الجنديّ والخنازير
الروائي محمود سـعيد
كاد الرّعب يقتله ما إن فتح عينه، بدأ قلبه يدق بعنف، ما هذه؟ ركّز النّظر نحوها، لم يرَ مثل هذا الحيوان من قبل قط. فكّر قليلاً. رأى صورة شبيهة. أهي خنزيرة بريّة! لماذا كبيرة هكذا. تبدو عملاقة. قربه، على ظهرها تشخر، قوائمها القصيرات مفتوحة إلى الخارج، بطنها يندلق عظيماً كقربة ماء، تنـزّ عرقاً وقبحاً، شهباء متربة، موحلة، عيناها مغمضتان على رمص أصفر منفّر اتّخذ مسرباً يابساً لبضعة عشر مليمتراً تحت العينين المطبقتين، صدرها يعلو وينخفض كمنفاخ عملاق، بينما لمعت حلمات أثدائها البيض في جانبي البطن منتظمات على صفين، بارزات تلمع في ضوء الشّمس، هو أيضاً كان متمدداً على ظهره، بينهما أقل من مترين.
حدّق نحو السّماء، فضاء في دائرة الضّوء المثلومة، تحّددها ذؤابات البردي، لم يتذكّر أولّ الأمر سوى انفجار القنبلة التي مزّقت القارب بمن فيه، طوّحت به عالياً كالطّير، لماذا أغمض عينيه حينما أصابه الألم الأكبر في جبهته؟ ما يتذكره أنّه ردّد وهو يعلو متوجساً النهاية: (مِتنا.) نعم. كان موقناً بالموت. ثم سقط. يتذكّر أنه أحسّ بارتجاج جسده العنيف. توقع أن يسقط في الماء، لكنّه قُذف على شيء أشبه بالفراش اللّين. أهي قصيبات البردي التي يضطجع عليها الآن؟ ثم غاب عن الوعي.
أن يفاجئه انفجار القنبلة، كان يراقب ذؤابات البردي، أشبه بحشائش مدببة، سهام ترتفع فوق الماء أكثر من متر، خفف العريف من سرعة القارب، بدأ البردي الهشّ يصطدم بأسفل القارب، طفق يستعدّ للنزول، علّق الغدارة على كتفه الأيسر، والحقيبة على ظهره، صعد ليقفز، وجهه نحو غابة البردي، ظهره إلى رفيقيه في القارب، قال: يا الله! ثم حدث الانفجار، الدّمار، الطّيران، السّقوط، غياب الوعي، ترى ماذا حلّ بهما؟ حيان؟ ميتان؟ من يدري؟ كل شيء محتمل،
ظنّ أنه مات، لكنّه حيّ. ثم تذكّر انه أفاق بضع مرات على أصوات الخنانيص الصّغيرة، لم يدرك أول الأمر ما هي! أصوات وحركات حسب، قرب إذنيه، وجهه، كل جسمه. رطوبة تلعق وجهه، شيء ليّن بمصّ إبهام يده اليمنى المفروشة على صدره، مداعبة رضيع، أكثر من حيّ! حيوات صغيرات، تتبارى، تنتفض تملأ الفضاء حياة وحيوية، لكن نقيق الضّفادع كان غالباً على كل صوت، آلاف الأصوات، لا بل الملايين، تردّد، دفعات، لازمات، ذبذبات، أيعقل أن تكون لهذه المخلوقات الصّغيرة تلك القدرة الجبّارة على امتلاك هذا الكون الشّاسع؟ هدير دبابات؟ مكائن طحين؟ شاحنات ديزل؟ قطار سريع؟ لا، لا يمكن لشيء أن يشبه هذه الضّجة أبداً.
