تراث موصلّي قديم
كتبه
وسيم الشريف
كما في المجتمعات الأخرى فقد كان للمجتمع الموصلّي بصمته على العائلة التي كما قلنا عنها أنها النواة الأولى لهذا المجتمع. فنراه قد طوّر مفردات الزواج لتكون وفق سياقات اتفق المجتمع على أداؤها لسنين بل ولعقود طوال.ـ
سنتطرق في هذه المقالة عن مراحل تكوين نواة المجتمع والتي هي العائلة عن طريق الزواج التقليدي الذي كان متبعا لمدة طويلة في مجتمع كمجتمع الموصل.ـ
الشاب والشابة وإعدادهما للزواج
تقع على عاتق العائلة الموصلية مهمة تنشأة جيل يكون مهيأ للزواج وتحمل مسؤوليته فيكون الشاب فيه ذا دور قيادي وله بسط النفوذ والسطوة فيما حوله من أجل تحقيق الأمن والأمان لبقية الأسرة التي سيقدم على تشكيلها. وعلى عائلته ممثلة بالأب أن يمنحه كل الفرص المتاحة له لتحقيق ذلك والتحقق منه. كما يجب تدريبه على أن يضطلع بكل المهام التي تتطلب جهدا جسمانيا لتحقيق واكتساب مقومات حياة الأسرة الجديدة. وتعليمه وإكسابه مقومات الخُلُق الرفيع التي تؤهله بالظفر بزوجة المستقبل والحفاظ عليها من كل سوء.ـ
أما الشابة فتوكل بأسرتها ممثلة بالأم مهمة تربية البنت لتنشأ ربة بيت بالدرجة الأولى فتعلمها كل مقومات القيام بمستلزمات البيت من طهي الطعام وإعداد مستلزماته، والخياطة والحياكة وما يتطلبه ملبس الأسرة وفرشها. وكذلك تعليمها وتدريبها على تربية الأبناء والاعتناء بهم وبما يحيط بهم وتعطيها كل ما اختزنه أو اكتسبته من مهارات لتكون كما قلنا ربة بيت من الطرز الأول. وعادة ما تكون الأم عنوان دعاية لبناتها لما يمكنها ان تقدمه لهن من مهارات. وأما الأب فتكون مهمته تنشأة البنات تنشأة خلقية رصينة .ـ
ترشيح البنات للخطبة
كما هو شان بقية المجتمعات المحافظة فقد اتصف المجتمع الموصلّي بنزعته المحافظة، فلم يكن الاختلاط بين الشباب والبنات مسموحا أبدا. بل كان ذلك يعتبر من كبائر الأمور التي يرتكبها أحدهما أو كليهما. فالشاب لا يمكنه رؤية زوجته إلا يوم دخوله عليها. كما انه لا يمكنه الاطلاع على ما يمكنه مقارنتها بغيرها لذلك نجد القناعة متوفرة وبشكل ملحوظ بين كلا الجنسين ، وإيمانهما التام بمسألة القسمة والنصيب. وكان النظام المتبع في الخطبة يقوم على مبدأ خطبة الأهل، فنرى النساء اللائي وصل أبنائهن إلى عمر الزواج يبدأن بالبحث عن فتاة تسر الناظرين بجمالها وترفع الرأس بنسبها وتبيّض الوجه بمهاراتها. وتكون هذه الأمور مختلفة بشكل نسبي بين فتاة وأخرى والمفاضلة فيما بين ذلك يعتمد على الأولويات التي توليها عائلة الشاب ممثلة بالأب والأم في هذا المجال. فعندما تقترح الأم لزوجها عددا من بنات أقربائها والتي تطمع بإحداهن زوجة لأبنها ومناقشة الأمر مع زوجها ، فيرشحان من أهلها أو أهله لابنهما لينتقي له منهن زوجة له، وعادة ما ترشح من بنات أقربائها أكثر من أقرباء الزوج لمعرفتها أكثر بهن ، أو لقربهن إلى قلبها بسبب عاطفة القربى. وإن لم يقتنع الشاب بمن اختاروه منهن له فإن الأم تسعى للبحث عن عروسة لأبنها من بنات الجيران والمعارف ممن تتقارب أسرهن معهم نسبا وحالة اجتماعية ومادية. وقد تلجأ بعض النسوة لهذا الأمر بالخاطبة . والخاطبة هي امرأة تبلغ من العمر ما يمكنها من التواصل به مع جيل الشباب والكبار. ويشهد لها الذوق في الانتقاء والأمانة والصدق في نقل رؤى العين، وتفتح لها العوائل أبوابها في زياراتها وبالأخص عندما يكون في العائلة من هو في طور الزواج.ـ
