وسيم الشريف
اعتاد العراقيون منذ زمن بعيد ومنهم الموصليون على الترحيب بجيرانهم الجدد أو الساكنين الجدد . ومن عاداتهم الجميلة أن يسبق الانتقال إلى المنزل الجديد سؤال عن الجار وتحرٍ عن الكبار والصغار لأن الموصلّيين يقولون "اشتري الجار قبل الدار" في دلالة على التحري عن جيران الدار قبل التحري عن الدار نفسه.ه
وعند مواءمة الجيران لما يطلبه جارهم الجديد من موازنة في المقام الأخلاقي والمجتمعي، يحدث القبول بالانتقال إلى المنزل الجديد. وفي هذا اعلان منه للجيران انه مستأنس بجيرتهم. ويقابله الجيران بالترحيب به وبعائلته فنرى الرجال يرحبون بصاحب الدار ويبادرونه بالترحيب والاستئناس به ويتولاه أكثرهم مقاما فيعرفه على بقية رجالات المنطقة التي سكنها الجار الجديد. ويأمر أهل بيته فيعدون طعام غداء الأسرة الجديدة ويرسلونه إلى العائلة الوافدة ويسمونها النزالي. أما اولاد الحي وشبابهم فيبادرون بمساعدة شباب العائلة الجديدة بنقل الأثاث وإدخالها إلى المسكن الجديد. ويتسابقون فيما بينهم في التعرف والتعريف بالشباب الجدد، وعقد صداقات جديدة. وغالبا ما تقدم الجارات على مد يد العون لجارتهم الجديدة في تنظيف البيت الجديد وترتيب الأغراض التي يدخلها الشباب إلى باحة البيت.ه
النزالي
هي وجبة غداء او عشاء يتقدم بها جار الساكنين الجدد الملاصق لدارهم وتطبخ ذلك اليوم وترسل في صينية ومعها كل مستلزمات الأكل من مواعين وملاعق كبيرة وصغيرة وأقداح والعصائر او المشاريب والماء البارد. وعادة ما يتكون الغداء من الوجبة الرئيسية للعائلة الموصلية والتي تضم الرز والمرق وتتفنن الجارة بطبخ الرز(التمن) ومنهم من يجعله بألوان ومبهّر والبعض يجعله مع الرشتة أوالشعرية والبعض يجعله لوحده أبيضا أوأحمرا ، والبعض يقدم البرغل وفي قديم الزمان كان البرغل هو الوجبة الرئيسية للعائلة الموصلية قبل انتشار الرز. والمرق يتشكل في إعداده بحسب ما هو متوفر من الخضراوات الموسمية. وتعد الزلاطات والمخللات والمكبوسات ويقدم الخبز الحار المخبوز في البيت مع وجبة الطعام واللبن الرائب والشنينة المخفوقة. لا يغيب اللحم عن طعام النزالي ويكثر منه ويقدم بأشكال مطبوخا في المرق أو مسلوقا ثم مقليا فوق الرز وتنتخب قطع اللحم جيدا. والبعض يقدم لحم الخروف والبعض يقدم لحم البقر والبعض يقدم لحم الدجاج والآخر يقدم تشكيلة من الأكلات تحتوي على أصناف من اللحوم، منها الكبة الموصلية أو كبة حلب أو كبة التمن أو العروق وغيرها من الأكلات الموصلية بحسب مواسمها. وتقدم النزالي بمفرداتها في صينية الطعام وتغطى بقماش وقد تقدم بصينية واحدة أو عدة صواني بحسب الحجم المقدم. ومن الأدب الموصلّي أن يسأل الجار جاره عن صنف الطعام الذي يفضله ليكون إعداده ملائما لهم.ه
