الأستاذ الدكتور عبد الواحد ذنون طه
تجابه القارئ لكتب الجغرافيين والبلدانين العرب والمسلمين اوصاف مهولة للمحيط الاطلسي، فهم يطلقون عليه اسم بحر الظلمات، كما يسمونه ايضاً بـ اوقيانوس الاعظم الذي لا عمارة وراءه، ولا نعلم الكثير عن نهاياته، وهو الاخضر المظلم، والمحيط. ويشيرون الى شدة اهواله، وصعوبة الملاحة فيه لتعاظم موجه، واظلامه، وهيجان رياحه. ولكن هذه الاوصاف، كما يبدو لم تمنع المسلمين من محاولة اكتشاف مجاهيله، والتعرف الى بعض مسالكه. فيشير الحميــري مثلاً الى ان هذا المحيط كان (( يركب مما يلي الغرب والشمال، وذلك من اقاصي بلاد السودان الى بريطانيا وهي الجزيرة العظمى في اقصى الشمال. وفيه ست جزائر تقابل بلاد السودان تسمى الخالدات ثم لايعرف احد ما بعد ذلك )) .
هذا يدل على وجود نشاط ملحوظ للبحارة المسلمين في سواحله الشرقية الواقعة قبالة الجانب الغربي من قارة افريقيا. ويرجع تاريخ هذا النشاط الى فترة متقدمة تصل الى ما قبل اكتشاف راس الرجاء الصالح ، ورحلة بارثلميو دياز المعروفة سنة 891 هـ / 1486 م . ويرى احد الباحثين الغربيين، استناداً الى بعض النصوص المتوفرة في مؤلفات البحار العربي الشهير احمد بن ماجد، ان بعض السفن العربية وملاحي الاندلس والمغرب، كان يطوفون في سواحل افريقيا الغربية، بل انهم وصلوا الى المحيط الهندي عن طريق راس الرجاء الصالح، وزاروا سفالة في بلاد الزنج التي تقع على خط عرض 20 درجة جنوبياً، وتقرر نسبياً من الطرف الجنوبي لقارة افريقيا. وكان العرب يبحرون في المحيط الاطلسي بكثرة. وذلك سواء لمصلحة تجارية او للحصول على معلومات ذات قيمة علمية، وكما اتخذوا من احدى جزر المحيط الاطلسي مكاناً لبداية او اصل خطوط الطول .
لم يكن المسلمون لاسيما اهل الاندلس يجهلون اذاً هذا المحيط، وكانت خبرتهم بشواطئه الشرقية لاباس بها، حتى انهم امتلكوا معلومات عن بلاد شمال اوربا مثل الدانمارك، وبريطانيا، وايسلندة، فضلاً عن السواحل التي تطل على قارة افريقيا، وسيما خليج غانة. وتتوفر في مكتبة الاسكوريال باسبانيا خارطة عربية بهذا المحيط (مخطوط رقم 1636)، يرجع تاريخها الى ما قبل عام 594هـ / 1198 م وهي مجهولة المؤلف، وتصور ما كان يعرفه العرب في ذلك الحين عن المحيط الاطلسي، وهي مبسطة جداً، وتمتاز بانها تصور لاول مرة خليج غينيا في ساحله الشمالي .
ولكن هل اقتصرت معلومات المسلمين البحرية على شواطئ المحيط الاطلسي الشرقية فحسب، ام انهم حاولوا التوغل في اعماقه باتجاه الغرب، واستكشاف المجهول الذي وراءه ؟ الحقيقة ان ايمان العرب المسلمين بالنظرية العلمية الجغرافية التي تقول: ان المتجه غرباً من شواطئ اوربا وافريقيا يصل الى الهند والصين في المشرق، لان الارض كروية ، كان الدافع لبعض المغامرين منهم ، الذين لم ترهبهم ظلمات المحيط ولا امواجه الهائلة في محاولة التعرف عليه، والابحار في اعماقه باتجاه الغرب. ومن الواضح ان هولاء المغامرين لم يعتمدوا على الات او خرائط ملاحية، لان آلة البوصلة لم يعرفها العرب الا في القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي، لهذا كانت مغامرتهم مرتجلة، ولم تؤدي الى نتائج علمية ملموسة، ولكنها مع ذلك، تشير الى اسرار غريب للتعرف على هذا المحيط المجهول، ومحاولة ادراك ماراءه .