الخطبة
بعد حصول الموافقة عند الشاب بالإقدام على خطبة بنت من البنات التي رشحت له للزواج بها، فإن الأم تقوم بالتحري والاستفهام عن عائلة البنت أكثر فأكثر إن كانت غريبة عن العائلة ، وكذا يقوم الأب بالسؤال عن أصل وفصل الأهل ، على مبدأ قول الرسول الكريم محمد "صلى الله عليه وسلم" (تخيّروا لنطفكم) وكل ذلك يتم بالكتمان ولدى اكتمال القناعة لدى عائلة الشاب يبدأ التمهيد للتقدم للخطبة. فتقوم الأم بالاتصال بشكل غير مباشر بأهل البنت إن كانت غريبة عن طريق الجيران أو الخاطبة فترسل لهم استفسارا غير معرفا بالشخص إن تقدم لخطبة ابنتهم فهل لديهم النية بالقبول؟ . وهذا الأمر ييسر كثيرا لأهل الشاب ويقيهم معارضة ابن العم أو ابن الخال إن كانت موجودة. فالعرف السائد قديما ان البنت لإبن العم أو لإبن الخال، وعلى هذا نشأت العديد من الأسر في الموصل على مر العصور والأزمنة. اما إن كانت البنت من أقارب الشاب وعائلته فالإجابة معروفة لديهم.ـ
يحدد يوم لزيارة أم الشاب لبيت أهل البنت ويستعد لهذا اليوم وتذهب بمعيتها أخواتها أو أخوات الأب أو سلفاتها أو من النساء اللاتي لهن معرفة في هذه الأمور ومن أقرباء الشاب. وتستفتح الجلسة بالترحاب بهن والاستبشار بقدومهن ومن ثم تتكلم الأم معلنة عن رغبتها بخطبة فلانة بنت الحسب والنسب لإبنها فلان . وتبدأ بوصف إبنها واصفة إياه لأم البنت، وتضيف الزائرات وصفا على وصفها وتحسين صورته وبيان قدراته وعمله وشخصه وثقافته الى آخر ما يتطلبه الوصف. ثم وبعد النظر إلى رد أم البنت تطلب الأم الخاطبة رؤية البنت، فتغيب ام البنت لبرهة ثم تعود بابنتها مهندمة ومجملة لتجلسها أمام النسوة لإلقاء نظرة عليها وتبدأ مرحلة الفحص والتمحيص.ـ
فالأم تخبر قوامها ومشيتها وتفتيلة جسمها لتتعرف فيما إذا كان بها عيبا خلقيا ام لا. والخالة او العمة تبدا باستنطاقها بالحديث لتتعرف على ثقافتها وطريقة كلامها لتتأكد من رجاحة عقلها وفصاحة لسانها . واخرى تنظر إلى تقاسيم وجهها وطريقة ابتسامتها وتتأكد من صف اسنانها وإن لزم الأمر فإنها تتأكد من حمرة خدودها طبيعية أم صناعية. بل وتذهب أبعد من هذا فتختبر قوة أسنانها بإطعامها شيئا من المكسرات[1] . اما زوجة العم فتراقب غرفة الجلوس وطريقة فرش الأثاث ونظافة المكان وتركز على المكانات التي لا تصلها فرشاة التنظيف دائما.ــ
وبعد ان تمر البنت في هذا الاختبار وتلقى قبولها تبدأ الأم بتقديم امكانيات الشاب ، وتعرف بمقدرته وأهليته للزواج وما بين يديه من أمور مادية. ثم تستأذن أم البنت بالمغادرة بعد الثناء على البنت والدعاء بتوفيق النفوس وإلى آخر ما يتطلبه الموقف من جميل القول وحسن الثناء. ثم تخرج النسوة قافلات إلى بيت أهل الشاب ، وفي الطريق يبدا حوار تحليل البنت وتعرض كل واحدة منهن رأيها فيها.ـ
