صحن عدس
جورجينا بهنام
بانتظار الاستفتاح بزبوني الأول، أملت رقبتي صوب صحن العدس الساخن حد الانحناء، لم أكن أقصد أن أدفن فيه رأسي كما يحلو للنعامة أن تفعل هربا من الخطر الداهم، بل هو البحث عن شيء من الدفء المفقود منذ مدة ليست بالقصيرة بعد أن طال الشتاء وتعدى حدوده المعتادة في كل ما يحيط بنا. وقبل أن أغمس أول لقمة فيه، فوجئت بثلة من الملثمين مدججين بالسلاح لا أذكر عددهم ولم تسنح لي فرصة لأقول كلمة واحدة، ترحيبية ربما، عندما جرجروني مصوبين مسدساتهم إلى رأسي وكأني مجرم عتيد في الإجرام، انتزعوا موبايلي وكبلوا يديّ. وقبل أن تنجح محاولتي المستميتة في فك انطباق شفتيَّ، عاجلني أحدهم بضربة من أخمص مسدسه على أم رأسي ليختصر ساعات من الرعب والتوجس والرهبة، جزاه الله خيرا فقد سهل عليَّ تجاوز التجربة الأشد هولا والأكثر مرارة التي يمكن أن أواجهها في حياتي السابقة واللاحقة.
أفقت في تلك الصومعة المدعوة صندوق السيارة، لكني لم أقو على التعبد رغم الإضاءة الخافتة المنبلجة من وراء اسداف الكوفية السوداء، غابت الصلوات والأدعية عن ذاكرتي بل غاب عقلي كله، وهل يملك عقلا من يقهقه في نفسه تلك الساعة: أتكون السيارة التي يحتويني صندوقها فارهة بما يناسب مقامي الرفيع؟ ألا تستحق يا ولد الخطف في ليموزين مثلا؟ اضحكوا ملء اشداقكم فشر البلية ما يضحك. ومع أول إشارة استفاقة رحت اسأل نفسي من أنا؟ وما اسمي؟ في أي يوم نحن؟ فمن يدري كم ستطول محنتي؟
في الطريق الذي خلته أطول من الطريق إلى كابول، بحثت عن السلوى في عد المطبات كأبطال الأفلام المصرية علـّي أجد نقاطا دالة لأعرف أين أنا؟ فأسعى كنجوم السينما الهندية إلى الفكاك من الأسر بدهائي وعنترياتي، لكن عدّ نجوم السماء كان أيسر من إحصاء مطبات شوارعنا.
-الله يساعدك..
-ما هذا الصوت نحن في نقطة تفتيش؟ جاء الفرج سريعا، سيأمرون السائق بفتح الصندوق فيجدوني وأخرج سالما وتنتهي قصتي الحزينة نهاية سعيدة... لكن ماذا لو لم يمتثل السائق لأمرهم وفر منطلقا بأقصى سرعة؟ سيطلقون النار على المركبة لا محالة، صندوقها أقرب الأهداف وأودع أنا الحياة.
لم يفلح هذان السيناريوهان في تصوير ما حدث..فبضعة دقائق من تبادل التحيات اختلط خلالها صوتا المجند والسائق بصوت نسائي يهدهد طفلا علا صوت بكائه فجأة ليزيد معاناتي، كانت العائلة المزعومة أثناءها جواز تنقل مضمون، في هذه وغيرها من المفارز بمختلف الانتماءات.
أرهفت السمع لصوت بعيد علـّي أتعرف المكان، فالأصوات هي حبلي السري الوحيد الذي يربطني برحم الحياة، فوضى الأصوات اجتاحت مخيلتي في لحظة واحدة في مزيج من الهذيان والصحو والتغييب...تعالى من بينها صوت ناشز...بوووم....بوووم، ماهذا أيقرعون الطبول؟ لست ذلك الصيد الثمين ليقرعوا الطبول فرحا بأسري فما كل هذا الضجيج هل نحن في عرس؟ الحمدلله وجدت نقطة دالة: مررنا بحفل عرس!!!
كلا... استكيني يانفسي ودعيني أصغي ..ما هذا الصوت؟
-ياللهول! أكل هذه القرقعة ما هي الا طبول النفير التي راح قلبي الضعيف يقرعها متوسلا في صحوة كأنها صحوة الموت، علَّ احدهم يسمعها فيهب لنجدتي..
