يونس بين ياردلي ومآسي مدينته
بقلم: زوزان صالح اليوسفي
بقلم: زوزان صالح اليوسفي
تتعرش مدينة الموصل بثوبها الأخضر في أجمل بقعة على أرض العراق، ولمدينة الموصل مكانة مقدسة خاصة لدى أبنائها وذلك لوجود العديد من مراقد الأنبياء الصالحين فيها، كمرقد ومقام النبي يونس والنبي شيت والنبي جرجيس والنبي دانيال.
وفي كل عصر مرت خلاله هذه المدينة، وعلى كل صفحات تاريخها العريق هناك قصص لا تنتهي، فقد عانت هذه المدينة الظلم والاضطهاد حيناً والازدهار والرفاه حينا آخر، ولكنها ظلت تحتفظ بجذور تقاليدها وعادتها إلى يومنا هذا.
يونس مُدرس مادة التاريخ من مدينة الموصل، يهتم بتاريخ وأحداث بلاده القديمة والحديثة منها, يسرح مع الأحداث في خلوته أو حين يتصفح كتاباً تاريخياً فيأخذه الخيال نحو الأحداث وكأنه شريط فلم يُعرض أمامه.
يسكن يونس في حي النبي يونس، ويعتبر هذا الحي مقدسا لدى أبناء هذه المدينة، وذلك لوجود مرقد وجامع النبي يونس ( عليه السلام ) فيه، ففي أغلب الأوقات يتوافد إليه أبناء المدينة في مواقيت الصلاة وفي المناسبات الدينية، وعائلة يونس هي إحدى هذه العوائل التي سكنت هذا الحي منذ بدايات الثلاثينيات, حين قرر والد يونس السكن في هذا الحي بعد أن تحققت أمنيته ورزقه الله بولده الوحيد يونس، ولِدَ وترعرع يونس في هذا الحي، وتعود منذ صغره على تأدية أوقات الصلاة في جامع النبي يونس مع والده منذ أن بلغ السادسة من عمره، فواظب على تأدية هذه الفريضة.
في إحدى الصباحات الربيعية مع بداية شهر آذار عام 1959، ضج أصوات المارة والبائعين والعربات منذ الصباح الباكر وبينما كان يونس جالساً في شرفة داره وبين يديه كتاب صدر حديثاً بعد شهور من القضاء على الحكم الملكي.
ولشدة نهم يونس للمطالعة عن تاريخ وطنه ترسخت في ذهنه كل الأحداث التاريخية، وحفظها ظهراً عن قلب منذ حكاية سيدنا يونس (عليه السلام ) وإلى آخر الأحداث التي مر بها العراق في العام الماضي حينما قضي على الحكم الملكي، وأبيدت العائلة المالكة في ظل مسرحية درامية وطريقة وحشية، ولم يكن يونس سعيداً بهذا التغير السياسي، فحسب وجهة نظره إن الحكم الجديد ليس بالأفضل بل له سلبياته أيضا، وأحتفظ يونس بهذا الرأي لشخصه، فهو يعلم جيداً أنه لو أدلى برأيه فالعقاب سيكون عسيرا أمامه، كما هو الحال لكل من يعترض أو يشذ عن أحكام السلطة، فقد كان يونس مؤمناً بأن أنظمة الحكم الدكتاتورية قد شاعت بعد الحرب العالمية في الثانية معظم عالم الدول الثالث.
بينما كان يونس سارحاً دلال وسألته بإستغراب قائلة: يونس ماذا جرى لك؟! هل تسمعني؟! لقد ناديتك عدة مرات ولكنك لم تجيب أقتربت زوجته : خيراً إن شاء الله؟!.
أجاب يونس مرتبكاً قائلا: لا، أبداً فقط كنت سارحاً في موضوع محاضرتي للطلبة اليوم.
سألته دلال قائلة: إفطارك جاهز أين ترغب أن تتناوله؟
أستنشق يونس الهواء بعمق وأجاب قائلاً: هل بإمكانك أن تجلبيه هنا الى الشرفة فالجو ممتع اليوم.
أجابت دلال بسعادة قائلة: أمرك يا ابن عمي سوف أحضرها حالاً.
