الإخاء الإسلامي المسيحي حقيقة تاريخية وضرورة.... ـ
محمد مؤيد الخزنوي
رئيس مركز الدراسات الاسلامية الكردية والعربية
المصدر : موقع زمان الوصل
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلوات، على نبينا محمد، وعلى أبيه سيدنا إبراهيم، وأخويه سيدنا موسى وعيسى، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وآل كل وصحب كل أجمعين، وبعد:
فإن موضوع التعايش بين المسلمين والمسيحيين عبر تاريخ العلاقة بينهما منذ خمسة عشر قرناً إلى اليوم، قضية تعد من المسلّمات الاعتقادية والتشريعية والأخلاقية لنا نحن المسلمين، والسبب في ذلك، أن هذا التعايش قد وضع القرآن الكريم أسسه ومبادئه، وقام النبي الأكرم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بتطبيقه حياة واقعية وأمثلة عملية، ثم نهج الصحابة من بعده صلى الله عليه وسلم المنهج نفسه، وانطلقت مسيرة التعايش الإسلامي المسيحي عبر هذه القرون الطويلة، متألقة تسير من تطبيق عملي لها إلى تطبيق عملي، خلا بعض الفترات الزمنية التي كانت علاقة التعايش فيها ترتكس نحو سلبية مظلمة، أو عصبية بغيضة، أو طائفية مقيتة، يسببها الجهل بحقيقة الدين السماوي، أو التأويلات المنحرفة، أو الأهواء والمصالح والأنانيات لبعض رجال الدين، أو تدخل الغرباء الذين يسعون لبث بذور الطائفية، تمهيداً لاستعمار واستغلال بلاد المسلمين والمسيحيين على السواء. لقد وضع القرآن الكريم وسنةُ النبي محمد صلى الله عليه وسلم قواعدَ التعايش مع غير المسلمين، وبخاصة المسيحيين، وكانت هذه القواعد أسساً واضحة جلية تستند على حفظ حق مقدس، ألا وهو حق الكرامة الإنسانية، حيث قال الله تعالى في القرآن الكريم: {ولقد كرمنا بني آدم}( سورة الإسراء: [الآية: 70).
وبيّن أن الناس متساوون من حيث بشريتهم، فقال: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم}(سورة الحجرات: [الآية: 13].).
وجاء في الوثيقة الإسلامية الكبرى لحقوق الإنسان على لسان النبي محمد صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بأشهر في حجة الوداع، قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أبيض، ولا لأبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد، ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب))( رواه أحمد.).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من دعائه بقوله: ((اللهم إني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت وأن العباد كلهم إخوة))(رواه أبو داود.).
ومن هنا كانت الحصانة لكل البشر بغض النظر عن ألوانهم وأجناسهم ولغاتهم ودياناتهم، فقد قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}( سورة المائدة: [الآية: 8].).
فالاحترام والتقدير للشخصية الإنسانية حقيقة جلية في نصوص الإسلام، فلقد جاء في القرآن الكريم أن: {من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً}(سورة المائدة: [الآية: 32).
كل ذلك دون تفرقة بين لون أو جنس أو ملة، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا))(رواه مسلم وأبو داود وأحمد.).
فالإيذاء والاعتداء على الكرامة الإنسانية جريمة من أسوأ الجرائم في الدنيا والآخرة في ميزان الإسلام.
وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من مجلسه تحية واحتراماً لجثمان ميت مرت جنازته أمامه، وقام معه المسلمون، فقيل له من باب التنبيه والتذكير: إنها جنازة يهودي، فقال: ((أليست نفساً))( رواه البخاري).
وإذا أردنا أن نتحدث -من باب التقنين وتقعيد القواعد- في الأسلوب الذي باشر به الإسلام حقيقة التعايش مع الآخرين؛ نرى أن هذا التعايش ينطلق من قول الله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين}(سورة الممتحنة: [الآية: 8].).
فهذه الآية تشمل جميع أصناف الملل والأديان وتوجهنا أن نبرهم ونصلهم ونقسط إليهم، لأن الله يحب المنصفين الذين ينصفون الناس ويعطونهم الحق والعدل من أنفسهم، ويبرون من برهم، ويحسنون إلى من أحسن إليهم(انظر: تفسير الطبري، الآية 8 من سورة الممتحنة.).
