قراءات في رواية محمود سعيد الجديدة : صيد البط البري
1
1
عواد ناصر : عربة محمود سعيد ـ
المصدر: موقع الناقد العراقي ـ
في 17-2-2014 يكتب محمود سعيد، الروائي العراقي المقيم في واشنطن، وكأنه يركض ليلاحق الزمن: جمله القصيرة المتوترة، حواراته الموجزة، المكتنزة بالدلالات، لتأتي صفحات روايته الجديدة (صيد البط البري) استمراراً لرواياته السابقة من حيث التقنية: الانتقال عبر الزمن في عربة اسمها الرواية، ولكن ليس على غرار (آلة الزمن) ل أتش جي ويلز التي بلغت المستقبل البعيد، إنما هي عربة روائية عراقية تتحرك عبر الأزمنة الثلاثة، الماضي والحاضر والمستقبل، عربة مجنونة، مفرطة بالكوابيس، شغوفة بالسلام، بأمن الإنسان وحريته، بعيداً عن الدكتاتورية والحرب.
يقدم سعيد في هذه الرواية شهادة سردية مشوّقة، منطلقاً من ذلك الطريق الدامي (طريق الموت) الذي أجهز فيه الجيش الأمريكي على الجيش العراقي المنسحب من الكويت إثر عاصفة الصحراء ليصطاد الهاربين من الموت باتجاه بلدهم العراق، كصيد البط البري: يطير خفيضاً ليسهل صيده! كما يقول الجنرال الأمريكي.. من هنا تبدأ كوابيس (منصف) الشخصية الرئيسة في الرواية:
كابوس: “لنلعب الكرة، هيا، نزل مع جنود الفصيل من شاحنة الزيل العسكرية. انتشروا على الرمال، من عنده كرة؟ أنا، رمى العريف كرة سوداء. ما هذه؟ أول مرة أرى كرة سوداء وغير مستوية. هه. ليست كرة. رأس إنسان، آدمي محروق. ركله العريف بقوة، ارتفع بضعة أمتار، سقط على بعد عشرين متراً، ركله جندي، وصل الرأس إلى قدم منصف، هتف من دون شعور: توقفوا، هذا رأس أبي).
يجد (منصف) الجندي العراقي منفذا ما ليبتعد عن الجموع العسكرية المحترقة، أو التي في طريقها إلى الاحتراق، ليبلغ بيته في بغداد، ومنها سيتوجه إلى (معسكر الحرية) في الناصرية ليقبل لاجئاً لدى أمريكا (الحبيب القاتل).
والدا منصف قتلا في قصف ملجأ العامرية الشهير. وهو في الحافلة إلى الناصرية (أغمض عينيه، صوت أمه يملأ البيت بهجة، تعانقه تقبله وهو ذاهل).
إذا كان منصف قد نجا من اختراق الرصاص لجسده، بفعل المصادفة فإن حياته، بعد ذلك، لم تسر وفق المصادفة، حيث العالم المحكوم بقوانين وشروط
حدود وجيوش ودول، فإنه لم يزل مخترقاً بذاكرته ومعاناته وأحلامه، أي مخترقاً بالأزمنة الثلاثة، ماضيه وحاضره ومستقبله، فذاكرته المليئة بالجثث المتفحمة على (طريق الموت) بينما هو يعاني ليتخلص من ماضيه الذي يحاصره على شكل كوابيس في يقظته ومنامه، وهذا ما يلف حاضره بالألم، وهو بعد هذا وذاك، مخترقاً بأحلامه: أن يحيا بسلام.
يشارك سعيد قراءه بألعابه الروائية التي ليست مسلية، بأي حال من الأحوال، بل هي ألعاب تكتنز المفاجأة والدهشة على هيأة أحداث ملغزة تعمق خط التشويق والإثارة، فالسيدة (تاتشر) التي تدير شركة تجارية بأسلوب “حديدي” حيث يعمل منصف سائق شاحنة، ستصبح شخصية أخرى تماماً، يستبدلها الروائي بخفة الساخر بسيدة فلسطينية ستسهم في كشف ملابسات التعذيب المشين في سجن (أبو غريب).
ينأى سعيد ببطله (منصف) من مغريات وظيفية أمريكية عدة تصب جميعها في خدمة الجيش المحتل، ليصونه، حراً، مستقلاً، وريث أبيه المواطن العراقي القارئ للكتب الإنكليزية (حر التفكير ومناوئ للدكتاتورية) = تلميح موجز إلى استقلالية المثقف.
رواية (صيد البط البري) ملغومة بالأحداث والشخصيات والترميزات، وتستدعي أكثر من قراءة وبمستويات مختلفة، وهذا ما أتوقعه، إذ أن الكاتب يتمتع بمهارة سردية ممتازة في إدارة شخصياته وابتكار مشاهده التي امتزج فيها التسجيلي والخيالي بتنافذ غير مفتعل، حتى أن قارئه سيخمن، لا بد، إن روائياً، مثل محمود سعيد، ينشئ عالمه الفني على معلومات موثقة جمعها مثل باحث مجتهد كي يصنع منها مادته الخام وصولاً إلى معماره الروائي في شكله النهائي.
