كرم الأعرجي
يقلَّبُ بصري فأغوص في مداه، كان وحيداً تسيَّره الخطى نحو المجهول، يتنطط فوق عقارب ساعته خيالاً؛ كي تنثني له المسافات.. يمرُّ بطيئاً فوق الجسر العتيق.. يقف ليغازل النوارس.. دهشته الغارقة في حلم الاكتشاف؛ يُسائل نفسه بمرارة الخوف من فخاخ هذه الحياة المليئة بأخطار الاختبارات القاسية، الوقت حريقاً بين عينيه؛ لذته الخانقة تنسجُ له أطيافا من الحلم الخاسر بأعرافنا، هي اللحظة التي تهمه بأمنية تنحدر من الأعالي كما أدراج هذه الشمس التي تنحني أمام قامة روحه الطافية في شوارع مراياه اللامعة بالخوف والذهول، النازل من جرار وقتهِ الثابت بمعدن جسده النحيل الذي أذابته غُرُفات الغربة وصقيع الطبيعة وفوران دمه بحرقة الخبل النرجسي المنسوج من كتب قرأها بعد موت مؤلفيها ، كل شيء (أصفر) آيل إلى سقوط مدياته (إلا) روحهُ الطافية،.. هنا لندن حيث الضباب الآخذ بناصية جسده الغارق في لذة عقيمة، جسده المتسخ بجوع غريزي أسقطه في حضنٍ جَفَلَ كثيراً من الرعب، ذات الفستان الشرقي الحزين، كانت ترمقه بشهوة فيها الكثير من المرارة، تشدها طيبة وعرة، تتدلى عليه في تلك اللحظة كقنديل معلق على قوس القناطر المظلمة؛ فيها حذر من هذا الجسد المغامر بالقدوم نحو بلاد لا يألف طبائعها، إلا من خبر مزاياها الخابية في الخَلل؛ المدمنة بزخات رعشاتها السيئة، أدركَتْ باقترابها منه بأن لا فاصل بينهما (إلا) برزخ شفاف اسمه الغربة، دنت منه أكثر وهو (الفائر) تسبق ظلاله الخطى مبهوتا بجمال ألفه في صباه، في تلك اللحظة لَفَّع نفسه بالحياء، عبرت من خلف المصطبة المطلة على ساحل (التايمز) حيث الزوارق الشراعية وصيادو الكرز البحري، العيارات بمنبهها المزعج والمارة المتأبطين لصيقاتهم من حسناوات المشاعل المضيئة عند أطراف (الكورنيش) المحاذي لنوادي المرح الليلي، تارة تحجبها عنه مضلات النث الندي المذاب، وأخرى؛ تُفرج النظرة عن نفسها من خلال الأذرُع الممتدة نحو سيارات الخدمة، وقفت برهة تتأمل هذا البصيص من ضوء الماضي، انه يشبه المهندس الأنيق عمر، لا.. لا.. بل يشبه البناء سعيد ابن خالتها (نعيمة) ولكن سمرته تشبه محمود قارئ القرآن في المناحات التي يقيمها أهل الحي هنالك دماؤهم واحدة حيث البراءة والتقاليد النقية المليئة بالمحبة والألفة والتسامح النبيل، تمنت في تلك اللحظة أن تمسد بيدها الحجر الأسود وتدعو في عرفات كي تعود مبرأة من كل ذنبِ مضى، أمعنت النظر طويلاً في المسافة التي بينهما، ارتعشت أقدامها وهي تنثر الحدقات عبر الشارع، والزحام موصولْ، حتي أنها تسمرت في المكان، لم ينفك نظرهُ لحظة عنها، اخذ يلعن كل من تسبب في هذا الارتباك، وجهها الخمري يثير انتباه الذاكرة، رُبما من الشمال الشرقي أو من بطون الجزيرة، المهم أدرك بأنها شرقية التقاسيم، قوامها ودورة وجهها الفضي المُطعمَّ باحمرار شفاف ينبئهُ بذلك، ترى ما الذي أتى بها إلى هنا وفي هذا المكان المريض بحريةٍ فيها من الفضاعة ما يُخجل،.. لحظة محاولته الالتقاء اختار القدر حادثا مرورياً.. لذا الزحمة أخفتها والزحمة أخفته.. كانت اللحظة أنيقة في ذاكرتهِ، واستعداده ممتعاً للطيران يُنفسُ عن ما يدور في خلجاتهِ المكتظة باحتقان الحياة التي تدعوهُ دائماً للانفجار، انه الضغط النفسي المسموم بأدخنة مسلحةٍ بالخراب، ضَرب بكفهِ المفتوحة بقوة غاضبة على سياج الجسر الحديدي المشبك الذي يذكره ببصمة الاحتلال البريطاني المستمر/ راح يرسم بإيماءات هادئة وعبر خطوط لمعان ضياء شمس الأصيل المنعكسة في النهر البريء غباء المكان/ المحمول على أكتاف المارة المسلوخين من أجسادهم المتعبة والمحتضرة، إنها الخفة الحاذقة بعيونهم، رَبتت على كتفهِ المرأة الخاسرة ذاتها بقصد الاستجداء وقد أكل الزمن من مَفاتنها رقة الجمال، كأنها ضوء باهت يتسلل من دهليز، فجأة ينزلق نحو الذاكرة الكسولة ليفتش عن عصاً سحرية قد تخدم ما يرومُ صنعهُ من أمنيات أحسَّ بهدوء الشيخوخة بأنه يتوكأ على عمر مضى بلا أمل؟؟!!.ـ
للعودة الى الصفحة الرئيسة