في خمسينات القرن الماضي
غانـم محمـد الحَيّـو
باحث في تاريخ الموصل وتراثها
تأسست مدرسة الصابونجي للبنين في الموصل سنة 1952م بناها المحسن الكبير المرحوم مصطفى الصابونجي رجل البر والإحسان (1888-1954) على نفقته الخاصة، وكانت تتألف من طابقين ذات ستة صفوف شيدت على قسم من الأرض الكبيرة التي كانت مقابر في منطقة الجمهورية، على الشارع العام، مقابل جانب مبنى محافظة نينوى. هذه الذكريات تروي صوراً عن مدرسة الصابونجي ، وهي أنموذجاً لما كانت عليه مدارس الموصل في منتصف القرن الماضي.
تتكون المدرسة من طابقين تتوزع الصفوف حول جانبين من فناء ( حوش ) المدرسة يقع الباب الرئيسي في الجهة اليسرى من بنايتها وهو كبير من سفاقتين يفتحان للداخل ، وفي يسار الداخل (5 أو 6) حنفيات لشـرب الماء وعلى اليمين قنفة (قنبة) يجلس عليها (العم حميد) فراش المدرسة الذي استمر في عمله هذا سنوات عديدة وكان يساعده فراش آخر يستبدل بآخر بين حين وآخر.
وعلى يمين الداخل إلى الفناء كان الصف الأول ثم الصف الثاني , وفي الجانب الثاني الصف الثالثوالرابع .
كان صدر المدرسة المجاور لسينما الخيام الصيفي آنذاك (سميت الجمهورية بعد سنة 1958) خال من البنيان فيه شبكة واحدة لكرة السـلة ، وأرضية فناء المدرسة مبلطة بالأسمنت ، أما الجانب الرابع فيه خمس مرافق صحية إحداها خاص للمعلمين، وفسحة أمام الدرج للطابق الثاني.
في الطابق الثاني كان فوق الصف الأول غرفة المدير، وفوق الصف الثاني غرفة المعلمين ، وفوق الصف الثالث والرابع الصف الخامس والسادس .
وأمام الغرف والصفوف طارمة مسقفة بحدود متر ونصف محاطة بمحجل من الخشب والحديد ((BRC يشابه محجل الجسر القديم .
إدارة المدرسـة
بعد إنشاء المدرسـة أول من تسلم إدارتها مدير المدرسة الهاشمية آنذاك المربي الكبير المرحوم رشـاد عبيـد البنا ، نقل إليها بعض المعلمين الأكفاء من عدة مدارس ، وتلاميذ المدرسة تم نقلهم من مدارس المناطق القريبة منها من محلة الشيخ محمد الاباريقي ومحلة النبي شـيت عليه السلام وباب الجديد وشارع السعدون (شارع حلب) محلة الشيخ عمر من هذه المحلات الشعبية .
كان يتوسط غرفة المدير مكتبه (منضدة) من الخشب الصاج الجيد، وعلى يساره مكتبة صغيرة فيه بعض الملفات والسجلات، وعدة كؤوس وميداليات رياضية. وعلى كل جانب قنفة من الخشب الصاج .
امتاز مديرها المرحوم رشـاد عبيد البنا بشخصيته القوية ، وعرف بدماثة خلقه وسيرته الحسنة وصرامته وحسن إدارته للمدرسة ، كان يتابع كل صغيرة وكبيرة ويحل جميع المشاكل بحكمة وعقل وروية ، ورغم أنه يحمل في بعض الأحيان القليلة عصا لكني لم أعلم أنه ضرب بها أحد من الطلبة .وظل مديراً لها إلى سنة 1959 حيث اعتقل وأحيل على التقاعد على أثر ثورة الموصل القومية لمواقفه القومية والوطنية.
وزعت على جدران فنـاء المدرسة بعض وسائل الإيضاح ، وخريطة للعراق وبعض الحكم على ما أذكر مثل : اطلب العلم من المهد إلى اللحد ، من غشنا ليس منا ، من جد وجد ومن زرع حصد ، إرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ، وغيرها ، وعبارة البصاق ممنوع بأمر الصحة ، وسبورة صغيرة خضراء للجداول وبعض الأوامر والتعليمات، وفي كل زاوية سـلة مهملات عبارة عن (تنكة كاز) أودهن مصبوغة بالأحمر كتب عليها للأوساخ . كانت المدرسة نظيفة حتى المرافق الصحية، وعندما يريد طالب بري قلمه الرصاص عليه الوقوف قرب سلة المهملات وبري قلمة هناك.