تعتبر النزالي وجبة ملزمة للجيران يقدمونها للجار الجديد ويتناوب على ذلك الجيران الأصليون ما بين غداء وعشاء ولمدة ثلاثة أيام أو حتى يعلو دخان موقدهم، ويبتدؤها الجار الجنب (الملاصق للساكنين الجدد) ثم يكمل عليها بقية الجيران. أو يبادر بها أيسرهم حالا ويتبعه البقية كل حسب إمكانياته المادية. وتعمل هذه العادة على تقريب الجيران بعضهم مع البعض الآخر وتسهم في بث روح الاطمئنان فيما بينهم وخصوصا ان العراقيين يؤمنون بمسألة الزاد والملح، حيث تنتبذ الخيانة فيما بينهم بعد أن يتناولون الطعام سوية أو من قدر واحد فيقول أحدهم للآخر "صاغ بيناتنا خبز وملح" أو "صاغ بيناتنا زاد وملح" أو يختصرونها بقولهم "تمالحنا". وعلى ما يبدو أنهم متأثرون بحديث الرسول الكريم محمد "صلى الله عليه وسلم" ؛ عن أبي هريرة مرويا عن إبن ماجه عن عائشة أنها سألت رسول الله "صلى الله عليه وسلم" : { يا رسول الله ما الشيء الذي لا يحل منعه ؟ قال : الماء والملح والنار ، قالت : قلت: يا رسول الله هذا الماء قد عرفنا فما بال الملح والنار ؟ قال : يا حميراء من أعطى نارا فكأنما تصدق بجميع ما أنضجت تلك النار ، ومن أعطى ملحا فكأنما تصدق بجميع ما طيبت تلك الملح ، ومن سقى مسلما شربة من ماء حيث يوجد الماء فكأنما أعتق رقبة، ومن سقى مسلما شربة من ماء حيث لا يوجد الماء فكأنما أحياها. وكم تزخر حكايات الموصليين عن هذا الأمر الكثير منها هذه الحكاية؛
ه ( .. روي ان عصابة من لصوص نزلوا ليلا في فناء رجل تاجر يرومون سرقته ، فدخلوا مخزنه يبغون سرقة أكياس المؤن المصطفة. فبدأوا يتحسسون الأكياس فمروا بكيس غلب عليه ضنهم أنه سكر فتذوقه زعيمهم فإذا به ملحا. فرفع صوته لعصابته وقال لهم:ه
"أتركوا ما في أيديكم اليوم لا نسرق شيئا من هنا لأننا مالحناهم" ..) ه
. و تأتي النزالي في يوم منهك للجيران الجدد الذين لا يقوون على إعداد طعامهم ذلك اليوم لأنه لم يضبط شأنهم بعد أو لم يهيأ موقدهم ولربما لم يمتلكوا وقودهم بعد. ولا تقاس تلك الأيام بأيامنا هذه فكل شيء متاح أمامنا اليوم ، لكن إعداد الطعام مضنٍ لربة البيت في سالف الزمان. وعندما يبدأ دخان الموقد بالخروج من بيت الجار الجديد تتوقف النزالي من الورود إلى الجيران الجدد، وتصبح العائلة الجديدة مستقرة ومستعدة لاستقبال الضيوف المباركين بالبيت الجديد.ه
ومما يذكر أن العائلة التي تقدم النزالي لا تقدم هدية المسكن الجديد إنما الزيارة واجبة لها ولتقديم التهاني بالبيت الجديد. ويقوم الجيران الجدد بتقديم شكرهم والترحاب بهم على أعلى ما يكون من إحترام تقديرا منهم لما قدمه لهم جيرانهم. ومن اللطيف ذكره هنا أن المواعين والأدوات تغسل وترجّع الى أصحابها وتحرص ربة البيت ان تضع فيها كسرة خبز اعتقادا منهم أن المواعين لا يجب ان ترّد فارغة. ويتم إرجاعها قبل حلول وقت المساء وهذا تقليد متبّع إلى يومنا هذا.ه
بقي أن نقول أن النزالي تقدم إلى الجيران الجدد سواءً أكانوا مالكين جددا للبيت أم مستأجرين له. لكن هدية البيت الجديد تقدم للعوائل المالكة للبيت الجديد فقط. إنما الزيارة موجبة للحالتين من اجل التعارف.ه