يجتمعن النسوة على جلسة شاي ثم يبدأن بعرض مشاهدتهن للشاب وابنه ، مبدين تأييدهم أو رفضهم للبنت وأمها . وبعد وقوع القبول لدى العائلة بالبنت تتصل أم الشاب بأم البنت معربة عن رغبتها بزيارتهم مرة ثانية في اليوم التالي. كل هذا وأهل البنت لم يعرفوا العائلة التي ستقدم على خطبة ابنتهم.ــ
في اليوم التالي تجتمع النسوة للمرة الثانية وينتقلوا إلى بيت أهل البنت ويتم استقبالهم هذه المرة من قبل البنت وتدخلهم إلى الدار ، وهذا دليل تيسير أمر القبول وإلا فإن الأم هي التي ستستقبلهم . وتبدأ جمل الترحيب تتبادل بين الطرفين وتطلب الأم رؤية البنت مرة ثانية إن لم تدخلهم هي لحجرة الضيوف. ثم يعاد الفحص من جديد ولكن بشدة أوطأ من ذي قبل، ثم يتم الإعلان عن أهل الشاب ونسبهم وأصلهم وفصلهم سواءً من جهة الأب ومن جهة الأم. وتجاريهم أم العروس بالتعريف بنسب عائلتها وعائلة زوجها وعلو المكانة الاجتماعية والأخلاق التي يتمتعون بها وقدراتهم، ويثني كل من الطرفين على بعضهما.ـ
ثم تامر الأم ابنتها لتقديم لزوم الضيافة والتي غالبا ما تكون من صنع يديها وتثني عليها الأم وتبين ان مهاراتها تتعدى الطهي إلى الخياطة والتطريز وإلى غير ذلك من الأمور التي تتمناها النساء أن تكون في نساء أبنائهن. وبعد تبادل عبارات الثناء والمديح بين العائلتين تنتهي الزيارة على أمل أن تتكرر مرة ثالثة في يوم معين يتفق عليه قبل المغادرة.ـ
تعود النسوة إلى بيت الخاطب وتكرر وصف العروسة للشاب وفي حال وقوع الرغبة فيها فترغبنه فيها وتصفنها له بأحسن الأوصاف ، فيتعلق بها قلب الشاب وهو لم يرها بعد، ولن يستطيع ان يراها بسبب عادات وتقاليد المجتمع آنذاك. وتتفق العائلة على مقدار ما ستعرضه الأم مهرا للعروسة المعجل منه "اي النقديي" والمؤخر "المتأخر" ومقدار النيشان "ذهبا" . وتطلق الزغاريد إعلانا على القبول وتهليلا واستبشارا بهذه الزيجة.ـ
وفي اليوم المحدد تنتقل النسوة إلى بيت العروس ، وربما يكون عددهم اليوم مقتصرا على الأم والعمة ويتم في هذا اليوم التكلم على تفاصيل المتقدم والمتأخر ونوع النيشان ومقداره . وبعد أخذ ورد وبدل يتفق الطرفان على التفاصيل ونوع الجهاز "الحمالة" ويحدد مبلغا من المال سيخصص لشراء ملابس العروس وجهازها من الدواشك "الصوف" والفرش والمخاديد والشراشف واللحف وإلى آخر ما يتعلق بفرش غرفة نوم العروس . ويحدد يوما لزيارة أهل العريس من الرجال إلى بيت اهل العروس للتعارف وتوطيد العلاقة والاتفاق وقراءة الفاتحة على نية التوفيق. وتطلق الزغاريد بأعلى صوت معلنين وقوع القبول بين الطرفين ومسمعين الجيران بذلك تعميما للفرحة وإعلانا لبدء مراسيم الزواج.ـ
اعلان الخطوبة ولبس الحلقات
في اليوم المحدد لذلك ينتقل أهل العريس من النساء من قريباته الخالات وزوجات الأخوال وبناتهن والعمات وزوجات الأعمام وبناتهن وزوجات الإخوة وبناتهن والأخوات . ويستقبلون من قبل اهل العروسة وقريباتها ، ويخلى الدار من أي شاب . وتبدأ مراسيم الاحتفال بالزغاريد وتلبيس الخاتم والحلقة من قبل الأم او البنت الكبرى نيابة عن العريس[2]. ويبدأ قرع الدفوف وتصدح الحناجر بالأغاني والأهازيج والتهليل والتكبير . وعادة ما تتولى ذلك قريبات العريس (الأخوات وزوجات الأخوة وبنات العم وبنات الخال وهكذا) ، وجميع من في الحفل قد ازدان بلبس جديد وشعر مصفف .ـ
