إدامة شباب الإنسان
حقيقة أم خيال ؟
إعداد: صباح الدملوجي
تقول إحدى أساطير اليهود الفولكلورية أن هناك مدينة مسحورة تدعى (لُز)* تمنع دخول ملك الموت الذي أطلقة (يهوه) في بقاع (عدن) بعد أن أبعد سكانها من جنتها وفقدوا بذلك ميزة الخلود التي كانوا يتمتعون بها في الجنة. غير أن سكان تلك المدينة الأسطورية سئموا العيش في ما يشبه السجن وأرادوا أن يكونوا مثل بقية البشر. لذا تسلقوا أسوار مدينتهم ليقعوا في يد ملك الموت الذي كان الذي كان في انتظارهم فلاقوا حتفهم. إذا ما كان لهذه الأسطورة من دلالة فهي لا شك تعبير عن رغبة مكبوتة لدى البشر يروم من خلالها نيل الخلود لكنه يدرك أن تحقيق ذلك أمر مستحيل. وما سعي كلكامش للحصول على عشبة الحياة ثم ضياعها منه سوى تعبير آخر عن هذه الرغبة المكبوتة.
(Luz)*
لا شك أن العجز الذي يصيب الأنسان المعمر هو الجزء التراجيدي الذي يعكر سنين طول العمر التي يسعى إليها. لم تفت هذه الحقيقة الاغريق القدماء فنسجوا قصة حولها تقول أن الشاب (تيثونوس) وقع في حب إلهة الربيع (إيوس) التي بدورها توسطت له عند (زيوس) كبير الآلهة ليهبه الخلود.إلا أنها نسيت أن تطلب من زيوس أن يديم له الشباب. وهكذا طالت الشيخوخة تيثونوس ولم يقتصر تأثيرها على العجز والوهن بل بدء جسمه يضمحل ويتقلص حتى انتهى إلى صورة صرصار انزوى في إحدى زوايا الغرفة. تستخلص الأسطورة توصية إلى البشر هي أن لا يطلبوا إي خدمة من الآلهة.
لذا كان السعي نحو الشباب الدائم هو البديل الممكن إلى حد ما لدى البشر لقناعته بأن الحظ لن يسعفه لنيل الخلود. فإذا ما كان الخلود أمراً مستحيلا مهما حاول بلوغه إلا أنه ربما ينجح في الحفاظ على شبابه. تقول إحدى الوصفات أن المرهم أو الكريم الذي تصفه للقضاء على تجاعيد الشيخوخة مضمون النتائج وسليم. لم ترد هذه الوصفة ضمن إعلان لأوريال أو ماكس فاكتور بل وردت في مخطوطة هيروغليفية فرعونية. أنا شخصيا قانع بسلامة وفاعلية تلك الوصفة. لماذا؟ لأني أرى أن من اكتشف سر الحفاظ على جسد الإنسان المتوفى محنطا لآلاف السنين وهو محافظ على هيئته، قادر على مزج تركيبة تفيد في التغطية على تجاعيد وجهه وهو حي.!!!!
نعود إلى صلب الموضوع وهو إدامة شباب الإنسان. لقد نجح الإنسان في إطالة عمره بصورة ملموسة عبر القرنين الماضيين. كان معدل عمر الإنسان الإنكليزي في بداية القرن التاسع عشر لا يتجاوز 37 سنة وتحسن ليصل إلى 47 سنة مع حلول القرن العشرين بينما يبلغ اليوم 81 سنة. إذن قد أفلح الإنسان في مضاعفة عمره لا بل تجاوز ذلك خلال قرنين من الزمن وحسب وذلك ليس بالأمر الهين. لم يصل هذا التقدم بالطبع إلى الحد الذي فكر فيه الفيلسوف وعالم الرياضيات الفرنسي ديكارت حين اعتقد أن التقدم (الهائل!) في العلوم أثناء حياته سيتيح له العيش ألف سنة. غير أن ديكارت توفي من ذات الرئة سنة 1650 وهو في الرابعة والخمسين من العمر. لقد استبقت أفكاره عن التقدم العلمي اكتشاف مضادات الحيوية بنحو ثلاثة قرون.
كان اكتشاف طريقة التلقيح ضد الجدري أول بادرة للحفاظ على حياة الإنسان. كان اللقاح بطرق بدائبة معروفا في الصين والهند والبلاد العثمانية منذ أزمان طويلةـ إلا أنه لم يتخذ طريقته الحديثة إلا سنة 1798 عندما نشر الجراح الإنكليزي إدوارد جينر تجربته التي تعتمد على اللقاح المستخرج من جدري البقر. تلى ذلك اكتشاف طرق للقاح ضد مرضي الكَلَب والجمرة الخبيثة من قبل لويس باستور. ثم توالت الاكتشافات التي شملت معظم الامراض الوبائية كالنكاف والتهاب الكبد والتهاب السحايا وشلل الاطفال والسل وسواها.
الخطوة التالية كانت القضاء على المرض نهائيا وهذا فعلا ما حدث مع الجدري الذي اعتبر بحكم المنتهي منذ سنة 1977 إذ لم تسجل أي إصابة به منذ ذلك التاريخ. أدرجت منظمة الصحة العالمية ضمن برامجها أيضا القضاء على مرض شلل الاطفال سنة 2000 ، إلا أن جهودها كما يبدو لم تكلل بالنجاح وما زال المرض يفتك بضحايه ولكن في اقطار معينة وعلى نطاق محدود فقط.
أما الوسيلة الأخرى التي ساهمت في إطالة عمر الإنسان فكانت مضادات الحيوية التي اكتشف أولها في ثلاثينيات القرن العشرين وكان من مركبات السلفا لتي تميزت بقابليتها في القضاء على العديد من انواع البكتريا المسببة للأمراض لكنها كانت تسبب بعض الاعراض الجانبية غير المرغوبة لدى مستخدميها. حدث الاختراق الكبير سنة 1940حين نجح العالم الاسترالي فلوري وعدد من مساعديه في عزل مادة البنيسيلين من نوع من العفن يدعى (بينيسيليوم نوتاتوم) لاستخدامه في علاج العديد من الامراض الجرثومية. وكان العالم الاسكتلندي فليمنك قد اكتشف منذ سنة 1928 القابلية التي يمتلكها هذا العفن في القضاء على البكتيريا. كانت تلك البداية فقط إذ اكتشفت أو صنعت العشرات من انواع مضادات الحيوية القادرة على استئصال شأفة العديد من انواع البكتيريا المرضية وساهمت بشكل كبير جدا في إطالة اعمارالبشر مما رفع معدل عمر الفرد على مستوى الدول المختلفة وفي عموم العالم.
هناك تطورات أخرى عديدة ساعدت خلال القرن الماضي في اطالة عمر الأفراد ومنها التحسن الكبير في الصحة العامة من توفير المياه النقية ومجاري الصرف الصحي للغالبية العظمى من البشر في مختلف ارجاء العالم وتثقيف الأمهات حول طرق العناية بالأطفال الرضع مما قلل وفيات الأطفال إلى حدود متدنية وساهم في رفع معدل الاعمار بصورة فعالة جدا. كان للقاحات المختلفة ومضادات الحيوية وطرق الارواء الوريدي مساهمتها الكبيرة لا شك في التقليل من وفيات لاطفال كذلك.
أما بالنسبة لكبار السن فتعتبر تقنية قسطرة الشرايين القلبية وغيرها من الشرايين وأساليب تجاوز انسداداتها من أهم ما ساهم به الطب الحديث في اطالة عمر جيل الشيخوخة. من التقنيات الطبية الأخرى زراعة الكلى ( وأعضاء أخرى) وتوفير وسائل غسل الدم ااصناعية للتعويض عن الكلى التالفة لدى الذين لا يمكن زرع الكلى لهم. يعزز كل ذلك العديد من الادوية التي ابتكرت لمعالجة العديد من الامراض المستعصية والتقنيات الجراحية وأساليب الفحص والكشف الالكترونية والكيميائية ونخص بالذكر عشرات الآدوية التي تخص ضغط الدم وداء السكري.
ما يهمنا الآن هو استطلاع الامكانيات المتاحة وطرائق البحث والتطبيقات والتجارب العلمية التي يستخدمها الطب المعاصر والهادفة إلى اطالة العمرمع الحفاظ على حيوية الإنسان .
يصاب الباحث بالدوار وهو يحاول أن يشق طريقه بين الكم الهائل من المعلومات المتوفرة عن احدث البحوث ذات العلاقة بالحفاظ على حيوية الإنسان. إذ يبدو أن هذا الموضوع قد اجتذب اهتمامات الجامعات ومراكز البحوث التي أنشئ بعض منها خصوصا لهذ الغرض. لم تجد هذه المراكز أو الباحثين فيها صعوبة في استحصال التمويل اللازم أكان ذلك من اشخاص ذوي اهتمام بإطالة العمر أو من الجهات الحكومية. أما شركات الأدوية الكبرى فلم تتخلف هي الأخرى عن الآدلاء بدولها في هذه البحوث مدركة ان نجاحها يعني ارباحا بالمليارات.