تدور أحاديث الترحاب والتعارف الأسري بين العائلتين المتزاورتين وكلٌّ يسأل عن أصل جيرانه وفصلهم للمزيد من التقارب . وعادة ما تكون هذه الزيارة فرصة للجيران للتعرف على جيرانهم الجدد وفيما إذا كان لديهم بنات بعمر الزواج فلربما تلائم إحداهن لإبنها التي تنوي تزويجه قريبا . فتتكلم الأم ملمحة لأهلها عن هذا الشأن وواصفة إبنها وصفا جميلا، ومبدية خدماته أيا كانت لهم لحين استتباب وضعه المجتمعي الجديد. وموضحة نيتها إن كانت العائلتان متوازنتين في الأصل والمكانة الاجتماعية.ه
توالى الجيران بزيارة الجار الجديد وتتبادل أحاديث الود والتقريب ، ويسعى كل جار بتقديم هداياه مباركين لهم سكنهم الجديد ومعربين عن رغبتهم في مد جسور المحبة بينهم مؤمنين بقول الرسول الكريم محمد "صلى الله عليه وسلم" ؛(تهادَوا تحابّوا).ه
وبعد استقرار الأسرة الجديدة في مسكنها الجديد تبدأ برحلة رد الزيارات للجيران محملين بكل عبارات الامتنان والتقدير ويحملون إليهم أنواعا من الحلوى تعبيرا لهم على رضى الجار بجاره الذي اكرمه. ومن هنا تبدأ رحلة ذوبان الأسرة الجديدة في المحلة الجديدة وتبدأ رحلة تقاربهم معهم . ويبقى الجار يطلقون على جيرانهم لقب "جارنا الجديد" لفترة قد تطول وقد تقصر ، أو حتى يرد المحلة جار آخر جديد وتعاد السلسلة من جديد.
هذه الخصلة الجميلة التي كانت خصلة أساسية في المجتمع الموصلّي بدأت بالاندثار شيئا فشيئا لظروف نذكر منها:ه
توسع المدينة أفقيا بشكل كبير واختلاف نظام البناء لدى الموصلّيين فكانوا من قبل متجاورين ومتلاصقين في البناء أحدهم يحس بالآخر ولكنهم بعد ان خرجوا بسكنهم إلى الأحياء الجديدة تباعدت بيوتهم عن جيرانهم بفعل التصاميم الحديثة لعمارة البيوت، فتباعدت قلوبهم وفترت شيئا ما.ه
انتقال العوائل المستمر بسبب لجوء العوائل لنظام السكن بالإيجار وهذا ما يؤدي إلى ضعف العلاقات المجتمعية بين عائلات المحلة الواحدة. إضافة إلى أنها تؤدي إلى انطواء العوائل على أنفسها بسبب ضعف تلك العلاقات ، فنلمس بطئ في الإعراب عن تلك العادات التي بدأت تختبي في زوايا المجتمع البعيدة شيئا فشيئا ، حتى اصبحت من شواذ الأمور في قطاعات معينة من المجتمع الموصلّي . لكن هذا لا يمنع من وجودها بصورة واضحة في قطاعات أخرى. ويعود سبب ذلك إلى ارتفاع سعر الوحدات السكنية والعقارية والتي لا تطيقها العوائل بحد ذاتها.ه
إن للحرب العراقية الإيرانية التي دامت ثماني سنوات الأثر البالغ في تركيبة المجتمع الموصلّي ، حيث جدَّ فيه من العادات والتقاليد التي لم تكن مألوفة لديه نتيجة للتمازج بين المكونات المجتمعية التي نقلها أفراد القوات المسلحة الذين بمثابة سفراء لمجتمعاتهم في الوحدة العسكرية التي يجتمعون فيها لـ 28 يوما . وقلة حظوظ تواجد رب الأسرة في بيته نتيجة لهذا الأمر سبّب في ضعف تلك الأواصر المجتمعية التي كان يبديها الجار لجاره. وبالتالي انتقلت إلى الجيل الذي يليهم مثلوبة التكوين .ه
