عمكا وشربل
عنوانا سعدي المالح الأثيرين إلى قلبه
جورجينا بهنام
عنوانا سعدي المالح الأثيرين إلى قلبه
جورجينا بهنام
لم أكن أعرف الكثير عن عنكاوا وتاريخها وأصولها الحضارية ولا عن معنى اسمها، بل بالكاد كنت قد سمعت باسمها الذي كنت أظنه (عين كاوه) ذا دلالة ما على عين ماء تحمل اسم شخص يدعى (كاوه)، تلك العين التي بحثت عنها، وعن كاوه سميّها، ولم أجدهما البتة لسببين، أولهما: أن لا علاقة لكاوه بالمكان والتسمية، فالاسم في أصوله لم يكن هكذا بل ورد الاسم القديم (عمكو) "ضمن كتابة على صخرة اكتشفت في كنيسة مار كوركيس أثناء ترميمها تعود لعام 816م، وهو تصغير لـ(عمّا) السريانية بمعنى أخ الأب أو بمعنى الشعب، وكلا الاسمين قابل للتصغير بـ(عمكا) أو (عمكو). أما اللاحقة (آوا) فقد أضيفت الى الاسم في القرون الاخيرة فأصبح (عمكاباد) وهي في الاساس تصحيف من (آباد) الفارسية التي الحقت بكثير من أسماء القرى والمواقع في العهود الساسانية، وتعرضت هذه اللاحقة هي الاخرى لابدال الباء بالواو وحذف الدال ومن ثم تغيير الميم بالنون لسهولة اللفظ فتحول الاسم الى (عنكاوا) كما هو متبع في اللغتين السريانية والكوردية لأهل المنطقة. (...) مثلما أضيفت الياء إلى أربل فأصبحت أربيل، وهو تشويه لاسميهما الأصليين اللذين احتفظا بهما على مدى قرون طويلة. (...) فقد ذكرت في العديد من المصادر التاريخية، أشار اليها كل من ابن العبري في "تاريخ الزمان" وابن الفوطي في "الحوادث الجامعة" في القرن الثالث عشر، كما مر بها عدد من الرحالة الاوربيين وكتبوا عنها لانها كانت تقع على الطريق السلطاني الكبير وفيها خان كبير لاستراحة القوافل".
السبب الثاني هو أن لا عين ماء في عنكاوا، لا في الوقت الحاضر ولا في الماضي القريب، بل كان "ثمة كهريز في عنكاوا. وهذا الكهريز –على وفق الاعتقاد السائد- موروث من زمن الملك الآشوري سنحاريب (681-705ق.م) صاحب المشاريع الاروائية المعروفة في تاريخنا القديم، ولعله كان جزءا من مشروع اروائي كبير، أو شيّد في القرون المسيحية الاولى، الى جانب كهاريز اخرى ما يزال بعضها قائما في سهل حدياب- اربل. معماريا كان هذا الكهريز يعد اسطورة حضارية: سبع آبار متصلة بعضها بالبعض عبر قناة تحت الارض مسقفة على نحو نصف قوس بالآجر المفخور، ثم تنسكب المياه من فم تل صخري في حوض كبير زلالا صافيا، تصدر خريرا متناغما، لتجري بعد ذلك متبخترة في ساقية جميلة، تروي عطش القرية بناسها وحيواناتها ، والبساتين الخضراء الممتدة على طرفيها".
ولكن البساتين اختفت ولم يعد لها وجود، يبست بعدما اندثر الكهريز واندرست "ساقية هذا الكهريز وعدد من آباره أيضا، فضلا عن (المفتح) و(الاورزلتا). ولم يبق في عنكاوا بساتين ولا مزارع مع شديد الأسف. والساقية الثانية التي كانت تروي الجزء الشمالي من عنكاوا، المنطقة التي كانت ذات يوم مليئة بالبساتين، إلى درجة أن الأراضي الواقعة خلف تلك البساتين على طريق "بحركة" كانت تسمى إلى وقت قريب أراضي ما وراء البستان (باثرت باقجة) اندرست قبل هذه الساقية". و حلت محل الأشجار بنايات اسمنتية وتحولت القرية الزراعية الوادعة الى حقل بور اشجاره عمارات و سنابله بيوت متشابهة كأنها علب سردين يحشر فيها الناس أنفسهم حشرا.
