في عهدة بيت النعمة
كاظم فنجان الحمامي
لسنا مغالين إذا قلنا أن الذين كتبوا تاريخ البصرة ارتكبوا سلسلة من الأخطاء والهفوات المتعاقبة بتجاهلهم تاريخ الموانئ العراقية، التي تمثل الواجهة الملاحية والتجارية والسياحية والسيادية لهذه المدينة المينائية العريقة، حتى بات من الصعب التعرف على تفاصيل السجلات الشخصية لقادة الموانئ في الحقبة الممتدة من عام 1919 ولغاية العام 1953. فعلى الرغم من قصر تلك المدة المحددة بثلاثة عقود، لم يكن من السهل التعرف على السيرة الذاتية لمدير حساباتها الأقدم (كامل يوسف عبد الأحد)، ولا على أشقائه (فيليب ونوري) الذين عملوا معه في إدارة بعض مفاصل الموانئ، ولا التعرف على مدراء الأقسام والشعب الهندسية والتشغيلية والملاحية من أمثال: نصوري توماس، ونجم الدين النقيب، وقاسم الزهير، وألبرت ح شماس، وعلي فؤاد حمزة، وعلي عباس، وسلمان جويدة، وتوفيق النقيب، والمهندس الكبير محمد خان، وعزرا يوسف ليفي، والدكتور علي فتاح، وآخرون غيرهم من الذين أسسوا قواعد الموانئ العراقية، ووضعوا ركائزها الأولية القوية، حتى عرفها العالم كله بصورتها الحضارية المزدانة بالإنجازات المينائية الباهرة.
لذا واجهتني صعوبات كبيرة، حرمتني من الاطلاع على السيرة الذاتي للسيد رجب النعمة، ولم يكن بوسعي القيام بخطوة واحدة لولا مساعدة المؤرخ الأستاذ ياسين صالح العبود، والمشاور القانوني الأستاذ عمار مهدي العطية، والدكتور هاشم الخياط، والدكتورة لمياء النعمة، والدكتور محمد موسى، الذين يعود لهم الفضل في إعداد هذا التحقيق.
جذور بيت النعمة
أسرة عربية أصيلة، تنتمي إلى قبيلة الدهنوي المضرية (جذم مضر من عدنان) بالحجاز وقد كانت لها الرئاسة على تفرعات القبيلة منذ القدم. هاجروا منذ قرون من الحجاز إلى الدورق، ثم هاجر جدهم الأكبر (غضبان) من الدورق في عربستان إلى البصرة سنة 1747 من الميلاد. عمل في بداية حياته بالتجارة حتى توفاه الله عن ولدين: أصغرهم (عبد الرحمن)، وأكبرهم (نعمة)، الذي يرتبط به الاسم الجديد للأسرة، وقد رزقه الله ولداً واحداً هو (أحمد)، الذي شيد أجمل قصور شط العرب، بشناشيله المزينة بالمكونات الخشبية الجميلة، وأقواسه العباسية المزدانة بالزخارف المعمارية البهية.
كان أحمد (جد السيد رجب) وكيلاً للأملاك السنية في زمن السلطان عبد الحميد، ومن التجار المشهورين في البصرة، لما عُرف عنه من سمعة طيبة، نالها بكفاءته وأمانته وذكائه وتعامله الحسن مع الناس.
ثم توسعت أسرة (بيت النعمة) وانتشرت في العراق والكويت والبحرين وقطر، وهاجر أحفاد أحفادهم إلى أمريكا وأوربا واستراليا.
فوق قمة الهرم المينائي
ولد رجب بن عبد الرزاق بن أحمد بن نعمة بن غضبان في البصرة عام 1898، وهو أول عراقي يصل إلى قمة الهرم الإداري في ميناء المعقل، وأول عراقي يدير دائرة النقليات، ويشرف مباشرة على عمليات الشحن والتفريغ والنقل والمناولة بين السفن التجارية والأرصفة والسقائف والمخازن والساحات المينائية.
درس (النعمة) في المدارس العثمانية، ثم سافر إلى بيروت ليلتحق بالكلية الإسلامية العثمانية، ثم أكمل تعليمه العالي في الكلية الأمريكية، ولما عاد إلى البصرة أشتغل رئيساً لقسم الترجمة في المحاكم البصرية في زمن الاحتلال، ثم أصبح في العهد الملكي رئيساً لبلدية البصرة عام 1918، واسندوا له رئاسة المدينتين بعد ارتباط مدينة العشار بالبصرة، وظل في منصبه هذا أربع سنوات ثم استقال، وفي عام 1929 أصبح معاوناً لمدير النقليات في الموانئ العراقية، وظل في منصبه حتى السادس عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1938 إذ ارتقى في حينها إلى قمة السلم الإداري، وأصبح هو المدير التنفيذي لشعبة النقليات لما عرف عنه من مقدرة ونباهة وحزم، وهو أول عراقي يشغل هذا الدرجة الوظيفية بعد البريطاني (أس بيفور).
لقد جاء تعيين (النعمة) في هذا الموقع الإداري المرموق على الرغم من اعتراض وزارة المالية على ذلك، وكانت الممانعة مبنية على أن (النعمة) لم يصل إلى الدرجة الوظيفية التي تؤهله لإشغال المنصب.