في كل صفّ كبقيـة المدارس تتصدر فوق السبورة صورة الملك فيصل الثاني ملك العراق في حينه . وفي الجدران حكم ومواعظ وخرائط
كبقية المدارس كان المدير يهتم بالناحية الصحية للتلاميذ يومياً يرسل بكتاب رسمي التلاميذ المرضى إلى مستوصف صحة الطلاب للمعالجة.
عند انصراف الطلاب في نهاية الدوام وبإشراف المدير أو المعلم المراقب لذلك اليوم يقف أحد كبار السن من الطلبة ويرفع لوحة خشبية مكتوب عليها مدرسة الصابونجي للبنين وإيقاف سير السيارات والمركبات لحين عبور كافة الطلبة ممن يستوجب عبورهم للجهة المقابلة .
الهيئـة التعليميـة
تميزت هذه المدرسة بأساليبها التربوية والتعليمية الناجحة وبمهارة وإخلاص هيئتها التعليمية وجديتهم في عملهم ، وأذكر من المعلمين المتميزين : سالم سعيد الصميدعي معلم اللغة العربية وأحياناٌ الدينية ، وإسماعيل بهاء العبيدي معلم درس الدين والوطنية (مؤلف رسالة في علم التجويد), والشاب محمد جاسم معلم الحساب (الرياضيات) ، وغانم محمد الملاح معلم الجغرافيا والتاريخ , وغانم رزوقي معلم الانكليزية , وخليل سرسم معلم الصف الأول , وسعيد معلم الأشياء والصحة .
في غرفة المعلمين مكتبة خشبية ومخصص لكل معلم منضدة كبيرة من الخشب الصاج وكرسي جيدة ، وعند كل معلم فرشة ملابس لتنظيف ما يعلق من غبار الطباشير، فقد كان المعلم في الموصل يمتاز بالأناقة الكاملة والهندام في ملبسه المتناسق النظيف والمكوي وصبغ الحذاء ، فهو القدوة لطلابه وغيرهم .
كانوا لا يألون جهداً في شرح الدروس بإسهاب ووضوح ، مسـتعين بوسائل الإيضاح الجيدة والتي تقرب إلى فهم الموضوع ، كالأذان وإقامة الصلاة على بعض الحصران في فناء المدرسة في بعض دروس الدين بإشراف المربي إسماعيل بهاء الدين العبيدي ، والخرائط في الجغرافيا والتاريخ والأواني المستطرقة بإضافة نقاط من الحبر للماء ليكون أكثر وضوحاُ في درس العلوم والكوب والمعلقة والصحن في الانكليزية وتكليف الطلاب بفتح الباب والشباك مع الحديث عما يقوم به بالانكليزية.
كان المربي سالم الصميدعي في بعض دروس الإنشاء يحث التلاميذ على قراءة كتاب من خارج المنهج وتلخيصه أو فصل منه ،أو أي موضوع حسن ، ويطلب من الطالب أن يقرأ على الطلبة قراءة موضوع الإنشاء الجيد الذي كتبه على سبيل التشجيع . ويحث الطلبة على حفظ شعر فحول الشعراء والمعلقات وغيرها ، وكثيرا ما كان يقسم الصف قسمين وتبدأ المطاردة الشعرية ، التي كانت محفزة على حفظ الشعر العربي وتوسع مدارك الطلبة الأدبية والثقافية .
المحبة بين الطلاب وأساتذتهم
من التلاحم والمحبة والاندماج الروحي بين الطلبة وأساتذتهم أذكر حالة على سبيل المثال حينما صدر أمر نقل المربي إسماعيل بهاء الدين إلى مدرسة الفلاح، وعندما كان يودع إخوته المدير والمعلمين وقف الطلاب في فناء المدرسة في وجوم وحسرة على نقل معلمهم المحبوب لديهم، وعندما نزل من الطابق الأول لوح له الطلبة بالتحية والوداع وهم في حزن شديد .
