لنعترف وبألم وعلى رؤوس الأشهاد: العراق انتهى إلى التقسيم! – صالح القلاب – الشرق الأوسط
المصدر : مراقب بيروت
June 19, 2014
لنعترف وبألم وعلى رؤوس الأشهاد: العراق انتهى إلى التقسيم!
ما لم تستجد معجزة، في زمن لا معجزات فيه، فإن ما يدعو إلى الأسى والحزن هو أنَّ تقسيم العراق يبدو أنه بات إنْ ليس مؤكدًا فأكثر من محتملٍ؛ فبلاد الرافدين باتت عمليًّا وواقعيًّا ثلاثة أجزاء، جزءٌ السيطرة فيه للسنة العرب، الغرب والشمال الغربي، وجزءٌ السيطرة فيه ليس منذ الآن وإنما منذ عام 2003، وهو الجزء الجنوبي من العاصمة بغداد وحتى البصرة، للشيعة وميليشياتهم المتعددة التي معظمها تدار من قبل فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، أما الجزء الثالث فهو إقليم كردستان الذي أصبح في حقيقة الأمر منذ بدايات تسعينات القرن الماضي إنْ ليس دولة مستقلة فشبه دولة مستقلة.
إنَّ هذه نهاية توجع القلب لصراع بقي مستمرًّا ومتواصلًا واتخذ أشكالًا متعددة منذ عام 2003 وخاصة في فترتي حكم رئيس الوزراء نوري المالكي الذي ثبت أن لديه نزعة استبدادية، وصدَّامية، لا حدود لها، وأنه على مدى الأعوام الماضية أثبت أنه المذهبي والطائفي الأول في العراق، وأن تمسكه بالسلطة بأي ثمن جعله تابعًا صغيرًا ليس للولي الفقيه علي خامنئي فقط، وإنما أيضًا لجنرال فيلق القدس قاسم سليماني.
ولعل ما عزز خطوة هذا التقسيم الطائفي الخطير في العراق أنه جاء امتدادا للصراع الذي احتدم في سوريا منذ عام 2011 والذي حولته إيران وحوله بشار الأسد وأيضًا المالكي إلى أقذر الصراعات التي عرفها العالم على مدى حقب التاريخ، وهو الصراع الطائفي المستند إلى الغرائز البدائية، والذي كثيرًا ما يستهدف أناسًا أبرياء وأطفالًا ونساءً لا يعرفون عن هذا الأمر شيئا ولا علاقة لهم به.
كان المفترض أن يبقى الصراع في سوريا صراعًا سياسيا بين نظام عائلي مستبد حكم البلد بالحديد والنار وبالمعتقلات والمذابح الجماعية، وشعب لم يعد لديه القدرة على المزيد من الاحتمال، وكان لا بد من أن يتأثر بـ«تسونامي» ما يسمى الربيع العربي وينفض عن نفسه غبار الخنوع ويقدم كل هذه التضحيات التي قدمها لاستعادة كرامته ومسيرته الديمقراطية التي اغتالتها الانقلابات العسكرية، وأولها كما هو معروف انقلاب حسني الزعيم، الذي جرى بتخطيط ورعاية أميركيين، والذي ما لبث أن أنجب انقلابا جديدًا بعد شهور قليلة، هو انقلاب سامي الحناوي الذي من المفترض أنه شهيرٌ ومعروف والذي تبعته انقلابات عسكرية كثيرة متلاحقة آخرها انقلاب حافظ الأسد على «رفاقه» في عام 1970.
لكن إيران ما لبثت أن دخلت على خط هذا الصراع، الذي كان هدفه من جانب نظام بشار الأسد الاحتفاظ بحكم العائلة وضمان استمرار سيطرة الطائفة العلوية، وحولته إلى صراع بين الشيعة والسنة، وإلا فما معنى أن يُصدِّر نوري المالكي، بتوجيه من مرشد الثورة وبتعليمات من جنرال فيلق القدس قاسم سليماني، أكثر من اثني عشر تنظيمًا مذهبيًّا إلى سوريا بحجة حماية مقام السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب وقبر حجر بن عدي؟ وما معنى أن تبادر طهران إلى إرسال فرق من الحرس الثوري قُدِّرت أعدادها بعشرات الألوف للإمعان في ذبح الشعب السوري والسنة على وجه التحديد. ثم ما معنى أيضًا أن تصبح «المستوطنة» الإيرانية في ضاحية بيروت الجنوبية مُصدِّرًا لكل هذه المجموعات من المقاتلين الذين كان وعد حسن نصر الله بأنهم سيحققون النصر على أعدائهم خلال أسابيع قليلة؟!
الآن هناك على الأراضي السورية، بالإضافة إلى ميليشيات «حزب الله» وأكثر من اثني عشر تنظيمًا مذهبيًّا، وحدات مقاتلة من الحرس الثوري الإيراني وهناك مقاتلون طائفيون ومذهبيون جرى استيرادهم من أفغانستان ومن باكستان، وحقيقة أن كل هذا عزز مخاوف سنة العراق العرب الذين عانوا من استبداد طائفي ومذهبي غير مسبوق خلال حكم المالكي وقبل ذلك خلال سنوات ما بعد إسقاط نظام صدام حسين الذي اعتبره «المنتصرون» زورًا وبهتانًا نظام أهل السنة، وهذا في حقيقة الأمر ليس له أي أساس من الصحة؛ فطائفة الرئيس العراقي الأسبق الوحيدة هي حزب البعث، وهي أتباعه وأعوانه من بين كل الطوائف العراقية، ومن بينها بل في مقدمتها الطائفة الشيعية.