أواه ياقلبي المسكين..كيف سنعبر هذا المخاض والولادة متعسرة وربما ستحتاج عملية قيصرية...أإلى ولادة جديدة أم ستغدو سقطا تفترسه وحوش الأرض؟ حامت في رأسي غيمات سود كثيرة مستذكرا شيئا من طريف ومخيف ما رواه لي بعض أصدقائي ومعارفي وأقربائي ممن سمحت السماء أن يكونوا ضحايا ذلك الفعل الرهيب (الخطف)....راحت حكاياتهم المرة عن الأيام والليالي والساعات والدقائق والثواني التي قضوها رهائن الإرهاب ومن أطلق يده تأكل روحي وتنهش وجداني وتزيد قرع الطبول صخبا وضجيجا..
- يا ويلي.. قلبي الصغير لا يحتمل. لم أكن يوما جبانا رعديدا، لكن قلبي اهترأ لفرط ما لاقى من حوادث الزمان..قضيت سنوات في حرب الثماني سنوات، تحت القصف وهدفا للمدافع وبين أشراك الألغام، لم أخف ولم يرف لي جفن..صبرت كما صبر غيري حتى جاء الفرج وظننت أن أوان الراحة قد حان، لكنهم طلبوني ثانية لأعيد الفرع إلى الأصل..فلبيت مرغما لا بطلا...اُسرت هناك، أم سعيت لأقع في الأسر..لا فرق..المهم أني ذقت مرارة الأسر من قبل..فما بالي الآن؟ لكن الأسر لدى محررينا لم يكن مرا بما فيه الكفاية.. ولم يعلق بحلقي من علقمه سوى ذلك الشعور الذي خلته عظيما حينها، وقد أشبع كل ثنايا جسدي وروحي وعقلي بالفخر والانتماء والحنين معا وأنا أرفض عرضهم السخي بالرحيل إلى حيث أريد من بلدان العالم..إلى ارض العم سام إن شئت...لكني رفضت....طيف والدي المسكين كان يحضرني كل ليلة في الصحو والمنام..أتخيله واقفا على الباب ينتظر عكازه ليعود من سجون الأسر الامبريالية..
عدت ..يا ليتني ماعدت..ما ذنب زوجتي وأطفالي..عائلتي الغالية ..ترى كيف حالهم الآن..هل تقرع طبول الفزع في صدورهم نظيري؟ أم أن الخبر السعيد لم يصلهم بعد؟
من أين سيدبرون المبلغ المطلوب؟ ترى كم أساوي في نظر الخاطفين؟ وأنا ما عدت أساوي في نظر نفسي شيئا بعد المهانة والسحل على الأرض كأني شاة تساق إلى الذبح..أي كرامة لي بعدما حشرت في الصندوق كما يفعل بعض قساة القلوب بخروف العيد المسوق إلى مصرعه..وهل أنا حقا إنسان؟..وأنا متكور في قفصي معصوب العينين كدابة تدور في ساقية لا تدري أين مستقرها.
لا استحق أن افتدى بأي مبلغ..ما عدت أساوي فلسا واحدا، كل درهم ستدفعه عائلتي أولادي أولى به...كيف سأوصل إليهم هذه المعلومة؟ أرجوكم لا تدفعوا ولا عانة..لا تدعموا الإرهاب.. لا تطلقوا بالمال سراح من ما عاد يرى نفسه مستحقا للحياة.
توقفت السيارة..أزير الباب يرن في اذني.. إنهم في أمان داخل بيت ما الآن، فماذا عني؟ أيقنت الآن أني رهينة لا حول له ولا قوى ولا أمل بخروجي سوى بدفع الفدية.. ياويلي ماذا ينتظرني هنا؟
لفح نسيم بارد وجهي الكالح... فتحوا باب السجن الصغير واقتادوني الى السجن الاكبر، قبل أن استوي على الحصيرة بادرني صوت أجش:
- نحن نداري ضيوفنا وسنجلب لك دواء القلب والسكر لاتخف.... بمن تريد أن نتصل من أهلك؟
-اجبته بصوت مرتعش: لا تتصلوا بأحد..ليس عندنا نقود ندفعها لكم..اقتلوني...
قبل أن أردف كلمتي عاجلتني لكمة اخرستني...وأطلقت صوت المارد مجلجلا:
-شبيك لبيك..اطلب وتمنى..