هكذا يتحدث الراحل سعدي المالح في روايته الأخيرة (عمكا) عن عنكاوا التي عرفها طفلا ويافعا ثم شابا، مؤكدا أصولها الحضارية الموغلة في القدم وجذورها السريانية الضاربة عميقا في تربة هذه الارض المعطاء. ويمعن كثيرا في وصف ذلك الماضي الجميل الذي اختزنته مخيلته عن قريته الوادعة فيفرد فصولا خاصة في روايته للحديث عن رجالها ونسائها، شاباتها وشبابها، وكل الأهل الذين اختزنتهم ذاكرة المسافر الى الغربة، العائد ليجد جل ما تركه لم يبق منه حجر على حجر الا في مخيلته، وربما يكون هذا احد الأسباب التي دعت المالح لتخليد ذكر عنكاوا وتاريخها الجميل المختزن في الذاكرة ليبقى شيء ما من تلك القرية التي تحولت تحولا دراماتيكيا عبر العقود القليلة الماضية فما عادت تشبه نفسها، فراح يسترسل في الحديث عن كل موقع أثير لديه، عن الأزقة والبيوت الطينية بل تكاد تظن وانت تقرأ الرواية انه ذكر اسماء كل سكانها في تلك الحقبة آملا ألا ينسى أحدا ليبقى ذكرهم مخلدا عبر الاجيال: فهذا يوسف وذاك كوركيس وبطرس وبويا و توما وحنا وساكا و...غيرهم الكثير مع الحرص على ايراد المعنى الدلالالي للاسم السرياني وأشهر من تسمى به من الشخصيات التاريخية الرافدينية او الانبياء والقديسين. بل شمل بالذكر كثيرين ممن سكنوا عنكاوا ولم يكونوا من أهلها بل مهاجرين اليها "كنت أرقد في الفراش متأملا السماء بنجومها القريبة المتلألئة، فيتناهى الى سمعي من مكان غير بعيد من المحلة صوت حزين لانين ناي يلج في شغاف القلب، وأسأل أمي:
-من هذا يا اماه؟
-العم زارو يا بني، إنه يناجي ارمينيا!
-ما له ولارمينيا، إنه راع من عنكاوا؟
-لا يا بني إنه أرمني، كان طفلا نجا من المجزرة بعد مقتل والديه، فاتوا به إلى قريتنا وتبناه الخواجه سبي فنشأ راعيا في بيته.
ومنذ ذلك اليوم أثار العم زارو فضولي فصرت أتعمد الاقتراب منه، واستطعت أن أجمع بعض الأولاد ونذهب إليه عند قطيع الأغنام ليحدثنا عن أرمينيا ويعزف لنا على الناي، (...) وظل حلم ارمينيا معلقا في رأس زارو كالبندول يسترجعه كلما عادت اليه الذكريات، حتى وفاته في عنكاوا بعيدا عن ارضه. كان أخوان آخران هما صليوا وعتو يعيشان في عنكاوا منذ اوائل العشرينيات، يقال كانا طفلين وجدا نفسيهما بعد المجازر العثمانية ضد الارمن في بعض القرى المحيطة بعنكاوا، وذات يوم وهما يرعيان الغنم في المناطق القريبة من القرية تناهى إلى سمعهما صوت ناقوس كنيستنا فتوجها نحو مصدر الصوت".
ميثولوجيا بلاد ما بين النهرين كانت حاضرة بقوة فوق السطور تارة وبين السطور تارات كثيرة لتؤكد ارتباط ذلك السندباد الرافديني بأصوله، فرغم كونه قصد كثيرا من البلدان التي ربما تفوق عددا ما قصده السندباد الأصلي، لكنه لم يهنأ بعيشه في كل تلك البلدان رغم تنوع ثقافاتها وحضاراتها بل قفل راجعا إلى إلى الينبوع، إلى عنكاوا بلدته الأثيرة إلى قلبه، فكان، ربما، الوحيد من بين أقرانه الذي عاد إلى الوطن بعد التغيير عودة نهائية، حسب حديث الدكتور فائق بطي.
