في انتظار ( هرّة )ـ
كرم الاعرجي
ـ (خبّش) بذاكرته المفتوحة على فضاءات مرت من خيالاته المتزاحمة في اللحظة التي حاور فيها (هِرّتهُ) ذات الأظافر الجميلة المحدودبة بلونها العاجي، متأملاً عينيها وأناقتها عندما كانت تمشي بين قطط (المحلة) اختارها لنظافتها وسكينتها وحينما يمرِّر أنامله فوق رأسها منتهياً بذيلها الذي يتحجر من قوة ما ينتابها من الشعور بالشبق، إنها قطة مميزة لا ترسل أحداقها نحو الهررة، سوى حبيبها صاحب الشعر الأصفر، الواقف على حائط الجيران، تدافع باستماتة عن عذريتها ومن يحاول الدخول عبر الجدران المحيطة للبيت، يالهذا الحب المطلق الذي يولِّد الطاقات في كل لحظة جمال تطلقها الطبيعة الحيوانية، باعث غريب يحتفل بنشوى الوجود، والإنسان الكائن الوحيد الذي يفهم العلاقات ويعبر عنها، في هذه اللحظة كان يتمنى (مع نفسه) ان تسلخ من القلوب الكراهية، (نعم) يريد أن يبصم بالنقاء على جبين الحياة بهمسات نبيلة، يبحث في البياض عن الأبيض، يكره المسوخ، باحثاً عن الجمال الخفي الممزوج بقداح النور، شفافا وحريرياً يبتسم لأجل الإنسان ويعبد حباً لخالق الحب،ـ
وحدها التي تفهمه وتربت على رأسه مماحكة إياه بمزاح يمتاز (بشقلباتها) وقفزاتها الأنيقة من والى السرير، وتارة تستقر باسطة ذراعيها تحدِّق في التلفاز الذي كثيراً ما تكرههه لأنه ينشغل به عن مداعبتها.ـ
نهض بهدوء نحو الثلاجة، باحثاً عن طعام يكفيهما، وإذا به ينظر إلى مشهد استفزه بندم، تفاحة تتوسط صحنه المنقوش برسوم الطبيعة، تذكر بأنه قد وضعها منذ أيام، حينما أراد أن يقضمها بشهية، ثم غرق في بحر ذاته، وركنها في الزاوية.ـ
آه.. لو كنت روحاً تسبح في هذا الأثير لأخذتك على جناح اللّمحة وأعدتك الى الشجرة وخلصنا من الخطيئة، التفت مبتسماً (لهرّته) وهو يحلق ببصره نحو ساعته العتيقة المعلقة على حائط الغرفة المطلي باللون الأزرق، انه الرمز الوحيد الذي يشده نحو السماء،.ـ
تحركت (هرّته) بكل حزنها اليومي في هذا الوقت بالذات حيث تعودت ذهابه حتى المساء العميق، ربما لأنها ستبقى منتظرة طلتّهُ بلا مرح طوال هذا الزمن.. مشت الهوينى وهي تقود خطاه نحو الباب كي تودعه بمرارة العاشقة.
خرج وكله أمل مشحون بصدارته المفترضة على وجع المارة بما يؤلمهم في السعي من اجل قوتهم وما يحملونه من قسوة التعامل مع الطبقات، صباحاته مبتسمة بوجه الناس من سكنة الحي المحصورة بسياج حديدي كَسّرته أيادٍ خبيثة وحده كان يعلم بانه ساكن فوق حطام تاريخ غابة (البلد) منذ آشور وحتى مواراة مدنهم وميراسهم على الحروب، وحده كان يخمن بأن البناة عمالقة، وان الساسة دهاة، هكذا هي الأزمان أبدا يطمرها التراب.ـ
حدق في ساعة يده، كان قد ضرب موعداً في المقهى مع (فارس الغلب) البدوي صاحب القلب المجنح بالنماء عاشقاً يحمي صحاريه..ـ
رنّ جرس النقال، أرسل في الليل رسالة تعبر عن وحدته وما ينتابه من شعور سالك نحو الأحزان (في كل حال توجد معضلة) (كم أنا متعب..! مهزوم من داخلي، أود ان أحلق خارج الأقفاص، ابكي، لا ادري لماذا، ربما لان وحدتي خصم عنيد..) وصله الرد (الأحرار هم من يمتلكون المقدرة على البكاء).ـ
سالت دموعه ثانية، ربما اعتبرها مزحة مسيّجة بابتسامات (نوزت شمدين) الضاجة بموسيقى الجبل، يبقى يجسد الانتقاد بفطرةٍ متمردة، ويعمل على تحرير السلام من المتناقضات كي يكون العالم أكثر صفاءاً، مع ابتسامة.ــ