*
المصدر: موقع الناقد العراقي
في 17-2-2014
المقال أُرسل الى بيت الموصل من قبل الاخ الروائي محمود سعيد ، مع الشكر والتقدير
المصدر: موقع الناقد العراقي ـ
في 17-2-2014 يكتب محمود سعيد، الروائي العراقي المقيم في واشنطن، وكأنه يركض ليلاحق الزمن: جمله القصيرة المتوترة، حواراته الموجزة، المكتنزة بالدلالات، لتأتي صفحات روايته الجديدة (صيد البط البري) استمراراً لرواياته السابقة من حيث التقنية: الانتقال عبر الزمن في عربة اسمها الرواية، ولكن ليس على غرار (آلة الزمن) ل أتش جي ويلز التي بلغت المستقبل البعيد، إنما هي عربة روائية عراقية تتحرك عبر الأزمنة الثلاثة، الماضي والحاضر والمستقبل، عربة مجنونة، مفرطة بالكوابيس، شغوفة بالسلام، بأمن الإنسان وحريته، بعيداً عن الدكتاتورية والحرب.
يقدم سعيد في هذه الرواية شهادة سردية مشوّقة، منطلقاً من ذلك الطريق الدامي (طريق الموت) الذي أجهز فيه الجيش الأمريكي على الجيش العراقي المنسحب من الكويت إثر عاصفة الصحراء ليصطاد الهاربين من الموت باتجاه بلدهم العراق، كصيد البط البري: يطير خفيضاً ليسهل صيده! كما يقول الجنرال الأمريكي.. من هنا تبدأ كوابيس (منصف) الشخصية الرئيسة في الرواية:
كابوس: “لنلعب الكرة، هيا، نزل مع جنود الفصيل من شاحنة الزيل العسكرية. انتشروا على الرمال، من عنده كرة؟ أنا، رمى العريف كرة سوداء. ما هذه؟ أول مرة أرى كرة سوداء وغير مستوية. هه. ليست كرة. رأس إنسان، آدمي محروق. ركله العريف بقوة، ارتفع بضعة أمتار، سقط على بعد عشرين متراً، ركله جندي، وصل الرأس إلى قدم منصف، هتف من دون شعور: توقفوا، هذا رأس أبي).
يجد (منصف) الجندي العراقي منفذا ما ليبتعد عن الجموع العسكرية المحترقة، أو التي في طريقها إلى الاحتراق، ليبلغ بيته في بغداد، ومنها سيتوجه إلى (معسكر الحرية) في الناصرية ليقبل لاجئاً لدى أمريكا (الحبيب القاتل).
والدا منصف قتلا في قصف ملجأ العامرية الشهير. وهو في الحافلة إلى الناصرية (أغمض عينيه، صوت أمه يملأ البيت بهجة، تعانقه تقبله وهو ذاهل).
إذا كان منصف قد نجا من اختراق الرصاص لجسده، بفعل المصادفة فإن حياته، بعد ذلك، لم تسر وفق المصادفة، حيث العالم المحكوم بقوانين وشروط
حدود وجيوش ودول، فإنه لم يزل مخترقاً بذاكرته ومعاناته وأحلامه، أي مخترقاً بالأزمنة الثلاثة، ماضيه وحاضره ومستقبله، فذاكرته المليئة بالجثث المتفحمة على (طريق الموت) بينما هو يعاني ليتخلص من ماضيه الذي يحاصره على شكل كوابيس في يقظته ومنامه، وهذا ما يلف حاضره بالألم، وهو بعد هذا وذاك، مخترقاً بأحلامه: أن يحيا بسلام.
يشارك سعيد قراءه بألعابه الروائية التي ليست مسلية، بأي حال من الأحوال، بل هي ألعاب تكتنز المفاجأة والدهشة على هيأة أحداث ملغزة تعمق خط التشويق والإثارة، فالسيدة (تاتشر) التي تدير شركة تجارية بأسلوب “حديدي” حيث يعمل منصف سائق شاحنة، ستصبح شخصية أخرى تماماً، يستبدلها الروائي بخفة الساخر بسيدة فلسطينية ستسهم في كشف ملابسات التعذيب المشين في سجن (أبو غريب).
ينأى سعيد ببطله (منصف) من مغريات وظيفية أمريكية عدة تصب جميعها في خدمة الجيش المحتل، ليصونه، حراً، مستقلاً، وريث أبيه المواطن العراقي القارئ للكتب الإنكليزية (حر التفكير ومناوئ للدكتاتورية) = تلميح موجز إلى استقلالية المثقف.
رواية (صيد البط البري) ملغومة بالأحداث والشخصيات والترميزات، وتستدعي أكثر من قراءة وبمستويات مختلفة، وهذا ما أتوقعه، إذ أن الكاتب يتمتع بمهارة سردية ممتازة في إدارة شخصياته وابتكار مشاهده التي امتزج فيها التسجيلي والخيالي بتنافذ غير مفتعل، حتى أن قارئه سيخمن، لا بد، إن روائياً، مثل محمود سعيد، ينشئ عالمه الفني على معلومات موثقة جمعها مثل باحث مجتهد كي يصنع منها مادته الخام وصولاً إلى معماره الروائي في شكله النهائي.