كما ان لفرض الحصار الاقتصادي الذي كان مفروضا على العراق لمدة 12 سنة وما رافقه من تضخم مالي أنهك العائلة العراقية ومنها العائلة الموصلية بالذات . وبدا تأثيره جليا في المجتمع الموصلّي أكثر من غيره بسبب المستوى المعاشي الذي كان يعيشه المجتمعالموصلّي وما آل إليه. وهذا الأمر انعكس جليا على عادات وتصرفات العوائل الموصلّية، إلا اننا لا نعمم هذا الأمر على جميعه.ه
ازدياد الهجرة الريفية إلى المدينة في ثمانينات القرن الماضي والتي حملت معها تقاليد مجتمعية مختلفة تبعا لمصادرها وادت إلى تغيير كثير من المفاهيم والتقاليد المجتمعية التي كانت سائدة من قبل. كما وأصبح لمفهوم وعادات مجتمعه تأثير عميق في خصوصية لمجتمع الموصلّي الذي كان قائما على اساس نظام البيوتات وليس العشائر. الأمر الذي غيّر بطبيعته كثيرا من العادات والتقاليد التي كانت سائدة حسنة كانت ام غير ذلك.ه
كان لنزوح العديد من العوائل في الفترة التي اعقبت عام 2006 إلى الموصل وسكنها في تجمعات متقاربة ومتجاورة أثر واضح في المجتمع الموصلّي وخصوصا في المنطقة التي سكنوها. ولانغلاقهم على انفسهم فترة ليست بالقصيرة ولعدم توافر فرصة اندماجهم في المجتمع الموصلّي إما نتيجة للدوافع التي حملتهم للنزوح إلى الموصل او للظروف التي تسيّدت الموصل والأحداث التي جرت وتجري بها أو لربما لطبيعة التكوين المجتمعي الذي نشأوا فيه والذي لا يعطيهم الفرصة الكافية لذلك.ه
صعوبة تقبل المجتمع الموصلي للفِكَر الحديثة التي تتوافد إليه من مجتمعات اخرى دون ان يستغرق ذلك وقتا طويلا.ه
تغيّر المفهوم الغذائي للأسرة الموصلية وتقبلها لنظام الطعام الجاهز، وانتشار المطاعم ومحال توفير الوجبات السريعة أدت إلى تراجع انتشار هذه العادة (النزالي). كما ان اختفاء طبق الجار الذي كان حاضرا على مائدة العائلة الموصلية حتى فترة الثمانينات ضعّف كثيرا من فكرة تقديم النزالي للجار الجديد. حيث أن تباعد البيوتات بعضها عن البعض الآخر كان سببا رئيسيا في ذلك.ه
ختاما يمكن ان نقول أن التآلف الاجتماعي بين مكونات المجتمع الواحد يخلق كثيرا من فرص التقارب والتحّاب بينهم، ويؤسس إلى مجتمع متماسك يدفع بعضه لبعض. ولتحقيق هذا التماسك ينبغي وجود عادات أسست هذا المبدأ وعملت على انعاشه لفترة طويلة. والنزالي إحدى تلك العادات البسيطة التي حافظ عليها آباؤنا وأجدادنا والتي كان لها وقع كبير في بناء علاقات مجتمعية متينة. كما ان الالتزام بالتعاليم السماوية التي نزلت في تنظيم العلاقات الأسرية والاجتماعية التي تدفع باتجاه تطوير المجتمع والنهوض به إلى مصاف المجتمعات المتحضرة والمتقدمة والتي يصان فيها الفرد باعتباره لبنة أساسية فيه تقوم على مبدأ المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات مبتعدة عن أساليب التمايز الطبقي والانتمائي والديني والمذهبي، وكل هذا يسهم في تطوّر المجتمع برمته.ه
نشرت في بيت الموصل في 14-6-2013
عودة الى الصفحة الاولى