ذلك الارتباط بدا جليا عبر الفقرات الكثيرة التي اقتبسها من الملاحم والنصوص المسمارية والأساطير السومرية والبابلية – الآشورية لاسيما ملحمة إينوما إيلش وملحمة كلكامش وقصص الملوك من مختلف السلالات، وكذا نصوص أخرى لمؤرخين وكتاب سطروا تاريخ هذه البقعة المشبعة حضارة هذا فضلا عن ايراده، عدة مرات، فقرات مطولة من النصوص المقدسة والصلوات المستخدمة في الطقوس الكنسية وخصوصا تلك التي تستخدم اللغة السريانية، ما أوقعه أحيانا في شرك الاسهاب في الاقتباس فلو حذفنا كل الاقتباسات من الرواية لكان لذلك أثر كبير على عدد صفحاتها، لكن يسجل للمالح أنه ذكر المصادر التي اعتمدها واقتبس منها:
" لم يعد أدد يرعد داخل الغيوم ويحرس الأعالي فأوكلت مهمة التحكم بالسماء وسقوط الأمطار وهبوب العواصف إلى القديس مار كوركيس (مار جرجس)، شفيع القرية وكنيستها. والكنيسة أولت بالفعل أهمية خاصة للمطر في سجلاتها. والهوامش التي سطرها القسس والشمامسة على المخطوطات وكتب الصلوات، تخبرنا في أية سنة وهب الله عباده مطرا غزيرا وفي أية سنة منعه عنهم، وماذا كانت نتائج ذلك وكيف تصرف الناس. ففي نهاية مخطوط كتاب " قلائد الياقوت" ليوسف بن إبراهيم العنكاوي المترجم عن العربية إلى السريانية عام 1798 الذي يعيد أحدهم استنساخه في عام 1819نجد ملاحظة تقول: "في سنة 1819 ميلادية أي سنة كتابة هذا المخطوط هطل المطر مدرارا، وسالت المياه أنهارا بحيث أتلفت محصول الحنطة الموجود في البيادر". ومن بين هوامش مخطوطة أخرى للحوذرا، وهو كتاب الصلوات على مدار السنة، كتبت في 1788 ورد أنه في 22 نيسان 1885 "سقط حالوب (بَرَد) شديد وأتلف الزروع (يقصد الحقول) والمنتجات الزراعية في القرية." والحوذرا نفسه الذي جُمع في القرن السابع الميلادي يضم في القسم الخاص بـ قالى وشوحلابي (المقامات والتقلبات) الكثير من الصلوات الخاصة بالمطر التي ترتل على وفق انغام خاصة بها كلما انحبس المطر. تقول واحدة من تلك الصلوات بالسريانية الفصحى: "آلاها مرحمانا حوس عالزرعي دها حيرين ومسكين لرسيساخ ولنطبثاخ، وهول لهون بحنانخ مطرا درحمى، دنتلون بيري لأكارى، نثبسمون مث من يذ علّثهون، ونسقون تشبحتا لشماخ قديشا" والتي تعني " أيها الرب الرحيم ارأف بالحقول التي ترسل النظر وتنتظر سيولك وقطراتك، هب لهم بحنانك مطر الرحمة، لتنضج ثمار الفلاحين ويسعدوا بمحاصيلهم ، ونرفع المجد لاسمك القدوس".
أفرد المالح العديد من الصفحات للحديث عن الحرف الشعبية الموروثة عن الاجداد، لاسيما صناعة الفخار الذي كان يشكل عصبا مهما في حياة القرويين منذ آلاف السنين، بل وأسهب في ذكر أشهر الفاخوريين، لاسيما جدته الماهرة، ووقع في التكرار أحيانا وربما يكون قد سقط احيانا أخرى في شرك الاسهاب في تعداد الشخوص ووصف اشكالهم واعمالهم التي كان بالإمكان اختصار الكثير من تفاصيلها، تجنبا لاثارة للملل في نفس القارئ، دون التأثير على البناء الدرامي للرواية ولربما كانت عندها ستغدو اكثر تشويقا وإثارة.
على صعيد آخر، الرواية حافلة بكثير من الأسماء المحددة لأشخاص بعينهم مع إيراد تفاصيل تصل أحيانا إلى درجة عالية من الدقة بعبارات وصفية تتيح، ربما ، المجال أمام من ذكرت أسماؤهم، إن كانوا ما يزالون على قيد الحياة، أو لأبنائهم وأحفادهم مقاضاة المالح بتهم السب والقذف.