وخزه التذكر في البحث عن شيء - ما - قد نسيه في البيت، أوه إنها محفظته المليئة بالقصاصات المبعثرة بين جيوبها المتعددة، من شعر، ومقالات، وقصص، قد خطط لكتابتها، أخرج من جيب (سترته) المخشوشبة، هذا لأنها لم تغسل منذ أسابيع، أحس بحكة أزعجته بعد ملامسة مفتاحه (بالسترة)، ادخل المفتاح، وبحذر من الحارسة التي لم تتعود رجوعه إلا عند المغيب.. كانت (هرتهُ) متوثبة قبالة الباب لترى الغريب الذي سيدخل، وبأذن صاغية وعينين مفتوحتين بوحشية متحدية وبتربص..ـ
قفزت نحو وجهه، خمشته، صرخ عالياً وكفاه أطبقتا على عينيه والدماء تنزّ، حتى تجمع الجيران، تفاجأ الجميع بصراخه الذي لم يسمع طيلة حياته بهذا المنزل، نقلوه نحو المشفى بسيارة (الياس) الذي لايتوانى عن فعل الخير خدمة للجار، أوصله إلى ردهة الطوارئ، تسارعت حركة الكادر الطبي، وبعدما وضعوا الضمادات فوق عينيه، سأل (الياس) الأخصائي عن حالته، طمأنه بأنها مجرد خدوش، موعزاً له بعد استراحة قليلة بأن يخرج لان حالته مستقرة ولا تستوجب البقاء في المشفى.. اقتاده عائداً به نحو المنزل مطمئناً إياه.ــ
كانت عيناه مغلقتين بالشاش الأبيض، دخلا البيت وهو (يتهجس) بأصابعه المكان ليرقد فيه، تمدد على فراشه وابلغ (الياس) بأن يبقى جواره حتى يتأكد من رؤية عينية للأشياء،.ـ
ـ (الهرة) خائفة ومسكونة بالذنب مأسورة بدورانها داخل المنزل، مشدوهة بجلوسها المستطيل قبالة فراشه وهي تنظر إليه بترقب.ـ
دخل خيط العتمة، وامتص الليل حديثهما عن الحياة، والياس أخذت تضايقه ملابس العمل، فاستأذنه بالذهاب.ــ
- شكره على موقفه، وقال له أغلق الباب. وعندما استدار بلفتة حزينة،ـ
- قال له انتظر
ينصب إليه
- أتدري أنا خائف، لأنني اشك في يقظتي،ـ
هزّ الياس رأسه وقال
- سنراك غداً معافى وخرج..ـ
خالجه شعور فيه من الرعب ما يكفن الأمل..ـ
اوه، لقد نسيت موعدي مع (الغلب) ربما لا أستطيع رؤيته بعد اليوم، اللعنة على (الهرة) أغلقت عليّ مفاتن البصر وأرهقت مشاعري، ارتسمت ابتسامة خفيفة على محياه، فهم انها كانت تحمي المنزل، كما أدرك بأنها توهمت بقفزها عليه، ربما ستؤنبها أعوام (العشرة) الشقية بيننا، مع (قهقهة).ـ
غطّ في نوم عميق، والقطة تجوب فناء الدار، تارة تجلس قرب ركبتيه وأخرى تنفر بضجرها باحثة عن سبيل يلهيها عن أزماتها، (والهر) الذي مازال فوق حائط المنزل والمتأهب ضد من يروم المساس بحبيبته، متأملاً سكون حركتها المشدودة نحو الحزن، تموء له بألم وخوف، تختار النوم قرب سيد الدار محمومة بصدمتها لحظة (خمشه) غلبها النعاس، أما هو فعقله الباطن تحركه أنامل الخدر بغياب روحه الحائرة في جسدٍ أثيري معلق بخيط الحياة، يهذي بفوضاه التي خانت وجوده، (لا موت يتحقق بدون الحياة) وحياتي غائمة، والموت خطوة نحو البقاء الأبدي، لا اشعر به، وهذه الأبدية فلك الأرواح بين يدي خالقها، والقدر صدر المعنى في اللوح..، هكذا يفهم الوجود، انه العماء، العماء سكون اقفل الحواس كانت رؤاه ساخنة كما سخونة جسده الغائر في جبٍّ ماله من قرار، سحلته أفكاره نحو بصيص قبس كلما اقترب منه تباعد، يركض بروحه، لا جدوى من الوصول، لا وصول، مارد خوف مجهول يسرق منه الأمل، تلك علامات العمى..ـ