*
المصدر: موقع الناقد العراقي
في 17-2-2014
المقال أُرسل الى بيت الموصل من قبل الاخ الروائي محمود سعيد ، مع الشكر والتقدير
ـ 2
رواية "صيد البط البري" لمحمود سعيد
ماجد الخطيب
قصة شعب بأكمله يعاني"صدمة مابعد الحرب" ـ
المصدر : موقع النور - 23-1-2014
استرجعت، وأنا أقرأ فصول"صيد البط البري"، مشاهد مؤلمة من الفيلم الأميركي المناهض للحرب"جارهيد"( اخراج سام منديز/ تمثيل جيك جايلنهال وجيمي فوكس). وواضح ان الفيلم يعبر عن إحدى التسميات(Jarhead) التي تطلق على الجنود الاميركيين، وتعني بالانجليزية"رأس الجرّة"، تعبيراً عن رأس الـ "GI" الكبير والأقرع والفارغ الرنان.
إذ يستعرض الفيلم، قبل نهايته، مشهداً مصوّراً بدقة وببشاعة لافتة للنظر، عن القصف الأميركي لطريق صفوان، بين العراق والكويت، ابان حرب تحرير الكويت، والذي أفنى حياة عشرات الألوف من الجنود العراقيين الذين ألقوا السلاح، وفضلوا العودة إلى بغداد، بل وإلى الموصل" مشياً على الأقدام، على الموت من أجل حرب عبثية قادها "جارهيد" النظام البعثي السابق. يعرض الفيلم مشاهد الجثث المحترقة والمتفحمة وهي في حالة وقوف أو جلوس، على طول طرق صفوان" طريق الموت"، كما رآها وعاشها الجندي الاميركي السابق، والصحافي والكاتب اللاحق انتوني سوفورد، الذي ألف كتاب"جارهيد". يصور الفيلم بعدها مشهد حرق آبار النفط، ومن ثم زخات النفط التي صبغت فصيل الجنود أميركي بلون أسود يشبه لون جثث العراقيين المتفحمة.
ويبدو ان عين محمود سعيد السينمائية، في وصفه للقصف والجثث المتطايرة، و"التماثيل السوداء"(الجثث المتفحمة)، هي من أعادت شريط"جارهيد" إلى رأسي. ولا اعتقد هنا بوجود مبالغة في
الوصف، أو في عدد ضحايا طريق الموت (أكثر من 100 ألف)، لأنه جاء على لسان عشرات من شهود العيان العراقيين والاميركان. وربما ان المشهد الأول من رواية"صيد البط البري"، الذي يحبكه محمود سعيد بين عودة بطله"منصف" إلى طريق الموت (فلاشباك)، وبين كوابيس اليقظة التي تباغته وهو يقود سيارة نقل في أحد شوارع شيكاغو، وهو ما حوّل الطريق الأخير إلى طريق موت آخر ممكن نجا البطل منه، هو من أيقظ فيّ الشعور بوجود علاقة للنص بطريقة كتابة سيناريوهات الأفلام.
يستمع منصف بواسطة راديو ترانزسيستور صغير وجده صدفة، وهو في طريق العودة من الكويت إلى بغداد مشياً، عام1991، إلى "توقعات" الفناء المقبل للألوف على هذا الطريق، وكأنه يستمع إلى نشرة توقعات الأحول الجوية. تتوالى الانباء من الراديو الذي أنقذ حياته: قائد جناح جويّ أمريكيّ، يقول بمرح شديد: "سنصيد العراقيّين مثل صيد البطّ".فكّر كثيراً. لماذا البطّ بالذّات؟ ألأن البطّ يطير بطيئاً ويسبح أبطأ فيسهل صيده؟ قال ميجر آخر متباهياً: لن تكون بيننا وبين الجيش العراقي حرب بل مذبحة". وهكذا قرر منصف الابتعاد بضعة كيلومترات عن طرق صفوان والمشي باتجاه مواز لمسار سرب"البط" المتوجه إلى العراق، وهذا ما انقذه من حفلة "شواء البط البري" التي كان الأميركان يعدونها للجنود اليائسين.
إلا ان نجاة منصف من"مصيدة الفئران"، ومن ثم تسليمه نفسه إلى إحد مواقع"تسفير" العراقين الهاربين من الحرب، إلى الولايات المتحدة، لم ينقذه من تداعياتها النفسية اللاحقة التي يطلق عليها الطب"صدمة ما بعد الحروب". لايورد المخضرم محمود سعيد اسم هذه الحالة المرضية أبداً في نص روايته، إلا أنه يستعرض، ومن خلال معايشة بطله، ويوميات حياته (أو لا حياته) في شيكاغو، كافة أعراض المرض. كوابيس بلا نهاية عن الجثث المحروقة، كوابيس يقظه تداهمه بينما يقود السيارة، اكتئاب مزمن، توتر واضطراب في النوم، حالات خوف غير مبررة ، فراغ روحي هائل يثقل روحه وهو يستمع إلى أخبار العراق، شكوك تراوده في كل شيء، وعن كل شيء، اضطراب جنسي...إلخ. ويعمق كل ذلك، رغم العلاج، فقدان البيت والأهل والخلانّ ، فقدان كل الأشياء المحببة، وأهم من كل ذلك فقدان صورة الوطن الجميل.