أخذ يونس يقلب صفحات الكتاب، وخلال دقائق جاءت دلال محملة بصينية الأفطار وسَماور الشاي ووضعتهما على أرضية الشرفة المطلة على حديقة الدار الصغيرة في وسط المنزل المبني بشكل شرقي، كما كانت العديد من البيوت حينها تبنى على نفس الطراز، ثم أحضرت المذياع وفتحته على إذاعة بغداد مما زاد جو الجلسة بهاءاً ومتعة، وبينما كان يونس يتناول إفطاره, أنتبه إلى صوت المذيع قائلا: أعزاءنا المستمعين ، الآن نقدم لكم أغنية من مدينة الموصل الحدباء، ثم بدأت الأغنية مع صوت العود والدفة والناي ليغني المطرب بصوته العذب مردداً أغنيته الخالدة:
كم ياردلي ياردلي سمرة قتلـتينـي
خافي من رب السما وحدي لا تخليني
فتُّ على بابــها عم تنقش الوردي
رأس أبرته من ذهب وبريســمه هندي
مرة أخرى سرحَ يونس بعيداً، واسترجع أجمل ذكرياته خلال تلك الدقائق مع أنغام أغنية ياردلي التي هجر سماعها منذ سنوات، وما إن بدأت الأغنية بذلك اللحن الذي حفظه يونس والأغنية التي رددها عشرات المرات خلال مراحل دراسته الثانوية، حين خفق قلبه لأول مرة لجارته سعاد أبنة تاجر الأقمشة المشهور الذي يسكن في نفس الحي.
كان يونس حينها يخرج في كل صباح إلى مدرسته، فيمر من أمام دار سعاد وفي نفس الوقت كانت تخرج سعاد مع أختها الصغيرة ليذهبا إلى منزل سيدة أرمنية قريبة في حيهم، كانت تقوم بتعليم الفتيات الخياطة وأنواع التطريز والحياكة. كانت سعاد حينها في السادسة عشر من عمرها، أعجب يونس بسعاد من أول نظرة، كانت البراءة تملأ وجهها الممسوح بسمرة شرقية وشعرها الأسود الطويل المرتب على شكل ضفيرة أو ضفيرتين، ولم ينسَ يونس ذلك اليوم الذي أوقعت سعاد علبتها الخاصة بالإبر والخيوط فتناثرت على الأرض، فأسرع يونس ليلتقطها ويضعها في العلبة ثم ناولها لسعاد في ظل نظرات الإعجاب، فأخذتها منه بإرتباك وابتسمت له بخجل، ثم فرت نحو أختها، مرت تلك اللحظة وكأنها دهر أمام يونس.
أستمر يونس عاماً كاملاً يترقب الساعة التي يخرج منها صباحاً ليرى سعاد، إلى أن جاء اليوم الذي أنتقل فيه والد سعاد إلى حي آخر، فشعر يونس بكآبة وحزن عميق، ولقرب موعد أمتحاناته النهائية للتخرج في ذلك العام، ومرض والده المفاجئ، فكان طوال الوقت سارحاً، فظن والده بأن الوقت قد حان ليكمل يونس دينه ويتزوج، ولكي يفرح هو أيضا بولده الوحيد قبل أن يودع الحياة، وبعد تخرجه فاتحه والده بموضوع الزواج بعدما أشتد المرض به وأحس بدنو أجله، فأوصى يونس أن يحقق رغبته بزواجه من أبنة عمه دلال, ولكون يونس أبنا باراً قرر أن يحقق رغبة والده، وخاصة بعدما غادرت عائلة سعاد الحي، وكان على يقين بأنه حتى لو تقدم لسعاد فسوف يرفض والدها للفارق الكبير بين المستوى المادي والمعيشي بين العائلتين فوالد سعاد كان من كبار تجار المدينة، أما والد يونس فليس سوى بائع عطور بسيط. فتقبل يونس الزواج من أبنة عمه طاعةً لرغبة والده، وظلت سعاد مجرد ذكرى عابرة في حياته ومع الأيام أستطاع أن ينسى سعاد، خاصة وأن أبنة عمه دلال كانت مثالا للزوجة المحبة والحنونة، وقد رزقهم الله بأبنة أسمها مريم.
مرة أخرى سألت دلال قائلة: يونس، ما بك يا أبن عمي أراك شارداً مرة أخرى لقد صببت لك الشاي منذ أكثر من خمسة دقائق ولم تشربه، خيراً ...هل تشكو من شيء؟.
أجاب يونس قائلا: لا يا أم مريم أنا قلق فقط هذه الأيام، حيث أشم رائحة الخطر من الأحداث، فقد رأيت حلماً مزعجاً قبل يومين عن مدينتنا وأخشى أن تحدث مصيبة ما!؟
فأجابت سعاد بلهفة قائلة: والله حقك يا أبن عمي، فجارتنا ليلى زوجة الضابط أخبرتني بالأمس بأن زوجها قد حذرها من الخروج هي وأطفالها خلال هذه الأيام، وأنت يا أبن عمي... خيراً إن شاء الله... ماذا رأيت في حلمك؟!