وكانت الضمانات لغير المسلمين واضحة في المجتمع الإسلامي، وتتجلى في ثلاثة أقسام:
القسم الأول: حمايتهم من أي عدوان خارجي.
القسم الثاني: الحماية الداخلية لهم.
القسم الثالث: إعطاؤهم الحريات العامة.
أما حمايتهم من الاعتداء الخارجي فإننا نرى قول الله تعالى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً}(سورة الحج: [الآية: 40].).
فالمسلمون مطالبون بقتال المعتدين وردهم عن المجتمع الإسلامي، وحماية جميع أفراد هذا المجتمع من المسلمين وغير المسلمين. فالصوامع والبيع والصلوات هي أماكن العبادة لليهود والنصارى، والمساجد هي معابد المسلمين، فيجب حماية كل هذه الأماكن من أي اعتداء أو ظلم( انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي [12/70].).
ويقول فقهاء الشريعة الإسلامية: إن من كان في ذمتنا (أي إن أي مواطن في العالم العربي أو الإسلامي أو زائر غريب مسلم أو غير مسلم) وجاء أهل الحرب (أعداء الوطن يريدون الاعتداء عليهم في نفس أو مال أو أي نوع من الاعتداء) وجب علينا أن نخرج لقتال هذا المعتدي وبكل الإمكانيات صونا لمن هو في عهد وذمة الله وعهد وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم) انظر: الفروق [3/14].
وأما القسم الثاني وهو الحماية الداخلية فإنها تشتمل على حماية الدماء والأبدان وحماية الأعراض وحماية الأموال، فلقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا من ظلم معاهَداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس منه فأنا حجيجه يوم القيامة))( رواه أبو داود.).
وكان العلماء على مدار التاريخ يوصون الأمراء والخلفاء والحكام بحسن معاملة غير المسلمين وتفقد أحوالهم، فهذا القاضي أبو يوسف يكتب إلى الخليفة هارون الرشيد يوصيه بتفقد أحوال أهل الذمة ورعايتهم فيقول:
وقد ينبغي يا أمير المؤمنين أن تتقدم في الرفق بأهل ذمة نبيك وابن عمك محمد صلى الله عليه وسلم والتقدم إليهم حتى لا يظلموا ولا يؤذوا ولا يكلفوا فوق طاقتهم ولا يؤخذ شيء من أموالهم إلا بحق يجب عليهمس(انظر: الخراج لأبي يوسف ص135.).
ونرى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل نجران النصارى حماية واضحة للأموال والممتلكات، فقد جاء ما نصه ولنجران وحاشيتها جوار الله تعالى وذمة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أموالهم وأرضهم وملتهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير(انظر: الخراج لأبي يوسف ص78.).
ويكفل المجتمع الإسلامي غير المسلمين -كما يكفل المسلمين- عند عجزهم عن العمل والكسب، مثل ما يسمى اليوم الضمان الاجتماعي، وقصة الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب مشهورة عندما قدم دمشق فوجد قوماً مجذومين من النصارى فأمر لهم بالكفالة طول الحياة( انظر: فتوح البلدان ص177.).
وكتب الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز إلى أحد ولاته كتاباً جاء فيه:
أما بعد: فانظر أهل الذمة فارفق بهم وإذا كبر الرجل منهم وليس له مال فأنفق عليهس(انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد [5/380].)
وأما القسم الثالث وهو الحريات العامة وفي مقدمتها الحرية الدينية والاعتقادية وحق ممارسة الشعائر وصون أماكن العبادة، فإن القرآن الكريم قد حذر من قضية إلغاء الآخر من خلال قاعدته الربانية {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي}(سورة البقرة: [الآية: 256].).
ونرى في عهود المسلمين مع غيرهم ما يؤكد حقيقة هذه القاعدة، فلقد جاء في وثيقة الصلح بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصارى نجران ما نصه:
ولا يُغير أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته، وليس عليه دَنيِّةس( انظر: الخراج لأبي يوسف ص78.).
وجاء في معاهدة الخليفة الفاروق مع أهل القدس النصارى:
هذا ما أعطى عبد الله أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم سقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم ولا يكرهون على دينهم ولا يضار منهم أحدس ( انظر: تاريخ الرسل والملوك [2/449).