يجب في البداية القول أن اكتشاف أو اختراع علاج سحري يعمل لوحده على الحفاظ على شباب الفرد والتغلب على أسباب الشيخوخة ومن ثم اطالة العمر أمر خيالي غبر معقول وأن السعي نحوه كالسعي نحو سراب في صحراء. لذا انصرفت الجهود نحو تشخيص الأسباب الحيوية التي تؤدي إلى الشيخوخة لكي تجري معالجتها. وكأي بحث علمي يتطلب الأمر دراسة هذه الاسباب بصورة وافية لكي يتسنى للباحث التدخل في المفصل الصحيح لمعالجة الأثر غير المرغوب الذي ينجم عنها أو لترميم الخلل في الجسم والذي يؤدي إلى الشيخوخة ثم الموت.
تغطي البحوث عن هذه الأسباب المؤدية إلى الشيخوخة عددا لايستهان به من الفعاليات الحيوية ومن أهمها:
تراكم النفايات الحيوية داخل الخلية.
تراكم النفايات الحيوية خارج الخلية.
تطور الارتباطات المتبادلة المضرة بين الخلايا.
(Crosslinks)
تصلب الكنان الحيوي خارج الخلايا.
تلف الخلايا وضمور الانسجة.
الخلايا السرطانية.
يعتقد العلماء أن التحكم بالاضرار الناجمة عن هذه التطورات في الجسم البشري وترميم الخلايا أو الانسجة المتضررة أو عكس مجرى التطور في العمليات الستة الأولى أمر ممكن لكنه يتطلب جهودا وبحوثا مضنية وطويلة. لقد حققت البحوث الموجهة نجو هذه التطورات منذ بدءها قبل عقدين أو ثلاثة نجاحات علمية كبيرة وضّحت دقائق هذه التظورات والفعاليات بحيث يتوقع حدوث اختراقات علمية مدهشة في العقود القادمة.
ما هي السبل التي يروم الباحثون اتباعها لمعالجة أو السيطرة على الآثار التي تتركها هذه التطورات على الانسان؟ هناك كما يتوقع المرء عشرات السبل لكننا سنركز هنا على السبل الواعدة التي يرى المختصون انها الاسرع أو الاسهل للوصول إلى الهدف.
(Stem Cells) الخلايا الجذعية :
الخلايا الجذعية هي خلايا متشابهة غير متخصصة تتميز بمقدرتها على تجديد نفسها تكرارا وبقدرتها على التخصص لتصبح أي نوع من خلايا الجسم. هناك نوعان من الخلايا الجذعية: جنينية توجد في الأجنة وفي الحبل السري والمشيمة وأخرى توجد لدى البالغين يمكن عزلها وانماءها مختبريا. يتميز النوع الجنيني بنشاطه وسرعة تحوله إلى النوع المطلوب من الخلايا. مع معرفة امكانية استخدام هذه الخلايا للتعويض عن خلايا وأنسجة تالفـة برز توجه للحفاظ على الحبل السري والمشيمة للطفل الوليد في درجة حرارة منخفظة جدا (في النايتروجين المسال) حيث يمكن اللجوء إليها في مستقبل حياة الفرد إذا ما برزت الحاجة.
هناك استخدامات لهذه الخلايا في الوقت الحالي إذ يلجأ الطب إليها في مجال زراعة نخاع العظم وفي ترميم إصابات النخاع الشوكي وتجرى بحوث لاستخدامها في علاج الأمراض ذات العلاقة بالاعصاب كالتصلب اللويحي والألزهايمر ومرض باركنسون كما تستخدم على نطاق ضيق في علاج الصلع وترقيع قرنية العين وترميم الجلد من أثر الحروق ولزراعتها في البانكرياس المصاب بالسكري وأخيرا في إنماء عضلة القلب المحتشية.
(Telomere) السيطرة على طول التيلومير :
التيلومير هو مجموعة ذنيبات تعمل كقبّعة موجودة على نهاية الكروموسوم الذي يتألف من مجموعة الجينات داخل الخلية. لوحط منذ زمن ليس بالبعيد تناقص طول التيلومير عند كل انقسام للكروموسوم الذي يحدث عند انقسام الخلية ذاتها. لذا كان طول التيلومير دالة على عمر الخلية وعلى عدد الانقسامات التي مرت بها. ومن المعلوم أن الخلايا في الجسم البشري تستمر في الانقسام والتكاثر حتى تصل إلى درجة من الشيخوخة بحيث تتلاشى أو تنتحر. ابتكر العلماء طريقة لإطالة التيلومير الذي تناقص طوله ولو نسبيا لدى الفئران ولاحظوا أن الخلية التي تحتويه قد استرجعت حيويتها وشبابها ونجحت الطريقة فعلا في إطالة عمر الفئران التي أجريت عليها هذه التجارب.
(Boosting The Immune System) تعزيز النظام المناعي :
يحمي النظام المناعي الجسم من العديد من الأمراض الجرثومية والعلل العضوية. لكن فعالية هذا النظام تتناقص مع التقدم في العمر. السبب هو تناقص الخلايا المناعية التي تتولد في نخاع العظم وينضج أحد انواعها في الغدة الصعترية *1. وهي غدة لمفية تقع فوق القلب وتعتبر أحد أركان الجهاز المناعي الأساسية. يؤدي اضمحلال هذه الغدة مع تقدم العمر إلى تدهور فعالية الجهاز المناعي. العامل الآخر لتدهور مناعة الجسم مع تقدم العمر هو السلوك الشاذ لبعض الجزيئات الحيوية المتخصصة.
1*(Thymus)
هناك بحوث تجرى الآن تتعلق بهرمونات وعوامل نمو تعمل على إعادة الغدة الصعترية إلى حجمها الطبيعي وعلى تحفيز الخلايا المتخصصة فيها لزيادة انتاج خلايا الدم المناعية. البحوث الأخرى تركز على تحفيز فعالية الخلايا المناعية ذاتها وتحسين قدرتها على تحسس أي شيئ غريب في مجرى الدم لتهاجمه وتقضي عليه.
يشكل تعزيز النظام المناعي لمحاربة السرطان واحدا من أهم التيارات البحثية في أيامنا هذه وقد حققت البحوث فعلا نجاحات جيدة ولا شك أن هذه النجاحات الأولية ستزيد من همة الباحثين لتوفير بدائل عن العلاج الكيمياوي او الاشعاعي للسرطان بحيث يتجنب الخاضع للعلاج الآثار الجانبية لهاتين الطريقتين.
(Autophagy) الالتهام الذاتي :
الالتهام الذاتي فعالية موجودة في كل خلايا الجسم تستجيب للاجهاد وتعمل على تجديد حياة الخلية. أظهرت البحوث الحديثة أن أي معالجة ناجحة تهدف إلى إطالة العمر أكانت جينية أو غذائية أو بوساطة الدواء تعمل من خلال تحفيز الالتهام الذاتي.
يمثل الالتهام الذاتي الطريقة الحيوية التي تقوم الخلية من خلالها بـ(تنظيف) المنزل و(إعادة تدوير النفايات). يجري خلال هذه العملية كنس وإزالة كافة انواع النفايات التي تتراكم داخل الخلية من بروتينات مهشمة وأجزاء من المكونات دون الخلوية كالـ(مايتوكوندريا) المعطوبة وأي بكتيريا أو فيروسات موجودة بين الخلايا ويعمل الالتهام الذاتي على تحليل هذه النفايات واعادتها إلى الخلية كمواد أو كطاقة تستفيد منها في فعالياتها المختلفة. من نتائج كسل هذه الفعالية في مرحلة الشيخوخة تراكم البروتينات* مثلا ويبدو أثره في بطء مشي الفرد وبإصابته بالأمراض المرتبطة بالتردي في الجهاز العصبي كالألزهايمر ومرض باركنسون.
*(protein aggregation)
أثبتت البحوث الحديثة أن الالتهام الذاتي مسؤول عن الحفاظ على الخلايا الجذعية وعلى مكافحة الالتهاب وسلامة نخاع العظم وتعزيز فعالية الجهاز المناعي وعلى الحفاظ على فعالية الجينات المانعة للسرطان. هناك دلائل تفيد بأن تنشيط هذه الفعالية الحيوية يمثل واحدا من أهم العوامل المساعدة في الحفاظ على نشاط وحيوية الشخص وشبابه. هناك آلية في الجسم تدفع بالخلية في حالة كسلها وفشلها في تنظيف ذاتها أي عند تراجع هذه الفعالية وتراكم النفايات وعجز الخلية عن إداء واجباتها إلى الانتحار، أي إلى اتلاف ذاتها.