غرق في رائحة البردي، رطوبته، عفنه، رائحة تقتحم الخياشيم، رطوبة من دون برد تغرق ظهره، شعر قذاله حتى منتصف رأسه تحت الأذنين، حدّق بالسّماء مرّة أخرى، فراشات سمر تميل إلى السّواد، صغيرات بحجم الذباب تتبارى فوقه، تحط على كل بوصة من وجهه، جسمه، تحطّ لحظة ثم ترتفع، تترك المجال لغيرها، تتحلّق في دائرة لا تنتهي،
ملايين الفراشات تحتلّ الجوّ، تظلّل قصيبات البردي، تهوّم خالقة جواً سحرياً، هلاميّاً يكوّن بتشكيلاته الخرافية بلسماً يخفّف من ضجيج نقيق الضّفادع الرّتيب الصّاخب. وقف خنوص صغير على صدره، التّقت عيناهما، ربما فتح الجفن وإغلاقه جذبت أنتباه الخنوص، طفق يلعق حنكه، لم يكن قبيحاً كأمه، جلد ترابي يميل إلى الصّفرة، لم يكن طول الخنوص أكثر من عشرين سنتمتراً، سميناً يتبختر، ثم نزل إلى الأرض، بدا واخوته لقصر أرجلها وكأنها تسير على بطنها، كانت تلهو في ضوء الشّمس القويّ، ترضع ثواني، تتناطح، تصعد على جسمه، تلطع كل شيء عار من أعضاءه، وجهه، يديه، أذنيه. ألسنتها ورديّة رقيقة خفيفة، أسمك قليلاً من ورقة وردة، لكنها ذوات مسامات واضحة، وحركات لا تهدأ، تداعبه، تنطح خده بخطمها المرطب دائماً، خطم حوافيه جادة كأنها قصت بسكين، أعينها صغيرات أشبه بخرزات صفر لامعة، كانت تشع مرحاً عابثاً، عكس الأم النّائمة، تفيض قبحاً مجسماً يغرق الجزيرة الصّغيرة.
ماذا لو استيقظت الخنزيرة ودهمته؟ ارتعب، دق قلبه بعنف ثانية، حرّك رأسه إلى الأعلى، ألم ثقيل في جبهته،
نعم، في جبهته، لا بد أنه مجروح، قفز ضفدع أضخم من كف يده فوق وجهه، ترك على ملامحه رطوبة مقزّزة خضراء، مكث ثانية ثم نزل تبعه خنوص، لكن الضّفدع هرب، اختفى بين طيات البردي، تحت أشعة الشّمس.
ماذا يفعل؟ كيف ينجو؟ اعتلى خنوص آخر صدره، توجه نحو الإبهام، اندفع يمصه، دغدغه، وأد ضحكة على الرّغم من تقزّزه، ابتسم، سحب إبهامه، لحقه الخنوص الصّغير، طفق يلعب مع الأصابع، ينطحها، يعضّها بلثة خالية من الأسنان، يتنفس بصوت كأنه أنين ورقة تتمزّق، ظنّ حركة الأصابع لعبة، تبعها بإلحاح أنى تحركت.
بدأ خنوص آخر يلعق جبهته، أحس بألم مفاجئ، التّهب الجرح كالنّار، دفع الخنوص من دون شعور، إذن يداه سليمتان كلتاهما! حرك رجليه بهدوء كي لا يوقظ الخنزيرة. غمرته فرحة كبرى، حرّك ساقيه قليلاً وبتحفظ. الرّجلان سليمتان أيضاً، أجبهته وحدها مصابة إذاً؟ لا بد أن الجرح ليس بكبير وإلا لنزف كثيراً، تحسّس بأصابع يده اليمنى موضع الجرح، خفيف غير غائر، لكنّه طويل، طول سبابته، لا ليست شظيّة القنبلة ما جرحه، كان مات، لابد أنّها غدارته حينما سقط! لكن أين هي الآن؟ رفع رأسه قليلا مرة أخرى، ساطه ضوء الشّمس القوي، أغمض عينيه، آلمه الجرح من جديد.
عضّه العطش والجوع، ماذا يفعل؟ لكن أين الغدارة؟ أين الحقيبة؟ أين المزادة؟ نظر إلى السّاعة، التّاسعة وعشرون دقيقة، يعني أنه ظل فاقداً وعيه أكثر من ثلاث ساعات، لابد أن الضّربة كانت قوية على الجبهة، كان الجزر في أوّله آنئذ. سيأتي المدّ في الخامسة عصراً، لابد أن يفعل شيئاً لينجو، لكن كيف؟ وهذه (الهامة) أمامه؟
رفع جذعه قليلاً، هجمت عليه ثلاثة خنانيص وهي تشخر، أعين جذلات لامعات، صعدت على بطنه وصدره، تزاحمت، كانت تتشمم كل شيء، تتنشق بصوت الورقة المشقوقة بذلة القتال الخضراء المبقعة، تعضّ أصابعه بلثات لحمية مليئة باللعاب، ملابسه، أزرار بذلة القتال، أبعدها برفق عن وجهه، رجعت وبإلحاح، علت أصواتها مع نقيق الضّفادع، اجتذبت رنة الفرح في الصّوت اخوتها، كثر العدد، أصبحت ستة خنانيص، أحاطت به من جميع الجوانب، أخذت تنطحه من كل الجهات، تداعبه، تدفعه لقهقهة كادت تفلت من الأسر. بعد لأي وجد جزءاً من نطاق الغدارة يخـتفي تحت رأس الأم، ماذا يفعل؟ يا له من سؤال!
