مع ذاته، بعدما تستدير (العجوز) سأغافلها وأضعه في (كيس الكنديل الاسمر) واخفيه مع الاغراض، حتى عماد سأفاجئه عندما نفرغ حمولتنا، اكيد سيفرح كثيراً، لانه باهض الثمن وستكون هذه (الشروة) من احلى ما اشتريناه خلال هذا الاسبوع، وبعد البيع سأتفرغ لشراء الملابس وارتاد المقاهي والنوادي الليلية، سأعيش احلى ايامي من خير هذا (المنقل) الاثري.
نعم هي قالت بأن الشمعدان تاريخ وهذا ايضا اراه كذلك، ربما سأشتري سيارة، وابتاع بيتاً ارقد فيه ومعي الملذات جميعها.
وبينما كان (عماد) يحسب نقوده التي سيدفعها للسيدة العجوز اخذ (هو) طريقه نحو المنقل ووضعه في (كيسه) الذي احضره لاخفاء المنقل وبخفة المتمرس على شغل الحرام ودون ارتباك خرج من الدار حاملاً خطيئته اما (عماد) سحل الاشياء التي اقتناها وخرج بهدوء نحو العربة، ودعها بخجل نبيل، ثم ركب العربة سحب دزكين الحصان منطلقاً، وهو يصيح (عتيق للبيع) لم يستوقفهم احد طيلة اليوم، نظر نحو صاحبه وهو ممتعض تجرشه الاحزان، لم يسبق له ان انقطع رزقه وهو يدور المناطق المكتظة بالناس، بصق نحو شماله متعوذاً من شر الخناس، (وسموري) يبتسم بتأمل لا يأبه بما يخالج (عماد) من تذمر، وعماد يلعن اللحظات المدهونة بالملل،
السيارات الفارهة عن شماله شغلته بالاعتدال على الطريق، كان يعرفهم (فلان وعلان) وبتأوه شديد الانفعال متمتماً مع نفسه، اللعنة على الفوضى التي صنعت امثال هؤلاء، لقد اتاحت لهم الفرص من خلال ما جادت به من الحرام، التفت نحو (سموري) وعيناه الواسعتان تسكبان الهم من دورق الخوف بصدر (سموري) سنصل البيت ونفرغ بضاعتنا وبتشاؤم.. صهل الحصان وهو ينحرف عن الطريق العام نحو (الطولة) المسجونة بالسياج الحديدي المشبك فوق آثار قصور قادة الملك الاشوري في (حي الجزائر) الحديثة جرّ بهدوء الدزكين المعلق من جهتي (القاطرمة) توقف الحصان وهو (ينهج) من التعب، قدم الاطفال له اناء الماء الكبير (وعليقة) الشعير..
نزل (عماد) وهو يماحك اطفال الحي، وبعد استراحة يرافقها الشاي، افرغا الحمولة، وكيس الكنديل يحمله (سموري) بدقة الحرص.
انتبه (عماد) وقال له ماهذا الذي في الكيس..؟ فلم يجب، وكرر عليه.. لم يكن ضمن ما اشتريناه، فتح الكيس بقصدية مستبشرة واذا (بالمنقل) اقترب منه ثم ثارت ثائرته.
ارخى كفه اليمنى وصفعه لقد سرقته، وانا اقول مع نفسي، لماذا انقطع الرزق أيها اللص، (يول) الى متى.. واعصابه بلغت حنجرة السماء، الان سنعود اليها ونعطيها (المنقل) اذهب نحو الشارع واستأجر سيارة بأي ثمن هذا المنقل لن ينام مع الاغراض هذه الليلة، اذهب.. بفورة ضمير..
وباء بالفشل كل هذا الفعل الشائن وكل ما بني من خيال في ذهن سموري.. ركبا السيارة ولم يلتفت اليه عماد حتى وصلا الى المنزل، طرق الباب وهو يرتجف ماذا سيقول؟ وهل ستقبل التبريرات؟ انني اخاف الدعاء لان النيات صادقة عند عجائزنا، مناجياً ربه ان يغفر له ولصاحبه.
كان قلقاً ومطبقاً على سبابته، ربما سيصدر منها كلاماً لا نحتمله وهو ينظر في وجه (سموري) آخ (سموري).
فتحت الباب وخرجت بوجهها الغاضب المتجهم، (يا خالة) هذا (المنقل) كنا نتصوره ضمن المشتريات وحملناه معنا نطلب منك الاعتذار والسماح، اخذت بيدها المنقل وحرفت وجهها بزعل ثم اطبقت الباب بقوة بوجه (عماد) وصاحبه، حتى حصل بينهما شجار الالسنة والوعظ بالخوف من الحرام وتركه لانه مصدُّ واضح للرزق، طأطأ رأسه (سموري) ودمعت عيناه واخذا مسارهما في الطريق مشياً على الاقدام حتى وصلا محلتهما، يأكلهما الخرس، تصارع احداقهما نظرات من يشاهدهم وكأنهم خرجوا تواً من سجن الخطيئة، افترقا والحزن يرسم على ملامحهما سلطته، سقط (عماد) كما الطائر الجريح في حضن أمه متوسلاً بها ان تدعو له كي يغفر الله وتغفر المرأة العجوز..
وبعد ان طمأنته الوالدة المربية على الصلاح والفضيلة..
هدأت روحه وفي اليوم الثاني ذهب فجراً الى المسجد وهو يسبح لله ويستغفر وحينما دخل المسجد صلى ركعتي التحية، نظر متأملاً فضاء المسجد، حتى اصطدم بصره بالصف الاول واذا بـ(سموري) منكسا رأسه ناشراً ذراعيه للسماء.
هامش:
اسماء لحاجيات يستخدمها الحوذي (ابو ثامر الموصلي) لحماية الحصان..
التطبيقة: توضع على ظهر الحصان.
السمر: مقبض حديدي لتثبيت التطبيقة.
القاطرمة: نصف هلال حديدي له اذنان يوضع في فك الحصان.
الباشلق: غطاء جوانب عيون الحصان.
الكلدانية: جلد محشى بيضوي الشكل يوضع في حلق الحصان.
جاك بيريفير: شاعر فرنسي
عودة الى الصفحة الرئيسة