يكفي خبر يهم الوطن ينطلق من راديو السيارة في شيكاغو عام 2002، مثل صدور القرار 1441،الذي يمنح العراق آخر فرصة للكشف عن أسلحة الدمار الشامل، لاحياء صور الجثث المتفحمة، واشلاء الأطفال المتناثرة، في دماغ منصف. "تطفش" النساء الجميلات من سريره بسبب صراخة المرعب أثناء النوم في الليل، يفقد وظيفته كسائق سيارة نقل بسبب كوابيس اليقظة التي تقوده حوادث الطرق الخطيرة ، يعجز عن الزواج، ويعجز عن التأقلم داخل المجتمع الأميركي. وحين تحضر هيليكوبتر النجدة لمساعدة شيخاً داهمته أزمة قلبية على قارعة الطريق في شيكاغو يظن منصف ان طائرة أباشي تلاحقه فيبحث عن ملاذ في الأزقة من"الموت الذي لامهرب منه إلا بالموت".
"لنلعبِ الكرة، هيّا، نزل مع جنود الفصيل من شاحنة الزّيل العسكرية. انتشروا على الرّمال، من عنده كرة؟ أنا، رمى العريف، كرة سوداء. ما هذه؟ أول مرة أرى كرة سوداء وغير مستوية. هه. ليست كرة. رأس إنسان، آدميّ محروق. ركله العريف بقوّة، ارتفع بضعة أمتار، سقط على بعد عشرين متراً، ركله جنديّ، وصل الرّأس إلى قدم منصف، هتف من دون شعور: توقفوا، هذا رأس أبي. لا تركلوه. انحنى، أخذه بين يديه وهو يبكي. نظر إليه الرّأس، فتح عينيه المتفحّمتين بحزن. يا للخزي. يركلون رأس أبي المتفحّم أمامي. أراد أن يصرخ بهم. لم يستطع. تجمّدت الصّرخات في فمه. أراد أن يفتح عينيه. ماتت قدرته على تنفيذ إرادته. بصعوبة تخلّص من الكابوس. وجد نفسه غارقاً بعرقه ككلّ مرّة".
هكذا يستخدم الكاتب الصدمة في علاج الصدمة، وهي حالة، خطيرة في الطب، لأنها إمّا ان تؤدي إلى إعادة المريض النفسي إلى عقله أو أنها ترسله إلى مستشفى المجانين. لكن محمود يحاول ان يجعل شخصيته الروائية"مستقلة" أمام القاريء، ويمنح الأخير فرصة مطالعتها من كل زاوية، وفي العديد من الأماكن والأزمنة، ويستخدم الصدمة في معالجة القاريء، لا الشخصية الروائية.
إلا ان منصف، رغم كل كوابيسه، يبقى منصفاً مع وطنه واهله واصدقائه، ومع نفسه، فيرفض العمل كمترجم لقاء راتب مغر لدى الجيش الأميركي العامل في العراق، يرفض تعليم اللغة العربية لـ"لجارهيدز"، ويتخلى عن فرصة عمل مناسبة في شركة للكومبيوتر، وهو اختصاصه، ويتجاهل موعد اختبار العمل الأول، مفضلاً عليه المساهمة مع المواطنين الاميركان في تظاهرة هائلة في واشنطن ضد الحرب على العراق.
تبدو شخصية"منصف" حقيقية جداً، كما هي الحال مع الشخصيات العديدة في روايات محمود سعيد. وتنطبق هذه الحقيقة على الشخصيات في الحافلة التي تنقل أنصار السلام إلى التظاهرة، أو في شركة النقل في شيكاغو، أوعلى طريق صفوان، أو بصحبة الجنود الهاربين إلى بغداد. ويربط الكاتب هذه الشخصيات بخيوط حبكته لتشكّل متن الرواية الشيقة التي تتوالى فصولها بين العراق المدمر وبين البلد الذي يتحمل قسطً كبيراً من الدمار الذي لحق بالعراق. وإذا كان المكان يمتد في الرواية بين بغداد وشيكاغو، من خلال "الديسابورا" التي عاشها منصف، فأن زمنها يتحدد بين1991 و2003، أي في الفجوة الزمنية التي ملأها صدام حسين بجثث ضحايا الانتفاضة، والفجوة التي ملأها بوش الأب بحصاره المميت، وحرب"تحرير" العراق التي بدأها بوش الابن.
ومن قرأ روايات محمود سعيد الأخرى سيلاحظ انه أكثر في"صيد البط البري" من الديالوج الداخلي لبطله منصف، وأكثر من الحوارات بين الشخصيات. إلا انها، عن حق، حوارات داخلية (المونولوج) تنسجم تماماً مع أعراض صدمة ما بعد الحروب، كما انها حوارات ذكية وممتعة، وخصوصاً حينما يحاور منصف صديقاته، أو يتجاذب أطراف الحديث مع أم اميركية فقدت زوجها في الحرب على العراق، أو عند مداعبته لطفلة المرأة.