اكتُشف أن بعض العقاقير المصممة في الآصل لعلاج بعض الأمراض والآفات الأخرى تقوم بتعزبز أو تحفيز فعالية الالتهام الذاتي. من هذه العقاقير الراباميسين 1* والميتفورمين 2* وعقاقير أخرى. كما أن الصيام (مع إفطار خفيف بعده) والتعرض لنور الشمس وتناول فيتامين دي والكافيين والشاي الأخضر كلها عوامل تحفز هذه الفعالية بالغة الأهمية للحفاظ على شباب الجسم.
1*(Rapamycine)
2*(Metformin)
تجديد شباب الانسجة (Tissue Rejuvenation)
هذه طريقة مستحدثة لعلاج بعض الأمراض المزمنة الشديدة تقوم باعادة فعالية أنسجة الجسم التي لا تؤدي وظيفتها. يجري في هذه الطريقة أولا التخلص من الطبقات السفلى المتأثرة للنسيج وإزالة بؤر الالتهاب ونواتج التلف والشحوم المتراكمة في النسيج. بعد ذلك تعالج المنطقة التالفة بإمرار قطب كهربائي متدحرج فيه فولطية مستمرة * ضعيفة تعمل على إزالة الشحنات الفائضة ضمن منطقة النسيج المتأثر. يفيد هذا في عكس حالة النسيج من حامضية إلى قاعدية وهي حالة ضرورية لبدء العملية الأيضية التي تجري تحت فراغ جزئي يحيط بالمنطقة المتأثرة كلها.
*D.C
تنفع هذه المعالجة في تحفيز الجهاز المناعي وتفعيل الجهاز اللمفاوي ليقوم بإزالة أي شحوم متبقية وتزيد في كمية سريان الدم لكي يبدأ الجسم بإعادة بناء الأنسجة التالفة في المنطقة. تستخدم هذه الطريقة لعلاج الأمراض كالحساسية الجلدية والروماتيزم والإصابات الرياضية وآثار الحروق.
هناك إضاقة لكل ما ذكر تقنيات أخرى واعدة تنصب البحوث العلمية والطبية عليها وينتظر أن تساهم في إطالة عمر الإنسان ومنها مثلا:
العلاج الجيني إي استبدال أو هندسة الجينات
ترميم الجزيئات باستخدام النانوتكنولوجيا
تعويض الاعضاء المعطوبة عن طريق الاستنساخ
تعزيز القشرة الخارجية ( أي الجلد)ـ
ولما كان هدف المحاضرة تقديم عرض عام لأوجه السعي العلمي لتحقيق إطالة عمر الإنسان دون الخوض في تفاصيل شاملة نكتفي بالمحاور العلمية التي ذكرناها دون الإطالة لعرض كافة المحاور التي تجري فيها البحوث وسيكرس الجزء الأخير من المحاضرة لعرض ما نراه من تطورات اجتماعية ومؤسساتية ستفرضها إطالة عمر البشر.
الأثر الجتماعي والمؤسساتي للحفاظ على حيوية الإنسان
سيكون لإطالة عمر الأفراد مع الحفاظ على حيويتهم إذا ما تحقق تأثير شامل وعميق على المجتمع. مثل هذا التأثير الذي بدأنا نشعر ببداياته والمتوقع بلوغه الأوج خلال عقدين أو ثلاثة سيمثل تحولا عن قيـم وممـارسات احتماعية كانت سـائدة منـذ الثورة الصناعية والتحول من سيادة الريف والقبيلة إلى سيادة نمط الحياة المديني* قبل نحو قرنين من الزمن. لذا نستطيع القول أننا بصدد خوض (ثورة اجتماعية). من المناسب استشراف التغيرات المتوقعة على المستويين المؤسساتي والاجتماعي والتخطيط لها.
*(urban life style)
العمل والتقاعد:
حتى وقت قريب كانت الغالبية العظنى من الناس تتبع في حياتها منهاجا متشابها هو العمل في مهنة أو وظيفة منذ عمر المراهقة أو في العشرينيات بعد إنهاء الدراسة لثلاثين أوأربعين عاما ثم يتقاعدون عن العمل (وربما يستثنى من ذلك العاملون بمفردهم). غير أن احتفاظ الفرد بحيويته ونشاطه البدني والذهني في عقد الستينات وما بعده سيغير من قواعد اللعبة.
المسألة الحساسة الأخرى هي نظام التقاعد الذي يقوم على استقطاع نسبة محددة من راتب الشخص العامل لتقوم مؤسسة التقاعد أو صندوق الضمان أو شركة التأمين باستثمارها عبر عشرات السنين ثم تدفع للشخص كمبلغ واحد عند بلوغة سنا معينة أو على هيئة راتب شهري يستمر طوال حياته.
هل سيبقى سن استحقاق التقاعد كما هو عليه الآن في الستين أو عشراتها؟ عندما يكون الفرد لا زال متمتعا بحيويته الجسدية والذهنية في الستين فأشك أنه سيرغب بالتقاعد. جيد. سيدفعوا بسن التقاعد عشر أو عشرين سنه أو سيتركو الآمر للشخص ليطلب التمتع بتقاعده متى يرغب. غير أن الشباب ينتظرون بفارغ الصبر على الأبواب ليشغلوا المواقع التي ستشغر. هل سينتظرون عشر أو عشرين سنه وهم عاطلون يتسكعون في المقاهي والشوارع؟ أم سينظمّون لمنظمات ثورية توظف حماسهم وقدرتهم؟ تقوم بعض الشركات الآن قبل أن تهب علينا رياح إطالة العمر بإغراء العاملين فيها وهم في أواسط العمر بتقاعد مبكر لكي تتيح الفرصة لتشغيل الشباب فهل تريدون تأجيال سن التقاعد عقدا أو عقدين أخرين؟. ما هو الحل الذي سيقدمه المجتمع لهذه المشكلة؟
كل تلك اسئلة يصعب اعطاء إجابات مقنعة عنها الآن وستحتاج إلى اجتهادات سياسية واقتصادية واجتماعية للوصول إلى حلول تلبي رغبات من تقدمت بهم السنين وهم أصحاء قادرين وتوفر العمل للشباب دون أن تؤثر على توازن قارب الحياة المستقر بين أمواج (ثورة إطالة العمر).
الدراسة والتعلم المستمر:
أذكر برنامجا في محطة انكليزية بعنوان ( ماذا.. لو..؟)* كان مقدم البرنامج يسأل الشخص المستضاف – وهو عادة في منتصف العمر - عن المهنة التي سيختارها فيما لو عاد شابا وتوفرت له فرصة الاختيار ويحاوره عن سبب اختياره الجديد أو ثبوته على خياره الأصلي. لا اعلم كم كانت نسبة من أرادوا تغييرا على خيارهم الذي مارسوه طوال حياتهم لكني لا أشك في كونها نسبة كبيرة.
*(what if ?)
لذا أرى أن يتيح المجتمع الفرصة للفرد الذي يؤمل امتداد حياته الانتاجية لعشر عقود أو تزيد لكي يختار اختصاصا مختلفا عما كان يمارسه لعشرين أو ثلاثين سنة فالعمل في نفس المهنة طوال عمره المديد لا شك ممل للفرد. ولا عجب إذا ما رأينا أناسا في عقدهم الخامس أو السادس ينخرطون في معاهد أو مؤسسات تدريبة أو في صفوف جامعية ليكتسبوا مهارات جديدة أو ليحدثوا معلوماتهم. الحقيقة أن نواة مثل هذه المعاهد موجودة ومنذ فترة. صادف أن التقيت سنة 1989بمهندس عراقي يدير معهدا من هذا النوع في إحدى المقاطعات الآنكليزية. لم تكن مهمته توفير دراسة أساسية في موضوع جديد لأشخاص في منتصف عمرهم الإنتاجي لكي يحصلوا على مهن مختلفة لكنه كان يقدم دورات تحدّث معلومات الشخص في اختصاصه الأصلي ليحسن فرصه في الحصول على عمل فقط. فالعالم والتكنولوجيا يتغيران بسرعة فائقة وما لم يكن الفرد يعمل في مؤسسة كبيرة ذات تفكير تقدمي فيما يخص التقنيات الحديثة فسيتخلف وسيكون بحاجة إلى مثل هذه المؤسسة لتحديث معلوماته ومهاراته. ينطبق هذا على الفرد أكان كهربائيا ماهرا أو كان طبيبا اختصاصيا أو في أي مهنة أخرى. لا شك أن مثل هذه النواة ستتوسع في المستقبل وعندما تبرز الحاجة لتغيير المهنة الأساسية في مجتمع يستمر الفرد العامل فيه بممارسة مهنة منتجة لثمانية عقود أو اكثر.