وهكذا فإن أساس كل ما يجري الآن والذي أوصل العراق إلى هذا التقسيم الفعلي المرعب هو أنَّ بول بريمر ومعه المجموعات الوافدة التي هبطت على بلاد الرافدين بـ«الباراشوتات» الأميركية قسموا العراقيين إلى منتصرين ومهزومين، وبالطبع فإن «المهزومين»! هم السنة العرب الذين اعتبروا أنهم صدَّام وأن صدام هُمْ، والذين مورس ضدهم وعلى مدى أكثر من عقد اضطهاد لا مثيل له، وتم إقصاؤهم واستباحة حقوقهم السياسية والمدنية.
لقد كانت ذروة المؤامرة على العراق ومستقبله أن بريمر ومن تحلقوا معه حول كعكة الحكم الجديدة، التي تقاسموها على أساس إعطاء الفتات للسنة العرب، أصروا على اقتلاع الدولة العراقية من جذورها والإطاحة بكيانها الذي بني على مدى أكثر من ثمانين عامًا، كما أصروا على حلّ الجيش العراقي وتشريد ضباطه وجنوده من لون معين وإلقائهم إمَّا في الشوارع يعيشون البطالة ويعانون المسغبة هم وأطفالهم، وإمَّا في المعتقلات وتشريدهم في كل بقاع الأرض.
ولهذا وعندما يستمر تهميش هذه الفئة من أبناء الشعب العراقي، والمقصود هم السنة العرب، وتستمر استباحة مناطقها من قبل جيش المالكي، الذي هو جيش ميليشيات حزبية، فهل من المستغرب أن يتحول أبناؤها إلى قنابل متفجرة وأن ينتفضوا على هذا النحو الذي لم يكن مفاجئًا من أجل كرامتهم واستعادة حقوقهم وأن يلجأوا إلى السلاح بعدما لم يستمع لا وكلاء الولي الفقيه ولا الأميركيون إلى شكاواهم وأنينهم وتوجعاتهم وتظلماتهم وجرى الإمعان في إقصائهم وإهانتهم؟!
وهنا فإن الأسوأ من كل هذا هو أن الإيرانيين والأميركيين، ومعهم بالطبع مخابرات نظام الأسد وبعض الإعلام العربي والغربي، بادروا إلى تضخيم دور «داعش» أكثر كثيرًا مما هو واقع الحال، والهدف بالطبع هو فعل ما فعله المالكي في الأنبار والفلوجة الذي استهدف العرب السنة بحجة أنهم هذه الـ«داعش» وأنهم إرهابيون، وهذا ما تقوله الولايات المتحدة الآن عن الانتفاضة الأخيرة، وما يقوله «العجم» وكل الذين يضعون أكفهم فوق عيونهم حتى لا يروا الحقائق.. والمعروف أن هؤلاء جميعهم هم من أوصل العراق إلى كل هذا التمزق وأوصلوه إلى التقسيم وبروز هذه الكيانات التي قد تتحول وقريبًا إلى دول متناحرة ومتقاتلة، وربما إلى مئات الأعوام، إذا لم ينتصر الحق على الباطل، وإذا لم يشمل الله، جلَّت قدرته، بعطفه هذا الشعب العظيم الذي غدا مغلوبًا على أمره.
وهنا فإن المشكلة أنه حتى لو تم استسلام كل المكونات العراقية، المذهبية والطائفية والقومية والإثنية، لهذا الواقع المؤلم وقبلت بهذا «التقسيم»، الذي يبدو أنه أصبح فعليًّا والذي يعتبر جريمة الجرائم، فإن الاستنزاف سوف يستمر وإن الاقتتال سيتواصل، فهناك بؤر توتر واحتكاكات كثيرة، من بينها من ستكون له السيطرة على العاصمة بغداد، ومن بينها كركوك وديالى، ومن بينها أيضًا النفط ودجلة والفرات، وقبل هذا فإن المؤكد أن هناك قوى إقليمية ودولية تواصل الإصرار على استنزاف هذه المنطقة وتحويلها إلى دويلات متناحرة قد يلجأ بعضها إلى التحالف مع الدولة الإسرائيلية!
وهكذا وفي النهاية فإنه لا بد من الإشارة إلى أن هجمات المناطق الأخيرة، التي شنها جيش الأسد ومعه ميليشيات «حزب الله» والمجموعات الطائفية المستوردة من العراق وباكستان وأفغانستان، على المعارضة السورية في حمص وجوارها، وفي القلمون على الحدود اللبنانية، وأخيرًا في كسب، تؤكد أن ما جرى في العراق قد يجري وقريبًا في سوريا، وهنا فإن الخوف كل الخوف هو أنْ ينتقل هذا التمزق إلى دول عربية أخرى، وبخاصة إذا لم يستيقظ العرب من غفوتهم ويتذكروا ذلك المثل القائل: «أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض»!