قراءة عامة
في مجموعة الشاعر طلال عبد الرحمن "طائر الزاب"ـ
د.ميسر الخشاب
يعتبرالشاعر الراحل طلال عبد الرحمن ضمن جيل السبعينات في كتابة قصيدة التفعيلة. قصائده مفعمة حقا بالصور الحسية ويمتاز اسلوبه برشاقته وحسن تراكيبه . والشاعر من مواليد الموصل عام 1951. نال شهادة الماجستير في الأدب الانكليزي / كلية الاداب حيث طرح آنذاك مع مجموعة من شعراء الجامعة الشباب تجربتهم الشعرية مثل طلال مراد ،ازهر سليمان وجاسم محمد حسن. وللشاعر نشاط واضح في عالم الموسيقى، وقد اختار المنفى مكانا له في السويد لتحقيق طموحه في متابعة الشعر والموسيقى هناك .
تمتاز قصيدة الشاعر طلال عبد الرحمن بالصور الشفافة والمؤثرة في إيقاعها مستمدة إما من تراث المدينة او من اسلوب القران الكريم عبر موسيقى هادئة ولغة مثيرة صافية. وقد ضمت المجموعة المنشورة على موقع سالم الحسو خمس عشرة قصيدة تحمل عناوين تدل معظمها على أماكن مختلفة في مدينة الموصل أو مهداة إلى أصدقاء رحلوا عنها أو تصوير حالة ما. تقدم المجموعة في بعض قصائدها : طائر الزاب , ام الربيعين , محمد موسى , وكليو صورا واقعية عاشها الشاعر في طفولته، فالتصقت في ذاكرته وهي تحمل ألما وإحساسا عميقا بالرحيل عنها والتغزل في مفاصلها وصورها البهية : انهار ، أشجار، وأحداث اجتماعية تراكمت في مخيلة الشاعر .
من خلال قصيدة "طائر الزاب مثلا، تتزاوج المفردتان في علاقة واضحة بينهما , ليتذكر الشاعر طيرا كان اصطاده حينما كان صغيرا، ليحمل هذا الطائر الجميل دلالته فيشعره بالجمال الذي غاب عنه، فيصفه وصفا يبهر القارى لشدة اعجابه بشكله ورمزه : " بعضهم قال قطاً , لكنها ليست قطا " او " ريشها لون حصى الزاب الذي لم يزل يأسرني ثلاثين سنة "، الى ان يقول :" كبّرت والدتي حين رأته. . وبكت حزنا وقالت .. ربما كان ملاك ! " الى ان يصل الى نقطة ذاتية مثيرة فيتساءل :" فمتى تعشقني يا طائر الزاب متى ؟ ومتى ارتاح من حزني عليك .. فمتى تطلقني ياطير من بين يديك ؟" لاشك ان هذا الشعور بالتأنيب غير مبرر لكنه يدل على شدة حبه وانغماره بجمال مرحلة عظيمة من حياته البريئة، كيف لا وهو ذلك الطفل الذي يتوق الى الامساك بطير جميل جدا. فعلا لقد كان الشاعر مقيدا بجمال الطائر والذي يمثل بالتالي خسارة مرحلة لاتنسى من عمره . اما حينما يتذكر الشاعر صديقه وزميل دراسته الشهيد "محمد موسى" فهو يتذكر شابا يحمل وجها مكللا بالندى. لقد سقط هذا الشاب- وهو زميل دراسته - في حرب القادسية بداية الثمانينات من القرن الماضي :- ويح الذي أرداك هل يعرف من قتل ؟ ويح الذي أرداك هل يدرك مافعل ؟ وحين يلوم القاتل فانه يعاتبه لأنه ثقب وجه القمر " من يطلق النار على القمر ... غير الذي قد ادمن الظلام والحفر . " اما قصيدة "كليو" فتصور شخصية شعبية ، ومأساة إنسان لايملك سوى بؤسه ومشاكسة الصغار له ،وهي بالتالي تعكس صورة بؤس المجتمع والحياة التي عاشها آنذاك. ان هذه القصيدة بجمالها وفاجعتها تقدم أكثر من سؤال وتحاور هذا الانسان البعيد بكل تفاصيلها الايجابية والسلبية، فنحسه بحق وكأنه يبكي ليس أمسه فقط بل وحاضره ويتنبأ بمستقبله المجهول . أما قصيدة " لا احد , لاشى , لا قصيدة " فهي قصيدة ذاتية يحاور فيها صديقه الشاعر محمد مردان الذي يعيش مثله ألمه وأحلامه الضائعة الغائبة ، فكأنه يحاور بالتالي نفسه. اذن هو غريب , وحيد مع نفسه وأصدقائه ومدينته :" ياأيها الشيخ الذي يحترف الطفولة ، هل أنت مثلي دائما تنتظر الشئ الذي يأتي ولا يأتي ... وقد يأتي ولا نراه" ؟: انه يرثي نفسه والشعر من خلال المعادل الواضح بين عالمه الداخلي وصراعه مع قسوة الحياة حيث يبدو كل شيء مريضا حتى الشعر الذي يقول فيه : " زمن يرقد فيه الشعر في المستشفى .. ليس يزوره احد .. الى ان يختم وجهة نظره " ماذا اذا .. يمكن ان تفعله قصيدة ؟" ليس سرّا ان قلت ان الشاعر طلال عبد الرحمن كان في مرحله السبعينيات ومن خلال ملازمتي له متشائما نوعا ما ، فكيف به ينزل ديارا غير دياره ويتوقع من صديقيه الشعر او الموسيقى ان يعوضانه ويمنحانه الحلم والتفاؤل .ان مقاطعه نعم تفوح بعبق الضياع والإحباط والغربة الذي كان يعيشها الشاعر . أما لغته فهي شبكة من نسيج تعبيري مترابط ،سواء من ناحية علاقة المفردات ببعضها او الصور بدلالاتها. فهو لايكثف صوره او جمله بشكل معنوي – بل يفعّل سياقاته ليقدم انطباعا جليا بما يريد ان يقول، فتحسه انه قريب من أسلوب ومعاناة السياب تارة او من البياتي في البحث عن عائشة تارة اخرى. لقد أدرك الشاعر طلال ان مواضيعه لاتحتمل التكثيف والتكنيك الحديث لان عالمه وتجربته تكشفان عن عالم مملوء بالتناقضات والعذابات التي لابد ان تخرج الى عالم الانسان والحياة لتواجههما . ان المفردات مثل طائر الزاب , كليو , ترتبط كثيرا بصورها المتألقة في ذاكرته لذا فان اسطره الشعرية تملك إيقاعها الشعري , بل حتى قافيتها العفوية المنسابة أحيانا وبإطار واقعي رومانسي , كيف لا ؟ وهو الشاعر الذي دخل عالم الموسيقى بحب وقدم إيقاعات عراقية في السويد. لذلك السبب فان الشعر غالبا لم ينل من اهتمامه الكبير طيلة سنوات الاقامة هناك ،فكان وكما يبدو ان معظم قصائد هذه المجموعة قد كتبت قبل مغادرته العراق . ان شاعرا مثل طلال عبد الرحمن لاينتمي الاّ الى عالمه الرحب المملوء بالحس الأصيل والشفافية العالية وأناقة الجملة في صورها اليومية المعبرة والى قوة العبارة التي تنم عن ثقافة في اللغة حيث افاد من اسلوب القران الكريم وعيون الشعر العربي . لقد كان الشاعر بحق رغم قلة ما كتب متميزا بل كان - كما عهدته- إنسانا لم يحب بصدق وإخلاص إلا فنه ومدينته ولعن الله الغربة التي تاكل كل يوم قامة ادبية او فنية .
*** الموصل-2013
ملحق : ديوان طائر الزاب للشاعر طلال عبدالرحمن
*
عودة الى الصفحة الرئيسة