سـمو تربوي
من السمو التربوي الحقيقي في هذه المدرسة آنذاك كان معلم اللغة العربية المرحوم سالم سعيد الصميدعي ، في كثير من الامتحانات الشهرية، يكتب أسئلة الامتحان على السبورة، ويسأل هل من إستفسار ؟ثم يخرج من الصف ويغلق الباب خلفه ويجلس في غرفة المعلمين ، يرجع للصف قبل نهاية الدرس بدقائق ليجمع أوراق الامتحان، نعم هكذا كان وأنا على يقين انه لم تسول لأي طالب نفسه أو يجرؤ أو يحاول الغش حتى وإن كان لا يعرف الإجابة والدليل على ذلك الدرجات الواطئة لبعض الطلبة . نعم امتحان بلا مراقب في مدرسة ابتدائية في الموصل في منتصف القرن الماضي وبلا غش. لذلك تميز عدد كبير من طلاب المدرسة في حياتهم , ومنهم من أصبحوا أساتذة في الجامعات والمدارس , وأطباء ومهندسين وكبار الضبط في الجيش والشرطة وفي القضاء والمصارف والبنوك والدوائر الرسمية والتجار والصناع والأعمال الحرة وغيرها.
الاصطفاف الصباحي
كبقية المدارس عندما يقرع جرس الدرس أو ( الصافرة كما كان في هذه المدرسة) للتجمع الصباحي وبدء الدوام يقف الطلاب حسب الصفوف ليتم تفتيشهم من قبل مرشد الصف عن نظافة الطلاب وتقليم أظافرهم وشعرهم.
وقراءة الأناشيد الوطنية والقومية الحماسية، وتبليغ التلاميذ ببعض التعليمات والتوجيهات إن وجدت.
فعالية رفع العلم العراقي
في أيام الخميس كباقي المدارس يرفع العلم العراقي وسط الساحة من قبل الطلاب المتميزين ، ويلقي عدد من الطلاب القصائد والخطب الوطنية.
وخلال العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، كانت خطب المدير رشاد عبيد مما ألهبت مشاعر الطلبة من الهتافات الحماسية مما بذر روح الوطنية والشعور القومي في نفوس الطلبة.
دوام المدرسـة
كان الدوام فيها دوامين صباحي من الساعة الثامنة حتى الثانية عشر وعشر دقائق بأربع دروس ، والدوام المسائي درسين بعد الظهر من الساعة الثانية وحتى الرابعة إلاّ ثلثاً ، كأكثر مدارس الموصل آنذاك ، والطلبة يذهبون إلى دورهم لتناول طعام الغداء الخفيف والعودة للمدرسة لإكمال الدروس التي منها الرياضة والنشيد والرسم وغيرها بلا غياب ، عدا يومي الاثنين والخميس بلا دوام مسائي . يستفاد منهما في بعض النشاطات غير الصفية .
الدروس الإضافية
عند اقتراب الامتحانات النهائية خاصة طلاب الصف الخامس والسادس ، يقوم بعض المعلمين بتدريس دروس إضافية بعد الدوام الصباحي يومي الاثنين والخميس ولعدة أيام بمراجعة عامة للمنهج تطوعاً، وكانت المدرسة تحقق نتائج جيدة في الامتحانات العامة ( الوزاري ).
متابعة حالة التلاميذ العلمية
كان مدير المدرسة يتفقد حالة التلاميذ ويدخل لمشاهدة طريقة التدريس ويمتحن بعض الطلبة ليكون على بينة من حالة التدريس، وكان يمنع خروج الطلبة الراسبين في الامتحانات الشهرية من الفرصة بين الدوامين الصباحي والمسائي كعقوبة ، ولا يسلم (الكارت) الشهري للطالب الراسب في الامتحانات الشهرية إلا بحضور ولي أمر الطالب ، وحث أولياء الأمور على متابعة أولادهم .
التلاحم بين الطلبة
أذكر أن احد الطلبة غرق رحمه الله في نهر دجلة عندما كان يمارس السباحة في يوم الجمعة ، وفي الاصطفاف الصباحي ليوم السبت حضر الاصطفاف المدير وكافة المعلمين وتبدو على وجوههم علامات الحزن والأسى وأمر المدير بالوقوف أو قراءة الفاتحة على روح الطالب الغريق وألقى كلمة مؤثرة لنعي الطالب ، أعقبه المربي سالم سعيد الصميدعي بخطبة مرتجلة في تعديد محاسن الفقيد موشحه بالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة والأدعية المأثورة حسب المقام ، وسادة الموقف تأثير بالغ وحزن شديد وأجهش كثير من الطلبة بالبكاء.