وجرتني هذه الحوارات إلى نتيجة أخرى مفادها، أن محموداً، إذا كان قد استخدم"سيناريو" الأفلام في صياغة المشاهد الأولى من الرواية، فأنه استخدم البناء الدرامي المسرحي الكلاسيكي في صياغة مشاهده الأخيرة. فهناك تسلل وتصاعد واثارة، تنتهي بالذروة التي تحدد مصائر مختلف الشخصيات. هذا ليس جديداً في الكتابة الروائية، لكن يحسب لمحمود ذاك التوظيف الناجح للحوار المسرحي في كشف التناقضات الداخلية والخارجية للشخصيات وعلاقتها ببعضها، كما يوصي الناقد والفيلسوف جورج هنري لويس بذلك(1817-1878). فقد كان"التكلم من البطن على المسرح" الاسلوب المفضل للويس في الكشف عن ايقاع الشخصيات الروائية. وتقول الكاتبة جورج ايليوت(1819-1880) "علمها لويس ان التمثيل المسرحي أرفع صفة في الرواية".
وفضلاً عن الحوارات، يستخدم الكاتب اسلوب المفارقة السوداء، والتبشيع المقصود كي يحفز في القاريء الحقد على الحروب ومشعليها. ونجد عوامل التحليل النفسي، غير المباشر، والسرد الارتجاعي، والمقارنات، مبثوثة بذكاء في بنية الرواية، وينسجها محمود سعيد بأنامل وعيه المرهفة كي يخاطب وعي القاريء، مباشرة مثل الممثل على خشبة المسرح.
ولا بد هنا، ونحن نتحدث عن البناء الدرامي، من الحديث، وان بشكل مقتضب، عن دور"المسز ثاتشر"، في الرواية، لأن المفاجأة التي أعدها لنا الكاتب من خلالها، كانت الذروة الدرامية التي قررت مصير منصف كشخصية"معلقة" على مشجب الغربة، وحسمت حياته بين الكوابيس إلى أمد غير منظور.
كانت تثاتشر مديرة "حديدية"، قديرة وحاسمة، لايطيقها منصف، في شركة النقل قبل ان تكشف عن وجهها"الجميل"، وشخصيتها العاطفية الحقيقية، بعد الحادث الذي كاد يودي بحياة منصف على شوارع شياغو. يرتبطان بصداقة وتفاهم بعد ان يرضى منصف أن يعلّمها العمل على الكومبيوتر، ويعلّمها كتابة اللغة العربية، حسب رغبتها بترك العمل في شركة النقل والتقدم للعمل في الخليج. يتّضح في الأخير ان تثاتشر(التي كان منصف يظنّها مكسيكية)، فلسطينية الأصل واسمها سناء، والتحقت كمترجمة حرة بالجيش الاميركي في العراق.
ويباغتنا محمود سعيد بها، في"ذروة" تطور مأساته، كناشطة أميركية ضد الحرب، خططت مسبقاً، لمرافقة الجيش الاميركي وكشف ممارسات قواته اللاانسانية ضد المدنيين. بل يتضح أنها أحد المسؤولين عن تسريب المعلومات والصور عن خروقات حقوق الإنسان في سجن ابي غريب. يعتقلها الجيش الأميركي بتهمة خطيرة تتعلق بتسريب المعلومات السرية عن الجيش، ويقدر محاميها "اليائس" أن تنال عقوبة سجن طويلة الأمد. وبعد قصة بوليسية صغيرة يسلم مجهول إلى ابنة تثاتشر مظروفاً يحتوى على أقراص كومبيوتر مشحونة بالمعلومات والصور عن خروقات حقوق الإنسان التي ارتكبها"المحررون" في العراق. ويبقى منصف واصدقائه الاميركيين حائرين في كيفية استخدامها لتخليص زميلتهم من السجن. وتنتهي الرواية بلا أمل للسيدة الحديدية تثاتشر، التي ربما سيعلوها الصدأ في السجن، لا أمل لمنصف في العودة إلى الوطن، ولا بصيص أمل لأصدقائه من أنصار السلام العاجزين عن ايقاف الحرب.
فقد منصف والديه في ملجأ العامرية، ورزقت أخته بطفلة مقعدةة(ربما بسبب تلوث البيئة) يرى ان من واجبه مساعدتها بين الحين والآخر بشيء من دولارات العم سام التي يكسبها بعرق جبينه، أفلت من الموت مرتين في الحرب، وافلت من الاعدام بتهمة الخيانة العظمى لأنه تخلى عن سلاحه وهرب من المعركة، ونجا من الموت مرتين في حوادث سيارات. وهذه قصة حياة عدد هائل من العراقيين الذين شكلت كوارث الحرب والموت تاريخهم"هكذا هو العراق دائماً، صعود مشرق وظلام محرق".
هي قصة كل العراقيين إذاً، ممن يعانون، أرادوا أم لا، وبعلمهم أم لا، من صدمة ما بعد الحرب. قصة عادية جداً بنظر ملايين العراقين، لكنها حنكة "الساحر" محمود سعيد، وبالتالي قدرته وعمق نظرته الاجتماعية، التي أتاحت له إخراج هذه الحكاية العادية بثوب رواية مشوقة، من قبعته.
