في عهْد الخليفة العبَّاسي المستضيء بالله أَمَر الملِك نورُ الدين محمود زنكي مُؤسِّس الدولة الزنكية ببناء جامع النوري في مركز مَدينة المَوْصل شمال العراق، في الجانب الغربي من دِجلة في محلَّةٍ تُعرَف باسمه بالجامع النوري أو (الجامع الكبير)؛ لسَعتِه وعظمةِ مبانيه، ويُعتبر هذا الجامع ومنارته المعروفة بمنارة الحدْباء مِن أشهر المعالِم الإسلاميَّة الشاخِصة اليوم في هذه المدينة، وقد عُدَّ هذا الجامع في مُقدِّمة الآثار الإسلاميَّة النفيسة؛ إذ حافظ على قِدمه قدرَ المستطاع، وبقيتْ منارتُه المعروفة بالطويلة أو بالحدباء.
بُوشِر بِناء الجامِع سنة 566 هـ، واكتمل عام 568 هـ / 1173 م، وشُيِّدت فيه مدرسةٌ لتلقِّي العلم، وتَمَّ إنجازها في سنة 568 هـ / 1172 م، وبعد الغزو المغولي أُهْمِل هذا الجامع، وظلَّ كذلك إلى أنْ شُمِل بأعمال الترميم والتجديد في بعضِ أقسامه .
مِن أبرز معالِم هذا الجامع منارتُه الشهيرة بالحدباء، يبلغ ارتفاعُها نحو 65 مترًا، وهي مِن المآذن الجميلة المميَّزة بأساليبَ فنيَّة، غنية بالزخارف الآجُريَّة المتنوِّعة. تَتَكَوَّن هذه المِئْذنة من قاعدة مكعَّبة نصف هرميَّة، ارتفاعها (65، 8 م)، وهي تتألَّف من جُزْأين، الأول مبنيٌّ بالحَجر والجصِّ، يبلغ ارتفاعه (8، 80م)، أمَّا الجزء الثاني العُلوي، فهو مشيَّد بالآجُرِّ، واجهتُه مزدانة بتشكيلة زُخرفية رائِعة، ارتفاعه (7م)، يقوم فوق هذه القاعدة بَدنٌ أُسطواني يبلغ ارتفاعُه (19، 20م)، ويتألَّف هذا البدن من سَبْع وحدات نباتية مُزدانة بزخارفَ آجُريَّة فاخِرة، متنوِّعة الأشكال.
للمنارة مدخلانِ يَصِلُ كلٌّ منهما بواسطة دَرَج إلى الأعْلى، وقد تفنَّن المعمارُ في تصميم بناء السُّلَّم، فجعل سُلَّمين في باطِن المنارة، كل منهما منفصلٌ عنِ الآخر، يلتقيانِ عندَ منطقة الحِصن في الأعلى، فالصاعِد إلى الأعْلى لا يرى النازل إلى الأسفل، وهذا النوع مِنَ السلالم موجودٌ في منارة سوق الغزْل في بغداد، التي لا تزال قائمة، وهذا التطوُّر الفريد في مِئذنة الجامِع النوري بالمَوْصل انتقل تأثيرُه إلى المئذنة المظفريَّة في أربيل 630 - 586 هـ / 1232 - 1190 م.
والمنارة المائِلة أو الحدباء رغمَ مرور سَبْعةِ قرون تقريبًا على تَشييدها، لكنَّها ما زالتْ مائلةً وشاخصة للعِيان، دون أن تقَعَ، رغمَ عدمِ وجود الصِّيانة اللازمة لذلك، كالتي تحدُث للكثير مِن الأبراج المائلة في العالَم، وتُعدُّ حسب الإحصاءات الآثاريَّة أطولَ الأبراج المائِلة في العالَم، ولقدْ أكَّد الباحثون الإيطاليُّون الذين وفدوا لمعالجة الشروخ التي ظهرتْ في جسد المنارة منتصفَ سبعينيات القرن المنصرِم: أنَّ منارة الحدباء هي الأطولُ في العالَم بين مثيلاتها، وهي الأجملُ في فنون الرِّيازة والعمران، وأنَّ مسألة تشييدها بهذا الارْتِفاع الشاهق في زمن بنائِها يُعدُّ معجزةً؛ إذ إنَّها ارتفعتْ بطول (65 م) وعرض (17 م)، وهذا الأمر في حدِّ ذاته يُعتبر من الخوارق العمرانيَّة في زمن بعيد جدًّا عن تكنولوجيا الإنشاء والعمران، لم تعرفْ فيه الرافعات العملاقة، ولا الوسائل المساعِدة التي يتعكَّز عليها المعمارُ المعاصِر.
هذه المنارةُ حَمَلتْ خصوصية في البناء، إذا ما أمعنَّا النظر في رِيازتها بدقَّة وجدْنا فيها زخارفَ نباتية متشابِكة، مع زخارفَ هندسيَّة مُتداخِلة تداخُلاً كُليًّا مع بعضها بصورةٍ متناظِرة؛ بحيث تكون الصورةُ مُتمِّمة للزخْرَفة النباتية، وهذا يُدلِّل على مهارةِ فنِّ الزخرفة في ذلك الوقْت.