تنتمي رواية «عمكا» للقاصّ والروائيّ (سعدي المالح) إلى سرد ما بعد الحداثة، فهي رواية سيرمكانيّة، حسب رأي الدكتور محمد صابر عبيد، فهي "تحتفل بالمكان من حيث كونه ذاكرةً وراهناً ومصيرا. المكان القادم من حاضنة الأسطورة والموروث والدين والتاريخ والجغرافيا والحلم، إذ يتجّلى في رؤيا السرد الروائيّ بوصفه سفراً إنسانياً لا يمكن محوه مهما تعرّض لقسوة الزمن"، ولكن آخرين قد لا يرون في عمكا أكثر من كونها بحثا مكثفا في تاريخ المنطقة المعروفة بمابين النهرين "ميسوبوتاميا" و عرضا لتاريخ هذه المنطقة بأساطيرها وحرفها وخرافاتها ومعتقداتها الدينية ولغاتها ومعاركها الشهيرة وملاحمها الخالدة وسوى ذلك.
الرواية الصادرة عن دار (ضفاف) البيروتية في (264) صحيفة من القطع المتوسط، حملت فصولها التسعة عناوين متعددة (ينبوع المطر، دركا، قصرا، الأرض، الخبز، قصرا، الكهريز، طريق الحرير ومحلة الخواجا سبي)، يتصدرها فصل معنون بـ(بدلا من المقدمة..الاله والقديس) ومختومة بفصل عنوانه (بدلا من النهاية..شربل) فمن هو شربل هذا الذي عني به المالح كثيرا؟
"يظهر من حديث الاول وأبحاثي الخاصة أنه كان الها وثنيا، الاله الحامي لمدينة اربائيلو،التي كانت آنذاك عاصمة دينية للآشوريين، فيها المعبد الرئيس للالهة عشتار(..) وكان ثمة معبدان لالهين آخرين في المدينة وهما: معبد جدها الاله سين (قمر) ووالدها الاله شمش (شمس) فضلا عن معبد ابنها، الاله (شربل) حامي المدينة، وكان والدك يحاجج شربل هذا لماذا لم يحم قريته عمكا، بينما شربل يبرر ذلك بأنه بقي واقفا في مكانه حتى اوائل القرن الثاني الميلادي وكان النا س مستمرين في عبادته، وكان ثمة من يعبده حتى بعد وصول المسيحية بقرون (..) الثاني قصته طويلة مكتوبة في "سير اشهر شهداء المشرق القديسين"، ولد في اربائيلو، وكان والده حبرا في معبد الاله شربل ولهذا سماه شربل، غادر الى أورهاي (الرها-أورفا) وتدرج الى أن أصبح رئيسا لاحبار المدينة (..) نزل ليلا عند برسميا، فاستقبلته الكنيسة كلها بابتهاج، (..) ولما أصر أمام الحاكم على البقاء على دينه الجديد هدده بالتعذيب والقتل فلم يهتم للامر، عندئذ أمر الحاكم أن يسحب خارج مدينة الملوك عاجلا، وأن ينشر بمنشار من خشب، وحينما يشرف على الموت، يقطع رأسه بحد السيف، فمات شهيدا. قال الابن: غريب أنهما شخصيتان متناقضتان لاتشبه إحداهما الاخرى". ويعود في الكاتب في الفصل الاخير الى ذكر هاتين الشخصيتين "لتكن يا شربل الها وقديسا وتحمل روحيهما في جسد واحد مثل أجدادك..آمين". وقد يكون معلوما لدى كثيرين أن سعدي المالح أطلق على أبنه اسم شربل والذي لايتجاوز عمره أربع سنوات وقد تكون هذه الرواية مهداة لشربل الصغير سميّ الاله والقديس معا بكثير من اسقاطاتها ومغازيها الخفية!