لم أتردد لحظة في أن أطلب الحرية والفكاك من قيد الأسر اللعين.
-لك أمنية واحدة فقط، قال المارد.
-اريد المال إذن....الكثير من المال..ألف ألف دينار. ألسنا في عوالم ألف ليلة وليلة؟ كلا لا أريدها بالدينار بل بالدولار.هل تعرفه أيها المارد؟ هل وصلتكم تلك الورقة الخضراء؟
-قطعا أعرفه...أنا مارد..كم تريد؟ أتكفيك مليون دولار، ولكن تذكر: لك طلب واحد فقط.
-مليون..ربما تكفي...أدفع الفدية ..والباقي أعطيه لأمهر المهربين ليوصلني وعائلتي الى السويد، لن ابقى لحظة واحدة في بلد لا كرامة لي فيه..وبهذا أكون قد ضربت عصفورين بحجر واحد: المال والحرية في سلة واحدة..
- تذكر ..واحدة فقط..
-لكني جائع ..بل أتضور جوعا وربما لن أحيا حتى اصرف المال أو استمتع بالحرية حتى. آه ..من لي بصحن العدس الساخن الذي خلفته يتيما..ليتهم تركوني ارتشف منه قليلا..ما هذه الرائحة؟ هل اختار المارد أن يلبيني بصحن عدس بدل المليون دولار؟ أم غدا صحني طائرا وحلق ليحط في حضني؟...لا..لست واهما إنها رائحة العدس لا تخطئها أنوف آكلي الحصة...
-أفق هيا أحضرنا لك الطعام..لا نريدك أن تموت..فيصير دمك في رقابنا...ارفع الكوفية عن فمك فقط..هاقد حررت يديك لتأكل ..لكن إياك والغدر.
-الغدر..اسمعوا من يتكلم عن الغدر..نفذت الأوامر صاغرا، خوفا؟ كلا بل طمعا في صحن العدس الذي راودني في منامي...قبل اللقمة الأولى ... أرعد صوت غاضب:ـ:
-ارفعوا الصحن من أمامه لن يأكل شيئا اليوم عقابا له..
-عقابا.. ماذا فعلت؟ قلت في نفسي.
- أي نوع من البشر أنتم؟ رفض والدك أن يدفع لنا، بل رفض التفاوض حتى.. لا يريدونك أن تعود لقد تخلصوا منك على أهون الأسباب..أي شرير أنت ليسعوا للخلاص منك؟ كنت أنوي معاملتك بالحسنى، فأنت ضيفنا ونحن نكرم الضيف! لكن طريقة أهلك ستجبرني على التصرف ضد أخلاقي.. لا طعام ولا دواء لا للسكر ولا للقلب..ستتعذب حتى يلين قلب أهلك فانا لن أقتلك وأخرج من هذه العملية خاسرا أبدا..
-عَمَّ يتحدث هذا- قلت في نفسي-أية أخلاق بل أية ضيافة..كيف عرف أمراضي..لم يذكر الضغط مثلا.. هل أعرفك أيها المجرم؟ أم أن أحد معارفي أو ربما جيراني وشى بي...عادت الطبول إلى قرعها المدوي إيذانا بحلول الظلام وتأكيدا لقول الخاطف الخلوق..قلبي المريض كم سيصمد؟
على إيقاعها كانت صور أطفالي يتراقصون ويمرحون تسليني وتحيلني إلى عوالم الخيال بحثا عن متنفس، لكن القرع علا وعلا حتى ضجت به أركان الغرفة..يا الهي أزير الرصاص يزغرد وقرقعة القنابل تتعالى..ماذا سيحل بالعبد الفقير؟ هل حانت ساعتي؟ هل اختلفوا فيما بينهم من يفوز بالصيد الثمين؟ هل هذه نيران صديقة؟ أم هم الشرطة جاؤوا لإنقاذي؟ يالي من شخص مهم!!
ألا تعاجلني واحدة من سرب الرصاص الطائش فانتقل إلى رحمة ربي غير مأسوف عليَّ، ولا حتى من نفسي، فأريح واستريح.. هلمي ايتها الرصاصة الذهبية إلى قلبي الذي غدا كقطن مندوف، لك فيه متسع فامكثي واستريحي وزفيني شهيدا إلى السماء....