أن بروز الشخص الدارس طوال حياته لن يكون مفهوما غريبا في عالم تتغير فيه التقنيات باستمرار وسرعة ويعمل افرد فيه هذه المدد الطويلة. كيف سيكون نمط هذا التعلم المستمر؟ سنرى أولئك الذين يريدون تغيير مهنهم بصورة جذرية ينتمون إلى صفوف دراسية جامعية أو في معاهد متخصصة. وسنرى كذلك أولئك الذين عليهم تحديث معلوماتهم.
مع توفر الشبكات العالمية للحواسيب التي تقدم لنا ذلك الكم الهائل من المعلومات لن يكون غريبا مشاهدة الجزء الأكبر من إعادة التعلم أو تحديث المعلومات منفّذا من خلال هذه الشبكة تحت العنوان الذي اصطلح عليه وهو (التعلم عن بعد). كانت هذه التسمية موجودة منذ زمن طويل وتطلق على التعلم من كتب ومحاضرات ترسل بالبريد إلى الشخص المنتمي للبرنامج، حتى أن جامعات أنشئت لتمارس عملها على هذا المنوال. غير أن بروز الشبكة الألكترونية (الإنترنت) وبلوغها أشُدّها في أقل من عقد من الزمن اعطى التعلم عن بعد دفعة كبيرة أوصلته إلى الجميع من دون مقابل أو بكلفة زهيدة جدا.
الزواج والعائلة:
لا شك أن إطالة عمر الأفراد ستنعكس على مجموعة من التوجهات ذات العلاقة بالزواج وتكوين العائلة والإنجاب. ربما لن يشعر الرجل والمرأة اللذان سيعيشان اثني عشر عقدا بدافع لإنجاب اطفالهم وهم في عقد العشرينات. إلا أن انخفاض خصوبة المرأة بعد منتصف الثلاثينيات من العمر سيجبرها على إنجاب اطفالها في سن مبكرة ما لم تساهم تقنيات الحفاظ على شباب الفرد في تمديد فترة خصوبتها لتخطط على ضوء ذلك لإنجاب الاطفال في عقدها الخامس مثلا أو السادس.
من إهم نتائج ما دعوناه بثورة إطالة العمر تراكم الأجيال وهذا معناه زيادة عدد السكان الموجودين في عصر واحد. قد يقول قائل أن ذلك سيعوض عن تناقص الولادات الذي بدأت المجتمعات المتقدمة في أوروبا واليابان تعاني منه. إذا صح هذا التخمين فسنرى تغيرا كبيرا في سياسة هذه الدول فيما يتعلق بقبول المهاجرين إليها من الدول غزيرة المواليد أكان ذلك بهيئة لاجئين أو غير ذلك.
ماذا عن نوع الأطفال في ضوء التقدم العلمي المتسارع؟ هل سيكون بإمكان الأبوين (تصميم) أطفالهم حسب الطلب كأن يخلصوهم من أي أمراض وراثية يحملونها أو ليضمنوا مستوى ذكاءهم وجمالهم وقابليتهم البدنية؟ وماذا عن الأخلاقيات والقيم المتعارفة والمفاهيم الدينية؟ هل سيجري تقبل فكرة هذا التلاعب بالخلق الطبيعي المقدس للبشر؟ وما دمنا قد تطرقنا إلى الأخلاقيات فمن المناسب التساؤل: هل سيكون للمرأة الحق في اختيارشريك حياتها لدماثة اخلاقه أو ل وسامته أو ثروته في حين يترك لها في الوقت ذاته خيار آخر في اختيار شخص مختلف ليكون أباً لنسلها؟ المراجع الدينية بالطبع لن تتقبل هذا الفكرة الهرطيقة قطعا ولكن من تهمه المراجع الدينية؟ يقول استطلاع حديث للرأي في دول مختلفة أن نسبة من يؤمون الكنائس يتراوح بين 2 إلى 15% فقط في غالبية الدول الأوروبية مع شذوذ أو شذوذين ولكن ماذا عن العرف الاجتماعي؟
نترك كل ذلك جانبا ونتساءل هل سيتقبل الرجال وتتقبل النساء العيش مع شريك الحياة لفترة قد تربو على مائة عام؟ بمقدورهم حتى الآن بالطبع الانفصال والعيش منفردين أو البحث عن شريك جديد لكن ربما سيصبح الانفصال عقيدة اجتماعية لن تكون مقبولة وحسب بل ستصبح مرغوبة. ربما سيشرّع لانفصال الزوجين بعد عشر سنوات من العيش المشترك لينتهي عقد زواجهما وديا ويترك لهما الخيار لتجديده او لينفصلا. أننا نرى ذلك اليوم يحدث في الغرب فعليا دونما الحاجة لقانون يشرعنه فقد انتفت الحاجة إلى عقد مدني بعد فترة غير طويلة من انتفاء إجراء عقد كنسي وأصبح العيش المشترك دونما رابط قانوني شيئا عاديا ومقبولا اجتماعيا. واقتصر الأمر على تشريع قوانين تحفظ حقوق الطرفين إذا ما قررا الانفصال.
الطريف في الأمر ما اقترحه أحد الكتاب الغربيين لتشريع (أخذ إجازة) من خيمة الزواج للطرفين لمدة سنة تفعّل بعد مرور خمس سنوات من العيش المشترك!!!!! لا أقول أنه اقتراح ثوري لأننا قد نراه يأخذ سبيله إلى الواقع في الغرب خلال حياتنا أن لم يكن قد بُدء بممارسته فعلا.
هل المجتمع مستعد لمثل هذه التغيرات المتوقعة من حيث الدراسة والعمل والتقاعد والزواج؟ أرى أن بعض التطورات مقبولة وستصبح أمرا اعتياديا خلال عقد أو عقدين مقل العيش المشترك دون رابط قانوني الذي كان مستهجنا لا بل يمكن مقاضاة من يمارسه قبل جيل وحسب. سيبدأ التكيف في الغرب لا شك قبل أن يتقبله الهنود أو العرب مثلا حيث لا زال للتقاليد الاجتماعية ناهيك بالتقييدات الديني مفعولها في حين أن الارتباط الديني للإنسان الأوروبي في طريقه للتلاشي قريبا. تبلغ نسبة من قالوا أن للمعتقد الديني تأثير في حياتهم الاعتيادية 16% فقط من البريطانيين و15% من الفرنسيين و14% من الألمان و4% من السويديين (بناء على مسح أجري سنة 1991) وربما تناقصت هذه النسب اليوم.
تجمل محاضرة ألقاها البروفيسور مايكل زاي رئيس معهد للدراسات المستقبلية في بحث ألقاه في مؤتمر جمعية مستقبل العالم سنة 2005 عن إطالة العمر، أن على المجتمع التهيؤ للتالي:
(The Expansionary Institute)
1 – تغيير المنظور عن الشيخوخة ودورة الحياة والمدى الحياتي والغاء مفاهيم الشباب والشيخوخة الحالية والتأقلم مع الروحية الشعبية التي نرى من خلالها جميع الأفراد بغض النظر عن السنوات التي قضوها على أرضنا هذه " قيمة مضافة إلى الاقتصاد والمجتمع".
2 –إعادة النظر في نظم الاستخدام في المصالح التجارية والصناعية والحكومية للاستفادة من الخبرات المتراكمة للمعمرين في عقودهم السابعة والثامنة وما بعده حين تكون الحاجة والفرص متوفرين.
3 – برمجة الدراسة وخاصة على المستوى الثالث بطريقة تتلاءم مع متغيرات الاستخدام وتطوير المهارات للافراد في سنينهم الوسطى. كذلك الاعتماد على التعليم عن بعد بصورة أكبر وتطويره ليتلاءم مع متطلبات الواقع ليأخذ موقعه كطريقة أقل كلفة تتاح لمن يرغب في الاستمرار بالتعلم.
4 – تولي الفرد مسؤولية اكبر عن حياته في مجالات مثل الصحة والأمن المالي والأمن ضد البطالة مع توفير المجالت له ضمن تنظيمات جمعية إنما ذاتية المساهمة.