توفي سعدي المالح مساء 30 ايار 2014 بعيد بدء الأحداث المأساوية في الموصل وقبل سقوطها المدوي بأيدي داعش الإرهابي بعشرة أيام فقط، ورغم إغتمامه لمرضه الذي راجع للاستشفاء منه أطباء كثيرين داخل البلد وخارجه، لكنه كان يصارح جلاسه بأنه غير متفائل إزاء المستقبل ويحمل في صدره همَّا أكبر هو هم مستقبل البلد، ولان كثيرين حسبوه محظوظا جدا في حياته فقد خمنوا انه كان محظوظا في وفاته قبل أن يرى حشود الفارين من داعش تفترش شوارع وحدائق وساحات عمكا (عنكاوا) وتلتحف السماء آب القائظة، وتجسد السطور الأخيرة من روايته، لكن بسوريالية مؤلمة: "تلبدت السماء بغيوم داكنة أرسلت مطرا غزيرا لم يشهده المكان منذ سنين فاض فيه كل شيء، وانحبس الناس في بيوتهم بانتظار فرج قريب سيعيد عليهم رواية الحكاية من أولها، وسيدرك شربل بعدها ما يحمله اسمه من عبق ارض وثمر وقمح وأمان وحب وضوء، حين تتحول عمكا الى مدينة زاهية في جوهر الاسم ونواة الحكاية".
عودة الى الصفحة الرئيسية
السبب الثاني هو أن لا عين ماء في عنكاوا، لا في الوقت الحاضر ولا في الماضي القريب، بل كان "ثمة كهريز في عنكاوا. وهذا الكهريز –على وفق الاعتقاد السائد- موروث من زمن الملك الآشوري سنحاريب (681-705ق.م) صاحب المشاريع الاروائية المعروفة في تاريخنا القديم، ولعله كان جزءا من مشروع اروائي كبير، أو شيّد في القرون المسيحية الاولى، الى جانب كهاريز اخرى ما يزال بعضها قائما في سهل حدياب- اربل. معماريا كان هذا الكهريز يعد اسطورة حضارية: سبع آبار متصلة بعضها بالبعض عبر قناة تحت الارض مسقفة على نحو نصف قوس بالآجر المفخور، ثم تنسكب المياه من فم تل صخري في حوض كبير زلالا صافيا، تصدر خريرا متناغما، لتجري بعد ذلك متبخترة في ساقية جميلة، تروي عطش القرية بناسها وحيواناتها ، والبساتين الخضراء الممتدة على طرفيها".
ولكن البساتين اختفت ولم يعد لها وجود، يبست بعدما اندثر الكهريز واندرست "ساقية هذا الكهريز وعدد من آباره أيضا، فضلا عن (المفتح) و(الاورزلتا). ولم يبق في عنكاوا بساتين ولا مزارع مع شديد الأسف. والساقية الثانية التي كانت تروي الجزء الشمالي من عنكاوا، المنطقة التي كانت ذات يوم مليئة بالبساتين، إلى درجة أن الأراضي الواقعة خلف تلك البساتين على طريق "بحركة" كانت تسمى إلى وقت قريب أراضي ما وراء البستان (باثرت باقجة) اندرست قبل هذه الساقية". و حلت محل الأشجار بنايات اسمنتية وتحولت القرية الزراعية الوادعة الى حقل بور اشجاره عمارات و سنابله بيوت متشابهة كأنها علب سردين يحشر فيها الناس أنفسهم حشرا.