قبل أربعة أشهر وخلال نفس اليوم الذي تسلم فيه شهادة الهندسة قُصفت البصرة بشكل استثنائيّ ولمدة زادت على أربع ساعات متواصلات، نكّت صديقه: ‘‘يا لكثرة احتفالاتهم، يشاركوننا حتى في احتفال التّخرج’’ كانوا يتوقّعون هجوماً
جديداً على المدينة؟ بدا كل شيء محتملاً، في الحرب كل شيء متوقّع، لكنّه لم يتوقّع مهما اشتطّ به الخيال أن سيأتي يوم يحتفل به مع خنازير وهو جائع، وحيد، بعيد، جريح! والأفظع من كل شيء أنّه لا يستطيع أن يتخلص من هذا المأزق البسيط، حيوان خطر لكنّه نائم!
قرّر أن يرفع خنوصا ويرميه على أمه لتستيقظ، لا شك أنها ستذهب إذا استيقظت! ماذا يبقيها هنا؟ لكن عليه أن لا ينهض، يحب أن يبقى مستلقياً، أنتصاب الجذع ربما يعني في نظرها استفزازاً، من يتكهن برد فعل حيوان يدافع عن صغاره؟ ماذا ستفعل خنزيرة ذات نابين حادّين إن استفزّت؟
رفع الخنوص الصّغير من بطنه، ظن هذا أنه يداعبه، فتح فمه الخالي من الأسنان، حرك قوائمه الصّغيرات بمرح، كان بطنه أبيض ناصعاً، شعره زغب وبري لم يصبح إبراً حادة كشعر أمه بعد، رماه على الأم وهو متمدّد، لكن الرّمية لم تكن قويّة، فتحت الخنزيرة عينيها الصّغيرتين المرمصتين. احمرار دمويّ يختلط بالسّواد، شخرت بجفاء، دفعت الخنوص بقوّة جعلته ينقلب على ظهره، أغمضت عينيها من جديد، استمرأ الخنوص اللعب، جرى نحوه مرّة أخرى، وهو يصدر أصوات مرحة وكأنّه يغني، تبعه الباقون، رماها بخنوص آخر، لكن بشكل أقوى، فتحت عينيها هذه المرة بغضب، شخرت، لكنّها لم تنظر ناحيته، ظلّت على ظهرها، قوائمها مفتوحات نحو الخارج، بطنها منفوخ كقربة مليئة بالماء، استمرأ الصّغار اللعب، هجموا عليه. لكن ما الخطوة التّالية؟
عاد نقيق الضّفادع يسود الجو صاخباً مقرفاً مشوباً بشخير الخنزيرة وصغارها، كان عليه أن يبقى ساكناً مادامت عينا الأم مفتوحتين، ظلّ يراقبها، كم استمر ذلك؟ لم ينظر إلى السّاعة، لم يحرّك أي ساكن، أخذت اللحظة تعدل ساعة، ربما لولا نقيق الضّفادع لسمعت صوت تنفسه، نعمة من الله.
ثم لحظها تتحفّز، أسمعتْ شيئاً لم يسمعه؟ لابدّ. شخرت بقوّة، فجأة استوت على قوائمها أسرع من البرق، غاصت القوائم في ركام البردي المنتشر على الأرض الليّنة، نظرت باتجاهه، لكن فوقه بقليل، نحو ذؤابات البردي، صوّتت بعنف، توقفت
الخنانيص عن اللعب، استدارت. جعلت ظهرها نحوه، كاد ذيلها الذي تفرّدت شعراته الشّهباء أن يلامس صدره، سارت بهدوء تحيطها خنانيصها، تغوص الأرجل في البردي، آنذاك سمع صوت طلقة قريبة من رأسه، جفل. ارتجف. الصّوت جافٌ قوي ساخن. يعني أنها انطلقت من قريب. عند ذلك ركضت الخنزيرة هاربة وصغارها وراءها، اعتدل أراد أن يلتقط
غدارته. لكن عموداً نبت بلمح البصر، حال بينه وبين الغدارة، عمود بشري، قفزة أسرع من الوميض، شبح! خيال وهميّ! جنيّ! لا إنه بشر حقيقيّ! من أين جاء؟ كيف قفز؟ حدّق به، أطول منه بنحو خمسة عشر سنتمتراً. مئة وثمانون، خمسة وثمانون! عملاق بالنّسبة إليه، يبتسم بانتصار المقتدر. بزة القتال تختلف، الشّارات كذلك، غطاء الرّأس أيضاً، طاقيّة صوفيّة من ‘‘ الكاكي’’ متنافر الوبر، ‘‘ قمصلة ’’ عميقة اللون، خضراء، مفتوحة الصّدر، تقاطيع سمر جذابة. حذاء جندي ثقيل أسود، عينان بنيّتان تقدحان، هتف بالإيرانية مع إشارة أمر بالانبطاح.