يستمر الاحتفال إلى وقت متأخر ويقدم العشاء المعد بأصناف وأرناب وقد اشترك في إعداده كل قريبات العروس. واستحضرت له استحضارات جمة منها الأصناف المتفنن في إعدادها والفواكه المتنوعة الأصناف ولا يغيب الشاي والعصائر والحلويات (البقلاوة والشكرلمة على وجه الخصوص ثم تأتي معها المعكرونة ) وينثر الجكليت والفلوس على رأس العروس.ـ
شراء النيشان
النيشان عبارة عن مصوغات ذهبية ذات وزن متفق عليه من عيار 21 قيراط ، ينتقى من قبل العروسة وأمها بحضور أم العريس. وعادة ما تذهب النسوة إلى سوق الصاغة والذي يزخر بأصناف المصوغات الذهبية . ومن المتعارف عليه لدى العوائل الموصلية أن لكل عائلة صائغ معتمد ، غالبا ما يذهبون للتبضع منه حاجتهم من المصوغات أو لتصليح ما ينكسر منه أو صيانته. لهذا نجد أم العريس تذهب إلى صائغها المعتمد لغرض الحصول منه على حاجتها المنشودة وعلى أن لا يتجاوز ما اتفق عليه وزنا[3]. بينما تتحجج ام العروسة بشتى الاعذار لتشتري نيشان ابنتها من صائغها المعتمد كمحاولة للحصول على النوعية الموثوقة ووزنا أكثر مما اتفق عليه. ثم يحسم الأمر في النهاية ويتم الشراء ثم يحفظ لدى أم العريس. وتشترى حلقة العريس من قبل أم العروسة وحلقة العروسة مصحوبة بخاتم من قبل أم العريس . وكل منهما يحتفظ بما اشتراه ليقدمه للآخر يوم لبس الحلقات واعلان الخطوبة. ويكتب على حلقة الزوج أسم عروسته وعلى حلقة العروسة أسم عريسها.ـ
التجهيزات (الحمالي)ـ
تبدأ العائلتين مجتمعتين ومنفصلتين بتحضير مستلزمات العرس من ملابس وقطع قماش وألبسة مختلفة بيتية وخارجية . وغرفة النوم وشراء الصوف وغسله وحشوه وخياطة دواشك النوم ذات النفرين والنفر واحد ، واللحف ذات النفرين والنفر واحد . ومجموعة من الوسائد المنقوشة واغطيتها وأغطية سرير النوم وفرشات النوم وخلافه وتخاط حاضنات لها من القماش يطلق عليها البقج[4] . تحفظ تجهيزات العروسة بأجمعها في تلك البقج والتي بمجموعها يمكن تصنيف التجهيزات أو ما يطلق عليها بالحمالي[5].ــ
ويطلق على التجهيزات تلك تسمية الحمالي لكونها تحمل من بيت العروسة إلى بيت العريس على عربات الدفع ، وتجوب الدروب والأزقة يصحبها الأولاد بالأهازيج والغناء ومعلنين عن (حمالة بنت بيت فلان لبيت ابن فلان) لاستفسارات النسوة اللائي يقابلونهم . وتسبق الحمالي بعض من نسوة بيت العروس .ـ
عقد القران
عقد القران هو كتابة وتلاوة صيغة قبول التزويج وقبول الزواج من قبل وكيل العروسة والذي غالبا ما يكون وليها والذي يشهد على توكيله قاضي البلدة او من يخوله لذلك من رجال الدين المشهود لهم بالصلاح[6] . وإشهاد عددا من أهل وجيران وأصدقاء كلا العائلتين وتغلب كفة عائلة الزوج على كفة عائلة الزوجة. ويشهر الزواج علنا على قيمة الصداق المتفق عليه المقدم والمؤخر ليكون مفهوما للجميع ويحظى ذلك بقبول الطرفين ثم تقرأ سورة الفاتحة لتعزيز هذا العقد. وبقبوله شفويا وقبوله من كلا الطرفين تصبح المرأة زوجة لزوجها يمكنه ان ينظر إليها ولكن لا يختلي بها. تطلق الزغاريد بشدة وتولم الولائم وتوزع الحلوى والذي يطلق عليه "شكر العقد" على الحاضرين ، ويرسل لمن لم يحضر . يتم هذا الاحتفال في منزل الزوج أو عائلته.ـ