هكذا يتحدث الراحل سعدي المالح في روايته الأخيرة (عمكا) عن عنكاوا التي عرفها طفلا ويافعا ثم شابا، مؤكدا أصولها الحضارية الموغلة في القدم وجذورها السريانية الضاربة عميقا في تربة هذه الارض المعطاء. ويمعن كثيرا في وصف ذلك الماضي الجميل الذي اختزنته مخيلته عن قريته الوادعة فيفرد فصولا خاصة في روايته للحديث عن رجالها ونسائها، شاباتها وشبابها، وكل الأهل الذين اختزنتهم ذاكرة المسافر الى الغربة، العائد ليجد جل ما تركه لم يبق منه حجر على حجر الا في مخيلته، وربما يكون هذا احد الأسباب التي دعت المالح لتخليد ذكر عنكاوا وتاريخها الجميل المختزن في الذاكرة ليبقى شيء ما من تلك القرية التي تحولت تحولا دراماتيكيا عبر العقود القليلة الماضية فما عادت تشبه نفسها، فراح يسترسل في الحديث عن كل موقع أثير لديه، عن الأزقة والبيوت الطينية بل تكاد تظن وانت تقرأ الرواية انه ذكر اسماء كل سكانها في تلك الحقبة آملا ألا ينسى أحدا ليبقى ذكرهم مخلدا عبر الاجيال: فهذا يوسف وذاك كوركيس وبطرس وبويا و توما وحنا وساكا و...غيرهم الكثير مع الحرص على ايراد المعنى الدلالالي للاسم السرياني وأشهر من تسمى به من الشخصيات التاريخية الرافدينية او الانبياء والقديسين. بل شمل بالذكر كثيرين ممن سكنوا عنكاوا ولم يكونوا من أهلها بل مهاجرين اليها "كنت أرقد في الفراش متأملا السماء بنجومها القريبة المتلألئة، فيتناهى الى سمعي من مكان غير بعيد من المحلة صوت حزين لانين ناي يلج في شغاف القلب، وأسأل أمي:
-من هذا يا اماه؟
-العم زارو يا بني، إنه يناجي ارمينيا!
-ما له ولارمينيا، إنه راع من عنكاوا؟
-لا يا بني إنه أرمني، كان طفلا نجا من المجزرة بعد مقتل والديه، فاتوا به إلى قريتنا وتبناه الخواجه سبي فنشأ راعيا في بيته.
ومنذ ذلك اليوم أثار العم زارو فضولي فصرت أتعمد الاقتراب منه، واستطعت أن أجمع بعض الأولاد ونذهب إليه عند قطيع الأغنام ليحدثنا عن أرمينيا ويعزف لنا على الناي، (...) وظل حلم ارمينيا معلقا في رأس زارو كالبندول يسترجعه كلما عادت اليه الذكريات، حتى وفاته في عنكاوا بعيدا عن ارضه. كان أخوان آخران هما صليوا وعتو يعيشان في عنكاوا منذ اوائل العشرينيات، يقال كانا طفلين وجدا نفسيهما بعد المجازر العثمانية ضد الارمن في بعض القرى المحيطة بعنكاوا، وذات يوم وهما يرعيان الغنم في المناطق القريبة من القرية تناهى إلى سمعهما صوت ناقوس كنيستنا فتوجها نحو مصدر الصوت".
ميثولوجيا بلاد ما بين النهرين كانت حاضرة بقوة فوق السطور تارة وبين السطور تارات كثيرة لتؤكد ارتباط ذلك السندباد الرافديني بأصوله، فرغم كونه قصد كثيرا من البلدان التي ربما تفوق عددا ما قصده السندباد الأصلي، لكنه لم يهنأ بعيشه في كل تلك البلدان رغم تنوع ثقافاتها وحضاراتها بل قفل راجعا إلى إلى الينبوع، إلى عنكاوا بلدته الأثيرة إلى قلبه، فكان، ربما، الوحيد من بين أقرانه الذي عاد إلى الوطن بعد التغيير عودة نهائية، حسب حديث الدكتور فائق بطي.