صدرت رواية "صيد البط البري" عن دار ضفاف للنشر- الشارقة - بغداد، وتقع في 212 صفحة من القطع المتوسط. طبعة أولى 2013
*
الصفحة الرئيسية
رواية "صيد البط البري" لمحمود سعيد
ماجد الخطيب
قصة شعب بأكمله يعاني"صدمة مابعد الحرب" ـ
المصدر : موقع النور - 23-1-2014
استرجعت، وأنا أقرأ فصول"صيد البط البري"، مشاهد مؤلمة من الفيلم الأميركي المناهض للحرب"جارهيد"( اخراج سام منديز/ تمثيل جيك جايلنهال وجيمي فوكس). وواضح ان الفيلم يعبر عن إحدى التسميات(Jarhead) التي تطلق على الجنود الاميركيين، وتعني بالانجليزية"رأس الجرّة"، تعبيراً عن رأس الـ "GI" الكبير والأقرع والفارغ الرنان.
إذ يستعرض الفيلم، قبل نهايته، مشهداً مصوّراً بدقة وببشاعة لافتة للنظر، عن القصف الأميركي لطريق صفوان، بين العراق والكويت، ابان حرب تحرير الكويت، والذي أفنى حياة عشرات الألوف من الجنود العراقيين الذين ألقوا السلاح، وفضلوا العودة إلى بغداد، بل وإلى الموصل" مشياً على الأقدام، على الموت من أجل حرب عبثية قادها "جارهيد" النظام البعثي السابق. يعرض الفيلم مشاهد الجثث المحترقة والمتفحمة وهي في حالة وقوف أو جلوس، على طول طرق صفوان" طريق الموت"، كما رآها وعاشها الجندي الاميركي السابق، والصحافي والكاتب اللاحق انتوني سوفورد، الذي ألف كتاب"جارهيد". يصور الفيلم بعدها مشهد حرق آبار النفط، ومن ثم زخات النفط التي صبغت فصيل الجنود أميركي بلون أسود يشبه لون جثث العراقيين المتفحمة.
ويبدو ان عين محمود سعيد السينمائية، في وصفه للقصف والجثث المتطايرة، و"التماثيل السوداء"(الجثث المتفحمة)، هي من أعادت شريط"جارهيد" إلى رأسي. ولا اعتقد هنا بوجود مبالغة في
الوصف، أو في عدد ضحايا طريق الموت (أكثر من 100 ألف)، لأنه جاء على لسان عشرات من شهود العيان العراقيين والاميركان. وربما ان المشهد الأول من رواية"صيد البط البري"، الذي يحبكه محمود سعيد بين عودة بطله"منصف" إلى طريق الموت (فلاشباك)، وبين كوابيس اليقظة التي تباغته وهو يقود سيارة نقل في أحد شوارع شيكاغو، وهو ما حوّل الطريق الأخير إلى طريق موت آخر ممكن نجا البطل منه، هو من أيقظ فيّ الشعور بوجود علاقة للنص بطريقة كتابة سيناريوهات الأفلام.
يستمع منصف بواسطة راديو ترانزسيستور صغير وجده صدفة، وهو في طريق العودة من الكويت إلى بغداد مشياً، عام1991، إلى "توقعات" الفناء المقبل للألوف على هذا الطريق، وكأنه يستمع إلى نشرة توقعات الأحول الجوية. تتوالى الانباء من الراديو الذي أنقذ حياته: قائد جناح جويّ أمريكيّ، يقول بمرح شديد: "سنصيد العراقيّين مثل صيد البطّ".فكّر كثيراً. لماذا البطّ بالذّات؟ ألأن البطّ يطير بطيئاً ويسبح أبطأ فيسهل صيده؟ قال ميجر آخر متباهياً: لن تكون بيننا وبين الجيش العراقي حرب بل مذبحة". وهكذا قرر منصف الابتعاد بضعة كيلومترات عن طرق صفوان والمشي باتجاه مواز لمسار سرب"البط" المتوجه إلى العراق، وهذا ما انقذه من حفلة "شواء البط البري" التي كان الأميركان يعدونها للجنود اليائسين.
إلا ان نجاة منصف من"مصيدة الفئران"، ومن ثم تسليمه نفسه إلى إحد مواقع"تسفير" العراقين الهاربين من الحرب، إلى الولايات المتحدة، لم ينقذه من تداعياتها النفسية اللاحقة التي يطلق عليها الطب"صدمة ما بعد الحروب". لايورد المخضرم محمود سعيد اسم هذه الحالة المرضية أبداً في نص روايته، إلا أنه يستعرض، ومن خلال معايشة بطله، ويوميات حياته (أو لا حياته) في شيكاغو، كافة أعراض المرض. كوابيس بلا نهاية عن الجثث المحروقة، كوابيس يقظه تداهمه بينما يقود السيارة، اكتئاب مزمن، توتر واضطراب في النوم، حالات خوف غير مبررة ، فراغ روحي هائل يثقل روحه وهو يستمع إلى أخبار العراق، شكوك تراوده في كل شيء، وعن كل شيء، اضطراب جنسي...إلخ. ويعمق كل ذلك، رغم العلاج، فقدان البيت والأهل والخلانّ ، فقدان كل الأشياء المحببة، وأهم من كل ذلك فقدان صورة الوطن الجميل.
