الإحساس بالمكان .... شارع نينوى أنموذجاً
مصعب سامي العبيدي
لعل أهم ما يميز المدن العربية القديمة هو ذلك الإحساس المميز الذي يشعر به الإنسان عندما يمشي في شوارعها وأزقتها الضيقة ويرتاد أسواقها ومساجدها وكنائسها وحماماتها وخاناتها. هذا الإحساس الناتج عن القيمة التراثية والتاريخية لتلك المدن ذات الغنى الحضاري الذي تفتقده المدينة الحديثة.
في هذا المقال سنكرس حديثنا حول مدينة الموصل القديمة كونها مدينة معروفة بثقلها التاريخي والحضاري الكبيرين ومفهوم الإحساس بالمكان الذي يعد من احد أهم المفاهيم المتعلقة بدراسة المكان. فليس غريبا علينا ما وصلت إليه حال مدينة الموصل القديمة من إهمال شديد و تهرؤ مبانيها وانعدام البنية التحتية, فضلاً عن مقابلة هذه الفوضى بفوضى أخرى وهي قيام أصحاب الأملاك بهدم بعض المباني القديمة وبناء مباني بتصميم فقير ومواد بناء وألوان حديثة لا تمت بصلة لتاريخ المدينة وواجهات مبانيها. مما أدى إلى تشويه منظر المدينة القديمة وبالتالي افقدها ذلك الإحساس القديم المكلل بالشناشيل والشرفات (الطارمات) والمواد المحلية التقليدية ونظافة وجمال الأسواق والشوارع. من هنا جاءت أهمية هذا المقال الذي نحاول من خلاله تفسير وتحليل المشاكل التي تعاني منها مدينة الموصل القديمة من جانب مفهوم الإحساس بالمكان. وهذا المقال هو جزء من دراسة واقعية أجريت في نهاية عام 2013م عن شارع نينوى.
شارع نينوى شارع غني عن التعريف, فهو من أقدم شوارع الموصل القديمة الذي افتتح منذ أكثر من قرن مع مجموعة من الشوارع التي ترتبط معه مثل شارع الفاروق. تمارس الكثير من الفعاليات والنشاطات اليومية في شارع نينوى وبخاصة قديما بعد فتحه عام 1913م, فهو شارع تجاري تنوعت فيه البضائع وبالأخص محلات بيع الملابس النسائية (السرجخانة) ومنطقة الميدان (المنطقة الأقدم في الشارع) التي تباع فيها المواد التموينية واللحوم بأنواعها والفواكه والخضر. كذلك هو شارع الأحزاب والمسيرات والثورات والتي بدأت من ثلاثينيات القرن الماضي. وقد تناول الكثير من الباحثين والكتاب في بحوثهم ومقالاتهم الحديث عن شارع نينوى مثل الأستاذ عبد الوهاب النعيمي, والدكتور عادل البكري، والأستاذ أزهر العبيدي، والأستاذ بهنام سليم حبابه, والأستاذ الدكتور سمير بشير حديد, والأستاذ الدكتور صلاح الجنابي. وبعيدا عن سرد ما كتبه هؤلاء الباحثين القديرين, فهذا المقال هو مكمل لما جاءوا وهو إضافة أخرى لدراسة واقع حال شارع نينوى كأحد أهم شوارع مدينة الموصل القديمة التي مازالت تعاني الإهمال والتهرؤ وبخاصة قسمه المحصور بين السرجخانة وجسر نينوى الحديدي القديم.