-تذكر أمنية واحدة فقط..لم تطلب شيئا بعد.
-ها أنت ثانية ايها المارد، ما عاد المال يجدي نفعا... هل لي بدوائي؟ كلا بل نظرة أخيرة إلى وجوه صغاري..لا لا أريدهم أن يروني بهذه الحال المزرية..
خذني معك أيها المارد إلى عوالم السحر والخيال فعالمي فقد سحره وانطفأت جاذبيته..كم من بهلوان يلعب على الحبال لكنهم فشلوا في رسم شبح لابتسامة على وجه أي إنسان.
-ما هذا انك ترتجف..أتخاف المردة يا إنسان؟
-صرت أخاف كل إنسان..لكني لا ارتعش خوفا بل بردا..فرائصي ترتعد وجسدي يرتعش كسعفة في مهب الريح....آه من يأتيني بصحن العدس.. لو ذقته فقط..لمتّ الآن وما من حسرة في قلبي...رائحته ما انفكت تداعب انفي...أشمها: عدس..عدس...هل هي رائحة أطايب الجنة؟ أيها التعس.. في الجنة انهار من خمر وعسل وليس عدس.... والحور العين هناك أيضا ..اسمع صوت إحداهن تناديني: حبيبي..حبيبي...
-حمدا لله على سلامتك يا زوجي الحبيب.. لم اصدق أني سأراك ثانية، الأولاد في اشد الشوق إليك... خشيت عليهم من زيارتك بالمشفى ورؤيتك وأنت فاقد للوعي...
-هل أشم رائحة العدس؟
-هو العدس أعددته خصيصى لك ليدفئ أوصالك بعد هذه المحنة ..اعرف كم تحبه...
التصق بفمي ميكروفون طائش لا اعرف من أين أتى:
-تفضل اشكر السيد القائد والضباط وأفراد الفرقة التي أنقذتك من براثن الخطف والإرهاب والأطباء الذين عالجوك والممرضين الذين اعتنوا بك و..
-شكرا.. لصحن العدس رفيقي الأمين..شكرا لمن جعله في متناول كل إنسان في هذا الوطن.
للعودة إلى الصفحة الرئيسة
جورجينا بهنام
بانتظار الاستفتاح بزبوني الأول، أملت رقبتي صوب صحن العدس الساخن حد الانحناء، لم أكن أقصد أن أدفن فيه رأسي كما يحلو للنعامة أن تفعل هربا من الخطر الداهم، بل هو البحث عن شيء من الدفء المفقود منذ مدة ليست بالقصيرة بعد أن طال الشتاء وتعدى حدوده المعتادة في كل ما يحيط بنا. وقبل أن أغمس أول لقمة فيه، فوجئت بثلة من الملثمين مدججين بالسلاح لا أذكر عددهم ولم تسنح لي فرصة لأقول كلمة واحدة، ترحيبية ربما، عندما جرجروني مصوبين مسدساتهم إلى رأسي وكأني مجرم عتيد في الإجرام، انتزعوا موبايلي وكبلوا يديّ. وقبل أن تنجح محاولتي المستميتة في فك انطباق شفتيَّ، عاجلني أحدهم بضربة من أخمص مسدسه على أم رأسي ليختصر ساعات من الرعب والتوجس والرهبة، جزاه الله خيرا فقد سهل عليَّ تجاوز التجربة الأشد هولا والأكثر مرارة التي يمكن أن أواجهها في حياتي السابقة واللاحقة.
أفقت في تلك الصومعة المدعوة صندوق السيارة، لكني لم أقو على التعبد رغم الإضاءة الخافتة المنبلجة من وراء اسداف الكوفية السوداء، غابت الصلوات والأدعية عن ذاكرتي بل غاب عقلي كله، وهل يملك عقلا من يقهقه في نفسه تلك الساعة: أتكون السيارة التي يحتويني صندوقها فارهة بما يناسب مقامي الرفيع؟ ألا تستحق يا ولد الخطف في ليموزين مثلا؟ اضحكوا ملء اشداقكم فشر البلية ما يضحك. ومع أول إشارة استفاقة رحت اسأل نفسي من أنا؟ وما اسمي؟ في أي يوم نحن؟ فمن يدري كم ستطول محنتي؟
في الطريق الذي خلته أطول من الطريق إلى كابول، بحثت عن السلوى في عد المطبات كأبطال الأفلام المصرية علـّي أجد نقاطا دالة لأعرف أين أنا؟ فأسعى كنجوم السينما الهندية إلى الفكاك من الأسر بدهائي وعنترياتي، لكن عدّ نجوم السماء كان أيسر من إحصاء مطبات شوارعنا.