بعد ان يتم عقد قران الزوجين يحدد يوم معين لإتمام حفلة النيشان . وفي ذلك اليوم يذهب أهل العريس مع أقاربهم إلى بيت العروسة في موكب ويطلقون الزغاريد عند اقترابهم من بيت العروسة . ويستقبلهم أهل العروسة بالمثل وتعلو الزغاريد أكثر وأكثر ويبدأ الصبية بالرقص خارج الدار . وتبدأ النسوة بالاحتفال والغناء وقرع الدفوف ، ومن هذه الأغاني؛
يوم نيشانكي على ( فلان) مباركي
عشرة طلبوكي وعشرة خطبوكي
وعشرة كنسوا البيعة من كيصلي أبوكي
عشرة وقفوا على الباب
وعشرة ردوا الجواب
ويحد إيقول للآخ .. أنا عبد لأبوكي
ثم يحمل النيشان في صينية التقديم ويدار به تحمله أخت العريس لتلقي نظرة عليه النسوة الحاضرات والغناء يملأ المكان والأهازيج التي تناسب هذه المناسبة ثم تقوم أم العريس بتقليد عروسة إبنها بما قدمته لها من ذهب . وتقوم بعدها أم العروسة بتقليد ابنتها بمصوغات ذهبية هدية منها لابنتها إكراما لها . وفي هذا الاحتفال تقوم العروسة بتغيير طقم ملابسها بين فترة وأخرى لإعلان يسر حالة أسرتها أمام الملأ . وفي كل مرة ترافقها بعض قريباتها يساعدنها في هذا الأمر ويزفونها بالحلوى والزغاريد. ثم يعلن للضيوف عن عرض الحمالي لإلقاء نظرة عليها من قبلهم كنوع من أنواع التباهي بما قدمته كل عائلة للعريسين. وهناك تقليد يتفائل به أهل العريسين حيث تقوم النسوة اللاتي لهن طفل صبي رضيع بدحرجته على سرير الكنة ، ويكون فألا حسنا لاستهلال الخلفة بالصبيان . ويستمر الاحتفال والغناء حتى يقدم للضيوف طعام العشاء الذي يحوي الأصناف العديدة من لذيذ الطعام وأصنافه ، وأنواع الفاكهة والحلوى والمعجنات وما إلى ذلك. ثم بعد ذلك تبدا ضيفات العائلتين بالمغادرة زرافات ووحادانا.ـ
ليلة الحنة
تجتمع النسوة في بيت العروسة من قريبات العروسة وبعض من قريبات العريس ، وأما الرجال فيجتمعون في بيت العريس في يوم تعجن فيه الحنة وتصبغ بها أكف العروسة وبعض أصابع المقربين منها من نسوة أو صبيات. وتقرع الدفوف وتغنى الأغاني التراثية المتناقلة عبر قرون طوال .ـ
يبدأ توارد المدعوين من النسوة الأكثر قرابة من صباح يوم الحنة إلى بيت العروسة وتُعَد التحضيرات اللازمة للاحتفال بليلة الحنة ، وتلتف صويحبات العروس حول عروستهم ويبدين كل الاهتمام بها ، وتراجع كل التحضيرات التي تتعلق بالعروس والتهيؤ لليلة العمر. يبدأ توارد النسوة من كلا العائلتين على بيت العروس وكلما دخلت مجموعة نسوة علت زغاريد أهل العروس وأهل العريس وتقام مظاهر الزينة والبهجة وتعلو روائح الأبخرة والعطور من الدار وتعلو الأغاني التي تصدح بها النسوة ؛
الحنة الحنة ها اليلة الحنة
لآطلع ولالي بسطوح العلالي
أمو تعالي دنجبل الحنة
الحنة الحنة ها اليلة الحنة
هذي (فلانة) المدلل ليلة غدا حنتا
ياالغالية وسعاد ويالغالية
واستقبلوكي البنات بالعمي والخاليَ
يالغالية (فلانة) بالغالية
واستقبلوكي البنات بالعمي والخاليَ
أش تلبسو مالا
وأش تشلحو مالا
أبوها تاجر حلب
جيّاب الحمالا
تجبل الحنة من ظهيرة ذلك اليوم وتوضع في وعاء خاص بها ، وتتقدم به إحدى النسوة اللاتي يُشهد لها بالسعادة الفائقة في زواجها ويطلق عليها "المسعدي" وتبدأ بوضع الحنة في أكف العروس وكلما تحنى كف تعلو الزغاريد وتنثر على العروس قطع الحلوى والنقود . وبعد الانتهاء من العروس تحنى اصبع الخنصر لأحد اكف الصبايا من قريبات العروس والعريس وبهن تعلو الزغاريد والدعوات لهن .ـ