أجاب يونس قائلا: رأيت يا أم مريم، بأن غيوماً سوداء قد ملأت سماء مدينتنا!، وأخذ الناس يخرجون من منازلهم وكانت وجوههم عابسة تنظر إلى السماء برهبة!، ثم أخذت الغيوم تمطر، ولم تكن قطرات ماء المطر بل كانت قطرات دماء تتساقط من الغيوم في كل مكان!!، فهرع الناس للهرب، لا يدرون اين يذهبون ؟!، وعلت أصوات الصراخ والبكاء..!!، فنهضت من حلمي على تلك الأصوات، وحينما أفقت حمدت الله بأن ذلك كان حلماً وليس حقيقة.
أستمعت دلال بقلق ثم دعت قائلة: اللهم أجعله خيراً... حلم غريب حقاً، سوف أشعل اليوم البخور وأشتري الخبز والتمر لأوزعها على الجيران ليبعدنا الله عن شر هذا الحلم، وأنت يا أبن عمي لا تنسَ الدعاء مع كل صلاتك في جامع النبي يونس لعله يشفع لنا عند رب العالمين إن حصل مكروه.
رفع يونس رأسه نحو السماء متضرعاً قائلا: اللهم لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه، ثم نظر إلى ساعته واستأذن مودعاً ليذهب إلى محاضرته.
كانت أجواء البلاد مقلقة سياسياً وخاصة في مدينة الموصل، وكأن هنالك قنبلة موقوتة قد تنفجر في أية لحظة ولشدة أهتمام يونس بالأحداث كان لديه حدس قوي لبعض الأحداث.
مرت الأيام وأزدادت الأجواء المتوترة في البلاد وفي مدينة الموصل بالذات وإذا برائحة الخطر تفوح والغيوم السوداء تتراكم على تلك المدينة... الدماء تملأ الشوارع والأحياء، فثورة الشواف قد أُعلنت، فكان مصيرها الإبادة، وتحقق حلم يونس وعم الرعب والفوضى، وتوقف كل شيء في تلك المدينة الآمنة العامرة ودُوّنت مأساةٌ أخرى في سجل تاريخها, مأساة يصعب على شعبها نسيانها.
ومازال يونس وحتى بعد أن تجاوز الثمانين من عمره لا يتذكر من الماضي سوى أغنية ياردلي، ومآسي مدينته.
الصفحة الرئيسية
وفي كل عصر مرت خلاله هذه المدينة، وعلى كل صفحات تاريخها العريق هناك قصص لا تنتهي، فقد عانت هذه المدينة الظلم والاضطهاد حيناً والازدهار والرفاه حينا آخر، ولكنها ظلت تحتفظ بجذور تقاليدها وعادتها إلى يومنا هذا.
يونس مُدرس مادة التاريخ من مدينة الموصل، يهتم بتاريخ وأحداث بلاده القديمة والحديثة منها, يسرح مع الأحداث في خلوته أو حين يتصفح كتاباً تاريخياً فيأخذه الخيال نحو الأحداث وكأنه شريط فلم يُعرض أمامه.
يسكن يونس في حي النبي يونس، ويعتبر هذا الحي مقدسا لدى أبناء هذه المدينة، وذلك لوجود مرقد وجامع النبي يونس ( عليه السلام ) فيه، ففي أغلب الأوقات يتوافد إليه أبناء المدينة في مواقيت الصلاة وفي المناسبات الدينية، وعائلة يونس هي إحدى هذه العوائل التي سكنت هذا الحي منذ بدايات الثلاثينيات, حين قرر والد يونس السكن في هذا الحي بعد أن تحققت أمنيته ورزقه الله بولده الوحيد يونس، ولِدَ وترعرع يونس في هذا الحي، وتعود منذ صغره على تأدية أوقات الصلاة في جامع النبي يونس مع والده منذ أن بلغ السادسة من عمره، فواظب على تأدية هذه الفريضة.
في إحدى الصباحات الربيعية مع بداية شهر آذار عام 1959، ضج أصوات المارة والبائعين والعربات منذ الصباح الباكر وبينما كان يونس جالساً في شرفة داره وبين يديه كتاب صدر حديثاً بعد شهور من القضاء على الحكم الملكي.