-الله يساعدك..
-ما هذا الصوت نحن في نقطة تفتيش؟ جاء الفرج سريعا، سيأمرون السائق بفتح الصندوق فيجدوني وأخرج سالما وتنتهي قصتي الحزينة نهاية سعيدة... لكن ماذا لو لم يمتثل السائق لأمرهم وفر منطلقا بأقصى سرعة؟ سيطلقون النار على المركبة لا محالة، صندوقها أقرب الأهداف وأودع أنا الحياة.
لم يفلح هذان السيناريوهان في تصوير ما حدث..فبضعة دقائق من تبادل التحيات اختلط خلالها صوتا المجند والسائق بصوت نسائي يهدهد طفلا علا صوت بكائه فجأة ليزيد معاناتي، كانت العائلة المزعومة أثناءها جواز تنقل مضمون، في هذه وغيرها من المفارز بمختلف الانتماءات.
أرهفت السمع لصوت بعيد علـّي أتعرف المكان، فالأصوات هي حبلي السري الوحيد الذي يربطني برحم الحياة، فوضى الأصوات اجتاحت مخيلتي في لحظة واحدة في مزيج من الهذيان والصحو والتغييب...تعالى من بينها صوت ناشز...بوووم....بوووم، ماهذا أيقرعون الطبول؟ لست ذلك الصيد الثمين ليقرعوا الطبول فرحا بأسري فما كل هذا الضجيج هل نحن في عرس؟ الحمدلله وجدت نقطة دالة: مررنا بحفل عرس!!!
كلا... استكيني يانفسي ودعيني أصغي ..ما هذا الصوت؟
-ياللهول! أكل هذه القرقعة ما هي الا طبول النفير التي راح قلبي الضعيف يقرعها متوسلا في صحوة كأنها صحوة الموت، علَّ احدهم يسمعها فيهب لنجدتي..
أواه ياقلبي المسكين..كيف سنعبر هذا المخاض والولادة متعسرة وربما ستحتاج عملية قيصرية...أإلى ولادة جديدة أم ستغدو سقطا تفترسه وحوش الأرض؟ حامت في رأسي غيمات سود كثيرة مستذكرا شيئا من طريف ومخيف ما رواه لي بعض أصدقائي ومعارفي وأقربائي ممن سمحت السماء أن يكونوا ضحايا ذلك الفعل الرهيب (الخطف)....راحت حكاياتهم المرة عن الأيام والليالي والساعات والدقائق والثواني التي قضوها رهائن الإرهاب ومن أطلق يده تأكل روحي وتنهش وجداني وتزيد قرع الطبول صخبا وضجيجا..
- يا ويلي.. قلبي الصغير لا يحتمل. لم أكن يوما جبانا رعديدا، لكن قلبي اهترأ لفرط ما لاقى من حوادث الزمان..قضيت سنوات في حرب الثماني سنوات، تحت القصف وهدفا للمدافع وبين أشراك الألغام، لم أخف ولم يرف لي جفن..صبرت كما صبر غيري حتى جاء الفرج وظننت أن أوان الراحة قد حان، لكنهم طلبوني ثانية لأعيد الفرع إلى الأصل..فلبيت مرغما لا بطلا...اُسرت هناك، أم سعيت لأقع في الأسر..لا فرق..المهم أني ذقت مرارة الأسر من قبل..فما بالي الآن؟ لكن الأسر لدى محررينا لم يكن مرا بما فيه الكفاية.. ولم يعلق بحلقي من علقمه سوى ذلك الشعور الذي خلته عظيما حينها، وقد أشبع كل ثنايا جسدي وروحي وعقلي بالفخر والانتماء والحنين معا وأنا أرفض عرضهم السخي بالرحيل إلى حيث أريد من بلدان العالم..إلى ارض العم سام إن شئت...لكني رفضت....طيف والدي المسكين كان يحضرني كل ليلة في الصحو والمنام..أتخيله واقفا على الباب ينتظر عكازه ليعود من سجون الأسر الامبريالية..