يصيح بصوت مخنوق (أمي.. أمي.. أمي) والقطة (تفزّ) بين فينة وأخرى، العرق يتصبب منه حتى بلّ الوسادة، وكفى (هرته) المأسورة بمحبته، انكشف الصبح، دبت الحركة لنهار يوم جديد، لعقت العرق النازل من وجنتيه وبلمسة لسان هادئ فيه من الحنان ما يوازي صراخه بأمي، جفل خائفاَ، هجم بكفيه المرتعدتين على الضماد املاً ان يرى من حوله، وعندما رفع الشاش الأبيض، فتح مقلتيه ببطء وصاح..!(يا الله، يا الله، إنها الجدران، الباب، التلفاز، الثلاجة، المدفأة، كتبي، هرّتي، الله انني أرى).ـ
كان سروره بلا حدود، حتى (هرّته) أخذت تتنطط وتراقص فرحته، احتضنها واخذ يمسد شعرها الناعم المرقط، خرج نحو فناء الدار المغطى بسردق قديم يقيه من المطر، والبرد وقسوة الرياح، عاد الهر وكله أمل في لقاء حبيبته التي تومض في عينيه محاسنها فيهش ذباب الكلمات عن لثغتهِ بمواء بارد.. فينظر أحضان حاملها، يهز ذيله باستحياء، ابتسم له بفورة محبة، وبأهزوجة أثيره، اخذ يردد..ــ
(شايف خيرها ومستاهلها، فوك الحائط مستنظرها)
وكان الوقت قبل نهاية شهر شباط، ذهبا يتمايلان يتكئان على بعضهما بغزل مبهج فوق الجدار، رفع كفيه نحو السماء مناجياً ربه ان يملأ هذا البيت بالأنثى، فتح الباب، فرح الجيران وابتسم للجميع ولشمس نهارٍ دافئة.ـ
*
للعودة إلى الصفحة الرئيسة
كرم الاعرجي
ـ (خبّش) بذاكرته المفتوحة على فضاءات مرت من خيالاته المتزاحمة في اللحظة التي حاور فيها (هِرّتهُ) ذات الأظافر الجميلة المحدودبة بلونها العاجي، متأملاً عينيها وأناقتها عندما كانت تمشي بين قطط (المحلة) اختارها لنظافتها وسكينتها وحينما يمرِّر أنامله فوق رأسها منتهياً بذيلها الذي يتحجر من قوة ما ينتابها من الشعور بالشبق، إنها قطة مميزة لا ترسل أحداقها نحو الهررة، سوى حبيبها صاحب الشعر الأصفر، الواقف على حائط الجيران، تدافع باستماتة عن عذريتها ومن يحاول الدخول عبر الجدران المحيطة للبيت، يالهذا الحب المطلق الذي يولِّد الطاقات في كل لحظة جمال تطلقها الطبيعة الحيوانية، باعث غريب يحتفل بنشوى الوجود، والإنسان الكائن الوحيد الذي يفهم العلاقات ويعبر عنها، في هذه اللحظة كان يتمنى (مع نفسه) ان تسلخ من القلوب الكراهية، (نعم) يريد أن يبصم بالنقاء على جبين الحياة بهمسات نبيلة، يبحث في البياض عن الأبيض، يكره المسوخ، باحثاً عن الجمال الخفي الممزوج بقداح النور، شفافا وحريرياً يبتسم لأجل الإنسان ويعبد حباً لخالق الحب،ـ
وحدها التي تفهمه وتربت على رأسه مماحكة إياه بمزاح يمتاز (بشقلباتها) وقفزاتها الأنيقة من والى السرير، وتارة تستقر باسطة ذراعيها تحدِّق في التلفاز الذي كثيراً ما تكرههه لأنه ينشغل به عن مداعبتها.ـ
نهض بهدوء نحو الثلاجة، باحثاً عن طعام يكفيهما، وإذا به ينظر إلى مشهد استفزه بندم، تفاحة تتوسط صحنه المنقوش برسوم الطبيعة، تذكر بأنه قد وضعها منذ أيام، حينما أراد أن يقضمها بشهية، ثم غرق في بحر ذاته، وركنها في الزاوية.ـ
آه.. لو كنت روحاً تسبح في هذا الأثير لأخذتك على جناح اللّمحة وأعدتك الى الشجرة وخلصنا من الخطيئة، التفت مبتسماً (لهرّته) وهو يحلق ببصره نحو ساعته العتيقة المعلقة على حائط الغرفة المطلي باللون الأزرق، انه الرمز الوحيد الذي يشده نحو السماء،.ـ
تحركت (هرّته) بكل حزنها اليومي في هذا الوقت بالذات حيث تعودت ذهابه حتى المساء العميق، ربما لأنها ستبقى منتظرة طلتّهُ بلا مرح طوال هذا الزمن.. مشت الهوينى وهي تقود خطاه نحو الباب كي تودعه بمرارة العاشقة.