السؤال الأخير الواجب طرحه: هل سيتوفر طول العمر للجميع مجانا أو بكلف زهيدة يستطيعها غالبية الناس أو أنه سيكون مجالا جيدا لنقل الثروات المركزة في عالم اليوم لدى طبقة الصناعيين وملاك العقارات وغيرهم من الأثرياء إلى شركات الأدوية الكبرى التي لن تتورع عن امتصاص تلك الثروات المتراكمة لدى من يشترون اونصة الشاي بخمسة عشر ألف دولار أويدفعون خمسين ألف دولار للمبيت ليلة واحدة في فندق الفور سيزنس في نيويورك؟
نصيحتي للقارئ: استثمر في شركات الأدوية الكبرى
(Big Pharma)
الصفحة الرئيسة
حقيقة أم خيال ؟
إعداد: صباح الدملوجي
تقول إحدى أساطير اليهود الفولكلورية أن هناك مدينة مسحورة تدعى (لُز)* تمنع دخول ملك الموت الذي أطلقة (يهوه) في بقاع (عدن) بعد أن أبعد سكانها من جنتها وفقدوا بذلك ميزة الخلود التي كانوا يتمتعون بها في الجنة. غير أن سكان تلك المدينة الأسطورية سئموا العيش في ما يشبه السجن وأرادوا أن يكونوا مثل بقية البشر. لذا تسلقوا أسوار مدينتهم ليقعوا في يد ملك الموت الذي كان الذي كان في انتظارهم فلاقوا حتفهم. إذا ما كان لهذه الأسطورة من دلالة فهي لا شك تعبير عن رغبة مكبوتة لدى البشر يروم من خلالها نيل الخلود لكنه يدرك أن تحقيق ذلك أمر مستحيل. وما سعي كلكامش للحصول على عشبة الحياة ثم ضياعها منه سوى تعبير آخر عن هذه الرغبة المكبوتة.
(Luz)*
لا شك أن العجز الذي يصيب الأنسان المعمر هو الجزء التراجيدي الذي يعكر سنين طول العمر التي يسعى إليها. لم تفت هذه الحقيقة الاغريق القدماء فنسجوا قصة حولها تقول أن الشاب (تيثونوس) وقع في حب إلهة الربيع (إيوس) التي بدورها توسطت له عند (زيوس) كبير الآلهة ليهبه الخلود.إلا أنها نسيت أن تطلب من زيوس أن يديم له الشباب. وهكذا طالت الشيخوخة تيثونوس ولم يقتصر تأثيرها على العجز والوهن بل بدء جسمه يضمحل ويتقلص حتى انتهى إلى صورة صرصار انزوى في إحدى زوايا الغرفة. تستخلص الأسطورة توصية إلى البشر هي أن لا يطلبوا إي خدمة من الآلهة.
لذا كان السعي نحو الشباب الدائم هو البديل الممكن إلى حد ما لدى البشر لقناعته بأن الحظ لن يسعفه لنيل الخلود. فإذا ما كان الخلود أمراً مستحيلا مهما حاول بلوغه إلا أنه ربما ينجح في الحفاظ على شبابه. تقول إحدى الوصفات أن المرهم أو الكريم الذي تصفه للقضاء على تجاعيد الشيخوخة مضمون النتائج وسليم. لم ترد هذه الوصفة ضمن إعلان لأوريال أو ماكس فاكتور بل وردت في مخطوطة هيروغليفية فرعونية. أنا شخصيا قانع بسلامة وفاعلية تلك الوصفة. لماذا؟ لأني أرى أن من اكتشف سر الحفاظ على جسد الإنسان المتوفى محنطا لآلاف السنين وهو محافظ على هيئته، قادر على مزج تركيبة تفيد في التغطية على تجاعيد وجهه وهو حي.!!!!
نعود إلى صلب الموضوع وهو إدامة شباب الإنسان. لقد نجح الإنسان في إطالة عمره بصورة ملموسة عبر القرنين الماضيين. كان معدل عمر الإنسان الإنكليزي في بداية القرن التاسع عشر لا يتجاوز 37 سنة وتحسن ليصل إلى 47 سنة مع حلول القرن العشرين بينما يبلغ اليوم 81 سنة. إذن قد أفلح الإنسان في مضاعفة عمره لا بل تجاوز ذلك خلال قرنين من الزمن وحسب وذلك ليس بالأمر الهين. لم يصل هذا التقدم بالطبع إلى الحد الذي فكر فيه الفيلسوف وعالم الرياضيات الفرنسي ديكارت حين اعتقد أن التقدم (الهائل!) في العلوم أثناء حياته سيتيح له العيش ألف سنة. غير أن ديكارت توفي من ذات الرئة سنة 1650 وهو في الرابعة والخمسين من العمر. لقد استبقت أفكاره عن التقدم العلمي اكتشاف مضادات الحيوية بنحو ثلاثة قرون.
كان اكتشاف طريقة التلقيح ضد الجدري أول بادرة للحفاظ على حياة الإنسان. كان اللقاح بطرق بدائبة معروفا في الصين والهند والبلاد العثمانية منذ أزمان طويلةـ إلا أنه لم يتخذ طريقته الحديثة إلا سنة 1798 عندما نشر الجراح الإنكليزي إدوارد جينر تجربته التي تعتمد على اللقاح المستخرج من جدري البقر. تلى ذلك اكتشاف طرق للقاح ضد مرضي الكَلَب والجمرة الخبيثة من قبل لويس باستور. ثم توالت الاكتشافات التي شملت معظم الامراض الوبائية كالنكاف والتهاب الكبد والتهاب السحايا وشلل الاطفال والسل وسواها.
الخطوة التالية كانت القضاء على المرض نهائيا وهذا فعلا ما حدث مع الجدري الذي اعتبر بحكم المنتهي منذ سنة 1977 إذ لم تسجل أي إصابة به منذ ذلك التاريخ. أدرجت منظمة الصحة العالمية ضمن برامجها أيضا القضاء على مرض شلل الاطفال سنة 2000 ، إلا أن جهودها كما يبدو لم تكلل بالنجاح وما زال المرض يفتك بضحايه ولكن في اقطار معينة وعلى نطاق محدود فقط.
أما الوسيلة الأخرى التي ساهمت في إطالة عمر الإنسان فكانت مضادات الحيوية التي اكتشف أولها في ثلاثينيات القرن العشرين وكان من مركبات السلفا لتي تميزت بقابليتها في القضاء على العديد من انواع البكتريا المسببة للأمراض لكنها كانت تسبب بعض الاعراض الجانبية غير المرغوبة لدى مستخدميها. حدث الاختراق الكبير سنة 1940حين نجح العالم الاسترالي فلوري وعدد من مساعديه في عزل مادة البنيسيلين من نوع من العفن يدعى (بينيسيليوم نوتاتوم) لاستخدامه في علاج العديد من الامراض الجرثومية. وكان العالم الاسكتلندي فليمنك قد اكتشف منذ سنة 1928 القابلية التي يمتلكها هذا العفن في القضاء على البكتيريا. كانت تلك البداية فقط إذ اكتشفت أو صنعت العشرات من انواع مضادات الحيوية القادرة على استئصال شأفة العديد من انواع البكتيريا المرضية وساهمت بشكل كبير جدا في إطالة اعمارالبشر مما رفع معدل عمر الفرد على مستوى الدول المختلفة وفي عموم العالم.
هناك تطورات أخرى عديدة ساعدت خلال القرن الماضي في اطالة عمر الأفراد ومنها التحسن الكبير في الصحة العامة من توفير المياه النقية ومجاري الصرف الصحي للغالبية العظمى من البشر في مختلف ارجاء العالم وتثقيف الأمهات حول طرق العناية بالأطفال الرضع مما قلل وفيات الأطفال إلى حدود متدنية وساهم في رفع معدل الاعمار بصورة فعالة جدا. كان للقاحات المختلفة ومضادات الحيوية وطرق الارواء الوريدي مساهمتها الكبيرة لا شك في التقليل من وفيات لاطفال كذلك.
أما بالنسبة لكبار السن فتعتبر تقنية قسطرة الشرايين القلبية وغيرها من الشرايين وأساليب تجاوز انسداداتها من أهم ما ساهم به الطب الحديث في اطالة عمر جيل الشيخوخة. من التقنيات الطبية الأخرى زراعة الكلى ( وأعضاء أخرى) وتوفير وسائل غسل الدم ااصناعية للتعويض عن الكلى التالفة لدى الذين لا يمكن زرع الكلى لهم. يعزز كل ذلك العديد من الادوية التي ابتكرت لمعالجة العديد من الامراض المستعصية والتقنيات الجراحية وأساليب الفحص والكشف الالكترونية والكيميائية ونخص بالذكر عشرات الآدوية التي تخص ضغط الدم وداء السكري.
ما يهمنا الآن هو استطلاع الامكانيات المتاحة وطرائق البحث والتطبيقات والتجارب العلمية التي يستخدمها الطب المعاصر والهادفة إلى اطالة العمرمع الحفاظ على حيوية الإنسان .
يصاب الباحث بالدوار وهو يحاول أن يشق طريقه بين الكم الهائل من المعلومات المتوفرة عن احدث البحوث ذات العلاقة بالحفاظ على حيوية الإنسان. إذ يبدو أن هذا الموضوع قد اجتذب اهتمامات الجامعات ومراكز البحوث التي أنشئ بعض منها خصوصا لهذ الغرض. لم تجد هذه المراكز أو الباحثين فيها صعوبة في استحصال التمويل اللازم أكان ذلك من اشخاص ذوي اهتمام بإطالة العمر أو من الجهات الحكومية. أما شركات الأدوية الكبرى فلم تتخلف هي الأخرى عن الآدلاء بدولها في هذه البحوث مدركة ان نجاحها يعني ارباحا بالمليارات.