ما هو الإحساس بالمكان ؟
خلال دراستي لشارع نينوى وبعد مقابلة العديد من الأشخاص تبين لي أن الكثير ممن التقيتهم ليس لديهم دراية بمعنى الإحساس بالمكان وجوانبه ومؤثراته. فمن هنا ارتأيت توضيح مفهوم الإحساس بالمكان كما جاء في المصادر العلمية كأحد الجوانب المهمة جدا للنهوض بمدينة الموصل القديمة من هذه الفوضى إلى مدينة أجمل ذات إحساس تراثي قديم ومميز. وقد تطرق الكثير من الباحثين الغربيين إلى تعريف مفهوم الإحساس بالمكان كل حسب فهمه وخلفيته العلمية. فمنهم من عرّف الإحساس بالمكان على انه: ((تركيبة غير ملموسة من الارتباط العاطفي بالمكان المطوّر من خلال التجارب البيئية التي تربط الناس بمحيطه)). وفي الوقت نفسه فأن المكان بحد ذاته يتكوّن من عناصر ملموسة مثل مميزات الموقع والمباني, وغير ملموسة مثل المعتقدات والتقاليد والطقوس والمهرجانات. كما قام آخرون بتعريف الإحساس بالمكان على انه: ((القدرة على التعرف على الأماكن والهويات المختلفة للمكان)). وآخرون ذكروا بأن الإحساس بالمكان هو ناتج من تأثر المكان بمستخدميه (الناس) وكذلك تأثر الناس بالمكان نفسه. هنا سيكون للمكان قيمة مادية ومعنوية لدى مستخدميه. ولهذا نرى أن المدن التاريخية القديمة مثل مدينة الموصل لها تأثير كبير في نفوس أهلها وبالأخص هؤلاء الذين نشأوا في محلاتها القديمة وعملوا في أسواقها التراثية. ومن هنا يمكن تلخيص الإحساس بالمكان بأنه: ((هو ما يحسّه الإنسان تجاه مكان معين مثل الشعور بالفخر أو عكسه, بالأمان أو الخوف, بالراحة أو بعدمها, بالانتماء أو الارتباط أو عدمه. فكلما امتلك المكان صفات ايجابية ومعاني عميقة في نفسية وذاكرة الإنسان كلما كان ذلك المكان مميزا لدى ذلك الشخص.
العناصر والمميزات التي تعزز مفهوم الإحساس بالمكان
تطرق الكثير من الباحثين إلى دراسة واكتشاف خصائص وعناصر تعزز مفهوم الإحساس بالمكان كإحد الحلول للنهوض بواقع مراكز المدن القديمة والحديثة. واختلفت تلك الخصائص باختلاف المكان المراد دراسته بأسلوب علمي دقيق. فبعضهم حاول دراسة العناصر المبنية للمساجد وآخرين للمساكن التقليدية كطريقة لإعادة إحيائها وتجديدها ودراسة تأثيراتها وربطها بمفهوم الإحساس بالمكان. ومنهم من قام بدراسة شوارع المدينة القديمة من خلال التركيز على المباني والعقد الحضرية والعناصر الأخرى التي تكون فضاء الشارع مثل الواجهات والجداريات والنقوش والشواخص البصرية والفعاليات الوظيفية ...الخ. ولأننا خصصنا في مقالنا هذا النقاش حول تأثير الإحساس بالمكان لشارع نينوى كشارع تجاري قديم فأننا نلخص أدناه أهم الخصائص والمميزات المرتبطة بالشوارع التجارية والتي تعزز فكرة الإحساس بالمكان:
1. خصائص فيزياوية
وهي الخصائص التي تشمل مباني الشارع مثل المساجد, الكنائس, الدوائر والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية ...الخ. كما تشمل عناصر الشارع غير المبنية مثل أعمدة الإنارة, أماكن الجلوس, أماكن الوقوف العامة, العلامات التجارية والدعائية, الأشجار, العلامات الدالة, إشارات المرور, سلال المهملات ...الخ من العناصر غير المباني. كما تشمل الخصائص المتعلقة بالتخطيط الحضري مثل العقد الحضرية, الشواخص البصرية, واجهات المباني, مسارات الحركة. كل هذه الخصائص تلعب دور مهم في تعزيز مفهوم الإحساس بالمكان من خلال جعل الشارع مميزا عن باقي الشوارع الأخرى في المدينة.