خرج وكله أمل مشحون بصدارته المفترضة على وجع المارة بما يؤلمهم في السعي من اجل قوتهم وما يحملونه من قسوة التعامل مع الطبقات، صباحاته مبتسمة بوجه الناس من سكنة الحي المحصورة بسياج حديدي كَسّرته أيادٍ خبيثة وحده كان يعلم بانه ساكن فوق حطام تاريخ غابة (البلد) منذ آشور وحتى مواراة مدنهم وميراسهم على الحروب، وحده كان يخمن بأن البناة عمالقة، وان الساسة دهاة، هكذا هي الأزمان أبدا يطمرها التراب.ـ
حدق في ساعة يده، كان قد ضرب موعداً في المقهى مع (فارس الغلب) البدوي صاحب القلب المجنح بالنماء عاشقاً يحمي صحاريه..ـ
رنّ جرس النقال، أرسل في الليل رسالة تعبر عن وحدته وما ينتابه من شعور سالك نحو الأحزان (في كل حال توجد معضلة) (كم أنا متعب..! مهزوم من داخلي، أود ان أحلق خارج الأقفاص، ابكي، لا ادري لماذا، ربما لان وحدتي خصم عنيد..) وصله الرد (الأحرار هم من يمتلكون المقدرة على البكاء).ـ
سالت دموعه ثانية، ربما اعتبرها مزحة مسيّجة بابتسامات (نوزت شمدين) الضاجة بموسيقى الجبل، يبقى يجسد الانتقاد بفطرةٍ متمردة، ويعمل على تحرير السلام من المتناقضات كي يكون العالم أكثر صفاءاً، مع ابتسامة.ــ
وخزه التذكر في البحث عن شيء - ما - قد نسيه في البيت، أوه إنها محفظته المليئة بالقصاصات المبعثرة بين جيوبها المتعددة، من شعر، ومقالات، وقصص، قد خطط لكتابتها، أخرج من جيب (سترته) المخشوشبة، هذا لأنها لم تغسل منذ أسابيع، أحس بحكة أزعجته بعد ملامسة مفتاحه (بالسترة)، ادخل المفتاح، وبحذر من الحارسة التي لم تتعود رجوعه إلا عند المغيب.. كانت (هرتهُ) متوثبة قبالة الباب لترى الغريب الذي سيدخل، وبأذن صاغية وعينين مفتوحتين بوحشية متحدية وبتربص..ـ
قفزت نحو وجهه، خمشته، صرخ عالياً وكفاه أطبقتا على عينيه والدماء تنزّ، حتى تجمع الجيران، تفاجأ الجميع بصراخه الذي لم يسمع طيلة حياته بهذا المنزل، نقلوه نحو المشفى بسيارة (الياس) الذي لايتوانى عن فعل الخير خدمة للجار، أوصله إلى ردهة الطوارئ، تسارعت حركة الكادر الطبي، وبعدما وضعوا الضمادات فوق عينيه، سأل (الياس) الأخصائي عن حالته، طمأنه بأنها مجرد خدوش، موعزاً له بعد استراحة قليلة بأن يخرج لان حالته مستقرة ولا تستوجب البقاء في المشفى.. اقتاده عائداً به نحو المنزل مطمئناً إياه.ــ
كانت عيناه مغلقتين بالشاش الأبيض، دخلا البيت وهو (يتهجس) بأصابعه المكان ليرقد فيه، تمدد على فراشه وابلغ (الياس) بأن يبقى جواره حتى يتأكد من رؤية عينية للأشياء،.ـ
ـ (الهرة) خائفة ومسكونة بالذنب مأسورة بدورانها داخل المنزل، مشدوهة بجلوسها المستطيل قبالة فراشه وهي تنظر إليه بترقب.ـ
دخل خيط العتمة، وامتص الليل حديثهما عن الحياة، والياس أخذت تضايقه ملابس العمل، فاستأذنه بالذهاب.ــ
- شكره على موقفه، وقال له أغلق الباب. وعندما استدار بلفتة حزينة،ـ