والسؤال: كيف أنَّ الحدباء باقيةٌ رغم ميلانها ولم تسقطْ؟ السرُّ في ذلك يَرجِع إلى تصميمها المعماري الدقيق، قاعدتها المنشورية التي ترتفع 15.8 م، وصعودًا إلى هيكلها الأسطواني الذي يبلغ قُطرُه 3 أمتار، ويَنتهي بمترين قبل القِمَّة التي أخذتْ شكلاً يُشبِه الخوذةَ، وقد وجَد الفريقُ العلمي أنَّ المئذنة تُعدُّ مِن مصافي أبراج العالَم (الداعمة ذاتيًّا)، والتي تمتاز بالمُرونة العالية، والصلابة في آنٍ واحد، فهي مُصمَّمة على أسس قوانين (الاستاتيك) و(الداينمك)، ونظرية المجاميع، وهي قوانين حديثة، وقد اعتمد المعماريُّ الموصليُّ على إحداث تقعُّرات عميقة داخل جدار المِئذنة، مُستفيدًا من الحواف كهيكل، وبذلك أُتيح للتقنية المعمارية المذكورة التحفُّظ على سرِّ تَحدُّب المنارة وصلابتها، وعدم انهيارها إلى يومِنا هذا، رغمَ مَيْلها.
إلاَّ أنَّ هذا الأمر لا يَمنع مِن مُتابعة شؤون هذا الأثَر المعماري الكبير؛ بقصْد صيانته والحفاظِ عليه مِن العوامل المناخية وَفقَ مبتكرات العمران الحديث المتَّبَع في العالَم، ومِن الضروري كذلك أن تُسجَّل هذه المنارة في المنظَّمات الدولية التي تتولَّى الإشرافَ على نفائس الآثار في العالَم، وتقوم بصيانةٍ دوريَّة لِمَا قد يطرأ عليها من مُتغيرات معمارية، وعلى الرغم مِن مرور 834 عامًا على تشييدها، إلاَّ أنَّها ما زالتْ محافظةً على دقة هندستها الجميلة، بنقوشها البديعة التي تُشكِّل آيةً في الفنِّ المعماريِّ الإسلاميِّ، ومَعْلَمًا بارزًا من معالِمها، إلاَّ أنَّ السنين الطوال أخذتْ منها الكثيرَ؛ لتبدوَ في السنوات الأخيرة مُتعَبة وهي تُعاني مِن الإهمال، وقد نالتِ التصدُّعات والتشقُّقات قدرًا كبيرًا مِن جمالها؛ لذا لا بدَّ مِن ضمِّ هذا المَعْلَمِ الأثريِّ المهمِّ إلى المعالِم الحضاريَّة الأثريَّة في العالَم؛ لكي يأخذَ نصيبَه من الاهتمام والرِّعاية والصِّيانة المطلوبة
*
رابط الموضوع: موقع الالوكة
**
الصفحة الرئيسة - بيت الموصل
بُوشِر بِناء الجامِع سنة 566 هـ، واكتمل عام 568 هـ / 1173 م، وشُيِّدت فيه مدرسةٌ لتلقِّي العلم، وتَمَّ إنجازها في سنة 568 هـ / 1172 م، وبعد الغزو المغولي أُهْمِل هذا الجامع، وظلَّ كذلك إلى أنْ شُمِل بأعمال الترميم والتجديد في بعضِ أقسامه .
مِن أبرز معالِم هذا الجامع منارتُه الشهيرة بالحدباء، يبلغ ارتفاعُها نحو 65 مترًا، وهي مِن المآذن الجميلة المميَّزة بأساليبَ فنيَّة، غنية بالزخارف الآجُريَّة المتنوِّعة. تَتَكَوَّن هذه المِئْذنة من قاعدة مكعَّبة نصف هرميَّة، ارتفاعها (65، 8 م)، وهي تتألَّف من جُزْأين، الأول مبنيٌّ بالحَجر والجصِّ، يبلغ ارتفاعه (8، 80م)، أمَّا الجزء الثاني العُلوي، فهو مشيَّد بالآجُرِّ، واجهتُه مزدانة بتشكيلة زُخرفية رائِعة، ارتفاعه (7م)، يقوم فوق هذه القاعدة بَدنٌ أُسطواني يبلغ ارتفاعُه (19، 20م)، ويتألَّف هذا البدن من سَبْع وحدات نباتية مُزدانة بزخارفَ آجُريَّة فاخِرة، متنوِّعة الأشكال.
للمنارة مدخلانِ يَصِلُ كلٌّ منهما بواسطة دَرَج إلى الأعْلى، وقد تفنَّن المعمارُ في تصميم بناء السُّلَّم، فجعل سُلَّمين في باطِن المنارة، كل منهما منفصلٌ عنِ الآخر، يلتقيانِ عندَ منطقة الحِصن في الأعلى، فالصاعِد إلى الأعْلى لا يرى النازل إلى الأسفل، وهذا النوع مِنَ السلالم موجودٌ في منارة سوق الغزْل في بغداد، التي لا تزال قائمة، وهذا التطوُّر الفريد في مِئذنة الجامِع النوري بالمَوْصل انتقل تأثيرُه إلى المئذنة المظفريَّة في أربيل 630 - 586 هـ / 1232 - 1190 م.