2. خصائص وظيفية
وهي الخصائص المرتبطة بالفعاليات والأحداث التي تجري في الشارع على مدار اليوم. ولعل أهم ما يميز شارع نينوى هو الفعالية التجارية, فهو أشبه بسوبر ماركت مفتوح يحتوي على معظم المستلزمات الأسرية من الألبسة والأقمشة وغيرها, ومتطلبات الفرد مثل العطور ومواد التجميل والصيدليات وعيادات الأطباء ومحلات الذهب والعوينات ...الخ. ومن الأمثلة الأخرى على الخصائص الوظيفية هي استخدامات الشارع في المسيرات والاحتفالات والمهرجانات كونه يمر من مركز المدينة القديمة. ولا يخفى علينا دور هذا الشارع في المناسبات الدينية مثل المولد النبوي, وفي المناسبات والمسيرات السياسية. حيث شهد شارع نينوى كما هو معروف العديد من المظاهرات مثل التظاهرة الاستنكارية الغاضبة عشية وفاة الملك غازي عام 1939, ووثبة كانون 1948، والعدوان الثلاثي على مصر 1956، وتأييد قيام ثورة 14 تموز 1958، ومظاهرة استنكار عقد مؤتمر أنصار السلام قبل ثورة الموصل (الشواف) 1959وكثير من المظاهرات السياسية الأخرى.
كذلك من الأمثلة المهمة الأخرى هي وظيفة الشارع كقناة للنقل. فالكثير من الناس يستخدم شارع نينوى من اجل التنقل من مكان إلى آخر ومن سوق إلى آخر ومن شارع إلى آخر للوصول إلى المكان المقصود سواء مشيا على الأقدام أو باستخدام وسائل النقل الأخرى.
3. معاني المكان
وهي من الخصائص المهمة التي لها علاقة بالذاكرة الجمعية للإنسان والتي تعمل على تعزيز الإحساس بالمكان. فكلما تعددت المعاني في مخيلة الإنسان وتصوراته كلما كان ارتباطه بذلك المكان اقوي واشد. هذه المعاني تنشأ مع نشوء الإنسان في ذلك المكان أو في لحظة تعرفه على ذلك المكان, هنا تبدأ الذاكرة بتخزين صور المكان والأحداث والمناسبات والأشخاص. ولابد من الإشارة إلى أن عمق معاني المكان مرتبط ارتباطا وثيقا بقدم المدن ووزنها الحضاري والتاريخي, وهذا الحال واضح عندما تسأل أي شخص كبير في السن عن مدينة الموصل القديمة. فذلك الشخص سيسرد مجموعة من الأحداث والمواقف التي عاصرها في ذلك الزمن.
عواقب عدم فهم الإحساس بالمكان
من اشد عواقب فهم الإحساس بالمكان هو غياب الإحساس بالمكان أو فقر الإحساس بالمكان وهو ما معروف بـ(الجفاف) في المصطلحات العلمية. فلو أمعنا النظر في العناصر والمميزات التي تعزز الإحساس بالمكان (السابقة الذكر), وتفحصنا وجودها في شارع نينوى لأدركنا أن ما قيل من خصائص هي ضرب من الخيال إلا القليل منها. فالمباني القديمة متهرئة والمباني الحديثة لا تمت بصلة لتاريخ الشارع من حيث التصاميم المعمارية وألوان ومواد التغليف المستعملة في الواجهات, كذلك عدم احترام المباني القديمة التي لها ثقل تاريخي وتراثي وذلك بالتجاوز عليها. ولعل الصور أدناه توضح ما آل إليه الشارع من تدهور وفوضى. وهنا لا بد من سؤال ... من هو المسؤول عن هذا التدهور والفوضى؟؟ والجواب هو قلة وعي المواطن بمفهوم الحفاظ على التراث, إلى جانب عدم وجود رقابة وغياب دور البلدية التي من شأنها توعية المواطنين بأساليب الحفاظ وإجبار أصحاب الأملاك على إتباع نظام تصميمي معين يعزز هوية مدينة الموصل.
من المشاكل الأخرى التي يعاني منها شارع نينوى فيما يخص الإحساس بالمكان هو ما ذكره الكثير من الكتاب والباحثين عن تهرؤ البنية التحتية للشارع وانتشار أماكن رمي النفايات العشوائية التي جعلت من الشارع بيئة غير ملائمة وغير مريحة لمستخدمي الشارع. بالإضافة إلى فوضى الدعايات التجارية وكثرتها التي حجبت واجهات المباني والتي تعكس الهوية المعمارية والمكانية له. ولم تقف الحالة إلى هذا الحد فقط, بل تجاوزت إلى فضاء الرصيف المخصص للسابلة. وأصبحت تجاوزات أصحاب البسطات ليس فقط على الرصيف فحسب وإنما على الشارع وواجهات البنايات أيضا. كما لا يخفى على مرتادي شارع نينوى التشويه الذي سببته أسلاك المولدات التجارية على مباني الشارع. كل هذه المشاكل كانت قادرة على إضعاف دور شارع نينوى الذي قال عنه الكاتب عبد الوهاب النعيمي بأنه سيد شوارع مدينة الموصل.