ولشدة نهم يونس للمطالعة عن تاريخ وطنه ترسخت في ذهنه كل الأحداث التاريخية، وحفظها ظهراً عن قلب منذ حكاية سيدنا يونس (عليه السلام ) وإلى آخر الأحداث التي مر بها العراق في العام الماضي حينما قضي على الحكم الملكي، وأبيدت العائلة المالكة في ظل مسرحية درامية وطريقة وحشية، ولم يكن يونس سعيداً بهذا التغير السياسي، فحسب وجهة نظره إن الحكم الجديد ليس بالأفضل بل له سلبياته أيضا، وأحتفظ يونس بهذا الرأي لشخصه، فهو يعلم جيداً أنه لو أدلى برأيه فالعقاب سيكون عسيرا أمامه، كما هو الحال لكل من يعترض أو يشذ عن أحكام السلطة، فقد كان يونس مؤمناً بأن أنظمة الحكم الدكتاتورية قد شاعت بعد الحرب العالمية في الثانية معظم عالم الدول الثالث.
بينما كان يونس سارحاً دلال وسألته بإستغراب قائلة: يونس ماذا جرى لك؟! هل تسمعني؟! لقد ناديتك عدة مرات ولكنك لم تجيب أقتربت زوجته : خيراً إن شاء الله؟!.
أجاب يونس مرتبكاً قائلا: لا، أبداً فقط كنت سارحاً في موضوع محاضرتي للطلبة اليوم.
سألته دلال قائلة: إفطارك جاهز أين ترغب أن تتناوله؟
أستنشق يونس الهواء بعمق وأجاب قائلاً: هل بإمكانك أن تجلبيه هنا الى الشرفة فالجو ممتع اليوم.
أجابت دلال بسعادة قائلة: أمرك يا ابن عمي سوف أحضرها حالاً.
أخذ يونس يقلب صفحات الكتاب، وخلال دقائق جاءت دلال محملة بصينية الأفطار وسَماور الشاي ووضعتهما على أرضية الشرفة المطلة على حديقة الدار الصغيرة في وسط المنزل المبني بشكل شرقي، كما كانت العديد من البيوت حينها تبنى على نفس الطراز، ثم أحضرت المذياع وفتحته على إذاعة بغداد مما زاد جو الجلسة بهاءاً ومتعة، وبينما كان يونس يتناول إفطاره, أنتبه إلى صوت المذيع قائلا: أعزاءنا المستمعين ، الآن نقدم لكم أغنية من مدينة الموصل الحدباء، ثم بدأت الأغنية مع صوت العود والدفة والناي ليغني المطرب بصوته العذب مردداً أغنيته الخالدة:
كم ياردلي ياردلي سمرة قتلـتينـي
خافي من رب السما وحدي لا تخليني
فتُّ على بابــها عم تنقش الوردي
رأس أبرته من ذهب وبريســمه هندي
مرة أخرى سرحَ يونس بعيداً، واسترجع أجمل ذكرياته خلال تلك الدقائق مع أنغام أغنية ياردلي التي هجر سماعها منذ سنوات، وما إن بدأت الأغنية بذلك اللحن الذي حفظه يونس والأغنية التي رددها عشرات المرات خلال مراحل دراسته الثانوية، حين خفق قلبه لأول مرة لجارته سعاد أبنة تاجر الأقمشة المشهور الذي يسكن في نفس الحي.
كان يونس حينها يخرج في كل صباح إلى مدرسته، فيمر من أمام دار سعاد وفي نفس الوقت كانت تخرج سعاد مع أختها الصغيرة ليذهبا إلى منزل سيدة أرمنية قريبة في حيهم، كانت تقوم بتعليم الفتيات الخياطة وأنواع التطريز والحياكة. كانت سعاد حينها في السادسة عشر من عمرها، أعجب يونس بسعاد من أول نظرة، كانت البراءة تملأ وجهها الممسوح بسمرة شرقية وشعرها الأسود الطويل المرتب على شكل ضفيرة أو ضفيرتين، ولم ينسَ يونس ذلك اليوم الذي أوقعت سعاد علبتها الخاصة بالإبر والخيوط فتناثرت على الأرض، فأسرع يونس ليلتقطها ويضعها في العلبة ثم ناولها لسعاد في ظل نظرات الإعجاب، فأخذتها منه بإرتباك وابتسمت له بخجل، ثم فرت نحو أختها، مرت تلك اللحظة وكأنها دهر أمام يونس.