وأمر المدير بالانصراف إلى الصفوف وعدم قراءة الأناشيد اليومية ذلك اليوم .
وقامت الهيئة التعليمية بحضور مجلس العزاء، وحضره عدد من الطلاب خاصة من صفه وهم يجهشون بالبكاء حزناً على الفقيد.
في الامتحانات النهائية
كان الامتحان التحريري يجري في فناء المدرسة وصفين في الطابق الأرضي ، يخصص لكل طالب رحلة مسجل عليها اسمه ، ويغطى فناء المدرسة بجادر من القماش الخام ، وتهيئة الماء البارد في عدة أواني (سطول ) ماء وطاسات نظيفة يدور بها الفراشين على الطلبة ، ولم يحدث أن تلبس أي طالب بحالة الغش في الامتحانات .
الفعاليـات اللاصفيـة
في يوم الاثنين بعد الظهر تقام تدريبات الألعاب السويدية والفعاليات الكشفية لفرقة كشافة المدرسة بالبنطلون الخاكي القصير والسدارة والوشاح المثلث الخاص بالمدرسة وهو الأصفر والأزرق والقيطان الذهبي والصافرة والحبل. وكوب الماء المعدني ذو العروة .
وكانت فرقة المدرسة تشارك في الفعاليات الكشفية والألعاب السويدية في ملعب الإدارة المحلية والمخيمات الكشفية. وفي الاستعراضات العامة .
وللمدرسة فرق رياضية لكرة القدم والسلة والطائرة والساحة والميدان يشرف عليها معلم الرياضة والانكليزية غانم رزوقي ، حققت بعض النتائج الجيدة ، وحصلت على عدة كؤوس وميداليات كانت في غرفة المدير .
في يوم 21 آذار يوم عيد الشجرة من كل سنة كغيرها من مدارس الموصل تخصص الإدارة ( باص ) لنقل الطلاب من الصف الخامس والسادس إلى الساحل الأيسر للمساهمة في زراعة الشجيرات التي أصبحت الآن غابات الموصل المشهورة .
كانت في المدرسة هيئة الخطابة والتمثيل بإشراف معلم اللغة العربية سالم سعيد الصميدعي تلقى الخطب يوم الخميس عند فعالية رفع العلم وبعض الأيام في الإصطفاف الصباحي . وقرب انتهاء السنة الدراسية يؤدي بعض الطلبة تمثيلية توجيهية وتاريخية ذات مغزى تحث على التمسك بالأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة ، بإشراف الأستاذ الصميدعي .
مكتبـة المدرسـة
في المدرسة مكتبة في جانب الصف الرابع قرب السبورة ، خزانة تحوي الكثير من الكتب الخاصة بالمدرسة مما يتبرع به بعض الطلبة وغيرهم من الكتب ، معلق فيها أسماء وأرقام الكتب، يسـتعيرها الطلبة ليوم أو يومين خاصة يوم الخميس بدون مقابل ، وكان المشرف على المكتبة المربي الكبير سالم سعيد الصميدعي ، ويختار من الطلبة كأمين للمكتبة شهرياً الطالب الذي ينال أعلى الدرجات في الامتحان الشهري ، وكان معلق أسماء وأرقام الكتب قرب باب الصف . وكان الأستاذ يحث على القراءة وكتابة ملخص لموضوع منها خاصة كتب المنفلوطي الذي كان يحث على قراءتها .
في المدرسة كباقي المدارس حانوت لبيع المأكولات الخفيفة كالبقصم والكيك والمرطبات من النامليت والكوكا والتفاح والنوم والبرتقال وبعض اللوازم المدرسية التي يحتاجها الطالب من القرطاسية من دفاتر وأقلام ومساحات ومقطاطات وبأسعار معتدلة.
تجربة الحانوت في مدرسة الصابونجي الابتدائية في منتصف القرن الماضي ، تجربة حقيقية ، كان يشرف على الحانوت المربي سالم سعيد الصميدعي ، فقد وضع عدة مناضد في جهات فناء المدرسة وعليها مواد الحانوت مع كل مادة وضع سعرها وصندوق صغير لوضع النقود ، فعلى الطالب الذي يريد الشراء أن يأخذ ما يريد ويضع النقود في الصندوق فهو يحاسب نفسه بنفسه ، واستمر العمل على ذلك لمدة سنة دراسية كاملة ، ونتيجة الحساب النهائي لم ينقص أي مبلغ خلال عمل سنة دراسية كاملة ، هذه ممارسة حقيقة وفعلية كانت في هذه المدرسة في منتصف القرن الماضي وليست طموح أو تمنيات .