يكفي خبر يهم الوطن ينطلق من راديو السيارة في شيكاغو عام 2002، مثل صدور القرار 1441،الذي يمنح العراق آخر فرصة للكشف عن أسلحة الدمار الشامل، لاحياء صور الجثث المتفحمة، واشلاء الأطفال المتناثرة، في دماغ منصف. "تطفش" النساء الجميلات من سريره بسبب صراخة المرعب أثناء النوم في الليل، يفقد وظيفته كسائق سيارة نقل بسبب كوابيس اليقظة التي تقوده حوادث الطرق الخطيرة ، يعجز عن الزواج، ويعجز عن التأقلم داخل المجتمع الأميركي. وحين تحضر هيليكوبتر النجدة لمساعدة شيخاً داهمته أزمة قلبية على قارعة الطريق في شيكاغو يظن منصف ان طائرة أباشي تلاحقه فيبحث عن ملاذ في الأزقة من"الموت الذي لامهرب منه إلا بالموت".
"لنلعبِ الكرة، هيّا، نزل مع جنود الفصيل من شاحنة الزّيل العسكرية. انتشروا على الرّمال، من عنده كرة؟ أنا، رمى العريف، كرة سوداء. ما هذه؟ أول مرة أرى كرة سوداء وغير مستوية. هه. ليست كرة. رأس إنسان، آدميّ محروق. ركله العريف بقوّة، ارتفع بضعة أمتار، سقط على بعد عشرين متراً، ركله جنديّ، وصل الرّأس إلى قدم منصف، هتف من دون شعور: توقفوا، هذا رأس أبي. لا تركلوه. انحنى، أخذه بين يديه وهو يبكي. نظر إليه الرّأس، فتح عينيه المتفحّمتين بحزن. يا للخزي. يركلون رأس أبي المتفحّم أمامي. أراد أن يصرخ بهم. لم يستطع. تجمّدت الصّرخات في فمه. أراد أن يفتح عينيه. ماتت قدرته على تنفيذ إرادته. بصعوبة تخلّص من الكابوس. وجد نفسه غارقاً بعرقه ككلّ مرّة".
هكذا يستخدم الكاتب الصدمة في علاج الصدمة، وهي حالة، خطيرة في الطب، لأنها إمّا ان تؤدي إلى إعادة المريض النفسي إلى عقله أو أنها ترسله إلى مستشفى المجانين. لكن محمود يحاول ان يجعل شخصيته الروائية"مستقلة" أمام القاريء، ويمنح الأخير فرصة مطالعتها من كل زاوية، وفي العديد من الأماكن والأزمنة، ويستخدم الصدمة في معالجة القاريء، لا الشخصية الروائية.
إلا ان منصف، رغم كل كوابيسه، يبقى منصفاً مع وطنه واهله واصدقائه، ومع نفسه، فيرفض العمل كمترجم لقاء راتب مغر لدى الجيش الأميركي العامل في العراق، يرفض تعليم اللغة العربية لـ"لجارهيدز"، ويتخلى عن فرصة عمل مناسبة في شركة للكومبيوتر، وهو اختصاصه، ويتجاهل موعد اختبار العمل الأول، مفضلاً عليه المساهمة مع المواطنين الاميركان في تظاهرة هائلة في واشنطن ضد الحرب على العراق.
تبدو شخصية"منصف" حقيقية جداً، كما هي الحال مع الشخصيات العديدة في روايات محمود سعيد. وتنطبق هذه الحقيقة على الشخصيات في الحافلة التي تنقل أنصار السلام إلى التظاهرة، أو في شركة النقل في شيكاغو، أوعلى طريق صفوان، أو بصحبة الجنود الهاربين إلى بغداد. ويربط الكاتب هذه الشخصيات بخيوط حبكته لتشكّل متن الرواية الشيقة التي تتوالى فصولها بين العراق المدمر وبين البلد الذي يتحمل قسطً كبيراً من الدمار الذي لحق بالعراق. وإذا كان المكان يمتد في الرواية بين بغداد وشيكاغو، من خلال "الديسابورا" التي عاشها منصف، فأن زمنها يتحدد بين1991 و2003، أي في الفجوة الزمنية التي ملأها صدام حسين بجثث ضحايا الانتفاضة، والفجوة التي ملأها بوش الأب بحصاره المميت، وحرب"تحرير" العراق التي بدأها بوش الابن.
ومن قرأ روايات محمود سعيد الأخرى سيلاحظ انه أكثر في"صيد البط البري" من الديالوج الداخلي لبطله منصف، وأكثر من الحوارات بين الشخصيات. إلا انها، عن حق، حوارات داخلية (المونولوج) تنسجم تماماً مع أعراض صدمة ما بعد الحروب، كما انها حوارات ذكية وممتعة، وخصوصاً حينما يحاور منصف صديقاته، أو يتجاذب أطراف الحديث مع أم اميركية فقدت زوجها في الحرب على العراق، أو عند مداعبته لطفلة المرأة.