أما في بيت العريس فالأمر على شاكلته فيجتمع الشبان من اصدقاء العريس ويبدأ الاحتفال به وبذويه بالرقصات والدبكات الشبابية التي تظهر رجولة الشباب وقوتهم. وتعلو الأهازيج الصداحة والتي تمجد العائلة والعريس. ويحمل مرارا على الأكتاف ويدار به في المنزل وساحة الرقص. وقد اعدت والدته الحنة المجبولة منذ الصباح وتحنى أصبعه الخنصر وتعلو عندها الأهازيج ونثر الحلوى والنقود على رأسه وتحنى اصابع أصدقائه واقربائه الذين بعمره وكلما انتهي من واحد ذهبوا للثاني وهم ينثرون عليهم الحلوى وتعلو التبريكات والتهاني والدعوات للعزاب، وتعلو الأهازيج حوله فيقولون ؛
مردحاااااااق صااااااق نااااااصي
هيه
على راس بيت فلان وما يتبعم
على عيني وراسي
ومردحاق هي كلمة تركية استخدمت في الأهازيج الموصلّية[7]ـ
ومن الأغاني التي تغنى في هذه المناسبة:
ـ
هجمنا شيوخ شمر على دار المعمر
وأخذناها ( لفلانة) على دار المعمر
أخذناها البنتكم أصيلي وما تتثمن
ومنو كن ريضانا أبوها كن ريضانا
ـ (وفلانة) كن عطانا اصيلي وما تتثمن
ومما يجدر ذكره أن أهل العروس لا يحضرون ليلة الحنة التي يقيمها أهل العريس كأمر اعتباري لهم. وبعد انتهاء الاحتفال تولم الولائم ويقدم للحضور اشهى الأطعمة وادسمها ، وينفض الاحتفال بتوديع العريس والتهيؤ ليوم الزفاف .ـ
يوم الزفاف
أما الرجال فينطلقون من بيت العريس مجموعة من الشباب من اقرباء العريس وأصدقائه إلى الحمام بموكب تسبقهم الأهازيج وتودعهم النسوة بالهلاهل والزغاريد ويحمل العريس على الأكتاف حتى باب الحمام .ـ
يتم حلاقة العريس وإخوته ويكيّس ويحمم ويعد بأبهى صورة حتى يليق لما سيقدم عليه. وبعد الانتهاء من مراسيم حمامه وانتهاء البقية ايضا ، يلبسونه فاخر الثياب من ذلك يعودون به إلى بيته محمولا أيضا على أكتافهم ويبدأ أهله باستقباله بالزغاريد والأهازيج ويلتم الجميع على مائدة وليمة تعد لهم.ـ
وبعد أذان العصر وبعد اكتمال عدد الحضور من النسوة من اقارب اهل العريس، واجتماع نسوة أهل العروس وجيرانهم المقربات في بيت اهل العروس ينطلق موكب الزفاف والمتكوّن من العربات التي تجرها الخيول وبعدد مناسب لتحمل اهل العريس إلى بيت العروس ومعهم بعض العربات الفارغة لتقل اهل العروس . وتطوف العربات ومع السواق بعض من شباب اهل العريس في المحاليل وبها النسوة وورائهم الصغار يركضون وراء العربات والأهازيج والزغاريد تعلو من العربات وتعلو اصوات الصغار بالغناء وهم يهرولون ، ولهذا قال الموصليون في احد أمثالهم "من كانت الزفي هرولة" للدلالة على الأيام الغابرة.ـ
وعندما يصل الموكب إلى بيت العروس يكون صغارهم في المحلة ويعلو صياحهم بوصول الموكب وتنزل النسوة من العربات ويدخلن بيت العروس والهلاهل والزغاريد تطلق من كل إتجاه ويقابلهن نسوة اهل العروسة وجيرانها وتتبارين فيما بينهن بعلو تلك الزغاريد وكأنهم في مبارزة.ـ