مصعب سامي العبيدي
لعل أهم ما يميز المدن العربية القديمة هو ذلك الإحساس المميز الذي يشعر به الإنسان عندما يمشي في شوارعها وأزقتها الضيقة ويرتاد أسواقها ومساجدها وكنائسها وحماماتها وخاناتها. هذا الإحساس الناتج عن القيمة التراثية والتاريخية لتلك المدن ذات الغنى الحضاري الذي تفتقده المدينة الحديثة.
في هذا المقال سنكرس حديثنا حول مدينة الموصل القديمة كونها مدينة معروفة بثقلها التاريخي والحضاري الكبيرين ومفهوم الإحساس بالمكان الذي يعد من احد أهم المفاهيم المتعلقة بدراسة المكان. فليس غريبا علينا ما وصلت إليه حال مدينة الموصل القديمة من إهمال شديد و تهرؤ مبانيها وانعدام البنية التحتية, فضلاً عن مقابلة هذه الفوضى بفوضى أخرى وهي قيام أصحاب الأملاك بهدم بعض المباني القديمة وبناء مباني بتصميم فقير ومواد بناء وألوان حديثة لا تمت بصلة لتاريخ المدينة وواجهات مبانيها. مما أدى إلى تشويه منظر المدينة القديمة وبالتالي افقدها ذلك الإحساس القديم المكلل بالشناشيل والشرفات (الطارمات) والمواد المحلية التقليدية ونظافة وجمال الأسواق والشوارع. من هنا جاءت أهمية هذا المقال الذي نحاول من خلاله تفسير وتحليل المشاكل التي تعاني منها مدينة الموصل القديمة من جانب مفهوم الإحساس بالمكان. وهذا المقال هو جزء من دراسة واقعية أجريت في نهاية عام 2013م عن شارع نينوى.
شارع نينوى شارع غني عن التعريف, فهو من أقدم شوارع الموصل القديمة الذي افتتح منذ أكثر من قرن مع مجموعة من الشوارع التي ترتبط معه مثل شارع الفاروق. تمارس الكثير من الفعاليات والنشاطات اليومية في شارع نينوى وبخاصة قديما بعد فتحه عام 1913م, فهو شارع تجاري تنوعت فيه البضائع وبالأخص محلات بيع الملابس النسائية (السرجخانة) ومنطقة الميدان (المنطقة الأقدم في الشارع) التي تباع فيها المواد التموينية واللحوم بأنواعها والفواكه والخضر. كذلك هو شارع الأحزاب والمسيرات والثورات والتي بدأت من ثلاثينيات القرن الماضي. وقد تناول الكثير من الباحثين والكتاب في بحوثهم ومقالاتهم الحديث عن شارع نينوى مثل الأستاذ عبد الوهاب النعيمي, والدكتور عادل البكري، والأستاذ أزهر العبيدي، والأستاذ بهنام سليم حبابه, والأستاذ الدكتور سمير بشير حديد, والأستاذ الدكتور صلاح الجنابي. وبعيدا عن سرد ما كتبه هؤلاء الباحثين القديرين, فهذا المقال هو مكمل لما جاءوا وهو إضافة أخرى لدراسة واقع حال شارع نينوى كأحد أهم شوارع مدينة الموصل القديمة التي مازالت تعاني الإهمال والتهرؤ وبخاصة قسمه المحصور بين السرجخانة وجسر نينوى الحديدي القديم.