ولعل من أروع الأمثلة على هذا التسامح الديني الرفيع، رغم أنه لم يكن هناك عقد أو معاهدة، هو سماح النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لوفد نصارى نجران المؤلف من حوالي ستين شخصاً بدخول مسجده الشريف، وجلوسهم فيه فترة طويلة، وعندما حان وقت صلاتهم قاموا متوجهين إلى المشرق ليصلوا صلاتهم، فقام المسلمون لمنعهم عن ذلك، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهاهم عن ذلك وتركهم يصلون في طمأنينة( انظر: السيرة النبوية [1/574].).
أما بقية الحريات الأخرى، فكان من أهمها حرية الفكر والتعلم، حيث كان غير المسلمين مع المسلمين في ميدان الحياة العلمية على السواء تماماً، وأبلغ دليل على ذلك كثرة الإنتاج العلمي الذي ظهر على أيدي غير المسلمين في شتى المجالات العلمية، واشتهرت أسماء علماء كثر من غير المسلمين كانوا يعيشون في المجتمعات الإسلامية.
ثم هناك حرية التنقل والسفر وحرية العمل والكسب وتولي الوظائف في الدولة الإسلامية إلا ما كان منها يحمل الصفة الإسلامية الدينية البحتة كالإمامة وغيرها.
ثم هناك بقية الحريات الاجتماعية كالأعياد والمهرجانات والزيارات وحق الصلة بينهم وبين المسلمين فقد كان النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم يعود مرضى غير المسلمين ويزور جيرانه منهم ويحسن إلى محتاجهم ويدعوهم إلى الإسلام بكل رفق ولين(انظر: صحيح البخاري [4/4].).
وإذا أردنا أن نضيق مساحة البحث ونسلط بعض الأضواء على تاريخ العلاقات بين المسلمين والمسيحيين في بلادنا بلاد الشام، شام الخير والبركة، شام الحب والصفاء، فإننا نرى أُنموذجاً تاريخياً مثالياً يجب أن نفخر به نحن المسلمين والمسيحيين على السواء، بل يجب أن نجعل منه مثالاً يحتذى، ونطالب كل دول العالم -التي فيها تعدد في ديانات أبنائها- أن تدرس هذا الأنموذج الرائع من التعايش منذ اللحظة الأولى لوجودنا معاً على ساحة هذه الأرض.
وإن ما حدث في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سمح لوفد نصارى نجران وكان عددهم قرابة الستين شخصاً بأن نزلوا في مسجده صلى الله عليه وسلم فترة ضيافة كاملة لعدة أيام؛ طعاماً وشراباً ونوماً وصلاة مسيحية -هذه الصورة- قد تكررت في كنيسة يوحنا الكبرى في دمشق، التي أصبحت فيما بعد الجامع الأموي الكبير، فقد رضي المسيحيون حين الفتح أن يأخذ المسلمون نصفها، ورضي المسلمون أن يصلوا فيها صلاتهم، فكنت ترى في وقت واحد أبناء الديانتين الإسلامية والمسيحية يصلون متجاورين ، هؤلاء يتوجهون إلى القبلة ، وأولئك يتوجهون إلى الشرق(انظر: من روائع حضارتنا ص 84 - 87 .).
وإذا حدث في فترة من الفترات أن تعرض بعض أبناء غير المسلمين لمضايقات وإساءات تخالف مبادئ الإسلام وأحكامه ، ووقع عليهم بعض الاعتداء من جانب أفراد من المسلمين أو بعض أصحاب السلطة، فإن هذه الإساءات لا تمثل الإسلام أو المسلمين ومنهج العلماء الحكماء الذين وعوا الإسلام على حقيقته، ويجب أن لا ننسى أن ظلم بعض أصحاب السلطة عبر التاريخ لم يكن منصباً على غير المسلمين فحسب، بل وقع على كل فئات المجتمع من المسلمين وغيرهم ( انظر: شهادة المستشرق جوستاف لوبون في كتابه حضارة الإسلام ص231).
وختاماً: فإنني أتوجه إلى الله سبحانه وتعالى أن يديم علينا نعمة الأمن والأمان والتعايش الخيّر بين المسلمين والمسيحيين كردا وعجم اصحاب هذه المعمورة الطيبة ، امين امين يارب العالمين وفقنا الله جميعاً لما فيه خير البلاد والعباد.
والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
**
عودة الى الصفحة الرئيسية
محمد مؤيد الخزنوي
رئيس مركز الدراسات الاسلامية الكردية والعربية
المصدر : موقع زمان الوصل
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلوات، على نبينا محمد، وعلى أبيه سيدنا إبراهيم، وأخويه سيدنا موسى وعيسى، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وآل كل وصحب كل أجمعين، وبعد:
فإن موضوع التعايش بين المسلمين والمسيحيين عبر تاريخ العلاقة بينهما منذ خمسة عشر قرناً إلى اليوم، قضية تعد من المسلّمات الاعتقادية والتشريعية والأخلاقية لنا نحن المسلمين، والسبب في ذلك، أن هذا التعايش قد وضع القرآن الكريم أسسه ومبادئه، وقام النبي الأكرم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بتطبيقه حياة واقعية وأمثلة عملية، ثم نهج الصحابة من بعده صلى الله عليه وسلم المنهج نفسه، وانطلقت مسيرة التعايش الإسلامي المسيحي عبر هذه القرون الطويلة، متألقة تسير من تطبيق عملي لها إلى تطبيق عملي، خلا بعض الفترات الزمنية التي كانت علاقة التعايش فيها ترتكس نحو سلبية مظلمة، أو عصبية بغيضة، أو طائفية مقيتة، يسببها الجهل بحقيقة الدين السماوي، أو التأويلات المنحرفة، أو الأهواء والمصالح والأنانيات لبعض رجال الدين، أو تدخل الغرباء الذين يسعون لبث بذور الطائفية، تمهيداً لاستعمار واستغلال بلاد المسلمين والمسيحيين على السواء. لقد وضع القرآن الكريم وسنةُ النبي محمد صلى الله عليه وسلم قواعدَ التعايش مع غير المسلمين، وبخاصة المسيحيين، وكانت هذه القواعد أسساً واضحة جلية تستند على حفظ حق مقدس، ألا وهو حق الكرامة الإنسانية، حيث قال الله تعالى في القرآن الكريم: {ولقد كرمنا بني آدم}( سورة الإسراء: [الآية: 70).
وبيّن أن الناس متساوون من حيث بشريتهم، فقال: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم}(سورة الحجرات: [الآية: 13].).
وجاء في الوثيقة الإسلامية الكبرى لحقوق الإنسان على لسان النبي محمد صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بأشهر في حجة الوداع، قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أبيض، ولا لأبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد، ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب))( رواه أحمد.).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من دعائه بقوله: ((اللهم إني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت وأن العباد كلهم إخوة))(رواه أبو داود.).
ومن هنا كانت الحصانة لكل البشر بغض النظر عن ألوانهم وأجناسهم ولغاتهم ودياناتهم، فقد قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}( سورة المائدة: [الآية: 8].).
فالاحترام والتقدير للشخصية الإنسانية حقيقة جلية في نصوص الإسلام، فلقد جاء في القرآن الكريم أن: {من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً}(سورة المائدة: [الآية: 32).
كل ذلك دون تفرقة بين لون أو جنس أو ملة، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا))(رواه مسلم وأبو داود وأحمد.).
فالإيذاء والاعتداء على الكرامة الإنسانية جريمة من أسوأ الجرائم في الدنيا والآخرة في ميزان الإسلام.
وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من مجلسه تحية واحتراماً لجثمان ميت مرت جنازته أمامه، وقام معه المسلمون، فقيل له من باب التنبيه والتذكير: إنها جنازة يهودي، فقال: ((أليست نفساً))( رواه البخاري).
وإذا أردنا أن نتحدث -من باب التقنين وتقعيد القواعد- في الأسلوب الذي باشر به الإسلام حقيقة التعايش مع الآخرين؛ نرى أن هذا التعايش ينطلق من قول الله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين}(سورة الممتحنة: [الآية: 8].).
فهذه الآية تشمل جميع أصناف الملل والأديان وتوجهنا أن نبرهم ونصلهم ونقسط إليهم، لأن الله يحب المنصفين الذين ينصفون الناس ويعطونهم الحق والعدل من أنفسهم، ويبرون من برهم، ويحسنون إلى من أحسن إليهم(انظر: تفسير الطبري، الآية 8 من سورة الممتحنة.).
