أم غازي امرأة نحتت الصخر بأظافرها
كاظم فنجان الحمامي
ولِدت (أم غازي) في مدينة ميسان عام 1916, وكانت رحمها الله امرأة فاضلة صابرة مناضلة. التحقت بصفوف الفقراء في منتصف القرن الماضي. واجهت في البصرة مصاعب الحياة غير عابئة بتحدياتها المرهقة وتقلباتها المزاجية المفاجئة, فتحملت ويلاتها ونكباتها من دون أن تطلب العون من أحد, كانت بمفردها عبارة عن فوج ميداني مستقل. حملت عناوين الكفاح والصمود والإباء. عاشت في أوساط منطقة المعقل, متنقلة بين الأحياء الفقيرة, فالتصقت صورتها بذاكرتنا حتى يومنا هذا.
كان زوجها (لعيبي منصور حسين الشميلاوي) من الطبقة العمالية الكادحة, التي تحملت عبء الأعمال المينائية الثقيلة, فاستطاع بفطنته ونباهته أن يصبح عام 1932 رئيسا لمجموعة عمالية مؤلفة من أبناء القرى والأرياف, الذين كانوا يعملون في أرصفة ميناء (المعقل) بأسمالهم القروية البالية. كان عنوان وظيفته المدون في هويته الصادرة عام 1932 هو (تنديل حماميل), والتنديل مفردة هندية تعني رئيس زمرة العمل, أما (حماميل) فهي كلمة عراقية دارجة, تعني (حمالين) جمع حمّال. كان (أبو غازي) مثالا للأب الحنون, والزوج المخلـص، والرجل الشرقي الشريف المتميز بمعاني الرجولة والشهامة، عرفه الناس بمشاعره الوطنية الصادقة
لقد تحولت في ختام رحلتها الكفاحية الطويلة إلى راعية لفقراء الحي, تسهر على راحة أبنائها. توفر المؤن للأسر الهاربة من ظلم الأنظمة الإقطاعية الجائرة. تحتضن الأرامل. تُحسن التعامل مع التلاميذ الأيتام الذين لا قدرة لهم على شراء مستلزمات المدرسة, ولسنا مغالين إذا قلنا أنها سبقت الأم (تيريزا) بعقود, وتفوقت عليها بصلابة عودها وقوتها الجسدية الهائلة, فقد تميزت بصبرها في الملمات, وجلدها في الأزمات الصعبة, ومثابرتها التي لا تعرف اليأس.
من طرائف مواقفها, في عام 1985 اشترى منها رجل بطيخة كبيرة (رَقِّية), وكان من متطوعي الجيش الشعبي, فخطفت منه بندقيته الأوتوماتكية (كلاشنكوف) واحتفظت بها كرهينة, ثم طالبته بدفع ما بذمته من مبالغ مترتبة عليه منذ عام 1958. وقف الرجل مصدوماً مندهشاً من ذاكرتها التي لا تتعرض للعطب, حتى هو نفسه لم يكن يتذكر الواقعة, لكنها أقنعته بالأدلة القطعية, ولم يسترد بندقيته إلا بشق الأنفس, بعد أن دفع لها المبلغ كاملاً.
فازت (أم غازي) بألقاب الأم المثالية في حياتها وبعد مماتها, وكان لها الدور الأكبر في تربية أبنائها والارتقاء بمستواهم الأكاديمي نحو الأفضل, تخرج أبنها الأكبر غازي (مواليد 1937) في دار المعلمين, وكان من طلائع النخبة الثقافية المنتخبة, وشاءت الأقدار أن تشهد وفاته عام 2007, فدخلت مجلس العزاء محنية الظهر, شاردة الذهن, تصيح: ولدي. أُريد ولدي. أين ولدي ؟.
لم تكن بهذا الحزن عندما فقدت ولدها الفنان التشكيلي أسعد (مواليد 1955), الذي اغتالته غربان الشر في بيروت عام 1982, ولم تكن بهذا الجزع عندما فقدت ابنها الأصغر مؤيد (مواليد 1957), الذي سقط مضرجا بدمه في معارك شرق البصرة, ولم تكن بهذا الضعف عندما علمت بوقوع أبنها رعد (مواليد 1956) أسيراً عام (1982), ثلاثة من أعز أولادها اختفوا في عام واحد.
رحلت أم غازي قبل بضعة أعوام, لكنها لم تغادر ذاكرتنا المعقلية المزدانة بأجمل المشاهد, ولن يتلاشى ذكرها من دفاترنا المؤطرة بأروع المواقف النضالية الصادقة.
والحديث ذو شجون
للعودة إلى الصفحة الرئيسة