ما هو الإحساس بالمكان ؟
خلال دراستي لشارع نينوى وبعد مقابلة العديد من الأشخاص تبين لي أن الكثير ممن التقيتهم ليس لديهم دراية بمعنى الإحساس بالمكان وجوانبه ومؤثراته. فمن هنا ارتأيت توضيح مفهوم الإحساس بالمكان كما جاء في المصادر العلمية كأحد الجوانب المهمة جدا للنهوض بمدينة الموصل القديمة من هذه الفوضى إلى مدينة أجمل ذات إحساس تراثي قديم ومميز. وقد تطرق الكثير من الباحثين الغربيين إلى تعريف مفهوم الإحساس بالمكان كل حسب فهمه وخلفيته العلمية. فمنهم من عرّف الإحساس بالمكان على انه: ((تركيبة غير ملموسة من الارتباط العاطفي بالمكان المطوّر من خلال التجارب البيئية التي تربط الناس بمحيطه)). وفي الوقت نفسه فأن المكان بحد ذاته يتكوّن من عناصر ملموسة مثل مميزات الموقع والمباني, وغير ملموسة مثل المعتقدات والتقاليد والطقوس والمهرجانات. كما قام آخرون بتعريف الإحساس بالمكان على انه: ((القدرة على التعرف على الأماكن والهويات المختلفة للمكان)). وآخرون ذكروا بأن الإحساس بالمكان هو ناتج من تأثر المكان بمستخدميه (الناس) وكذلك تأثر الناس بالمكان نفسه. هنا سيكون للمكان قيمة مادية ومعنوية لدى مستخدميه. ولهذا نرى أن المدن التاريخية القديمة مثل مدينة الموصل لها تأثير كبير في نفوس أهلها وبالأخص هؤلاء الذين نشأوا في محلاتها القديمة وعملوا في أسواقها التراثية. ومن هنا يمكن تلخيص الإحساس بالمكان بأنه: ((هو ما يحسّه الإنسان تجاه مكان معين مثل الشعور بالفخر أو عكسه, بالأمان أو الخوف, بالراحة أو بعدمها, بالانتماء أو الارتباط أو عدمه. فكلما امتلك المكان صفات ايجابية ومعاني عميقة في نفسية وذاكرة الإنسان كلما كان ذلك المكان مميزا لدى ذلك الشخص.
العناصر والمميزات التي تعزز مفهوم الإحساس بالمكان
تطرق الكثير من الباحثين إلى دراسة واكتشاف خصائص وعناصر تعزز مفهوم الإحساس بالمكان كإحد الحلول للنهوض بواقع مراكز المدن القديمة والحديثة. واختلفت تلك الخصائص باختلاف المكان المراد دراسته بأسلوب علمي دقيق. فبعضهم حاول دراسة العناصر المبنية للمساجد وآخرين للمساكن التقليدية كطريقة لإعادة إحيائها وتجديدها ودراسة تأثيراتها وربطها بمفهوم الإحساس بالمكان. ومنهم من قام بدراسة شوارع المدينة القديمة من خلال التركيز على المباني والعقد الحضرية والعناصر الأخرى التي تكون فضاء الشارع مثل الواجهات والجداريات والنقوش والشواخص البصرية والفعاليات الوظيفية ...الخ. ولأننا خصصنا في مقالنا هذا النقاش حول تأثير الإحساس بالمكان لشارع نينوى كشارع تجاري قديم فأننا نلخص أدناه أهم الخصائص والمميزات المرتبطة بالشوارع التجارية والتي تعزز فكرة الإحساس بالمكان:
1. خصائص فيزياوية
وهي الخصائص التي تشمل مباني الشارع مثل المساجد, الكنائس, الدوائر والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية ...الخ. كما تشمل عناصر الشارع غير المبنية مثل أعمدة الإنارة, أماكن الجلوس, أماكن الوقوف العامة, العلامات التجارية والدعائية, الأشجار, العلامات الدالة, إشارات المرور, سلال المهملات ...الخ من العناصر غير المباني. كما تشمل الخصائص المتعلقة بالتخطيط الحضري مثل العقد الحضرية, الشواخص البصرية, واجهات المباني, مسارات الحركة. كل هذه الخصائص تلعب دور مهم في تعزيز مفهوم الإحساس بالمكان من خلال جعل الشارع مميزا عن باقي الشوارع الأخرى في المدينة.