وتات الاشارة الاولى الى هذه المغامرات في معرض حديث المسعودي عن المحيط الاطلسي، ضمن سياق اخباره عن من غرر وخاطر بنفسه في ركوبه، فيشير الى قيام رجل من اهل الاندلس يقال له خشخاش (( كان من فتيان قرطبة واحداثها، فجمع جماعة من احداثها، وركب بهم مراكب استعدها في هذا البحر، فغاب فيه مدى، ثم اتى بغنائم واسعة وخبرة مشهورة عند اهل الاندلس)). ولا تشيـر المصادر الاندلسية والمغربية الى هذه المغامرة، باستثناء الحميري، الذي نقل كلام المسعودي . فهل يعني ذلك انهم لم يسمعوا بهذه الحادثة ام انها كانت مجرد مغامرة محدودة ؟ ، الواقع ان اسم خشخاش ليس غريباً في التاريخ الاندلسي وهو يرد هكذا: خشخاش بن سعيد بن اسود الغساني، من زعماء البحريين الذين انزلهم بنو امية في منطقة بجانة لحفظ السواحل، واعطوهم اقليم ارش اليمن، كاقطاع لهم مقابل خدماتهم البحرية. وكان بيت بني الاسود الغساني من البيوت البحرية المشهورة في بجانة. وقد شارك الخشخاش في قيادة الاسطول الاندلسي الذي تصدى لمقالة النورمانديين الذين هاجموا الاندلس في عهد الامير محمد الاول سنة 245 هـ / 859 م ، وستشهد في هذا الهجوم .
وهكذا يمكن تحديد الفترة الزمنية لهذه المغامرة، بحيث لا تتعدى منتصف القرن الثالث الهجري / التاسع الميلادي . اما النقطة التي وصلها خشخاش وجماعته، فهي غير معروفة، ومن المحتمل جداً، انه ابتدأ رحلته من منطقة بجانة في شرق الاندلس، ماراً عبر مضيق جبل طارق الى المحيط الاطلسي، واشارة الرواية الى رجوعه واصحابه بغنائم وفيرة تدل على وصوله الى احدى الجزر القريبة، ربما ازورس (الجزائر الزرقاء). ولكن هذا محض افتراض لا نملك عليه دليلاً ملموساً لحد الان .
ولدينا معلومات اكثر دقة عن مغامرة ثانية قام بها الاندلسيون في المحيط الاطلسي، تلك هي رحلة الفتية المغررين، أي المخاطرون، والذين يسمون احياناً بالمغربيين او الضاربين في الغرب، ويبدو ان التسمية الاولى اصح، واكثر استعمالاَ، لاسيما ان المسعودي، اشار الى هذا الاشتقاق عندما ذكر بحر الظلمات و (( اخبار من غرر وخاطر بنفسه في ركوبه)). وتاتي رواية هذه الرحلــة بشكل مفصل عند الادريسي في معرض حديثة عن مدينة لشبونة، (اشبونة)، عاصمة البرتغال الحالية ، فيقول :
(( ومن مدينة لشبونة كان خروج المغررين في ركوب بحر الظلمات ليعرفوا ما فيه والى اين انتهاؤه … وهم بمدينة لشبونة بموضع من قرب الحمة درب منسوب اليه، يعرف بدرب المغررين الى اخر الابد)) وخلاصة الرحلة ان ثمانية اشخاص كلهم ابناء عم، اعدوا مركباً، وشحنوه بما يكفيهم من الماء والزاد لاشهر، ثم اقلعوا بمركبهم باتجاه الغرب في المحيط الاطلسي في اول هبوب الرياح الشرقية فدفعهم التيار نحو احد عشر يوماً ، فوصلوا الى بحر غليظ الموج كدر الروائح كثير الحروش قليل الضوء ، فأيقنوا بالتلف ، فغيروا اتجاههم ، وجروا في البحر في ناحية الجنوب اثنى عشر يوماً اخرى فوصلوا الى جزيرة اسموها جزيرة الغنم لانها تمتاز بكثرة اغنامها ، ثم غادروها باتجاه الجنوب مدى اثني عشر يوماً اخرى ، الى ان وصلوا جزيرة عامرة ، اهلها شقر ، وعر ، شعورهم سبطة ، طوال الاجسام ، ولنسائهم جمال عجيب . فقد احاطوا بهم في زوارق عديدة ، اعتقلوهم مدة ثلاثة ايام ، ثم دخل عليهم في اليوم الرابع رجل يتكلم العربية ، فسالهم عن حالهم ، فاخبروه بخبرهم ، فوعدهم خيراً واعلمهم انه ترجمان الملك ، ثم اعيدوا الى مكانهم بعد مقابلة الملك، الذي روى لهم بدروه عن قيام قوم من عبيد ابيه بمحاولة مماثلة لاكتشاف المحيط، لكنهم اخفقوا في ذلك ووعدهم