وكانت الضمانات لغير المسلمين واضحة في المجتمع الإسلامي، وتتجلى في ثلاثة أقسام:
القسم الأول: حمايتهم من أي عدوان خارجي.
القسم الثاني: الحماية الداخلية لهم.
القسم الثالث: إعطاؤهم الحريات العامة.
أما حمايتهم من الاعتداء الخارجي فإننا نرى قول الله تعالى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً}(سورة الحج: [الآية: 40].).
فالمسلمون مطالبون بقتال المعتدين وردهم عن المجتمع الإسلامي، وحماية جميع أفراد هذا المجتمع من المسلمين وغير المسلمين. فالصوامع والبيع والصلوات هي أماكن العبادة لليهود والنصارى، والمساجد هي معابد المسلمين، فيجب حماية كل هذه الأماكن من أي اعتداء أو ظلم( انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي [12/70].).
ويقول فقهاء الشريعة الإسلامية: إن من كان في ذمتنا (أي إن أي مواطن في العالم العربي أو الإسلامي أو زائر غريب مسلم أو غير مسلم) وجاء أهل الحرب (أعداء الوطن يريدون الاعتداء عليهم في نفس أو مال أو أي نوع من الاعتداء) وجب علينا أن نخرج لقتال هذا المعتدي وبكل الإمكانيات صونا لمن هو في عهد وذمة الله وعهد وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم) انظر: الفروق [3/14].
وأما القسم الثاني وهو الحماية الداخلية فإنها تشتمل على حماية الدماء والأبدان وحماية الأعراض وحماية الأموال، فلقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا من ظلم معاهَداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس منه فأنا حجيجه يوم القيامة))( رواه أبو داود.).
وكان العلماء على مدار التاريخ يوصون الأمراء والخلفاء والحكام بحسن معاملة غير المسلمين وتفقد أحوالهم، فهذا القاضي أبو يوسف يكتب إلى الخليفة هارون الرشيد يوصيه بتفقد أحوال أهل الذمة ورعايتهم فيقول:
وقد ينبغي يا أمير المؤمنين أن تتقدم في الرفق بأهل ذمة نبيك وابن عمك محمد صلى الله عليه وسلم والتقدم إليهم حتى لا يظلموا ولا يؤذوا ولا يكلفوا فوق طاقتهم ولا يؤخذ شيء من أموالهم إلا بحق يجب عليهمس(انظر: الخراج لأبي يوسف ص135.).
ونرى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل نجران النصارى حماية واضحة للأموال والممتلكات، فقد جاء ما نصه ولنجران وحاشيتها جوار الله تعالى وذمة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أموالهم وأرضهم وملتهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير(انظر: الخراج لأبي يوسف ص78.).
ويكفل المجتمع الإسلامي غير المسلمين -كما يكفل المسلمين- عند عجزهم عن العمل والكسب، مثل ما يسمى اليوم الضمان الاجتماعي، وقصة الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب مشهورة عندما قدم دمشق فوجد قوماً مجذومين من النصارى فأمر لهم بالكفالة طول الحياة( انظر: فتوح البلدان ص177.).
وكتب الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز إلى أحد ولاته كتاباً جاء فيه:
أما بعد: فانظر أهل الذمة فارفق بهم وإذا كبر الرجل منهم وليس له مال فأنفق عليهس(انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد [5/380].)
وأما القسم الثالث وهو الحريات العامة وفي مقدمتها الحرية الدينية والاعتقادية وحق ممارسة الشعائر وصون أماكن العبادة، فإن القرآن الكريم قد حذر من قضية إلغاء الآخر من خلال قاعدته الربانية {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي}(سورة البقرة: [الآية: 256].).
ونرى في عهود المسلمين مع غيرهم ما يؤكد حقيقة هذه القاعدة، فلقد جاء في وثيقة الصلح بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصارى نجران ما نصه:
ولا يُغير أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته، وليس عليه دَنيِّةس( انظر: الخراج لأبي يوسف ص78.).
وجاء في معاهدة الخليفة الفاروق مع أهل القدس النصارى:
هذا ما أعطى عبد الله أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم سقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم ولا يكرهون على دينهم ولا يضار منهم أحدس ( انظر: تاريخ الرسل والملوك [2/449).