2. خصائص وظيفية
وهي الخصائص المرتبطة بالفعاليات والأحداث التي تجري في الشارع على مدار اليوم. ولعل أهم ما يميز شارع نينوى هو الفعالية التجارية, فهو أشبه بسوبر ماركت مفتوح يحتوي على معظم المستلزمات الأسرية من الألبسة والأقمشة وغيرها, ومتطلبات الفرد مثل العطور ومواد التجميل والصيدليات وعيادات الأطباء ومحلات الذهب والعوينات ...الخ. ومن الأمثلة الأخرى على الخصائص الوظيفية هي استخدامات الشارع في المسيرات والاحتفالات والمهرجانات كونه يمر من مركز المدينة القديمة. ولا يخفى علينا دور هذا الشارع في المناسبات الدينية مثل المولد النبوي, وفي المناسبات والمسيرات السياسية. حيث شهد شارع نينوى كما هو معروف العديد من المظاهرات مثل التظاهرة الاستنكارية الغاضبة عشية وفاة الملك غازي عام 1939, ووثبة كانون 1948، والعدوان الثلاثي على مصر 1956، وتأييد قيام ثورة 14 تموز 1958، ومظاهرة استنكار عقد مؤتمر أنصار السلام قبل ثورة الموصل (الشواف) 1959وكثير من المظاهرات السياسية الأخرى.
كذلك من الأمثلة المهمة الأخرى هي وظيفة الشارع كقناة للنقل. فالكثير من الناس يستخدم شارع نينوى من اجل التنقل من مكان إلى آخر ومن سوق إلى آخر ومن شارع إلى آخر للوصول إلى المكان المقصود سواء مشيا على الأقدام أو باستخدام وسائل النقل الأخرى.
3. معاني المكان
وهي من الخصائص المهمة التي لها علاقة بالذاكرة الجمعية للإنسان والتي تعمل على تعزيز الإحساس بالمكان. فكلما تعددت المعاني في مخيلة الإنسان وتصوراته كلما كان ارتباطه بذلك المكان اقوي واشد. هذه المعاني تنشأ مع نشوء الإنسان في ذلك المكان أو في لحظة تعرفه على ذلك المكان, هنا تبدأ الذاكرة بتخزين صور المكان والأحداث والمناسبات والأشخاص. ولابد من الإشارة إلى أن عمق معاني المكان مرتبط ارتباطا وثيقا بقدم المدن ووزنها الحضاري والتاريخي, وهذا الحال واضح عندما تسأل أي شخص كبير في السن عن مدينة الموصل القديمة. فذلك الشخص سيسرد مجموعة من الأحداث والمواقف التي عاصرها في ذلك الزمن.
عواقب عدم فهم الإحساس بالمكان
من اشد عواقب فهم الإحساس بالمكان هو غياب الإحساس بالمكان أو فقر الإحساس بالمكان وهو ما معروف بـ(الجفاف) في المصطلحات العلمية. فلو أمعنا النظر في العناصر والمميزات التي تعزز الإحساس بالمكان (السابقة الذكر), وتفحصنا وجودها في شارع نينوى لأدركنا أن ما قيل من خصائص هي ضرب من الخيال إلا القليل منها. فالمباني القديمة متهرئة والمباني الحديثة لا تمت بصلة لتاريخ الشارع من حيث التصاميم المعمارية وألوان ومواد التغليف المستعملة في الواجهات, كذلك عدم احترام المباني القديمة التي لها ثقل تاريخي وتراثي وذلك بالتجاوز عليها. ولعل الصور أدناه توضح ما آل إليه الشارع من تدهور وفوضى. وهنا لا بد من سؤال ... من هو المسؤول عن هذا التدهور والفوضى؟؟ والجواب هو قلة وعي المواطن بمفهوم الحفاظ على التراث, إلى جانب عدم وجود رقابة وغياب دور البلدية التي من شأنها توعية المواطنين بأساليب الحفاظ وإجبار أصحاب الأملاك على إتباع نظام تصميمي معين يعزز هوية مدينة الموصل.