يجب في البداية القول أن اكتشاف أو اختراع علاج سحري يعمل لوحده على الحفاظ على شباب الفرد والتغلب على أسباب الشيخوخة ومن ثم اطالة العمر أمر خيالي غبر معقول وأن السعي نحوه كالسعي نحو سراب في صحراء. لذا انصرفت الجهود نحو تشخيص الأسباب الحيوية التي تؤدي إلى الشيخوخة لكي تجري معالجتها. وكأي بحث علمي يتطلب الأمر دراسة هذه الاسباب بصورة وافية لكي يتسنى للباحث التدخل في المفصل الصحيح لمعالجة الأثر غير المرغوب الذي ينجم عنها أو لترميم الخلل في الجسم والذي يؤدي إلى الشيخوخة ثم الموت.
تغطي البحوث عن هذه الأسباب المؤدية إلى الشيخوخة عددا لايستهان به من الفعاليات الحيوية ومن أهمها:
تراكم النفايات الحيوية داخل الخلية.
تراكم النفايات الحيوية خارج الخلية.
تطور الارتباطات المتبادلة المضرة بين الخلايا.
(Crosslinks)
تصلب الكنان الحيوي خارج الخلايا.
تلف الخلايا وضمور الانسجة.
الخلايا السرطانية.
يعتقد العلماء أن التحكم بالاضرار الناجمة عن هذه التطورات في الجسم البشري وترميم الخلايا أو الانسجة المتضررة أو عكس مجرى التطور في العمليات الستة الأولى أمر ممكن لكنه يتطلب جهودا وبحوثا مضنية وطويلة. لقد حققت البحوث الموجهة نجو هذه التطورات منذ بدءها قبل عقدين أو ثلاثة نجاحات علمية كبيرة وضّحت دقائق هذه التظورات والفعاليات بحيث يتوقع حدوث اختراقات علمية مدهشة في العقود القادمة.
ما هي السبل التي يروم الباحثون اتباعها لمعالجة أو السيطرة على الآثار التي تتركها هذه التطورات على الانسان؟ هناك كما يتوقع المرء عشرات السبل لكننا سنركز هنا على السبل الواعدة التي يرى المختصون انها الاسرع أو الاسهل للوصول إلى الهدف.
(Stem Cells) الخلايا الجذعية :
الخلايا الجذعية هي خلايا متشابهة غير متخصصة تتميز بمقدرتها على تجديد نفسها تكرارا وبقدرتها على التخصص لتصبح أي نوع من خلايا الجسم. هناك نوعان من الخلايا الجذعية: جنينية توجد في الأجنة وفي الحبل السري والمشيمة وأخرى توجد لدى البالغين يمكن عزلها وانماءها مختبريا. يتميز النوع الجنيني بنشاطه وسرعة تحوله إلى النوع المطلوب من الخلايا. مع معرفة امكانية استخدام هذه الخلايا للتعويض عن خلايا وأنسجة تالفـة برز توجه للحفاظ على الحبل السري والمشيمة للطفل الوليد في درجة حرارة منخفظة جدا (في النايتروجين المسال) حيث يمكن اللجوء إليها في مستقبل حياة الفرد إذا ما برزت الحاجة.
هناك استخدامات لهذه الخلايا في الوقت الحالي إذ يلجأ الطب إليها في مجال زراعة نخاع العظم وفي ترميم إصابات النخاع الشوكي وتجرى بحوث لاستخدامها في علاج الأمراض ذات العلاقة بالاعصاب كالتصلب اللويحي والألزهايمر ومرض باركنسون كما تستخدم على نطاق ضيق في علاج الصلع وترقيع قرنية العين وترميم الجلد من أثر الحروق ولزراعتها في البانكرياس المصاب بالسكري وأخيرا في إنماء عضلة القلب المحتشية.
(Telomere) السيطرة على طول التيلومير :
التيلومير هو مجموعة ذنيبات تعمل كقبّعة موجودة على نهاية الكروموسوم الذي يتألف من مجموعة الجينات داخل الخلية. لوحط منذ زمن ليس بالبعيد تناقص طول التيلومير عند كل انقسام للكروموسوم الذي يحدث عند انقسام الخلية ذاتها. لذا كان طول التيلومير دالة على عمر الخلية وعلى عدد الانقسامات التي مرت بها. ومن المعلوم أن الخلايا في الجسم البشري تستمر في الانقسام والتكاثر حتى تصل إلى درجة من الشيخوخة بحيث تتلاشى أو تنتحر. ابتكر العلماء طريقة لإطالة التيلومير الذي تناقص طوله ولو نسبيا لدى الفئران ولاحظوا أن الخلية التي تحتويه قد استرجعت حيويتها وشبابها ونجحت الطريقة فعلا في إطالة عمر الفئران التي أجريت عليها هذه التجارب.
(Boosting The Immune System) تعزيز النظام المناعي :
يحمي النظام المناعي الجسم من العديد من الأمراض الجرثومية والعلل العضوية. لكن فعالية هذا النظام تتناقص مع التقدم في العمر. السبب هو تناقص الخلايا المناعية التي تتولد في نخاع العظم وينضج أحد انواعها في الغدة الصعترية *1. وهي غدة لمفية تقع فوق القلب وتعتبر أحد أركان الجهاز المناعي الأساسية. يؤدي اضمحلال هذه الغدة مع تقدم العمر إلى تدهور فعالية الجهاز المناعي. العامل الآخر لتدهور مناعة الجسم مع تقدم العمر هو السلوك الشاذ لبعض الجزيئات الحيوية المتخصصة.
1*(Thymus)
هناك بحوث تجرى الآن تتعلق بهرمونات وعوامل نمو تعمل على إعادة الغدة الصعترية إلى حجمها الطبيعي وعلى تحفيز الخلايا المتخصصة فيها لزيادة انتاج خلايا الدم المناعية. البحوث الأخرى تركز على تحفيز فعالية الخلايا المناعية ذاتها وتحسين قدرتها على تحسس أي شيئ غريب في مجرى الدم لتهاجمه وتقضي عليه.
يشكل تعزيز النظام المناعي لمحاربة السرطان واحدا من أهم التيارات البحثية في أيامنا هذه وقد حققت البحوث فعلا نجاحات جيدة ولا شك أن هذه النجاحات الأولية ستزيد من همة الباحثين لتوفير بدائل عن العلاج الكيمياوي او الاشعاعي للسرطان بحيث يتجنب الخاضع للعلاج الآثار الجانبية لهاتين الطريقتين.
(Autophagy) الالتهام الذاتي :
الالتهام الذاتي فعالية موجودة في كل خلايا الجسم تستجيب للاجهاد وتعمل على تجديد حياة الخلية. أظهرت البحوث الحديثة أن أي معالجة ناجحة تهدف إلى إطالة العمر أكانت جينية أو غذائية أو بوساطة الدواء تعمل من خلال تحفيز الالتهام الذاتي.
يمثل الالتهام الذاتي الطريقة الحيوية التي تقوم الخلية من خلالها بـ(تنظيف) المنزل و(إعادة تدوير النفايات). يجري خلال هذه العملية كنس وإزالة كافة انواع النفايات التي تتراكم داخل الخلية من بروتينات مهشمة وأجزاء من المكونات دون الخلوية كالـ(مايتوكوندريا) المعطوبة وأي بكتيريا أو فيروسات موجودة بين الخلايا ويعمل الالتهام الذاتي على تحليل هذه النفايات واعادتها إلى الخلية كمواد أو كطاقة تستفيد منها في فعالياتها المختلفة. من نتائج كسل هذه الفعالية في مرحلة الشيخوخة تراكم البروتينات* مثلا ويبدو أثره في بطء مشي الفرد وبإصابته بالأمراض المرتبطة بالتردي في الجهاز العصبي كالألزهايمر ومرض باركنسون.
*(protein aggregation)
أثبتت البحوث الحديثة أن الالتهام الذاتي مسؤول عن الحفاظ على الخلايا الجذعية وعلى مكافحة الالتهاب وسلامة نخاع العظم وتعزيز فعالية الجهاز المناعي وعلى الحفاظ على فعالية الجينات المانعة للسرطان. هناك دلائل تفيد بأن تنشيط هذه الفعالية الحيوية يمثل واحدا من أهم العوامل المساعدة في الحفاظ على نشاط وحيوية الشخص وشبابه. هناك آلية في الجسم تدفع بالخلية في حالة كسلها وفشلها في تنظيف ذاتها أي عند تراجع هذه الفعالية وتراكم النفايات وعجز الخلية عن إداء واجباتها إلى الانتحار، أي إلى اتلاف ذاتها.