ذلك الارتباط بدا جليا عبر الفقرات الكثيرة التي اقتبسها من الملاحم والنصوص المسمارية والأساطير السومرية والبابلية – الآشورية لاسيما ملحمة إينوما إيلش وملحمة كلكامش وقصص الملوك من مختلف السلالات، وكذا نصوص أخرى لمؤرخين وكتاب سطروا تاريخ هذه البقعة المشبعة حضارة هذا فضلا عن ايراده، عدة مرات، فقرات مطولة من النصوص المقدسة والصلوات المستخدمة في الطقوس الكنسية وخصوصا تلك التي تستخدم اللغة السريانية، ما أوقعه أحيانا في شرك الاسهاب في الاقتباس فلو حذفنا كل الاقتباسات من الرواية لكان لذلك أثر كبير على عدد صفحاتها، لكن يسجل للمالح أنه ذكر المصادر التي اعتمدها واقتبس منها:
" لم يعد أدد يرعد داخل الغيوم ويحرس الأعالي فأوكلت مهمة التحكم بالسماء وسقوط الأمطار وهبوب العواصف إلى القديس مار كوركيس (مار جرجس)، شفيع القرية وكنيستها. والكنيسة أولت بالفعل أهمية خاصة للمطر في سجلاتها. والهوامش التي سطرها القسس والشمامسة على المخطوطات وكتب الصلوات، تخبرنا في أية سنة وهب الله عباده مطرا غزيرا وفي أية سنة منعه عنهم، وماذا كانت نتائج ذلك وكيف تصرف الناس. ففي نهاية مخطوط كتاب " قلائد الياقوت" ليوسف بن إبراهيم العنكاوي المترجم عن العربية إلى السريانية عام 1798 الذي يعيد أحدهم استنساخه في عام 1819نجد ملاحظة تقول: "في سنة 1819 ميلادية أي سنة كتابة هذا المخطوط هطل المطر مدرارا، وسالت المياه أنهارا بحيث أتلفت محصول الحنطة الموجود في البيادر". ومن بين هوامش مخطوطة أخرى للحوذرا، وهو كتاب الصلوات على مدار السنة، كتبت في 1788 ورد أنه في 22 نيسان 1885 "سقط حالوب (بَرَد) شديد وأتلف الزروع (يقصد الحقول) والمنتجات الزراعية في القرية." والحوذرا نفسه الذي جُمع في القرن السابع الميلادي يضم في القسم الخاص بـ قالى وشوحلابي (المقامات والتقلبات) الكثير من الصلوات الخاصة بالمطر التي ترتل على وفق انغام خاصة بها كلما انحبس المطر. تقول واحدة من تلك الصلوات بالسريانية الفصحى: "آلاها مرحمانا حوس عالزرعي دها حيرين ومسكين لرسيساخ ولنطبثاخ، وهول لهون بحنانخ مطرا درحمى، دنتلون بيري لأكارى، نثبسمون مث من يذ علّثهون، ونسقون تشبحتا لشماخ قديشا" والتي تعني " أيها الرب الرحيم ارأف بالحقول التي ترسل النظر وتنتظر سيولك وقطراتك، هب لهم بحنانك مطر الرحمة، لتنضج ثمار الفلاحين ويسعدوا بمحاصيلهم ، ونرفع المجد لاسمك القدوس".
أفرد المالح العديد من الصفحات للحديث عن الحرف الشعبية الموروثة عن الاجداد، لاسيما صناعة الفخار الذي كان يشكل عصبا مهما في حياة القرويين منذ آلاف السنين، بل وأسهب في ذكر أشهر الفاخوريين، لاسيما جدته الماهرة، ووقع في التكرار أحيانا وربما يكون قد سقط احيانا أخرى في شرك الاسهاب في تعداد الشخوص ووصف اشكالهم واعمالهم التي كان بالإمكان اختصار الكثير من تفاصيلها، تجنبا لاثارة للملل في نفس القارئ، دون التأثير على البناء الدرامي للرواية ولربما كانت عندها ستغدو اكثر تشويقا وإثارة.
على صعيد آخر، الرواية حافلة بكثير من الأسماء المحددة لأشخاص بعينهم مع إيراد تفاصيل تصل أحيانا إلى درجة عالية من الدقة بعبارات وصفية تتيح، ربما ، المجال أمام من ذكرت أسماؤهم، إن كانوا ما يزالون على قيد الحياة، أو لأبنائهم وأحفادهم مقاضاة المالح بتهم السب والقذف.
تنتمي رواية «عمكا» للقاصّ والروائيّ (سعدي المالح) إلى سرد ما بعد الحداثة، فهي رواية سيرمكانيّة، حسب رأي الدكتور محمد صابر عبيد، فهي "تحتفل بالمكان من حيث كونه ذاكرةً وراهناً ومصيرا. المكان القادم من حاضنة الأسطورة والموروث والدين والتاريخ والجغرافيا والحلم، إذ يتجّلى في رؤيا السرد الروائيّ بوصفه سفراً إنسانياً لا يمكن محوه مهما تعرّض لقسوة الزمن"، ولكن آخرين قد لا يرون في عمكا أكثر من كونها بحثا مكثفا في تاريخ المنطقة المعروفة بمابين النهرين "ميسوبوتاميا" و عرضا لتاريخ هذه المنطقة بأساطيرها وحرفها وخرافاتها ومعتقداتها الدينية ولغاتها ومعاركها الشهيرة وملاحمها الخالدة وسوى ذلك.
