وسيم الشريف
يرتبط انشاء الحمامات العامة وتطورها في المدن العربية والاسلامية ومنها مدينة الموصل بأمرين اثنين اولهما شروط الطهارة الواجبة في الدين الاسلامي، وثانيهما الوعي الواضح والاستجابة الحقيقية للحاجات الحضرية. وتذكر المصادر المتداولة ان الموصل كانت تضم قبل سقوطها على يد المغول في سنة 1260 مائتي حمام للرجال ومثلها للنساء وعشر حمامات خاصة بالبنات الابكار. وكان لموقع الموصل الجغرافي بين اقاليم متباينة جبلية وسهلية وصحراوية دور كبير في النشاط التجاري المتزايد وتدفق الثروة على سكانها. ولا ننسى انها تسمى، لاعتدال مناخها وطيب هوائها وعذوبة مياهها، "ام الربيعين".ـ
ويشير نيقولا سيوفي في كتابه "مجموع الكتابات المحررة على ابنية الموصل" ان الموصل كانت تعج في العهد العثماني بالحمامات العامة ومعظمها موقوف على الجوامع والمساجد ويضرب على ذلك مثلا وهو ان من اوقاف جامع الباشا التي اوقفها محمد امين باشا الجليلي حماما شهيرا يعرف بـ"حمام القمرية" والذي عرف فيما بعد بـ"حمام العطارين" لأنه يقع داخل سوق العطارين الشهير في الموصل. ويذكر المؤرخ الموصلي محمد امين العمري في الجزء الاول من كتابه "منهل الاولياء" ان عدد الحمامات في الموصل اواخر القرن الثامن عشر كان 20 حماما عاما، اما الرحالة البريطاني جيمس بكنكهام الذي زار الموصل في 1820 فيذكر بان عدد حمامات الموصل يقدر بنحو 30 حماما. وقد اشاد الرحالة هود وقد زار الموصل في الفترة ذاتها (1817) بحمامات الموصل وقال ان حمامات الموصل تعد من "أحسن ما رأيت فاغلبها مغطى بالرخام، وهي في غاية اللطف والنظافة".ـ
وكان نيبور الذي زار الموصل سنة 1766 قد انتبه للملاحظة نفسها فأشار الى ان القسم الاعظم من حمامات الموصل "جميل وخلاب". وقد جاء في سالنامة الموصل (الكتاب السنوي الذي تصدره سلطات ولاية الموصل) لعام 1892 الى ان في مدينة الموصل وحدها 36 حماما للرجال وللنساء.ـ
اما سالنامة الموصل لعام 1907 فأوردت معلومة تفيد بان في مدينة الموصل آنذاك 17 حماما. وقد احصى عبد الجبار محمد جرجيس، وهو باحث في تراث الموصل، في مقالته المعنونة "الحمامات الشعبية في الموصل" عدد حمامات المدينة في العصور العثمانية المتأخرة ومطلع القرن العشرين فوجد انها 30 حماما، لعل من ابرزها حمامات قره علي، عبيد أغا، السراي، الشيخ عمر، القشلة، العطارين، القلعة، المنقوشة، باب لكش، العمرية، باب البيض، الخاتونية، العكيدات، دكة بركة، الاحمدية، التك، يونس، العلا، الزوية، زرياب، آل حديد، الوداي، والصالحية. وقد هدمت، للأسف الشديد، معظم هذه الحمامات وانشئت على انقاض بعضها بنايات وحمامات حديثة لا تمت الى الحمامات السابقة بصلة. والملاحظ ان كثرة حمامات مدينة الموصل في العصر العثماني ترجع الى كونها مدينة تجارية يؤمها عدد كبير من التجار والرحالة الذين يحتاجون الى ارتيادها بعد اشهر طويلة من السفر في الطرق المعفرة. وفي مدينة لم يكن تعداد نفوسها يزيد آنذاك على الـ300 الف نسمة، فان عدد الحمامات يبدو مناسبا، اذ ان هناك حمام واحدة لكل 10 آلاف نسمة.