تستقبل النسوة في الداخل وتعلو الأغاني والتهليل والصلوات على الرسول محمد "صلى الله عليه وسلم" ، ويجلسون حول العروس التي أعدت على أبهى صورة وبردائها الأبيض ووجهها المغطى بقماش شبه شفاف من التوول ويدعى "الدواخ" وعلى رأسها تاج من الذهب او المرصع بالألماس. ثم تبدأ النسوة بالغناء والرقص ويستمرون على ذلك فترة من الزمن ، ثم يأخذونها من بيت أهلها وتصحبها أخواتها وقريباتها إلا أمها وخالاتها وعماتها كبيرات السن. وعند خروجا تودعها امها بالدموع وتقبلها وتحتضنها وكذلك تفعل بقية النسوة وتركب في عربة الزفة المزينة وينطلق الموكب إلى بيت عريسها.ـ
أما الفتية من أصدقاء وأقرباء وأهل العريس فإنهم يكونون بضيافة والد العريس في أحد مطاعم المدينة وبعد تناول وجبة العشاء يستعدون لزف العريس إلى عروسه ، فيحملونه تارة ويمشون به تارة أخرى والأهازيج والغناء يعلو في موكبهم حتى يقتربون من داره فيحملونه على اكتافهم ويدخلون به داره وهم في يهتفون ويغنون له ويرقصون له حتى يصلون به إلى محل جلوس عروسه فينزلونه هناك ويحتفون به احر احتفاء ثم يسلمون عليه ويهنئونه ثم يخرجون إلى خارج الدار ليكملوا بقية احتفالهم ، ويجلس هو بالقرب من عروسه بأبهى صورة .ـ
تنتهي حفلة العرس بالأغاني التراثية التي اعتاد الموصليّون غنائها ويطلقون عليها "الجلوي" ، وفيها يغنون؛
بالله أفغشولو بصدغ الإيوانا مات العدو واصفغت ألوانا
فغشتولو ( لفلان) وهلهلتلو بخشيش من عد أمو كن جانا
ودقومي يا ميمتو وتباهي بقامتو هذا ( فلان) المدلل هليوم يوم زفتو
ودقومي يا خيتو وتباهي بطلعتو هذا( فلان) المدلل هليوم يوم دخلتو
وعاجادينا الجادينا .. الله عطى مرادنا
ومن سكان البحر ( فلان) سكان البحر
أخذ ( فلانة) ومنتصر والله عطى مرادينا
ويا بيت كسابا .. بالله افتحو البابا
جبنا العغوس والختن والشمع كن ذابا
دقومي واتدحغجي من دوشكي العالية واستقبلوكي بنات العمي والخاليا
غاليا غاليا (فلانة) يا الغالية حلوة ويا مكذولة الكصة ويا متغاوية
ثم يقوم الزوجان من مقامهما عند دخول والد الزوج ويقبلون يده ويحظون ببركة دعائه لهم بالتوفيق ويلتفتون إلى الأم وتحتضنهم ويقدمون لها فروض الاحترام ، ثم يتقدم بقية الأخوة والأخوات فيباركون للزوجين ويدعون لهم بالتوفيق . وبعد ذلك يأخذ العريس عروسه إلى عش زواجهما ويبدأ الحاضرين بالانصراف ويخلو البيت من ضوضاء العرس ويبقى في الدار الأب والأم وبقية العائلة تنتقل لبيت الأقارب لقضاء ليلتهم هناك.ـ
تعد صينية عشاء الزوجين وتوضع في غرفة نومها وتغطى بالقماش وتوضع أباريق الماء البارد والفواكه والحلويات كالبقلاوة والشكرلمة والمعكرونة والجوز واللوز والتين.ـ
يستيقظ العروسين صباح اليوم التالي "يوم الصباحية" ، ويستبدلون حلقاتهم من اليد اليمنى إلى اليد اليسرى إيذانا بإتمام زواجهما على صورة صحيحة. ولا يزعجهم أحدا فيجدون فطورهم قرب الباب ومعد من المكونات الدسمة كالقيمر والجبن واللبن والحليب ومشتقاته والعسل والشاي وخلافه ويحضره الخبز الحار . ينزل العريسين قريبا من ضحى اليوم التالي إلى الدار وعلامات الرضى بائنة على الوجوه. وتتمتم الأم مع كنّتها عن ليلتها ويومئ الأبن لأبيه بالتمام وتنشرح أنفس الأهل.ـ