وجرتني هذه الحوارات إلى نتيجة أخرى مفادها، أن محموداً، إذا كان قد استخدم"سيناريو" الأفلام في صياغة المشاهد الأولى من الرواية، فأنه استخدم البناء الدرامي المسرحي الكلاسيكي في صياغة مشاهده الأخيرة. فهناك تسلل وتصاعد واثارة، تنتهي بالذروة التي تحدد مصائر مختلف الشخصيات. هذا ليس جديداً في الكتابة الروائية، لكن يحسب لمحمود ذاك التوظيف الناجح للحوار المسرحي في كشف التناقضات الداخلية والخارجية للشخصيات وعلاقتها ببعضها، كما يوصي الناقد والفيلسوف جورج هنري لويس بذلك(1817-1878). فقد كان"التكلم من البطن على المسرح" الاسلوب المفضل للويس في الكشف عن ايقاع الشخصيات الروائية. وتقول الكاتبة جورج ايليوت(1819-1880) "علمها لويس ان التمثيل المسرحي أرفع صفة في الرواية".
وفضلاً عن الحوارات، يستخدم الكاتب اسلوب المفارقة السوداء، والتبشيع المقصود كي يحفز في القاريء الحقد على الحروب ومشعليها. ونجد عوامل التحليل النفسي، غير المباشر، والسرد الارتجاعي، والمقارنات، مبثوثة بذكاء في بنية الرواية، وينسجها محمود سعيد بأنامل وعيه المرهفة كي يخاطب وعي القاريء، مباشرة مثل الممثل على خشبة المسرح.
ولا بد هنا، ونحن نتحدث عن البناء الدرامي، من الحديث، وان بشكل مقتضب، عن دور"المسز ثاتشر"، في الرواية، لأن المفاجأة التي أعدها لنا الكاتب من خلالها، كانت الذروة الدرامية التي قررت مصير منصف كشخصية"معلقة" على مشجب الغربة، وحسمت حياته بين الكوابيس إلى أمد غير منظور.
كانت تثاتشر مديرة "حديدية"، قديرة وحاسمة، لايطيقها منصف، في شركة النقل قبل ان تكشف عن وجهها"الجميل"، وشخصيتها العاطفية الحقيقية، بعد الحادث الذي كاد يودي بحياة منصف على شوارع شياغو. يرتبطان بصداقة وتفاهم بعد ان يرضى منصف أن يعلّمها العمل على الكومبيوتر، ويعلّمها كتابة اللغة العربية، حسب رغبتها بترك العمل في شركة النقل والتقدم للعمل في الخليج. يتّضح في الأخير ان تثاتشر(التي كان منصف يظنّها مكسيكية)، فلسطينية الأصل واسمها سناء، والتحقت كمترجمة حرة بالجيش الاميركي في العراق.
ويباغتنا محمود سعيد بها، في"ذروة" تطور مأساته، كناشطة أميركية ضد الحرب، خططت مسبقاً، لمرافقة الجيش الاميركي وكشف ممارسات قواته اللاانسانية ضد المدنيين. بل يتضح أنها أحد المسؤولين عن تسريب المعلومات والصور عن خروقات حقوق الإنسان في سجن ابي غريب. يعتقلها الجيش الأميركي بتهمة خطيرة تتعلق بتسريب المعلومات السرية عن الجيش، ويقدر محاميها "اليائس" أن تنال عقوبة سجن طويلة الأمد. وبعد قصة بوليسية صغيرة يسلم مجهول إلى ابنة تثاتشر مظروفاً يحتوى على أقراص كومبيوتر مشحونة بالمعلومات والصور عن خروقات حقوق الإنسان التي ارتكبها"المحررون" في العراق. ويبقى منصف واصدقائه الاميركيين حائرين في كيفية استخدامها لتخليص زميلتهم من السجن. وتنتهي الرواية بلا أمل للسيدة الحديدية تثاتشر، التي ربما سيعلوها الصدأ في السجن، لا أمل لمنصف في العودة إلى الوطن، ولا بصيص أمل لأصدقائه من أنصار السلام العاجزين عن ايقاف الحرب.
فقد منصف والديه في ملجأ العامرية، ورزقت أخته بطفلة مقعدةة(ربما بسبب تلوث البيئة) يرى ان من واجبه مساعدتها بين الحين والآخر بشيء من دولارات العم سام التي يكسبها بعرق جبينه، أفلت من الموت مرتين في الحرب، وافلت من الاعدام بتهمة الخيانة العظمى لأنه تخلى عن سلاحه وهرب من المعركة، ونجا من الموت مرتين في حوادث سيارات. وهذه قصة حياة عدد هائل من العراقيين الذين شكلت كوارث الحرب والموت تاريخهم"هكذا هو العراق دائماً، صعود مشرق وظلام محرق".
هي قصة كل العراقيين إذاً، ممن يعانون، أرادوا أم لا، وبعلمهم أم لا، من صدمة ما بعد الحرب. قصة عادية جداً بنظر ملايين العراقين، لكنها حنكة "الساحر" محمود سعيد، وبالتالي قدرته وعمق نظرته الاجتماعية، التي أتاحت له إخراج هذه الحكاية العادية بثوب رواية مشوقة، من قبعته.
صدرت رواية "صيد البط البري" عن دار ضفاف للنشر- الشارقة - بغداد، وتقع في 212 صفحة من القطع المتوسط. طبعة أولى 2013
*
الصفحة الرئيسية