الرواية الصادرة عن دار (ضفاف) البيروتية في (264) صحيفة من القطع المتوسط، حملت فصولها التسعة عناوين متعددة (ينبوع المطر، دركا، قصرا، الأرض، الخبز، قصرا، الكهريز، طريق الحرير ومحلة الخواجا سبي)، يتصدرها فصل معنون بـ(بدلا من المقدمة..الاله والقديس) ومختومة بفصل عنوانه (بدلا من النهاية..شربل) فمن هو شربل هذا الذي عني به المالح كثيرا؟
"يظهر من حديث الاول وأبحاثي الخاصة أنه كان الها وثنيا، الاله الحامي لمدينة اربائيلو،التي كانت آنذاك عاصمة دينية للآشوريين، فيها المعبد الرئيس للالهة عشتار(..) وكان ثمة معبدان لالهين آخرين في المدينة وهما: معبد جدها الاله سين (قمر) ووالدها الاله شمش (شمس) فضلا عن معبد ابنها، الاله (شربل) حامي المدينة، وكان والدك يحاجج شربل هذا لماذا لم يحم قريته عمكا، بينما شربل يبرر ذلك بأنه بقي واقفا في مكانه حتى اوائل القرن الثاني الميلادي وكان النا س مستمرين في عبادته، وكان ثمة من يعبده حتى بعد وصول المسيحية بقرون (..) الثاني قصته طويلة مكتوبة في "سير اشهر شهداء المشرق القديسين"، ولد في اربائيلو، وكان والده حبرا في معبد الاله شربل ولهذا سماه شربل، غادر الى أورهاي (الرها-أورفا) وتدرج الى أن أصبح رئيسا لاحبار المدينة (..) نزل ليلا عند برسميا، فاستقبلته الكنيسة كلها بابتهاج، (..) ولما أصر أمام الحاكم على البقاء على دينه الجديد هدده بالتعذيب والقتل فلم يهتم للامر، عندئذ أمر الحاكم أن يسحب خارج مدينة الملوك عاجلا، وأن ينشر بمنشار من خشب، وحينما يشرف على الموت، يقطع رأسه بحد السيف، فمات شهيدا. قال الابن: غريب أنهما شخصيتان متناقضتان لاتشبه إحداهما الاخرى". ويعود في الكاتب في الفصل الاخير الى ذكر هاتين الشخصيتين "لتكن يا شربل الها وقديسا وتحمل روحيهما في جسد واحد مثل أجدادك..آمين". وقد يكون معلوما لدى كثيرين أن سعدي المالح أطلق على أبنه اسم شربل والذي لايتجاوز عمره أربع سنوات وقد تكون هذه الرواية مهداة لشربل الصغير سميّ الاله والقديس معا بكثير من اسقاطاتها ومغازيها الخفية!
توفي سعدي المالح مساء 30 ايار 2014 بعيد بدء الأحداث المأساوية في الموصل وقبل سقوطها المدوي بأيدي داعش الإرهابي بعشرة أيام فقط، ورغم إغتمامه لمرضه الذي راجع للاستشفاء منه أطباء كثيرين داخل البلد وخارجه، لكنه كان يصارح جلاسه بأنه غير متفائل إزاء المستقبل ويحمل في صدره همَّا أكبر هو هم مستقبل البلد، ولان كثيرين حسبوه محظوظا جدا في حياته فقد خمنوا انه كان محظوظا في وفاته قبل أن يرى حشود الفارين من داعش تفترش شوارع وحدائق وساحات عمكا (عنكاوا) وتلتحف السماء آب القائظة، وتجسد السطور الأخيرة من روايته، لكن بسوريالية مؤلمة: "تلبدت السماء بغيوم داكنة أرسلت مطرا غزيرا لم يشهده المكان منذ سنين فاض فيه كل شيء، وانحبس الناس في بيوتهم بانتظار فرج قريب سيعيد عليهم رواية الحكاية من أولها، وسيدرك شربل بعدها ما يحمله اسمه من عبق ارض وثمر وقمح وأمان وحب وضوء، حين تتحول عمكا الى مدينة زاهية في جوهر الاسم ونواة الحكاية".
عودة الى الصفحة الرئيسية