يعزى إصرار سلطة الموانئ على تعيينه في هذا المركز من أجل الاستفادة من خبراته الإدارية الواسعة، ولتسهيل التعامل المباشر مع الكوادر العراقية العاملة في ميناء المعقل. تألق (النعمة) في وظيفته الجديدة، حتى صار معاوناً للمدير العام للشؤون التجارية، واستمر في عمله في ميناء المعقل حتى الرابع عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1946. انتقل بعدها إلى مقر سلطة الموانئ العراقية ليصبح معاوناً تجارياً لمديرها العام الكابتن (وليم بنت) للمدة من 15/11/1946 إلى 27/7/1948، ثم معاوناً لمديرها العام الكابتن (جورج توماس جونسون) للمدة من 17/8/1948 إلى 16/8/1951، ثم وكيلاً لمديرها العراقي الأول، الراحل (سعيد بيك قزاز)، واستمر في موقعه هذا حتى عام 1958 عندما أحيل إلى التقاعد لبلوغه السن القانوني (ستون سنة).يعود إليه الفضل في تعريب السجلات الانجليزية، وتعريب المخاطبات الرسمية. ازدهرت بخبرته أرصفة ميناء المعقل، وتحسن أدائها المينائي نحو الأفضل، حتى استقطبت أشهر خطوط الشحن البحري، وكانت الموانئ العراقية في زمنه هي الملاذ الآمن لمكاتب الوكالات البحرية المتعددة الجنسيات، والمتباينة النشاطات.
وربما كان (النعمة) أول من اجتهد في مراقبة مؤشرات الأداء باعتبارها من البيانات المبنية على الخصائص الجوهرية لنشاطات الميناء، والتي تعد أيضاً من المعايير المعتمدة في قياس البيانات الأخرى، فقد أعطى (النعمة) أهمية كبيرة للتقارير الإحصائية، واهتم كثيراً بمؤشرات الأجور والعوائد المينائية، فبادر إلى تصميم جداول السفن التجارية القادمة والمغادرة، وجداول البضائع الواردة والمصدرة، والبضائع المخزونة في المستودعات. كانت هذه هي الأدوات التي منحته القدرة لرسم ملامح الاتجاهات المستقبلية للأداء، وبالتالي معرفة الميول العامة لأداء ميناء المعقل.
يعد (النعمة) من أبناء البصرة الغيورين الذين يحملون روحاً وطنياً وثّابة وفكراً خصباً، له إرادة سديدة، وهو على جانب كبير من الخلق المتين، والأدب الجم، ومن أسرة عربية عريقة. كان والده من شخصيات البصرة البارزين، وقد أنتخب نائباً عن البصرة في مجلس المبعوثان العثماني.
تزوج (النعمة) عام 1919، وهو العام الذي تأسست فيه الموانئ العراقية، وله من الأبناء اثنان، ومن البنات ثلاثة، توفاهم الله جميعا (إلا ابنة واحدة). أما ولده الأكبر فهو الدكتور مصطفى النعمة (رحمه الله)، يليه المهندس عدنان النعمة الذي استوطن الولايات المتحدة الأمريكية، وتوفاه الله منذ بضعة أعوام.
أزهار من تلك الشجرة الطيبة
ربما لا يتسع المجال هنا لتسليط الأضواء على تفرعات هذه الأسرة البصرية العريقة، وإنجازاتها العلمية والثقافية، التي سطرتها في سجلها الوطني والإنساني، فالكتابة عن أحفاد بيت (النعمة) لا تختلف كثيراً عن الكتابة بمداد الفخر والامتنان فوق ناصية العز والشرف، وسنختصر حديثنا هنا عن أثنين من أبنائها. هما الدكتور مصطفى النعمة، والدكتورة لمياء النعمة.
أما ابنته الدكتورة (لمياء مصطفى النعمة) المولودة في البصرة عام 1949، فقد أكملت دراستها الابتدائية في مدارس (حداد) الأهلية، وأنهت دراستها المتوسطة والثانوية في ثانوية العشار للبنات، ثم التحقت بكلية الصيدلة / جامعة بغداد لتنال البكالوريوس عام 1970، عادت بعدها إلى البصرة لتعمل في كلية الطب بدرجة (معيد)، لكنها لم تترشح للدراسات العليا على الرغم من تربع والدها على كرسي العمادة، فلم يتحيز لها، ولم يفضلها على غيرها.
كان رحمه الله ملتزماً بتطبيق مبادئ العدالة والإنصاف والمساواة بين العاملين في معيته، فلم تحصل ابنته على الدكتوراه في الكيمياء الحياتية إلا في عام 1979 من جامعة مانشستر بانجلترا، ثم أصبحت رئيسة لفرع الكيمياء الحياتية في كلية الطب / جامعة البصرة عام 1982، أي بعد مغادرة والدها لمركز العمادة بثلاثة أعوام.
تزوجت عام 1982 من كبير الجراحين الأستاذ الدكتور هاشم الخياط، وتعيش الآن في بيت زوجها في أجمل أحياء البصرة.
كانت هذه لمحات سريعة من تاريخ هذه الأسرة العريقة، نستعرضها هنا لنسترجع معاً بعض الصور المشرقة من تاريخ البصرة الزاهرة دائماً بأهلها.
**
عودة الى الصفحة الرئيسة