التغذيـة المدرسـية
كانت تقدم التغذية المدرسية في مدارس العراق من الحليب والصمّون مع حبة كروية صغيرة صفراء اللون من زيت السمك لفائدتها الصحية لهم. وكان المدير يشرف يومياً بنفسه على ذلك ويحث الطلبة على شرب الحليب وخاصة الحبة التي يحاول بعض الطلبة عدم تناولها
كانت تقوم المدرسة بسفرة مدرسية في ربيع كل سنة إلى منطقة الجيلة , (حي المثنى الآن) ، واستئجار باص خشبي لنقل الطلاب ، وتنصب خيمة للهيئة التعليمية ، وكان الأساتذة يلاطفون الطلبة ، ويشكل فريقين لكرة القدم احدهم بقيادة معلم الحساب محمد جاسم ، والفريق الآخر بقيادة معلم الانكليزية والرياضة غانم رزوقي ، ويسود في اللعب الفرح والبهجة والسرور بين اللاعبين والطلبة المتفرجين . ينتشر الطلبة على شكل حلقات لتناول الطعام من الدولمة واللحم والمعلاق المشوي والبيض المسلوق الملون والطرشي والمقبلات والطاوة وعمل الشاي وغيرها ، من عملها وتسخينها على الحطب في بهجة ووئام ، وما أن يمر أحد المعلمين من قرب حلقة منها إلا ويلح علية الطلاب بمشاركتهم الطعام مما يجاملهم بتناول لقمة أو لقيمات من هذه الحارة وتلك في فرح ونشوة تحف بهم وتغشاهم الرحمة والمودة بشكل لا متناهي .
حاولت إدارة المدرسة عمل زي موحد للمدرسة بأن كلفت بعض الخياطين بأخذ مقاسات للطلبة من بنطرون رصاصي وقميص مشجر لقاء مبلغ مناسب ، ولم تدم هذه التجربة سوى سنة واحدة .
حلاقـة شـعر رأس الطلاب
كانت إدارة المدرسة تصر على حلق شـعر رأس كافة الطلاب نمرة صفر، وهذه صفة مميزة والعلامة الفارقة لطلاب مدرسة الصابونجي ، ولا يستثني من ذلك احد من الطلبة حتى أولاد المعلمين ، سوى طالبين فقط بعد أن قدما تقريراً طبياً في وجود مرض جلدي في الرأس يمنع من حلقه بالكامل .
كسـوة الشـتاء
قبل بدء الشتاء يقوم المدير رشاد عبيد البنا والمعلم سالم سعيد الصميدعي وبعض المعلمين بجمع مبالغ نقدية من بعض أغنياء الموصل ومعارفهم من أصحاب البر والإحسان ومن بعض الطلبة (حيث لا يوجد عدد كبير من الأغنياء من طلبة المدرسة ) في كل سنة دراسية لشراء ملابس وأحذية ( كسوة كاملة ) للطلاب الفقراء وتوزع عليهم بإشراف اللجنة وبالخفاء بعد انصراف الطلاب . وكانت تسمى كسوة الشتاء، قبل أن تقوم الحكومة بعد سنة 1958 بمعونة الشتاء التي استمرت لفترة قصيرة.
في الاحتفـالات الوطنيـة
كانت المدارس تظهر معالم الزينة في المناسبات الوطنية كذكرى تتويج الملك فيصل الثاني ، واعتادت المدرسة على استخدام سلال حديدية كبيرة على شكل سفائف حديدية نصف كروية (عرموطية الشكل) بقطر حوالي (70) سم , يقوم الطلاب بعد نهاية الدوام وبإشراف وتوجيه المدير وبعض المعلمين بتغليف هذه السـفائف بالورق الملون بالألوان الزاهية (ورق أعمال شفاف) ، وتعلق في واجهة المدرسة في داخل كل منها ( كلوب كهربائي ملون ) بحدود عشرة قناديل مع زنجيل السلطان من الورق الملون، والأعلام العراقية ، وكانت بديعة جداً خاصة في الليل ، وكانت من المدارس المتميزة في هذا المجال .
