بانتظار من يبكي علينا
كاظم فنجان الحمامي
مصيبتنا نحن العرب أن ملوكنا وأمرائنا ورؤسائنا الذين حذفتهم علينا رياح التقلبات المفاجأة, توحدوا كلهم باستغلال فرص الالتصاق بكراسي الحكم, من دون أن يفكروا بالتنحي والتنازل لمن هو أكفأ وأخلص وأقوى منهم, وكأنهم اتفقوا على استثمار الشق الانتهازي في البيت الشعري القائل:
إذا هَبَّتْ رياحُكَ فاغتنمها فَعُقبى كُلِّ خافقةٍ سُكُونُ
فتمسكوا بامتيازاتهم الملكية والأميرية والرئاسية رغم أنف كل من قال عنهم أنهم استبدوا وظلموا وطغوا وخرجوا عن المعهود وعن السائد وعن المنطق, وتصرفوا وكأنهم يملكون هذه البلدان الخاضعة لسلطان الملك الأوحد, والأمير الأسعد, والرئيس الأمجد, والقائد الفذ. فالعقلية العربية المتحجرة, والبيئة القبلية المتخلفة, وقواعد الممارسات السياسية المعمول بها في بلداننا, وغياب قواعد احترام المعارض, ورفض قبول الرأي الآخر, وطغيان حب السلطة، وترجيح المنافع القبلية والحزبية والشخصية على المصالح الوطنية، هي السرطانات الخبيثة التي أبتلينا بها منذ قرون.
قبل بضعة أيام تحدثنا عن رئيس الوزراء اللاتيفي الشاب (فالديس دومروفسكيس), الذي تنحى عن منصبه على خلفية انهيار مجمع تسويقي في قلب العاصمة (ريغا)، وتحدثنا أيضاً عن رئيس الوزراء الكوري الجنوبي (شونغ هونغ وون)، الذي استقال من منصبة على أثر الأساليب البطيئة، التي تعاملت بها فرق الإنقاذ مع ضحايا العبّارة الغارقة، الذين زاد تعدادهم على ثلاثمائة شخص بين غريق ومفقود. جاءت استقالة الزعيم الكوري في غمرة سخط متعاظم من ذوي الضحايا، الذي اعترضوا على بطئ إجراءات فرق البحث والإنقاذ، فاستقال مساء اليوم الذي غرقت فيه السفينة المقلوبة. قال في كلمته الحزينة: (قررت الاستقالة الآن كي لا أكون عبئاً على بلدي)، وكانت المفاجأة عندما تقدم نحوه والد أحد الضحايا ليصفعه على وجهه، من دون أن يتفادى رئيس الوزراء تلك الصفعة المؤلمة، ثم انحنى أمام الأب الغاضب، مبدياً استعداده لتلقي المزيد من الصفعات، ومعلناً حزنه ومواساته لأسر الضحايا والمفقودين.
من غرائب المفارقات العجيبة أن زورقاً سياحياً محملاً بالطلاب غرق قبل بضعة أسابيع في شط العرب, وراح ضحيته تسعة طلاب. لم يبك على فقدانهم أحد, ولم يستقيل أي مسؤول من منصبه. وقبل أربعة أعوام كنا نتابع وقائع الكارثة التشيلية, التي هددت حياة عمال منجم (سان خوسيه)، وكيف قطع الرئيس التشيلي (سبياستيان بانييرا) زيارته المتوقعة إلى الإكوادور، ليهرع مباشرة إلى موقع الحادث، ويخيم مع فرق الإنقاذ. لم يكن من السهل التعرف عليه وسط المسعفين، الذين توحدوا في ملابسهم وقلوبهم وألوانهم، وامتزجت دموعهم ومشاعرهم الصادقة لتلبية نداء الواجب. لم يصطحب معه أفواج حمايته على طريقة جماعتنا، ولم يرتد الدروع الواقية، ولم يبرح مكانه. بل ظل مرابطا هناك حتى انفراج الأزمة وخروج المحتجزين سالمين من أعماق المنجم المنهار.
كم نحن بحاجة إلى زعماء بهذه المواصفات الإنسانية، وكم تمنينا أن ننتدبهم للعمل عندنا بعد إحالتهم إلى التقاعد. من يدري ؟، لعلهم يرأفون بنا، ويحسنون التعامل معنا. لقد أبكتنا مواقفهم الوطنية في تشيلي وكوريا ولاتفيا، لكننا اكتشفنا إننا كنا نبكي علينا، ونتألم على ما آلت إليه أوضاعنا المزرية، وما مر بنا من أزمات وويلات ونكبات، وما رافقها من هموم وأحزان وآلام، ونبكي على أطفالنا الذين مزقتهم العبوات الناسفة، وأغرقتهم الفيضانات الجارفة، وشردتهم الغارات القاصفة، فلم يبك علينا احد، وكأننا شخصيات كارتونية خُلقت لكي تغرق وتموت وتذوب في بحار المصائب والأزمات.
والله يستر من الجايات
الصفحة الرئيسية