في ذات اليوم تزور العروس أمها أو أختها للاطمئنان على صحتها ولشكر أهل العريس على ما قدموه من حفاوة لأبنتهم ولحث حماة العروس على رعاية ابنتهم وأنها ستكون لهم أبنة جديدة.ــ
مباركة الأقارب والأربعة ايام
بعد مضي أربعة ايام على زواج العروسين يجتمع نسوة أهل الزوجين في حفل بهيج يبارك المدعوات فيه للعروسة زواجها وتقدم للزوجين الهدايا والعطايا بحسب الحالة المادية للأقارب. ويولم في هذا الحفل وتبذل الحلوى والمشروبات فيه.ـ
تبقى الكنة عروسة لا تكلف بعمل طيلة شهر العسل وهي إن بادرت من طيب نفسها بمساعدة حماتها وبناتها فنِعم الفعل فعلها وإلا فإنها لا تسأل عن ذلك ، إلا ما تقوم به في غرفتها من اعمال تنظيف وترتيب وما يحتاجه الزوج.ـ
بقي ان نذكر ان كثيرا من عادات أهلنا تغيرت بفعل تطوّر الحياة تبدل الظروف وأصبحت الحفلات تقام في قاعات الأعراس العامة وأصبح زيارة العريس لعروسته قبل وبعد عقد القران شيئا متقبلا من قبل اهل العروس، لكنه لا يُسمح له بالاختلاء بها إلا يوم زفافها له. وأصبحت زفة العروس تتم وفق سيناريوهات مسبقة التنظيم . ويتم تجهيز العروس والعريس من قبلهما حيث انهما يقومان بشراء البضائع التي يحتاجونها بمرافقة أم العروسة وفي بعض الأحيان بمعية أم العروسة وأم العريس. وأصبح الدخول يتم في الفنادق الراقية ويكون بعدها سفر إلى خارج المدينة او خارج العراق لقضاء شهر العسل. واختزلت حفلة الأربع أيام بحفلة الزواج التي يقيمها اهل العريس ، وأصبح كثيرا من العرسان يسكنان في بيوت منفصلة منذ اليوم الأول لزواجهما ويعتمد ذلك على ظروف العائلتين واتفاقهما على ذلك منذ اول أيام الخطوبة.ـ
حياة تطورت وتطوّر معها المفهوم المعنوي للزواج إلا ان العوائل الموصلية حافظت على تراثها في تكوين الأسرة التي هي اللبنة الأصغر والرئيسية والأولى في المجتمع الموصلّي وبقي انتقاء الأنساب من المقومات الأساسية للعائلة الموصلّية العريقة بتاريخها والمعتزة بنسبها ومكانتها الاجتماعية والتي من الصعب ان تتخلى عنها برغم الظروف التي يمر بها بلدنا ومدينتنا العزيزة.ـ
___________________________________
ـ[1] وهذا امر كان حاصلا لكنه بتقدم الزمان اختفى
ـ[2] في بداية الثمانينات بدأت بعض العادات بالتطور فبدا العريس حضور حفل تلبيس الحلقات فيدعى وقت تلبيس الحلقة ويخرج بعد برهة لمواصلة النسوة احتفالهن بحرية اكثر ويكون لبس الحلقة ببنصر اليد اليمنى
ـ[3] المثقال هو وحدة القياس المعتمدة لوزن الذهب وكل مثقال يعادل 4,6 غم
ـ[4] جمع بقجة وهي قطعة قماش مربعة الشكل منها المطرز والمبطن وتوضع بداخلها الحمالة كل بحسب صنفها ويكون عدد البقج دليلا على جودة وحجم التجهيزات. ومجموعها تسمى الحمالة
ـ[5] تطورت الحمالي لتشمل الأجهزة الكهربائية والمنزلية في يومنا هذا ما زاد كلفة الزواج كلفة إضافية تكون بحسب القدرات المالية لكلا العائلتين
ـ[6] في الفترة التي أعقبت حقبة ثمانينات القرن الماضي منع رجال الدين (الملالي) من إبرام عقود القران واسنادها لقضاة المحاكم الشرعية حفاظا على حقوق الزوجات وخصوصا في فترة الحرب العراقية – الايرانية التي تسببت في فض عقود قران كثيرة بسبب وفاة الزوج او بسبب الطلاق.
ـ[7] وتعني فليسلم ويعلو هذا الحق
**
عودة الى الصفحة الرئيسة