لم يصدّق سامر ما يحدث، أيّ يوم هذا؟ زفر بحرقة، يا للشؤم! يومه الثّاني بعد التّدريب في الجيش ينتهي هكذا! صرخ الإيراني من جديد. انبطح على وجهه هذه المرّة، وضع الإيرانيّ حذاءه الثّقيل على أعلى كتفيه، الغدّارة قرب رأسه، مد يده إلى حقيبة وراء ظهره، سحب حبلاً أخضر، طفق يُعدّه لربط يدي سامر من الخلف، لكن الحبل طار، زلزلت الأرض تحتهما، فجأة سقط الإيرانيّ على سامر، غطى رأسه وأعلى كتفيه. كاد يختنق، لكنّه أحس بقطيع خنازير هائجة ضخمة تندفع فوقهما، كانت عيناه مفتوحتين، ومن الفتحة الصّغيرة التي أتاحها الفراغ بين جسد الإيراني والأرض رأى
سامر أمامه عشرات الأرجل القصيرة تتقافز بسرعة مجنونة، تملأ الكون، مندفعة لا يوقفها شيء، سرعة عاتية، قطار أهوج. عبدت بأرجلها الثّقيلات طريقاُ داخل غابة البردي والقصب الهشّ، فجأة أنتهى إعصار الخنازير كما بدأ، أخذ صوت دبيبها يخفت بشكل تدريجيّ وهي تبتعد.
حرّك سامر رأسه، أفقد زلزال الخنازير توازن الإيرانيّ، كادت أظلافها القويّة تمزّقه، بصعوبة أزاحه سامر من فوقه، قلبه على ظهره، كان لا يزال يتنفس. الحمد لله، جراح تثخنه، تمزّقت ‘‘قمصلته’’ الثّخينة. سرواله في أكثر من مكان،
الدّم يسيل من تحت صيوان أذنه، من رأسه، أنفه، أعلى كتفه، طارت طاقيته الصّوفية الوبرية، أحدث كلُّ ذلك في ثوانٍ؟ أصبح خصمه العتيد كتلة من اللحم لا حراك لها في أقلّ من دقيقة واحدة! أي مصادفة حميدة. ليحمد الله، لو لم يكن فوقه لحلّ به الشّيء نفسه. ربما كان مات، من يصدّق عدوه أنقذه؟
وجد على بعد عدة أمتار حقيبة الإيراني، وأبعد منها قليلاً غدّارته نصف مدفونة بالبردي المتعفن، وجد أبعد منها ببضعة أمتار المزادة. شرب قليلاً من الماء. يده ترتجف. كان الزّلزال لا يزال في داخله. يقلقل وجوده، يرجّه، مسح وجه الإيرانيّ بكفه. كان لا يعي ما يفعل، تساءل مع نفسه، لماذا لا أهرب؟ الفرصة سانحة، لكن ممن أهرب؟ من مريض؟ تجاهل الهمس. ظلّ يمسح دماء الإيرانيّ. متى رأى هذه التّقاطيع؟ أين؟ الملامح مألوفة، كأنه قريب، صديق، لكنه عامله بخشونة! وضع ‘‘بسطاله’’ الثّقيل على كتفيه، هو الآن جريح. لم لا يهرب؟ ممن؟ من الخنازير! لا. سيجد سلاحه، لن يخاف أحداً بعدئذ. لماذا لا يرجع إلى قاعدته؟ لكن كيف؟ حتى أنه لم يعرف من أين أتى! الظّلام سائد عندما صعد فجراً إلى زورق الدّورية. قبل يوم واحد، البارحة، حينما التّحق بوحدته سألوه فقط إن كان يجيد السّباحة، هذا كل ما في الأمر.
