انطفاء
نص قصصي ـ
ـ كرم الاعرجي
نص قصصي ـ
ـ كرم الاعرجي
العالم كله قابل للاكتشاف، هل نرى بهدوء التأمل نهاية فيها من الالم ما يسر؟
قالها وهو متكئ على اريكته الهرمة كتجاعيد وجهه المملوء بالحيرة والاسى، من كثرة التفكر والامتثال امام محاكمات عقله الباحث بمشقة الولوج في دوائر هذا المكتشف الانسان،ـ
ليس سهلاً عليه ان يطلب من عامل المقهى ان يقدم له (الاركيلة) او أي شيء اخر يشربه، يُروِّض كل الذين حوله بالوعي ومن ثم يستنبط من افكاره فكرة واحدة تنقذه من فراغ،ـ
لم يكن بريئاً في صدارته للحوار معهم، مفتوناً بالانفة بحيث يشغلك بطريقة أداءه في الكلام، يجبرك بصقلهِ المتأني للغة كي تألفه وتتعود زيارته، ومن ثم تدفع لصاحب المقهى (اركيلته) دون ان يتحسس غفلته،ـ
حتى (وداد) بائعة السكائر والعلكة ترمقه من الرصيف المقابل، تعودت عليه وهو يؤشر بمماحكة المحب على فتحة (الزيق) غير المقصودة،ـ
بان تغلق الزر الفوقاني حفاظاً على حشتمها، منذ زمن وهي ترتدي ثوب الحداد،ـ
كانت شقراء مثيرة للانتباه، مكتئباً قاسياً على روحه العاشقة، لم يقترف اخطاءاً بعد موتها، لذا كان يؤشر بيده الحنونة..ـ
تبتسم له كثيراً عرفاناً منها باعتباره المنبه الوحيد الذي يرى خطأ فيستره، حتى ابنها عوده على حركاته البهلوانية التي تجعل من القلب يخفق بشدة عندما يحاول بمراوغته البريئة التنطط بين سيارات المارة،ـ
كثيراً ما ينهض قلقا عليه وتضطر (وداد) ترك زبائنها راكضة، محاولة الامساك به،ـ
وهو مصر على مطاردتها بقلقها المعهود عليه، انه لا يستجيب لصراخها ولا يبالي بحرقتها عليه.ـ
كلما نظرت نحوه تذكرت بعلها الذي تركه بلا مراعاة الابوة،ـ
وعندما تنتهي منهكة تجلس قبالة (القنفة) التي كان يجلس عليها (وضاح) زوجها المغادر نحو ملكوت الله بسبب ما افرزته مرارة الحياة من حروب،ـ
تتذكره دائما وهو يرتدي قيافته العسكرية مودعاً إياها بتحيته العسكرية الانيقة، متمنية لو لم تنتهي اجازاته،ـ
تتثنى قليلاً وهي منهارة بحزنها، كانت نظرتها باتجاه العبقري المفتون بجمال لغته والذي يتهم العالم بغباء شديد.ـ
فجأة توقظه غرائزه المطفأة منذ ان رحلت أم بكرهِ (احمد) ليطير مأخوذاً بوميض سري، يأمره الانشداد اليها وكأنه مراهق يربت على كتفه الهواء..!ـ
أحس نظرتها العجيبة كأنها فاكس محبة تقصده من خلالها.ـ
في لمعة فيض هاض به الشوق الغريزي النبيل مع ابتسامته العريضة المحملة بالتجاعيد..ـ
كل ابراج عبقريته انهارت في تلك الغيبة عن كل من حوله من المتكلمين بالرشاد والفلسفة وتهذيب العلاقات المعرفية،ـ
حتى انهم اصابتهم الدهشة حينما بقي متسمراً كتمثال ابو الهول امام (جنبر) السيدة وداد، اغرورقت عيناه بالدموع،ـ
لم يمنح نفسه فرصة للتفكر، هذا لان الحب تركض حروفه في دمه، محاولاً عبور الشارع الذي يفصل بينهما كما العمر الذي يطارد خضرة النفس، خطواته كانت مرتبة كأنها تعزف لحناً جنائزياً مقروناً به.ـ
حركات اصابعه القلقة تحاول ارسال شفرات الاشارة نحو السيارات التي الهبت الشارع بالمنبهات خوفاً من الزحام الذي يسبب الاصطدامات في كثير من الاحيان
يعبر الخط الاول المذيل بالشتائم والبصاق والكلمات النابية التي تجرح المشاعر نحو وسط الشارع،ـ
وعيناه الجاحضتان يعبهما الفرح، في ذات اللحظة تمثلت له (أم احمد) مبتهجة تنثر امامه الزهور.. خطوة.. خطوتان، غابت من مخيلتهِ
وصرخ في وجه الفضاء وداد، وداد، وداد، ثم سقط مغشياً عليه، مدهوساً بعربة حصان..ـ
رأسه منحرفاً بعض الشيء نحو السيدة وفي لحظة وسن الغرغرة،ـ
نظر طويلاً في وجه (وداد) ثم غار بداخله التحديق المحموم بالأمل، مسافراً نحو الغياب.ـ
للعودة إلى الصفحة الرئيسة