- قال له انتظر
ينصب إليه
- أتدري أنا خائف، لأنني اشك في يقظتي،ـ
هزّ الياس رأسه وقال
- سنراك غداً معافى وخرج..ـ
خالجه شعور فيه من الرعب ما يكفن الأمل..ـ
اوه، لقد نسيت موعدي مع (الغلب) ربما لا أستطيع رؤيته بعد اليوم، اللعنة على (الهرة) أغلقت عليّ مفاتن البصر وأرهقت مشاعري، ارتسمت ابتسامة خفيفة على محياه، فهم انها كانت تحمي المنزل، كما أدرك بأنها توهمت بقفزها عليه، ربما ستؤنبها أعوام (العشرة) الشقية بيننا، مع (قهقهة).ـ
غطّ في نوم عميق، والقطة تجوب فناء الدار، تارة تجلس قرب ركبتيه وأخرى تنفر بضجرها باحثة عن سبيل يلهيها عن أزماتها، (والهر) الذي مازال فوق حائط المنزل والمتأهب ضد من يروم المساس بحبيبته، متأملاً سكون حركتها المشدودة نحو الحزن، تموء له بألم وخوف، تختار النوم قرب سيد الدار محمومة بصدمتها لحظة (خمشه) غلبها النعاس، أما هو فعقله الباطن تحركه أنامل الخدر بغياب روحه الحائرة في جسدٍ أثيري معلق بخيط الحياة، يهذي بفوضاه التي خانت وجوده، (لا موت يتحقق بدون الحياة) وحياتي غائمة، والموت خطوة نحو البقاء الأبدي، لا اشعر به، وهذه الأبدية فلك الأرواح بين يدي خالقها، والقدر صدر المعنى في اللوح..، هكذا يفهم الوجود، انه العماء، العماء سكون اقفل الحواس كانت رؤاه ساخنة كما سخونة جسده الغائر في جبٍّ ماله من قرار، سحلته أفكاره نحو بصيص قبس كلما اقترب منه تباعد، يركض بروحه، لا جدوى من الوصول، لا وصول، مارد خوف مجهول يسرق منه الأمل، تلك علامات العمى..ـ
يصيح بصوت مخنوق (أمي.. أمي.. أمي) والقطة (تفزّ) بين فينة وأخرى، العرق يتصبب منه حتى بلّ الوسادة، وكفى (هرته) المأسورة بمحبته، انكشف الصبح، دبت الحركة لنهار يوم جديد، لعقت العرق النازل من وجنتيه وبلمسة لسان هادئ فيه من الحنان ما يوازي صراخه بأمي، جفل خائفاَ، هجم بكفيه المرتعدتين على الضماد املاً ان يرى من حوله، وعندما رفع الشاش الأبيض، فتح مقلتيه ببطء وصاح..!(يا الله، يا الله، إنها الجدران، الباب، التلفاز، الثلاجة، المدفأة، كتبي، هرّتي، الله انني أرى).ـ
كان سروره بلا حدود، حتى (هرّته) أخذت تتنطط وتراقص فرحته، احتضنها واخذ يمسد شعرها الناعم المرقط، خرج نحو فناء الدار المغطى بسردق قديم يقيه من المطر، والبرد وقسوة الرياح، عاد الهر وكله أمل في لقاء حبيبته التي تومض في عينيه محاسنها فيهش ذباب الكلمات عن لثغتهِ بمواء بارد.. فينظر أحضان حاملها، يهز ذيله باستحياء، ابتسم له بفورة محبة، وبأهزوجة أثيره، اخذ يردد..ــ
(شايف خيرها ومستاهلها، فوك الحائط مستنظرها)
وكان الوقت قبل نهاية شهر شباط، ذهبا يتمايلان يتكئان على بعضهما بغزل مبهج فوق الجدار، رفع كفيه نحو السماء مناجياً ربه ان يملأ هذا البيت بالأنثى، فتح الباب، فرح الجيران وابتسم للجميع ولشمس نهارٍ دافئة.ـ
*
للعودة إلى الصفحة الرئيسة