اكتُشف أن بعض العقاقير المصممة في الآصل لعلاج بعض الأمراض والآفات الأخرى تقوم بتعزبز أو تحفيز فعالية الالتهام الذاتي. من هذه العقاقير الراباميسين 1* والميتفورمين 2* وعقاقير أخرى. كما أن الصيام (مع إفطار خفيف بعده) والتعرض لنور الشمس وتناول فيتامين دي والكافيين والشاي الأخضر كلها عوامل تحفز هذه الفعالية بالغة الأهمية للحفاظ على شباب الجسم.
1*(Rapamycine)
2*(Metformin)
تجديد شباب الانسجة (Tissue Rejuvenation)
هذه طريقة مستحدثة لعلاج بعض الأمراض المزمنة الشديدة تقوم باعادة فعالية أنسجة الجسم التي لا تؤدي وظيفتها. يجري في هذه الطريقة أولا التخلص من الطبقات السفلى المتأثرة للنسيج وإزالة بؤر الالتهاب ونواتج التلف والشحوم المتراكمة في النسيج. بعد ذلك تعالج المنطقة التالفة بإمرار قطب كهربائي متدحرج فيه فولطية مستمرة * ضعيفة تعمل على إزالة الشحنات الفائضة ضمن منطقة النسيج المتأثر. يفيد هذا في عكس حالة النسيج من حامضية إلى قاعدية وهي حالة ضرورية لبدء العملية الأيضية التي تجري تحت فراغ جزئي يحيط بالمنطقة المتأثرة كلها.
*D.C
تنفع هذه المعالجة في تحفيز الجهاز المناعي وتفعيل الجهاز اللمفاوي ليقوم بإزالة أي شحوم متبقية وتزيد في كمية سريان الدم لكي يبدأ الجسم بإعادة بناء الأنسجة التالفة في المنطقة. تستخدم هذه الطريقة لعلاج الأمراض كالحساسية الجلدية والروماتيزم والإصابات الرياضية وآثار الحروق.
هناك إضاقة لكل ما ذكر تقنيات أخرى واعدة تنصب البحوث العلمية والطبية عليها وينتظر أن تساهم في إطالة عمر الإنسان ومنها مثلا:
العلاج الجيني إي استبدال أو هندسة الجينات
ترميم الجزيئات باستخدام النانوتكنولوجيا
تعويض الاعضاء المعطوبة عن طريق الاستنساخ
تعزيز القشرة الخارجية ( أي الجلد)ـ
ولما كان هدف المحاضرة تقديم عرض عام لأوجه السعي العلمي لتحقيق إطالة عمر الإنسان دون الخوض في تفاصيل شاملة نكتفي بالمحاور العلمية التي ذكرناها دون الإطالة لعرض كافة المحاور التي تجري فيها البحوث وسيكرس الجزء الأخير من المحاضرة لعرض ما نراه من تطورات اجتماعية ومؤسساتية ستفرضها إطالة عمر البشر.
الأثر الجتماعي والمؤسساتي للحفاظ على حيوية الإنسان
سيكون لإطالة عمر الأفراد مع الحفاظ على حيويتهم إذا ما تحقق تأثير شامل وعميق على المجتمع. مثل هذا التأثير الذي بدأنا نشعر ببداياته والمتوقع بلوغه الأوج خلال عقدين أو ثلاثة سيمثل تحولا عن قيـم وممـارسات احتماعية كانت سـائدة منـذ الثورة الصناعية والتحول من سيادة الريف والقبيلة إلى سيادة نمط الحياة المديني* قبل نحو قرنين من الزمن. لذا نستطيع القول أننا بصدد خوض (ثورة اجتماعية). من المناسب استشراف التغيرات المتوقعة على المستويين المؤسساتي والاجتماعي والتخطيط لها.
*(urban life style)
العمل والتقاعد:
حتى وقت قريب كانت الغالبية العظنى من الناس تتبع في حياتها منهاجا متشابها هو العمل في مهنة أو وظيفة منذ عمر المراهقة أو في العشرينيات بعد إنهاء الدراسة لثلاثين أوأربعين عاما ثم يتقاعدون عن العمل (وربما يستثنى من ذلك العاملون بمفردهم). غير أن احتفاظ الفرد بحيويته ونشاطه البدني والذهني في عقد الستينات وما بعده سيغير من قواعد اللعبة.
المسألة الحساسة الأخرى هي نظام التقاعد الذي يقوم على استقطاع نسبة محددة من راتب الشخص العامل لتقوم مؤسسة التقاعد أو صندوق الضمان أو شركة التأمين باستثمارها عبر عشرات السنين ثم تدفع للشخص كمبلغ واحد عند بلوغة سنا معينة أو على هيئة راتب شهري يستمر طوال حياته.
هل سيبقى سن استحقاق التقاعد كما هو عليه الآن في الستين أو عشراتها؟ عندما يكون الفرد لا زال متمتعا بحيويته الجسدية والذهنية في الستين فأشك أنه سيرغب بالتقاعد. جيد. سيدفعوا بسن التقاعد عشر أو عشرين سنه أو سيتركو الآمر للشخص ليطلب التمتع بتقاعده متى يرغب. غير أن الشباب ينتظرون بفارغ الصبر على الأبواب ليشغلوا المواقع التي ستشغر. هل سينتظرون عشر أو عشرين سنه وهم عاطلون يتسكعون في المقاهي والشوارع؟ أم سينظمّون لمنظمات ثورية توظف حماسهم وقدرتهم؟ تقوم بعض الشركات الآن قبل أن تهب علينا رياح إطالة العمر بإغراء العاملين فيها وهم في أواسط العمر بتقاعد مبكر لكي تتيح الفرصة لتشغيل الشباب فهل تريدون تأجيال سن التقاعد عقدا أو عقدين أخرين؟. ما هو الحل الذي سيقدمه المجتمع لهذه المشكلة؟
كل تلك اسئلة يصعب اعطاء إجابات مقنعة عنها الآن وستحتاج إلى اجتهادات سياسية واقتصادية واجتماعية للوصول إلى حلول تلبي رغبات من تقدمت بهم السنين وهم أصحاء قادرين وتوفر العمل للشباب دون أن تؤثر على توازن قارب الحياة المستقر بين أمواج (ثورة إطالة العمر).
الدراسة والتعلم المستمر:
أذكر برنامجا في محطة انكليزية بعنوان ( ماذا.. لو..؟)* كان مقدم البرنامج يسأل الشخص المستضاف – وهو عادة في منتصف العمر - عن المهنة التي سيختارها فيما لو عاد شابا وتوفرت له فرصة الاختيار ويحاوره عن سبب اختياره الجديد أو ثبوته على خياره الأصلي. لا اعلم كم كانت نسبة من أرادوا تغييرا على خيارهم الذي مارسوه طوال حياتهم لكني لا أشك في كونها نسبة كبيرة.
*(what if ?)
لذا أرى أن يتيح المجتمع الفرصة للفرد الذي يؤمل امتداد حياته الانتاجية لعشر عقود أو تزيد لكي يختار اختصاصا مختلفا عما كان يمارسه لعشرين أو ثلاثين سنة فالعمل في نفس المهنة طوال عمره المديد لا شك ممل للفرد. ولا عجب إذا ما رأينا أناسا في عقدهم الخامس أو السادس ينخرطون في معاهد أو مؤسسات تدريبة أو في صفوف جامعية ليكتسبوا مهارات جديدة أو ليحدثوا معلوماتهم. الحقيقة أن نواة مثل هذه المعاهد موجودة ومنذ فترة. صادف أن التقيت سنة 1989بمهندس عراقي يدير معهدا من هذا النوع في إحدى المقاطعات الآنكليزية. لم تكن مهمته توفير دراسة أساسية في موضوع جديد لأشخاص في منتصف عمرهم الإنتاجي لكي يحصلوا على مهن مختلفة لكنه كان يقدم دورات تحدّث معلومات الشخص في اختصاصه الأصلي ليحسن فرصه في الحصول على عمل فقط. فالعالم والتكنولوجيا يتغيران بسرعة فائقة وما لم يكن الفرد يعمل في مؤسسة كبيرة ذات تفكير تقدمي فيما يخص التقنيات الحديثة فسيتخلف وسيكون بحاجة إلى مثل هذه المؤسسة لتحديث معلوماته ومهاراته. ينطبق هذا على الفرد أكان كهربائيا ماهرا أو كان طبيبا اختصاصيا أو في أي مهنة أخرى. لا شك أن مثل هذه النواة ستتوسع في المستقبل وعندما تبرز الحاجة لتغيير المهنة الأساسية في مجتمع يستمر الفرد العامل فيه بممارسة مهنة منتجة لثمانية عقود أو اكثر.