عدت ..يا ليتني ماعدت..ما ذنب زوجتي وأطفالي..عائلتي الغالية ..ترى كيف حالهم الآن..هل تقرع طبول الفزع في صدورهم نظيري؟ أم أن الخبر السعيد لم يصلهم بعد؟
من أين سيدبرون المبلغ المطلوب؟ ترى كم أساوي في نظر الخاطفين؟ وأنا ما عدت أساوي في نظر نفسي شيئا بعد المهانة والسحل على الأرض كأني شاة تساق إلى الذبح..أي كرامة لي بعدما حشرت في الصندوق كما يفعل بعض قساة القلوب بخروف العيد المسوق إلى مصرعه..وهل أنا حقا إنسان؟..وأنا متكور في قفصي معصوب العينين كدابة تدور في ساقية لا تدري أين مستقرها.
لا استحق أن افتدى بأي مبلغ..ما عدت أساوي فلسا واحدا، كل درهم ستدفعه عائلتي أولادي أولى به...كيف سأوصل إليهم هذه المعلومة؟ أرجوكم لا تدفعوا ولا عانة..لا تدعموا الإرهاب.. لا تطلقوا بالمال سراح من ما عاد يرى نفسه مستحقا للحياة.
توقفت السيارة..أزير الباب يرن في اذني.. إنهم في أمان داخل بيت ما الآن، فماذا عني؟ أيقنت الآن أني رهينة لا حول له ولا قوى ولا أمل بخروجي سوى بدفع الفدية.. ياويلي ماذا ينتظرني هنا؟
لفح نسيم بارد وجهي الكالح... فتحوا باب السجن الصغير واقتادوني الى السجن الاكبر، قبل أن استوي على الحصيرة بادرني صوت أجش:
- نحن نداري ضيوفنا وسنجلب لك دواء القلب والسكر لاتخف.... بمن تريد أن نتصل من أهلك؟
-اجبته بصوت مرتعش: لا تتصلوا بأحد..ليس عندنا نقود ندفعها لكم..اقتلوني...
قبل أن أردف كلمتي عاجلتني لكمة اخرستني...وأطلقت صوت المارد مجلجلا:
-شبيك لبيك..اطلب وتمنى..
لم أتردد لحظة في أن أطلب الحرية والفكاك من قيد الأسر اللعين.
-لك أمنية واحدة فقط، قال المارد.
-اريد المال إذن....الكثير من المال..ألف ألف دينار. ألسنا في عوالم ألف ليلة وليلة؟ كلا لا أريدها بالدينار بل بالدولار.هل تعرفه أيها المارد؟ هل وصلتكم تلك الورقة الخضراء؟
-قطعا أعرفه...أنا مارد..كم تريد؟ أتكفيك مليون دولار، ولكن تذكر: لك طلب واحد فقط.
-مليون..ربما تكفي...أدفع الفدية ..والباقي أعطيه لأمهر المهربين ليوصلني وعائلتي الى السويد، لن ابقى لحظة واحدة في بلد لا كرامة لي فيه..وبهذا أكون قد ضربت عصفورين بحجر واحد: المال والحرية في سلة واحدة..
- تذكر ..واحدة فقط..
-لكني جائع ..بل أتضور جوعا وربما لن أحيا حتى اصرف المال أو استمتع بالحرية حتى. آه ..من لي بصحن العدس الساخن الذي خلفته يتيما..ليتهم تركوني ارتشف منه قليلا..ما هذه الرائحة؟ هل اختار المارد أن يلبيني بصحن عدس بدل المليون دولار؟ أم غدا صحني طائرا وحلق ليحط في حضني؟...لا..لست واهما إنها رائحة العدس لا تخطئها أنوف آكلي الحصة...
-أفق هيا أحضرنا لك الطعام..لا نريدك أن تموت..فيصير دمك في رقابنا...ارفع الكوفية عن فمك فقط..هاقد حررت يديك لتأكل ..لكن إياك والغدر.
-الغدر..اسمعوا من يتكلم عن الغدر..نفذت الأوامر صاغرا، خوفا؟ كلا بل طمعا في صحن العدس الذي راودني في منامي...قبل اللقمة الأولى ... أرعد صوت غاضب:ـ:
-ارفعوا الصحن من أمامه لن يأكل شيئا اليوم عقابا له..