وفي الختام هكذا كانت مدارس الموصل تجمع بين التربية والتعليم ، وخرجت هذا الكم الهائل من العلماء والفضلاء وأساتذة الجامعات والقادة في كل مجالات الحياة العسكرية والمدنية ، فهل يا ترى يمكن إعادة هذه العجلة إلى الوراء ؟؟؟ هيهات ثم هيهات. هذا وقد ألغيت هذه المدرسة وألحقت بنايتها إلى مجلس محافظة نينوى وتم نقل ، سجلاتها إلى مدرسة الوطن للبنين .
استكمالاً للبحث نذكر لمحة من مميزات المربي الكبير رشاد عبيد البنا ، والمربي الشهير سالم سعيد الصميدعي حسب معرفتي المتواضعة وليست ترجمة كاملة .
المربي الكبير رشاد عبيد البنا 1909ـ 1971
من مواليد الموصل 1909، يرجع نسبه إلى عشيرة السادة العبادة، كان والده عبيد وعمه أحمد من أشـهر وأفضل البنائين في الموصل، عرف بالوطنية والإخلاص وعلاقاته الاجتماعية المتميزة ومساهماته الثقافية وحضوره الندوات الثقافية والعامة.
عين سنة 1963عضو مجلس بلدية الموصل، سافر سنة 1971 إلى الولايات المتحدة الأمريكية لإجراء عملية جراحية ، توفي على أثرها في 2/12/1971 ، ونقل جثمانه الطاهر إلى الموصل ودفن في مقبرة العائلة ، تغمده الله برحمته .
ولد في الموصل 22/4/1921، خريج دار المعلمين الريفية في بغداد 1938. كان يتميز بالصفات الدينية والأخلاق الحميدة، لا يقبل وقوف الطلبة عند دخوله الصف ويسلم على الطلبة، كان يبلغ جهداً في إيصال المادة إلى الطلاب في إعطاء الأمثلة المتنوعة، وطريقته المؤثرة خاصة في القصائد المؤثرة كقصيدة (الأرملة المرضعة ) للرصافي و(إذا الشعب يوما أراد الحياة ) للشـابي .
كان عضو جمعية الشبان المسلمين، ويحث الطلبة على حضور ندوات الجمعية التي كانت قرب البهو مقابل متصرفية لواء الموصل التي هي الآن بلدية الموصل قبل هدمها لتكون من مقتربات جسر الملك فيصل الثاني والذي سمي جسر الحرية بعد 14تموز1958.والمعروف بالجسر الجديد .
ويحث الطلبة على مراجعة المكتبة العامة التي كانت قرب دار الضيافة الحالي، بأسلوب يرغبهم بذلك. له عدة مؤلفات من كتيبات وكتب في مجال الدين وتعاليمه والتاريخ مثل كتابه المثنى بن حارثة الشـيباني ومحمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، له عدة مقالات ودراسات قيمة في مجلة المعلم الجديد والمجلات الدينية، وكان عضو في جمعية التمدن الإسلامي بدمشق، وكان يوزع مطبوعاتها عن تاريخ الصحابة في المدرسة وغيرها ويحث الطلبة على قراءتها ، وكتابه قواعد الإملاء على صغره من الكتب المتميزة في هذا المجال ، وله في التراث كتيب طرف وآراء . وكل هذه لا يتجاوز سعرها (30 فلساً ).
في أواخر حياته كان رئيس جمعية الشبان المسلمين لحين وفاته رحمه الله .
كما كتب العديد من المسرحيات الهادفة التي مثلت في الموصل مثل : مسرحية الحجاج بن يوسف الثقفي، مثلت سنة 1942، ومسرحية حلم معن بن زائدة مثلت سنة 1957 ، ومسرحية عبد الرحمن البنا ، مثلت سنة 1959 وغيرها .
له مكتبة شخصية تعد من المكتبات الشخصية المتميزة لما تحويه من أمهات الكتب الدينية من التفاسير والحديث والفقه وأمهات كتب التاريخ والعلوم.
قام ببناء جامع بهاء الدين لولده الوحيد بهاء الدين والكائن في منطقة حي النجار ، والذي استشهد في حرب العراق مع إيران سنة 1981. وهو من الجوامع المتميزة في الموصل من الناحية العمرانية ، توفى رحمه الله في 10/8/1991.
ملاحظة : نشر هذا الموضوع في العدد الثامن من مجلة الموصل التراثية