العريف وحده يعرف المسالك المائية وسط محط الهور حيث تضيع المسافات، الإحداثيات، العلامات، لا شيء غير ممرات ماء متقاطعة متوازية، تضيق، تنفرج، مياه تحيطها قصيبات البردي من كل جانب، مياه لم تكشف عن لمعانها إلا بعد إقلاعهم بساعتين. مجارٍ تبدو سوداء في الليل، ممرات لا تنتهي، تلمع فيها نجوم متناثرة كحبات لؤلؤ منفرطة فوق قماش أسود، ثم أخذ السّواد يقلّ حتى بدأ سحر ممرات المياه يغرق في شفافية حالمة تحت ندى لذيذ وبرد غير قارص.
والآن ما العمل؟ العريف مختفٍ. هو حرّ لكنّه لا يعرف الطّريق. العدوّ مريض. كيف ستهرب؟ أستموت من الجوع وسط الخنازير؟ فتح الإيراني عينيه، التّقت نظراتهما بعد شرود، قال وهو يئن: أما زلت هنا؟ لمَ لمْ تهرب؟
صعق سامر، هتف فرحاً: أأنت عراقيّ أم من عربستان؟
- من البصرة.
- لماذا إذن معهم؟
تأوّه وهو يحاول أن يتلمس جروحه: سُفرنا قبل سبع سنوات، سنة 79، رمينا كالكلاب عند الحدود، مات نصف أهلي من الجوع، المهم يجب أن تسرع في الهرب. سيأتي أفراد فصيلي بعد ربع ساعة، إنهم يعرفون مكاني ومكانك، شاهدنا انفجار زورق دوريتكم فجراً، نحن الذين رصدناه، أعطينا المدفعية الإحداثيات، أهرب قبل أن يأسروك.
ارتجف صوت سامر: لا أعرف أين أتجه!
أغمض الجريح عينيه، يغالب الألم، أنَّ بتوجع: ساعدني على النّهوض. اجتازا بضعة أمتار من البردي، كان يتكئ على سامر، اقتربا من حافة الماء اللامتناهي، قال: إنه خطأي، مهما يكبر الإنسان فهو طفل لا يستطيع تجنب الأخطاء،
أثرت الخنازير عندما أطلقت الرّصاصة. فعلت ذلك من دون تفكير، خشيت أن تظن الخنزيرة أنني أقصد الأذى بصغارها فتهاجمني وتهرب أنت أو تقتلني، أردتها أن تهرب فأثرت خوف القطيع.
ضحك سامر: حتى لو رأيتك لما قتلتك، لم أضع في عقلي القتل مطلقاً.
حدق به الجريح جاداً: لابد من القتل، أقتل أو تقتل، إنّها الحرب، العالم يحكمه الخنازير، يهددون البشر كلهم.
توقف برهة، ثم أشار إلى الشّرق: أنظر تلك الجزيرة، تستطيع أن تخوض إلى هناك، الماء ليس عميقاً، سيبدأ المدّ بعد خمس ساعات، إذا مشيت بجد فستصل إلى قاعدتك بعد أربع ساعات، توكل على الله، لا تضيّع لحظة واحدة، هيَّا، لماذا
يرسلونكم؟ هذا القارب الخامس عشر الذي ينفجر وينتهي طاقمه! إنّهم يعلمون أنّنا نعد لهجوم من هنا، ليس الأمر سراً، فلم يضحّون بكم؟ كل يوم قارب يسير إلى حتفه، أتعرف السّباحة؟
- نعم.
- إذن هيّا، خذ معك حقيبتي فيها طعام وماء يكفيك يومين، في أمان الله.
- لكن تلك الجزيرة قريبة، لا تأخذ أكثر من ساعة.
- صحيح، بعدها توجه نحو الشّمال، جزيرة أخرى، ومن هناك استدر نحو الشّرق أيضاً ستصل جزيرة صغيرة فاتجه نحو الشّمال برهة قصيرة، عندئذ سترى الطريق إلى الغرب، وسيقودك إلى وحدتك، احذر الخنازير، لا تستفزّها.
قال ذلك ثم سقط من الإعياء.
- قلت لك أسرع، إن سمعت الرّمي أغطس في الماء، أتعرف كيف تعد قصبة للتنفس؟
- نعم.
- كم سنة لك وأنت في الجيش؟
- يومان فقط.
- يومان ويرسلونكم إلى الموت؟
أحس سامر بقلبه يجيش عاطفة نحوه، أراد أن يعانقه، يصافحه في الأقل، لكن هذا هتف وعيناه تدمعان: قلت لك أسرع، لا تضيّع ثانية. ثم أكمل وبصوت متهدّج، وهو يراقب سامر يخوض الماء رافعاً غدارته وزوادته إلى الأعلى:
كم لعنت نفسي!
محمود سـعيد 1984
اقرأ المزيد: الروائي محمود سـعيد