أن بروز الشخص الدارس طوال حياته لن يكون مفهوما غريبا في عالم تتغير فيه التقنيات باستمرار وسرعة ويعمل افرد فيه هذه المدد الطويلة. كيف سيكون نمط هذا التعلم المستمر؟ سنرى أولئك الذين يريدون تغيير مهنهم بصورة جذرية ينتمون إلى صفوف دراسية جامعية أو في معاهد متخصصة. وسنرى كذلك أولئك الذين عليهم تحديث معلوماتهم.
مع توفر الشبكات العالمية للحواسيب التي تقدم لنا ذلك الكم الهائل من المعلومات لن يكون غريبا مشاهدة الجزء الأكبر من إعادة التعلم أو تحديث المعلومات منفّذا من خلال هذه الشبكة تحت العنوان الذي اصطلح عليه وهو (التعلم عن بعد). كانت هذه التسمية موجودة منذ زمن طويل وتطلق على التعلم من كتب ومحاضرات ترسل بالبريد إلى الشخص المنتمي للبرنامج، حتى أن جامعات أنشئت لتمارس عملها على هذا المنوال. غير أن بروز الشبكة الألكترونية (الإنترنت) وبلوغها أشُدّها في أقل من عقد من الزمن اعطى التعلم عن بعد دفعة كبيرة أوصلته إلى الجميع من دون مقابل أو بكلفة زهيدة جدا.
الزواج والعائلة:
لا شك أن إطالة عمر الأفراد ستنعكس على مجموعة من التوجهات ذات العلاقة بالزواج وتكوين العائلة والإنجاب. ربما لن يشعر الرجل والمرأة اللذان سيعيشان اثني عشر عقدا بدافع لإنجاب اطفالهم وهم في عقد العشرينات. إلا أن انخفاض خصوبة المرأة بعد منتصف الثلاثينيات من العمر سيجبرها على إنجاب اطفالها في سن مبكرة ما لم تساهم تقنيات الحفاظ على شباب الفرد في تمديد فترة خصوبتها لتخطط على ضوء ذلك لإنجاب الاطفال في عقدها الخامس مثلا أو السادس.
من إهم نتائج ما دعوناه بثورة إطالة العمر تراكم الأجيال وهذا معناه زيادة عدد السكان الموجودين في عصر واحد. قد يقول قائل أن ذلك سيعوض عن تناقص الولادات الذي بدأت المجتمعات المتقدمة في أوروبا واليابان تعاني منه. إذا صح هذا التخمين فسنرى تغيرا كبيرا في سياسة هذه الدول فيما يتعلق بقبول المهاجرين إليها من الدول غزيرة المواليد أكان ذلك بهيئة لاجئين أو غير ذلك.
ماذا عن نوع الأطفال في ضوء التقدم العلمي المتسارع؟ هل سيكون بإمكان الأبوين (تصميم) أطفالهم حسب الطلب كأن يخلصوهم من أي أمراض وراثية يحملونها أو ليضمنوا مستوى ذكاءهم وجمالهم وقابليتهم البدنية؟ وماذا عن الأخلاقيات والقيم المتعارفة والمفاهيم الدينية؟ هل سيجري تقبل فكرة هذا التلاعب بالخلق الطبيعي المقدس للبشر؟ وما دمنا قد تطرقنا إلى الأخلاقيات فمن المناسب التساؤل: هل سيكون للمرأة الحق في اختيارشريك حياتها لدماثة اخلاقه أو ل وسامته أو ثروته في حين يترك لها في الوقت ذاته خيار آخر في اختيار شخص مختلف ليكون أباً لنسلها؟ المراجع الدينية بالطبع لن تتقبل هذا الفكرة الهرطيقة قطعا ولكن من تهمه المراجع الدينية؟ يقول استطلاع حديث للرأي في دول مختلفة أن نسبة من يؤمون الكنائس يتراوح بين 2 إلى 15% فقط في غالبية الدول الأوروبية مع شذوذ أو شذوذين ولكن ماذا عن العرف الاجتماعي؟
نترك كل ذلك جانبا ونتساءل هل سيتقبل الرجال وتتقبل النساء العيش مع شريك الحياة لفترة قد تربو على مائة عام؟ بمقدورهم حتى الآن بالطبع الانفصال والعيش منفردين أو البحث عن شريك جديد لكن ربما سيصبح الانفصال عقيدة اجتماعية لن تكون مقبولة وحسب بل ستصبح مرغوبة. ربما سيشرّع لانفصال الزوجين بعد عشر سنوات من العيش المشترك لينتهي عقد زواجهما وديا ويترك لهما الخيار لتجديده او لينفصلا. أننا نرى ذلك اليوم يحدث في الغرب فعليا دونما الحاجة لقانون يشرعنه فقد انتفت الحاجة إلى عقد مدني بعد فترة غير طويلة من انتفاء إجراء عقد كنسي وأصبح العيش المشترك دونما رابط قانوني شيئا عاديا ومقبولا اجتماعيا. واقتصر الأمر على تشريع قوانين تحفظ حقوق الطرفين إذا ما قررا الانفصال.
الطريف في الأمر ما اقترحه أحد الكتاب الغربيين لتشريع (أخذ إجازة) من خيمة الزواج للطرفين لمدة سنة تفعّل بعد مرور خمس سنوات من العيش المشترك!!!!! لا أقول أنه اقتراح ثوري لأننا قد نراه يأخذ سبيله إلى الواقع في الغرب خلال حياتنا أن لم يكن قد بُدء بممارسته فعلا.
هل المجتمع مستعد لمثل هذه التغيرات المتوقعة من حيث الدراسة والعمل والتقاعد والزواج؟ أرى أن بعض التطورات مقبولة وستصبح أمرا اعتياديا خلال عقد أو عقدين مقل العيش المشترك دون رابط قانوني الذي كان مستهجنا لا بل يمكن مقاضاة من يمارسه قبل جيل وحسب. سيبدأ التكيف في الغرب لا شك قبل أن يتقبله الهنود أو العرب مثلا حيث لا زال للتقاليد الاجتماعية ناهيك بالتقييدات الديني مفعولها في حين أن الارتباط الديني للإنسان الأوروبي في طريقه للتلاشي قريبا. تبلغ نسبة من قالوا أن للمعتقد الديني تأثير في حياتهم الاعتيادية 16% فقط من البريطانيين و15% من الفرنسيين و14% من الألمان و4% من السويديين (بناء على مسح أجري سنة 1991) وربما تناقصت هذه النسب اليوم.
تجمل محاضرة ألقاها البروفيسور مايكل زاي رئيس معهد للدراسات المستقبلية في بحث ألقاه في مؤتمر جمعية مستقبل العالم سنة 2005 عن إطالة العمر، أن على المجتمع التهيؤ للتالي:
(The Expansionary Institute)
1 – تغيير المنظور عن الشيخوخة ودورة الحياة والمدى الحياتي والغاء مفاهيم الشباب والشيخوخة الحالية والتأقلم مع الروحية الشعبية التي نرى من خلالها جميع الأفراد بغض النظر عن السنوات التي قضوها على أرضنا هذه " قيمة مضافة إلى الاقتصاد والمجتمع".
2 –إعادة النظر في نظم الاستخدام في المصالح التجارية والصناعية والحكومية للاستفادة من الخبرات المتراكمة للمعمرين في عقودهم السابعة والثامنة وما بعده حين تكون الحاجة والفرص متوفرين.
3 – برمجة الدراسة وخاصة على المستوى الثالث بطريقة تتلاءم مع متغيرات الاستخدام وتطوير المهارات للافراد في سنينهم الوسطى. كذلك الاعتماد على التعليم عن بعد بصورة أكبر وتطويره ليتلاءم مع متطلبات الواقع ليأخذ موقعه كطريقة أقل كلفة تتاح لمن يرغب في الاستمرار بالتعلم.
4 – تولي الفرد مسؤولية اكبر عن حياته في مجالات مثل الصحة والأمن المالي والأمن ضد البطالة مع توفير المجالت له ضمن تنظيمات جمعية إنما ذاتية المساهمة.
السؤال الأخير الواجب طرحه: هل سيتوفر طول العمر للجميع مجانا أو بكلف زهيدة يستطيعها غالبية الناس أو أنه سيكون مجالا جيدا لنقل الثروات المركزة في عالم اليوم لدى طبقة الصناعيين وملاك العقارات وغيرهم من الأثرياء إلى شركات الأدوية الكبرى التي لن تتورع عن امتصاص تلك الثروات المتراكمة لدى من يشترون اونصة الشاي بخمسة عشر ألف دولار أويدفعون خمسين ألف دولار للمبيت ليلة واحدة في فندق الفور سيزنس في نيويورك؟
نصيحتي للقارئ: استثمر في شركات الأدوية الكبرى
(Big Pharma)
الصفحة الرئيسة