وبشأن التركيب الداخلي للحمام الموصلي، فانه لا يختلف عما كانت عليه الحمامات الاخرى، ومنها حمامات القاهرة ودمشق وحلب، فالحمامات عادة ما تبنى في مكان منخفض من الارض ولعل من اسباب ذلك هو الرغبة في المحافظة على حرارة المياه عند تسخينها في مكان يسمى "البيدر الحار" أو "العنبار" وهي كلمة تركية تعني الخزان. و"العنبار" او "البيدر الحار" هو قدر كبير تنساب منه المياه الى الاحواض الموجودة داخل الحمام بواسطة الانابيب وتسد الفتحات بقطع من الخشب اسطوانية الشكل ثم استبدلت هذه القطع بعد ذلك بالحنفيات.ـ
أما الماء البارد فيأتي من "البيدر البارد" ويوزع في الاحواض بالطريقة ذاتها. أما تصميم بناية الحمام فيكون مؤلفا من خمسة اقسام هي: المدخل الرئيسي، المشلح ويسمى في الشام بالقسم "البراني"، منطقة ما بين البابين أي "الوسطاني"، الرواق (المستحم) أي "الجواني"، وغرفة الدوا "غرفة الشعر"، وهناك الى جانب ذلك الحجر الحارة والدائغ. ويجلس عند مقربة من المدخل الرئيسي صاحب الحمام "الحمام جي" او وكيله "الخلفة". أما "المشلح" فهو المكان المخصص لنزع الملابس الخاصة بالزبون. ومنطقة ما بين البابين هي عبارة عن حجرة تقع ما بين الباب الذي يؤدي الى الحمام والباب الذي يتصل بالمشلح.ـ
وفي داخل الحمام توجد مجموعة من الاروقة المتصلة من الاعلى بقبة، وتضم مواضع الاستحمام. وفي كل رواق حوض للماء فيه سبيلان أو حنفيتان احداهما للماء الحار والاخرى للبارد. ومعظم حمامات الموصل تحتوي على 4 ـ 5 اروقة. أما "غرفة الدوا" فهي غرفة صغيرة يقوم المستحم فيها بإزالة الشعر من مناطق معينة من جسمه باستخدام مادتي النورة والزرنيخ. وهناك قطعة من الحجر الحار وغالبا ما تكون من رخام الموصل المعروف بـ"الحلان" تتوسط الحمام وهي مبنية على انابيب الماء الحار لذلك فهي حارة جدا يجلس عليها المستحم ليتصبب عرقا ويتخلص مما يعانيه من اوجاع المفاصل والروماتيزم. وحول هذه الحجرة الحارة، ثمة قطعة اخرى من المادة نفسها تأخذ شكل دائرة يجلس عليها المستحمون لأغراض التدليك وهي كما سبق ان اشرنا تسمى "الدائغ".ـ
ويعمل في الحمامات الموصلية عدد من الاشخاص، ففضلا عن "الحمامچي" هناك "الخلفة" أي المساعد و"الوقاد" ويسمى "الكرخان چي" والدلاك (المدلك) و"الدوشم چي" أي الذي يجلب المناشف للزبائن بعد الانتهاء من الاستحمام. وعادة ما يجاور حمامات الرجال حمامات اخرى ملاصقة مخصصة للنساء، وتقوم غالبا بإدارة هذه الحمامات أم أو اخت أو زوجة صاحب الحمام وتسمى "القيمة" أي القائمة على شؤون الحمام. وتضطلع بمهمة مساعدة النساء المستحمات امرأة كبيرة في السن تدعي "الغسالي"، ولكل عائلة غسالة خاصة بها تتلقى راتبا شهريا قد يكون في بعض الاحيان نقديا وقد يكون بشكل مؤن وما شاكلها.ـ
وهناك من تقوم بتسليم النساء الازر (الفوطة) قبل دخولهن الحمام. هذا الى جانب "نقالة البقج" التي تنقل مستلزمات النساء من المناشف والصابون والكيس والمعدسي والحكاكي والطاسة والمقعد والقبقاب من الدور السكنية الى الحمام، في اوقات معينة من الاسبوع ولقاء مبالغ مالية محددة.ـ
وعادة ما تستخدم الحمامات كمكان لإجراء احتفالات الولادة والزفاف، ويتم ذلك بطقوس معروفة اعتادتها النسوة، وتترافق هذه الاحتفالات مع الغناء والتصفيق. وفي حالات الزفاف يحتفل اصدقاء العريس به داخل الحمام كذلك. وتتردد اغاني فولكلورية جميلة استبشارا بهذه المناسبة فالمدعوات وصديقات العروس يؤكدن بان العروس جميلة وطيبة وغنية وتستحق كل خير. ومما كانت النسوة تردده في الاحتفالات المقامة في الحمامات ليلة الزفاف:ــ
التشلـحوا مالا
والتلبسـوا مالا
وأبوها تاجر حلب
جيّاب الحـمالا
كما تتم الاحتفالات بالأم بعد سبعة ايام من الولادة داخل الحمام وتسمى المرأة عندئذ بـ"الامفيس"، أما المناسبة فيطلق عليها "حمام السبعة". وللذهاب الى الحمامات عادات وطقوس لابد من مراعاتها وكثيرا ما توزع المأكولات في الحمام ويشرب الجميع الشاي ثم يقفلون راجعين الى بيوتهم بعد صلاة العصر.ـ
ويحرص المستحمون سواء كانوا من الرجال او النساء على استعمال اواني ومستلزمات ومناشف خاصة بهم عند ذهابهم الى الحمام ونادرا ما يلجئون الى ادارة الحمام لتلبية احتياجاتهم.ـ
ولا يعني وجود الحمامات العامة خلو الدور وخاصة دور الاغنياء والمسؤولين في الحكومة من الحمامات الخاصة، الا ان الناس كثيرا ما اعتادوا آنذاك الاستحمام بالحمامات العامة لأنها، برأيهم، اكثر فائدة للإنسان لسخونة مائها، وللأجواء الاجتماعية الجميلة التي ترافق عملية الاستحمام.ـ
وقد ادركنا منذ اواخر الاربعينات من القرن الماضي بعض العادات، فالنسوة على سبيل المثال كن يقضين ساعات النهار كلها في الحمام، ويتكرر ذلك لكل اسبوع، ومن المؤكد ان وجود الحمامات العامة وارتيادها من الرجال والنساء يدل على مستوى متقدم من الوعي بأهمية النظافة، خاصة وان الذهاب الى الحمام يترافق مع غسل الملابس والاواني والفرش المستخدمة في الحياة اليومية.ـ
ومهما يكن من أمر فان الحمامات العامة، قد اخذت بالاندثار بعد انشاء الدور والفنادق الحديثة التي يعد الحمام فيها من اهم المرافق التي يهتم بها الناس.ـ
للعودة إلى الصفحة الرئيسة