ولعل من أروع الأمثلة على هذا التسامح الديني الرفيع، رغم أنه لم يكن هناك عقد أو معاهدة، هو سماح النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لوفد نصارى نجران المؤلف من حوالي ستين شخصاً بدخول مسجده الشريف، وجلوسهم فيه فترة طويلة، وعندما حان وقت صلاتهم قاموا متوجهين إلى المشرق ليصلوا صلاتهم، فقام المسلمون لمنعهم عن ذلك، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهاهم عن ذلك وتركهم يصلون في طمأنينة( انظر: السيرة النبوية [1/574].).
أما بقية الحريات الأخرى، فكان من أهمها حرية الفكر والتعلم، حيث كان غير المسلمين مع المسلمين في ميدان الحياة العلمية على السواء تماماً، وأبلغ دليل على ذلك كثرة الإنتاج العلمي الذي ظهر على أيدي غير المسلمين في شتى المجالات العلمية، واشتهرت أسماء علماء كثر من غير المسلمين كانوا يعيشون في المجتمعات الإسلامية.
ثم هناك حرية التنقل والسفر وحرية العمل والكسب وتولي الوظائف في الدولة الإسلامية إلا ما كان منها يحمل الصفة الإسلامية الدينية البحتة كالإمامة وغيرها.
ثم هناك بقية الحريات الاجتماعية كالأعياد والمهرجانات والزيارات وحق الصلة بينهم وبين المسلمين فقد كان النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم يعود مرضى غير المسلمين ويزور جيرانه منهم ويحسن إلى محتاجهم ويدعوهم إلى الإسلام بكل رفق ولين(انظر: صحيح البخاري [4/4].).
وإذا أردنا أن نضيق مساحة البحث ونسلط بعض الأضواء على تاريخ العلاقات بين المسلمين والمسيحيين في بلادنا بلاد الشام، شام الخير والبركة، شام الحب والصفاء، فإننا نرى أُنموذجاً تاريخياً مثالياً يجب أن نفخر به نحن المسلمين والمسيحيين على السواء، بل يجب أن نجعل منه مثالاً يحتذى، ونطالب كل دول العالم -التي فيها تعدد في ديانات أبنائها- أن تدرس هذا الأنموذج الرائع من التعايش منذ اللحظة الأولى لوجودنا معاً على ساحة هذه الأرض.
وإن ما حدث في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سمح لوفد نصارى نجران وكان عددهم قرابة الستين شخصاً بأن نزلوا في مسجده صلى الله عليه وسلم فترة ضيافة كاملة لعدة أيام؛ طعاماً وشراباً ونوماً وصلاة مسيحية -هذه الصورة- قد تكررت في كنيسة يوحنا الكبرى في دمشق، التي أصبحت فيما بعد الجامع الأموي الكبير، فقد رضي المسيحيون حين الفتح أن يأخذ المسلمون نصفها، ورضي المسلمون أن يصلوا فيها صلاتهم، فكنت ترى في وقت واحد أبناء الديانتين الإسلامية والمسيحية يصلون متجاورين ، هؤلاء يتوجهون إلى القبلة ، وأولئك يتوجهون إلى الشرق(انظر: من روائع حضارتنا ص 84 - 87 .).
وإذا حدث في فترة من الفترات أن تعرض بعض أبناء غير المسلمين لمضايقات وإساءات تخالف مبادئ الإسلام وأحكامه ، ووقع عليهم بعض الاعتداء من جانب أفراد من المسلمين أو بعض أصحاب السلطة، فإن هذه الإساءات لا تمثل الإسلام أو المسلمين ومنهج العلماء الحكماء الذين وعوا الإسلام على حقيقته، ويجب أن لا ننسى أن ظلم بعض أصحاب السلطة عبر التاريخ لم يكن منصباً على غير المسلمين فحسب، بل وقع على كل فئات المجتمع من المسلمين وغيرهم ( انظر: شهادة المستشرق جوستاف لوبون في كتابه حضارة الإسلام ص231).
وختاماً: فإنني أتوجه إلى الله سبحانه وتعالى أن يديم علينا نعمة الأمن والأمان والتعايش الخيّر بين المسلمين والمسيحيين كردا وعجم اصحاب هذه المعمورة الطيبة ، امين امين يارب العالمين وفقنا الله جميعاً لما فيه خير البلاد والعباد.
والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
**
عودة الى الصفحة الرئيسية