-عقابا.. ماذا فعلت؟ قلت في نفسي.
- أي نوع من البشر أنتم؟ رفض والدك أن يدفع لنا، بل رفض التفاوض حتى.. لا يريدونك أن تعود لقد تخلصوا منك على أهون الأسباب..أي شرير أنت ليسعوا للخلاص منك؟ كنت أنوي معاملتك بالحسنى، فأنت ضيفنا ونحن نكرم الضيف! لكن طريقة أهلك ستجبرني على التصرف ضد أخلاقي.. لا طعام ولا دواء لا للسكر ولا للقلب..ستتعذب حتى يلين قلب أهلك فانا لن أقتلك وأخرج من هذه العملية خاسرا أبدا..
-عَمَّ يتحدث هذا- قلت في نفسي-أية أخلاق بل أية ضيافة..كيف عرف أمراضي..لم يذكر الضغط مثلا.. هل أعرفك أيها المجرم؟ أم أن أحد معارفي أو ربما جيراني وشى بي...عادت الطبول إلى قرعها المدوي إيذانا بحلول الظلام وتأكيدا لقول الخاطف الخلوق..قلبي المريض كم سيصمد؟
على إيقاعها كانت صور أطفالي يتراقصون ويمرحون تسليني وتحيلني إلى عوالم الخيال بحثا عن متنفس، لكن القرع علا وعلا حتى ضجت به أركان الغرفة..يا الهي أزير الرصاص يزغرد وقرقعة القنابل تتعالى..ماذا سيحل بالعبد الفقير؟ هل حانت ساعتي؟ هل اختلفوا فيما بينهم من يفوز بالصيد الثمين؟ هل هذه نيران صديقة؟ أم هم الشرطة جاؤوا لإنقاذي؟ يالي من شخص مهم!!
ألا تعاجلني واحدة من سرب الرصاص الطائش فانتقل إلى رحمة ربي غير مأسوف عليَّ، ولا حتى من نفسي، فأريح واستريح.. هلمي ايتها الرصاصة الذهبية إلى قلبي الذي غدا كقطن مندوف، لك فيه متسع فامكثي واستريحي وزفيني شهيدا إلى السماء....
-تذكر أمنية واحدة فقط..لم تطلب شيئا بعد.
-ها أنت ثانية ايها المارد، ما عاد المال يجدي نفعا... هل لي بدوائي؟ كلا بل نظرة أخيرة إلى وجوه صغاري..لا لا أريدهم أن يروني بهذه الحال المزرية..
خذني معك أيها المارد إلى عوالم السحر والخيال فعالمي فقد سحره وانطفأت جاذبيته..كم من بهلوان يلعب على الحبال لكنهم فشلوا في رسم شبح لابتسامة على وجه أي إنسان.
-ما هذا انك ترتجف..أتخاف المردة يا إنسان؟
-صرت أخاف كل إنسان..لكني لا ارتعش خوفا بل بردا..فرائصي ترتعد وجسدي يرتعش كسعفة في مهب الريح....آه من يأتيني بصحن العدس.. لو ذقته فقط..لمتّ الآن وما من حسرة في قلبي...رائحته ما انفكت تداعب انفي...أشمها: عدس..عدس...هل هي رائحة أطايب الجنة؟ أيها التعس.. في الجنة انهار من خمر وعسل وليس عدس.... والحور العين هناك أيضا ..اسمع صوت إحداهن تناديني: حبيبي..حبيبي...
-حمدا لله على سلامتك يا زوجي الحبيب.. لم اصدق أني سأراك ثانية، الأولاد في اشد الشوق إليك... خشيت عليهم من زيارتك بالمشفى ورؤيتك وأنت فاقد للوعي...
-هل أشم رائحة العدس؟
-هو العدس أعددته خصيصى لك ليدفئ أوصالك بعد هذه المحنة ..اعرف كم تحبه...
التصق بفمي ميكروفون طائش لا اعرف من أين أتى:
-تفضل اشكر السيد القائد والضباط وأفراد الفرقة التي أنقذتك من براثن الخطف والإرهاب والأطباء الذين عالجوك والممرضين الذين اعتنوا بك و..
-شكرا.. لصحن العدس رفيقي الأمين..شكرا لمن جعله في متناول كل إنسان في هذا الوطن.
للعودة إلى الصفحة الرئيسة