أستمر يونس عاماً كاملاً يترقب الساعة التي يخرج منها صباحاً ليرى سعاد، إلى أن جاء اليوم الذي أنتقل فيه والد سعاد إلى حي آخر، فشعر يونس بكآبة وحزن عميق، ولقرب موعد أمتحاناته النهائية للتخرج في ذلك العام، ومرض والده المفاجئ، فكان طوال الوقت سارحاً، فظن والده بأن الوقت قد حان ليكمل يونس دينه ويتزوج، ولكي يفرح هو أيضا بولده الوحيد قبل أن يودع الحياة، وبعد تخرجه فاتحه والده بموضوع الزواج بعدما أشتد المرض به وأحس بدنو أجله، فأوصى يونس أن يحقق رغبته بزواجه من أبنة عمه دلال, ولكون يونس أبنا باراً قرر أن يحقق رغبة والده، وخاصة بعدما غادرت عائلة سعاد الحي، وكان على يقين بأنه حتى لو تقدم لسعاد فسوف يرفض والدها للفارق الكبير بين المستوى المادي والمعيشي بين العائلتين فوالد سعاد كان من كبار تجار المدينة، أما والد يونس فليس سوى بائع عطور بسيط. فتقبل يونس الزواج من أبنة عمه طاعةً لرغبة والده، وظلت سعاد مجرد ذكرى عابرة في حياته ومع الأيام أستطاع أن ينسى سعاد، خاصة وأن أبنة عمه دلال كانت مثالا للزوجة المحبة والحنونة، وقد رزقهم الله بأبنة أسمها مريم.
مرة أخرى سألت دلال قائلة: يونس، ما بك يا أبن عمي أراك شارداً مرة أخرى لقد صببت لك الشاي منذ أكثر من خمسة دقائق ولم تشربه، خيراً ...هل تشكو من شيء؟.
أجاب يونس قائلا: لا يا أم مريم أنا قلق فقط هذه الأيام، حيث أشم رائحة الخطر من الأحداث، فقد رأيت حلماً مزعجاً قبل يومين عن مدينتنا وأخشى أن تحدث مصيبة ما!؟
فأجابت سعاد بلهفة قائلة: والله حقك يا أبن عمي، فجارتنا ليلى زوجة الضابط أخبرتني بالأمس بأن زوجها قد حذرها من الخروج هي وأطفالها خلال هذه الأيام، وأنت يا أبن عمي... خيراً إن شاء الله... ماذا رأيت في حلمك؟!
أجاب يونس قائلا: رأيت يا أم مريم، بأن غيوماً سوداء قد ملأت سماء مدينتنا!، وأخذ الناس يخرجون من منازلهم وكانت وجوههم عابسة تنظر إلى السماء برهبة!، ثم أخذت الغيوم تمطر، ولم تكن قطرات ماء المطر بل كانت قطرات دماء تتساقط من الغيوم في كل مكان!!، فهرع الناس للهرب، لا يدرون اين يذهبون ؟!، وعلت أصوات الصراخ والبكاء..!!، فنهضت من حلمي على تلك الأصوات، وحينما أفقت حمدت الله بأن ذلك كان حلماً وليس حقيقة.
أستمعت دلال بقلق ثم دعت قائلة: اللهم أجعله خيراً... حلم غريب حقاً، سوف أشعل اليوم البخور وأشتري الخبز والتمر لأوزعها على الجيران ليبعدنا الله عن شر هذا الحلم، وأنت يا أبن عمي لا تنسَ الدعاء مع كل صلاتك في جامع النبي يونس لعله يشفع لنا عند رب العالمين إن حصل مكروه.
رفع يونس رأسه نحو السماء متضرعاً قائلا: اللهم لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه، ثم نظر إلى ساعته واستأذن مودعاً ليذهب إلى محاضرته.
كانت أجواء البلاد مقلقة سياسياً وخاصة في مدينة الموصل، وكأن هنالك قنبلة موقوتة قد تنفجر في أية لحظة ولشدة أهتمام يونس بالأحداث كان لديه حدس قوي لبعض الأحداث.
مرت الأيام وأزدادت الأجواء المتوترة في البلاد وفي مدينة الموصل بالذات وإذا برائحة الخطر تفوح والغيوم السوداء تتراكم على تلك المدينة... الدماء تملأ الشوارع والأحياء، فثورة الشواف قد أُعلنت، فكان مصيرها الإبادة، وتحقق حلم يونس وعم الرعب والفوضى، وتوقف كل شيء في تلك المدينة الآمنة العامرة ودُوّنت مأساةٌ أخرى في سجل تاريخها, مأساة يصعب على شعبها نسيانها.
ومازال يونس وحتى بعد أن تجاوز الثمانين من عمره لا يتذكر من الماضي سوى أغنية ياردلي، ومآسي مدينته.
الصفحة الرئيسية