من المشاكل الأخرى التي يعاني منها شارع نينوى فيما يخص الإحساس بالمكان هو ما ذكره الكثير من الكتاب والباحثين عن تهرؤ البنية التحتية للشارع وانتشار أماكن رمي النفايات العشوائية التي جعلت من الشارع بيئة غير ملائمة وغير مريحة لمستخدمي الشارع. بالإضافة إلى فوضى الدعايات التجارية وكثرتها التي حجبت واجهات المباني والتي تعكس الهوية المعمارية والمكانية له. ولم تقف الحالة إلى هذا الحد فقط, بل تجاوزت إلى فضاء الرصيف المخصص للسابلة. وأصبحت تجاوزات أصحاب البسطات ليس فقط على الرصيف فحسب وإنما على الشارع وواجهات البنايات أيضا. كما لا يخفى على مرتادي شارع نينوى التشويه الذي سببته أسلاك المولدات التجارية على مباني الشارع. كل هذه المشاكل كانت قادرة على إضعاف دور شارع نينوى الذي قال عنه الكاتب عبد الوهاب النعيمي بأنه سيد شوارع مدينة الموصل.
صورة توضح الفوضى واختلاط حركة كل من المركبات وعربات الحمل والسابلة كما توضح تشويه منظر الشارع بـأسلاك المولدات التجاري
صور توضح تهرؤ المباني والأرصفة والتي تحتاج إلى هدم وإعادة بناء وهناك الكثير منها على طول الشارع
صور توضح مكبات النفايات العشوائية على أرضية الشارع وفوق سقوف المحلات
صور توضح التصميم الفقير الحديث لواجهات المباني واستعمال مواد بناء حديثة لا ترتبط بهوية المدينة
من اليمين: عمارة المسك، مبنى مصرف الرافدين، عمارة زمزم
من اليمين: عمارة المسك، مبنى مصرف الرافدين، عمارة زمزم
صور توضح التلوث البصري نتيجة كثافة وفوضى الدعايات التجارية ولوحات الأطباء وأسلاك المولدات التجارية وضيق الرصيف الذي اجبر السابلة على استخدام فضاء الشارع للحركة
صورة توضح تجاوز أصحاب البسطات على الرصيف وفضاء الشارع وحتى على واجهات المباني
صورة توضح التجاوز على المباني التراثية القديمة -عمارة توما جردق-
(الصور من تصوير الباحث)
(الصور من تصوير الباحث)
أهم العوامل التي أدت إلى أضعاف تأثير الإحساس بالمكان في مدينة الموصل والتي يمكن تلخيصها بعدة نقاط
1) غياب الوعي لدى المواطن بأساليب الحفاظ على التراث والاهتمام بالمباني القديمة.
2) غياب دور البلدية من حيث تشريع بعض قوانين الحفاظ على التراث ووضع خطط لتأصيل وتأكيد الهوية المعمارية والمكانية للمدينة, ومحاسبة المقصرين وأصحاب البسطات المتجاوزين.
3) العمل على فتح وإنشاء المحال التجارية في شوارع المدينة دون الفعاليات الأخرى وبالتالي حدث نوع من عدم التوازن في فعاليات ودور الشوارع في المدينة وتهرؤ البنية التحتية والمباني القديمة والأرصفة.
4) الظروف السياسية والحروب التي عصفت في البلاد عقدين من الزمن.
التوصيات من اجل تكريس وتعزيز الإحساس بالمكان
· توعية المواطنين بضرورة الحفاظ على القيمة التراثية والحضارية والتاريخية التي تزخر بها مدينة الموصل والتي تتمثل في المباني القديمة وأبرزها المساجد والكنائس والبيوت التراثية. ونشر الوعي باحترام وعدم التجاوز على فضاء الشارع والرصيف.
· قيام البلدية والآثار بتشريع قوانين الحفاظ على التراث والمباني القديمة ووضع خطط مستقبلية من شأنها إحياء وتجديد مدينة الموصل القديمة, وإجبار أصحاب الأملاك على إتباع سياسة تصميمية للمباني واستخدام مواد محلية تقليدية.
· إعادة توظيف وضخ وظائف أخرى في شوارع المدينة لتكون شوارع متعددة الوظائف وليست مقتصرة على الفعاليات التجارية لوحدها.