والمنارة المائِلة أو الحدباء رغمَ مرور سَبْعةِ قرون تقريبًا على تَشييدها، لكنَّها ما زالتْ مائلةً وشاخصة للعِيان، دون أن تقَعَ، رغمَ عدمِ وجود الصِّيانة اللازمة لذلك، كالتي تحدُث للكثير مِن الأبراج المائلة في العالَم، وتُعدُّ حسب الإحصاءات الآثاريَّة أطولَ الأبراج المائِلة في العالَم، ولقدْ أكَّد الباحثون الإيطاليُّون الذين وفدوا لمعالجة الشروخ التي ظهرتْ في جسد المنارة منتصفَ سبعينيات القرن المنصرِم: أنَّ منارة الحدباء هي الأطولُ في العالَم بين مثيلاتها، وهي الأجملُ في فنون الرِّيازة والعمران، وأنَّ مسألة تشييدها بهذا الارْتِفاع الشاهق في زمن بنائِها يُعدُّ معجزةً؛ إذ إنَّها ارتفعتْ بطول (65 م) وعرض (17 م)، وهذا الأمر في حدِّ ذاته يُعتبر من الخوارق العمرانيَّة في زمن بعيد جدًّا عن تكنولوجيا الإنشاء والعمران، لم تعرفْ فيه الرافعات العملاقة، ولا الوسائل المساعِدة التي يتعكَّز عليها المعمارُ المعاصِر.
هذه المنارةُ حَمَلتْ خصوصية في البناء، إذا ما أمعنَّا النظر في رِيازتها بدقَّة وجدْنا فيها زخارفَ نباتية متشابِكة، مع زخارفَ هندسيَّة مُتداخِلة تداخُلاً كُليًّا مع بعضها بصورةٍ متناظِرة؛ بحيث تكون الصورةُ مُتمِّمة للزخْرَفة النباتية، وهذا يُدلِّل على مهارةِ فنِّ الزخرفة في ذلك الوقْت.
والسؤال: كيف أنَّ الحدباء باقيةٌ رغم ميلانها ولم تسقطْ؟ السرُّ في ذلك يَرجِع إلى تصميمها المعماري الدقيق، قاعدتها المنشورية التي ترتفع 15.8 م، وصعودًا إلى هيكلها الأسطواني الذي يبلغ قُطرُه 3 أمتار، ويَنتهي بمترين قبل القِمَّة التي أخذتْ شكلاً يُشبِه الخوذةَ، وقد وجَد الفريقُ العلمي أنَّ المئذنة تُعدُّ مِن مصافي أبراج العالَم (الداعمة ذاتيًّا)، والتي تمتاز بالمُرونة العالية، والصلابة في آنٍ واحد، فهي مُصمَّمة على أسس قوانين (الاستاتيك) و(الداينمك)، ونظرية المجاميع، وهي قوانين حديثة، وقد اعتمد المعماريُّ الموصليُّ على إحداث تقعُّرات عميقة داخل جدار المِئذنة، مُستفيدًا من الحواف كهيكل، وبذلك أُتيح للتقنية المعمارية المذكورة التحفُّظ على سرِّ تَحدُّب المنارة وصلابتها، وعدم انهيارها إلى يومِنا هذا، رغمَ مَيْلها.
إلاَّ أنَّ هذا الأمر لا يَمنع مِن مُتابعة شؤون هذا الأثَر المعماري الكبير؛ بقصْد صيانته والحفاظِ عليه مِن العوامل المناخية وَفقَ مبتكرات العمران الحديث المتَّبَع في العالَم، ومِن الضروري كذلك أن تُسجَّل هذه المنارة في المنظَّمات الدولية التي تتولَّى الإشرافَ على نفائس الآثار في العالَم، وتقوم بصيانةٍ دوريَّة لِمَا قد يطرأ عليها من مُتغيرات معمارية، وعلى الرغم مِن مرور 834 عامًا على تشييدها، إلاَّ أنَّها ما زالتْ محافظةً على دقة هندستها الجميلة، بنقوشها البديعة التي تُشكِّل آيةً في الفنِّ المعماريِّ الإسلاميِّ، ومَعْلَمًا بارزًا من معالِمها، إلاَّ أنَّ السنين الطوال أخذتْ منها الكثيرَ؛ لتبدوَ في السنوات الأخيرة مُتعَبة وهي تُعاني مِن الإهمال، وقد نالتِ التصدُّعات والتشقُّقات قدرًا كبيرًا مِن جمالها؛ لذا لا بدَّ مِن ضمِّ هذا المَعْلَمِ الأثريِّ المهمِّ إلى المعالِم الحضاريَّة الأثريَّة في العالَم؛ لكي يأخذَ نصيبَه من الاهتمام والرِّعاية والصِّيانة المطلوبة
*
رابط الموضوع: موقع الالوكة
**
الصفحة الرئيسة - بيت الموصل