باعادتهم الى بلادهم حالما يبدأ موسم الرياح الغربية. ووضعوا في الوقت الملائم في زورق ستر بهم ثلاثة ايام إلى ان وصلوا الى الشاطئ الافريقي في موقع مدينة اسفي الحالية، حيث تركوا هناك الى ان عثر عليهم جماعة من البربر، واخبروهم بمكانهم، وانهم يبعدون نحو شهرين عن بلدهم الاندلس، فقال زعيم القوم أي المغريين، وا اسفي، فسمي المكان الى اليوم اسفي، ومنه عادوا الى الاندلس. ولم يذكر الادريسي المتوفي عام 560 هـ / 1066 م، تاريخ هذه الرحلة. ولكن اشارته الى موقع اسفي ، تدل على ان الرحلة تمت في حدود القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي ، وذلك قبل انشاء ميناء اسفي بالمغرب. ولم يتوقف اهل الاندلس بعد هذا التاريخ عن ركوب المحيط الاطلسي والتوغل في اعماقه ، وان اختلفت الاسباب ، ولدنيا رواية اخرى عن مغامرة متاخرة ينقلها احمد بن يحيى بن فضل الله العمري المتوفي سنة 749 هـ 1349 م، ولكن هدفها كان التجارة، وتمت كما يبدو في عصره فيذكر، عن احد وجهاء مدينة المرية بالاندلس، انه خرج في مركب للتجارة مع جماعته من تجار بلده قاصدين بعض بلاد العدوة، فقذفتهم الريح الى ابعد من المكان المقصود وتوغلوا في المحيط الى الجنوب فدخلوا (( في ظلمات ممتدة اذا اخرج الانسان بها يده لم يكد يراها)) ثم تغير اتجاه الريح، واستطاعوا ان يوجهوا المركب باتجاه البر الافريقي، فوصلوا الى مدينة مجهولة اهلها من السود، فلما راى هولاء ببياض بشرة التجار، عجبوا منهم، اعتقدوا انهم صبغوا اجسامهم بالبياض، فحكوا جلودهم بالليف، ولكن دون جدوى وقام عندهم التجار فترة ثم انتقلوا في اسفار عديدة حتى بلغوا مكانهم من بر العودة، الامر الذي يدل على انهم نزلوا في منطقة بعيدة عن ساحل المحيط ، كما حصل للفتية المغررين، الذين رسوا في منطقة اسفي بالمغرب.
وتعد هذه المغامرات على درجة كبيرة من الاهمية في الادب الجغرافي العربي ، لاسيما رحلة الفتية التي اشار اليها الادريسي، حيث تتميز بانها اول وصف دقيق يتوفر لدينا عن مياه محيط الاطلسي على بعد شاسع من شواطئه ولم يسبق غير هولاء الرجال من خاض تجربة كهذه داخل عمق المحيط . فقط قضى المغررون ثمانية وثلاثين يوماً في مياه المحيط ( 11 + 12 + 12+ 3 ) قطعوا فيها نحوا ثلاثة الاف وثمانمئة كيلوا متر ، باعتبار متوسط ما تقطعه السفينة الشراعية في تلك العصور هو في حدود مئة كيلوا متر في اليوم . وهذه اطول مسافة قطعت فيه الى ذلك الحين ، وهذا في ذاته عمل عظيم ، سبق به المسلمون الاندلسيون غيرهم ، وهو امر محقق لاخيالي ، وردت احداثه عن الادريسي الا انها حقائق ، وليست غريبة من الغرائب او العجائب التي تزخر بها بعض كتب الجغرافيين القدامة .
ويرى بعض الباحثين العرب، ان هولاء المغررين وصلوا الى بعض الجزر القريبة من الشواطئ الامريكية في اقليم امريكا الوسطى ، وهذا مستبعد جداً . ولكن الارجح ان الجزيرة الاولى التي وصلوا اليها ، وسموها بجزيرة الغنم هي احدى جزر ازورس، او جزيرة ماديرة. اما الجزيرة الثانية فهي احدى جزر الكناري. واذا ما تركنا بعض الافتراضات والتخمينات التي تتصل ببعض جوانب هذه رحلة، والاماكن التي وصل اليها الفتية المغررين، فان المتخصصين في جغرافية العصور الوسطى، يرون انها ساهمت في الحث على الرحلات المتاخرة التي قام بها الملاحون الاوربيون في المحيط الاطلسي، ومهدت بذلك الطريق لاكتشاف العالم الجديد.
ملاحظة: نشر هذا المقال في:
مجلة مناهل جامعية التي تصدرها جامعة الموصل/ السنة الأولى/ العدد الثاني / 2005
للعودة إلى الصفحة الرئيسة