· توحيد شكل واجهات المحلات التجارية ولوحات العناوين والمظلات الواقية من الشمس والأمطار في شارع نينوى والشوارع الأخرى.
· تجميع لوحات الأطباء في الأماكن المزدحمة في لوحة واحدة كبيرة ملونة وحديثة التصميم.
· الاهتمام بتصميم أعمدة الإنارة وإشارات المرور وأماكن رمي النفايات وتنظيم وتصميم لوحات الإعلانات التجارية والدعائية ووضع علامات دلالة الطريق, والتي من شأنها إضفاء لمسة تراثية تقليدية في شوارع المدينة.
· تحويل بعض الشوارع المكتظة إلى شوارع للمشاة فقط.
· الاهتمام بالأرصفة وعمل مساطب ومظلات موحّدة لأصحاب البسطات وتحديد ساعات من النهار لعرض بضائعهم ورفعها من خلال تنظيم لجان رقابية من قبل البلدية للمراقبة ومحاسبة المقصرين.
· تشكيل فرق متخصصة بأساليب الحفاظ والتجديد الحضري والتي من شأنها توثيق المباني التراثية القديمة وإعادة توظيفها واستغلالها للصالح العام.
للعودة إلى الصفحة الرئيسة
1) غياب الوعي لدى المواطن بأساليب الحفاظ على التراث والاهتمام بالمباني القديمة.
2) غياب دور البلدية من حيث تشريع بعض قوانين الحفاظ على التراث ووضع خطط لتأصيل وتأكيد الهوية المعمارية والمكانية للمدينة, ومحاسبة المقصرين وأصحاب البسطات المتجاوزين.
3) العمل على فتح وإنشاء المحال التجارية في شوارع المدينة دون الفعاليات الأخرى وبالتالي حدث نوع من عدم التوازن في فعاليات ودور الشوارع في المدينة وتهرؤ البنية التحتية والمباني القديمة والأرصفة.
4) الظروف السياسية والحروب التي عصفت في البلاد عقدين من الزمن.
التوصيات من اجل تكريس وتعزيز الإحساس بالمكان
· توعية المواطنين بضرورة الحفاظ على القيمة التراثية والحضارية والتاريخية التي تزخر بها مدينة الموصل والتي تتمثل في المباني القديمة وأبرزها المساجد والكنائس والبيوت التراثية. ونشر الوعي باحترام وعدم التجاوز على فضاء الشارع والرصيف.
· قيام البلدية والآثار بتشريع قوانين الحفاظ على التراث والمباني القديمة ووضع خطط مستقبلية من شأنها إحياء وتجديد مدينة الموصل القديمة, وإجبار أصحاب الأملاك على إتباع سياسة تصميمية للمباني واستخدام مواد محلية تقليدية.
· إعادة توظيف وضخ وظائف أخرى في شوارع المدينة لتكون شوارع متعددة الوظائف وليست مقتصرة على الفعاليات التجارية لوحدها.
· توحيد شكل واجهات المحلات التجارية ولوحات العناوين والمظلات الواقية من الشمس والأمطار في شارع نينوى والشوارع الأخرى.
· تجميع لوحات الأطباء في الأماكن المزدحمة في لوحة واحدة كبيرة ملونة وحديثة التصميم.
· الاهتمام بتصميم أعمدة الإنارة وإشارات المرور وأماكن رمي النفايات وتنظيم وتصميم لوحات الإعلانات التجارية والدعائية ووضع علامات دلالة الطريق, والتي من شأنها إضفاء لمسة تراثية تقليدية في شوارع المدينة.
· تحويل بعض الشوارع المكتظة إلى شوارع للمشاة فقط.
· الاهتمام بالأرصفة وعمل مساطب ومظلات موحّدة لأصحاب البسطات وتحديد ساعات من النهار لعرض بضائعهم ورفعها من خلال تنظيم لجان رقابية من قبل البلدية للمراقبة ومحاسبة المقصرين.
· تشكيل فرق متخصصة بأساليب الحفاظ والتجديد الحضري والتي من شأنها توثيق المباني التراثية القديمة وإعادة توظيفها واستغلالها للصالح العام.
للعودة إلى الصفحة الرئيسة